سما حسن في “يوميات امرأة محاصرة”

س

 

تدهشنا القاصّة الفلسطينية سما حسن مرة أخرى بمجموعتها القصصية الجديدة(يوميات امرأة محاصرة) الصادرة في أواخر كانون الثاني-يناير 2012عن دار الجندي للنشر والتوزيع في القدس، فمجموعتها الأولى(مدينة الصمت) الصادرة عام 2008 عن منشورات أوغاريت في رام الله كانت لافتة بشكل كبير شكلا ومضمونا، وتأتي المجموعة الثانية لافتة هي الأخرى شكلا ومضمونا، فعنوان المجموعة(يوميات امرأة محاصرة)يدعو الى التفكر والتفكير، فالذي يعلم أن كاتبتنا تعيش في قطاع غزة المحاصر منذ حزيران 2006، يتبادر الى ذهنه أن الكاتبة تتحدث عن الحصار العسكري الذي يكتم أنفاس مليون ونصف المليون فلسطيني في قطاع غزة، وهو هنا غير مخطئ، فالحصار الإجرامي على قطاع غزة موجود هنا وهناك في بعض القصص، والغارات الجويّة والقصف الصاروخي والمدفعي وغيره من أسلحة القتل والدمار موجودة هي الأخرى، لكن الحصار الأكبر الذي تعيشه الكاتبة هو حصارها كامرأة، فهي محاصرة بدءا من اسمها الحقيقي الذي لا تستطيع البوح به، لأنها ستمنع من الكتابة الإبداعية لو فعلت ذلك، وأديبتنا هنا لا تعبر عن نفسها كإنسانة منفردة، بل هي تعبر عن مأساة بنات جنسها في مجتمعاتنا الذكورية التي تسلب المرأة إنسانيتها، وهي ليست استثناء بالطبع، وإذا ما عدنا الى الحقيقة المؤكدة بأن الكاتب يكتب شيئا من حياته أو سيرته الشخصية في إبداعاته، فسنجد أن الكاتبة هي الأخرى لها همومها المشتركة التي تتقاسمها مع بنات جنسها، وقد تأخذ المرأة الفلسطينية في الأراضي الفلسطينية تحديدا خصوصية في الحصار، تزيد عن نساء البلدان الأخرى، كونها تعيش تحت احتلال يحبس أنفاسها ويحاصرها في أماكن تواجدها كافة، بما في ذلك بيتها الذي لا تستطيع أن تعيش فيه بأمن وأمان كبقية البشر. وهي محاصرة في قالب التقاليد والعادات المتخلفة، التي تجعل الأنثى في مرتبة أقل من شقيقها الذكر، فتعاني من التمييز منذ ولادتها، ويلاحقها الحصار في طفولتها المبكرة عندما تمنع من اللعب مع أقرانها الأطفال الذكور، ليأخذ الحصار أشكالا متعددة عندما تصل الى سن البلوغ، فقد يتم تزويجها ضد إرادتها، أو أن لا يكون لها رأي في اختيار الزوج، وعليها أن لا ترفض للزوج أمرا، ولا تقتصر طاعاتها للزوج فقط بل تتعداه الى أبناء أسرته كافة، خصوصا الحماة والحمى، وعليها تقع مسؤولية تربية الأبناء والعمل المنزلي، حتى وإن كانت موظفة بعمل يحتاج جهدا ووقتا أكثر مما يحتاجه عمل الزوج، أو عليها أيضا أن تعمل في حقول أسرة الزوج وغيرها بدون أجر….وهكذا. وكثير من النساء قد لا تتوافق مع الزوج، لكنها مجبرة على الرضوخ له، لأن خلاصها منه ليس سهلا، وعواقب الطلاق وخيمة في مجتمع له نظرته السلبية للمرأة المطلقة، وإذا ما تطلقت فإنها قد تحرم من حضانة أبنائها الأطفال، أو قد تحرم حتى من رؤيتهم واحتضانهم….الخ.

ويلاحظ انحياز الكاتبة لبنات جنسها من الصفحة الأولى في مجموعتها القصصية، والمتمثلة بالإهداء، حيث أهدت المجموعة الى:” روح أمّي الحبيبة الراحلة، شهيدة حصار قطاع غزة التي نسيها العالم….إلى ابنتي التي علمتني أن الحياة إرادة” وكأني بها تقول بأن معاناتي جزء من معاناة أمّي الراحلة، وأتمنى أن تغير إرادة جيل الشابات من جيل ابنتي المعادلة، وأن يتحررن من القيود التي كبلت الأمّهات والجدّات.

والقارئ لقصص سما حسن سيجد أنها امرأة تركز على حقوق المرأة، وحق اللاجئين الفلسطينيين في العودة الى ديارهم، فدائما ما نجد الجدّات والأجداد الذين يحدثون أحفادهم بشكل دائم عن أيّام العزّ في الديار التي تمّ تشريدهم منها، وهذا هو سبب حياة الذلّ والهوان الذي يعيشونه في مخيمات اللجوء، وهي تركز أيضا على حق شعبها في تقرير مصيره، وإقامة دولته المستقلة بعد التحرر من الاحتلال وكافة مخلفاته.

 وسما حسن التي تملك موهبة القصّ الجميل، تملك لغة أدبية انسيابية، وأسلوبا مشوقا تحلق من خلاله في عالم القصّ الذي يجذب القارئ، لا تطرح أهداف قصتها بشكل مباشر، لأنها تعي جيدا أن ذلك بعيد عن الإبداع الأدبي، ولا يلقى قبولا عند المتلقي، لذا فهي تطرح المشكلة أو الحدث بطريقة فنية، فتسيطر على عاطفة القارئ وتترك لذكائه فَهْْمَ ما بين السطور، وهذا هو الإبداع.

 ولعل قصتها “الزوجة الثانية“ص13 تشي لنا بقدرتها على الفنّ القصصي، والزوجة الثانية”الضّرّة” هنا هي الصحيفة اليومية، المشترك زوجها فيها وتصله يوميا الى البيت، تثير حفيظة الزوجة التي ترى فيها ضرّتها، والقارئ لهذه القصة يتخطى أكثر من نصف القصّة وهو يحسب أن للزوجة ضرّة حقيقية، ليكتشف أن الحديث عن صحيفة تشغل الزوج الناشط سياسيا  عن زوجته، وكأنّي بالقاصّة هنا تلفت انتباه الأزواج الذين تشغلهم أعمالهم واهتماماتهم عن بيوتهم، فلا ينتبهون لاحتياجات الزوجة والأبناء.

وفي قصّة“لا” التي تتصدر قصص المجموعة، نجد عبوديّة المرأة في مجتمعاتنا، هذه العبوديّة التي لا تسمح للمرأة بأن تقول”لا” التي هي أقصر الكلمات في لغتنا حسب تعبير الكاتبة، فهي تتمنى قولها، لكنها غير قادرة على فعل ذلك.

فالزوجة تبدأ يومها”تهرع الى الحمّام المصبوب بالإسمنت الرخيص، وتقف في”الطشت”، ثمّ تصب الماء فوق رأسها ثلاثا لتزيل بقايا زوجها عن جسدها، وتهرع لتعجن، وتخبز، وتعد الطعام للعائلة الكبيرة، حيث يذهبون للحقل القريب الذي يملكه والد زوجها، يظلون في عمل لا ينقطع، وهذا وهذه وتلك، لا يعرفون هتافا إلا باسمها:هاتي تعالي، احملي، ارفعي.” ص8

وبعد كل هذا فان”زوجها لا يرحمها، يوقع برجولته على جسدها المنهك كلّ ليلة، يكون متعبا أكثر منها” ص9 وهو” لا يتوقف عن ممارسة هذا العمل حتى مع بداية حملها” ص9

ولا يجد لها عذرا “لا شيء يمنعني من حقي، حتى لو كان القادم فارسا سيحرر فلسطين”ص9. وهي لا تملك أن تقول”لا” مما جعلها تتيقن”أن جسدها ليس ملكا لها، مثل يديها، هما ملك لتلك العائلة التي لا تعرف منها سوى يدين ورحم”ص12 وهذه ذروة المأساة حيث التعامل مع المرأة كيَدٍ عاملة ولتفريغ شهوات الزوج وللإنجاب.

وفي قصة”حلم واحد” تتجلى مأساة اللاجئين الفلسطينيين، وحصار قطاع غزة والمآسي التي تصاحبه، فالأسرة المكونة من الجدة الأرملة، التي مات زوجها وهو يحلم بالعودة الى قريته وبيته، تاركا إياها مع ابن طفل لا يلبث أن يكبر ويتزوج ويخلف إبنا لا يلبث هو الآخر أن يسقط شهيدا تاركا أرملة حاملا بطفل بعد زواجها بأربعة شهور، وتعيش الأسرة حياة الفقر والعوز، وعندما تذهب الكنّة لاستلام مخصصات الأسرة من وكالة غوث اللاجئين، يخبرها الموظف بأن”موعد تسلمك لمخصصاتكم بعد ثلاثة أيام، أي في اليوم الأول من العام الجديد”فتعود خائبة، وفي هذه الأثناء يشتري ابنها الطفل قطعة حلوى بنصف شاقل” منحته إياه جارتهم الثرية وهي تعرج على جدته لتطلب منها أن تلقط”الخوفة”لطفلها الرضيع”ص20، ملفوفة بصورة المائة دولار، فيحسبها عملة حقيقية، ويطير بها فرحا الى جدته، التي فرحت بها هي الأخرى معتقدة أن حفيدها عثر عليها في الطريق”فحدثت نفسها:ستكون مفاجأة لزوجة ابني، سوف أعطيها لها، وستكون حتما كافية لشراء أنبوبة غاز من تلك الأنابيب التي تسمع أنه يتم تهريبها عبر الأنفاق الى غزة التي أصبحت تمتلئ بيوتها برائحة الكاز والكيروسين”ص20. ولمّا أعطت الجدّة ورقة الحلوى لكنتها أمّ بلال”حملقت بها قليلا، ثمّ سرعان ما ضحكت ضحكة مريرة: هاي يا عمتي ورقة مزيفة من اللي بيحطوهم في حلوى الأطفال”ص25، غير أن الطفل الذي كان يحلم بتحقيق حلم جدته وأمّه بشراء أنبوبة غاز، لم يصدق أنها زائفة، وبقي مصرا على رأيه” والتحف الصغير فراشه ويده تطبق على الورقة، وبدأ يحاول النوم وهو يتخيل أنبوبة الغاز التي سيشتريها”ص25، ونامت الأسرة الصغيرة لتصحو على أصوات انفجارات تهز البيت” ولكن في لحظات لم يبق للبيت أي أثر. في الصباح وحين كان رجال الإساف يبحثون بين الأنقاض، عثروا على الكثير من الأشلاء الآدميّة المتناثرة، ومن بين الأشلاء عثروا على كف صغيرة لطفل صغير، ولكنها كانت مطبقة بقوّة على ورقة تبدو من بعيد كأنها..مائة دولار”ص26.

وسأكتفي بهذه النماذج القصصية الثلاثة، مع التأكيد على أن كل قصة في المجموعة تحمل حدثا داميا للقلوي وللأجساد، نابعا من معاناة شعبنا.

ويلاحظ أن سما حسن في مجموعتها القصصية هذه، وكما في مجموعتها الأولى”مدينة الصمت” تميل الى عدم ذكر أسماء أبطال قصصها، فهي إمّا تتكلم بلغة الأنا، أو بضمير الغائب، لتكون القصة أكثر حميمية، وأكثر شمولا، فأحداثها لا تقتصر على شخص بعينه.

يبقى أن نقول بأن سما حسن تثبت نفسها على ساحتنا الأدبية كقاصّة متميزة رغم كل معاناتها، ولربما تكون معاناتها سببا من أسباب معاناتها.

30-1-2012

 

التعليقات

جميل السلحوت

جميل حسين ابراهيم السلحوت
مولود في جبل المكبر – القدس بتاريخ 5 حزيران1949 ويقيم فيه.
حاصل على ليسانس أدب عربي من جامعة بيروت العربية.
عمل مدرسا للغة العربية في المدرسة الرشيدية الثانوية في القدس من 1-9-1977 وحتى 28-2-1990

أحدث المقالات

التصنيفات