حذام العربي:المرأة والانثى بين الغواية والغريزة في قصة الاطفال

ح


بخلاف ما درجت عليه، سأعنون قراءتي هذه لمجموعة جميل السلحوت القصصية”كلب البراري” للأطفال.كالتالي:المرأة والانثى بين الغواية والغريزة في القصة للاطفال ،ست قصص للاطفال في كتاب من القطع الكبير، ترواحت بين 4 – 10 صفحات للقصة، في طباعة انيقة رافقتها رسوم لافتة، بألوان زاهية تجتذب النظر، الى صفحاتها المرقمة.
عالج الكاتب في قصصه عدة موضوعات منها:اهمية المثابرة والتدعيم الايجابي في التعليم، وفي قصة بعنوان (وقضى ربك) اعاد صياغة ما قرأناه عن عمـر بن الخطاب في الأثر الموروث عن مكارم الاخلاق في احترام الوالدين، كما انه تطرق الى مفاهيم الشجاعة والاقدام، وعدم الـركون الى الأقاويل الاسطورية، في قصة “كلب البراري”. وفي القصة الأخيرة، بعنوان “هدى”، أرخ الكاتب لإحدى الجرائم الاسرائيلية في قطاع غزة المحاصر.
في مجمل قصصه التصق الكاتب في المكان والزمان الفلسطيني، فدَوَّن اسماء اماكن بعينها، واستحضر اسماء نباتات في منطقة سكناه، وعرج على بعض الموروث التراثي وبشكل خاص البدوي منه في منطقة سكناه، ووظفه في قصصه، وجاء التوظيف منسجما مع السياق مجدولا بالمكان والزمان.
في القصة الثانية من مجموعته، بعنوان “الذئاب”، والثالثة بعنوان “ذكر وانثى”، استوقفني المضمون، تحكي القصتان للأطفال عن ابسط حقائق الحياة، واكثـرها تعقيدا، بأسلوب مبسط،
قصة الذئاب تعالج الدفاع عن النفس، وصراع البقاء، والأخرى عن حتمية وجود الذكر والأنثى لاستمرارية الحياة، هذا الى جانب قيم حياتية اخرى وكثيرة، يمكن استجلاؤها من القصتين. بالاضافة الى العديد من المعلومات المفيدة للطفل في توسيع آفاقه ومداركه، وفي توثيق معرفته بالمحيط المباشر.
ومنها في القصة الثانية من المجموعة بعنوان “الذئاب” على سبيل المثال ان: “الكلاب لا تنبح على اناث الذئاب، بل تلعب معها، وتشمها وتحاول التزاوج معها.” ثم لاحقا اجرى الكاتب على لسان الذئبة الاولى “.. وبما انني وزميلتي قادرتان على إغواء الكلاب فإنها لا تنبح علينا، وما دامت الكباش تتقاتل مع بعضها البعض… وبإمكاننا ان نغافله وان نختطف طعامنا من قطيعه…”.
لم يضف الكاتب جملة اخرى أو عبارة توضح مفاهيمه لعملية الصيد، هل هي صراع البقاء؟ هل هذا التزاوج من اسرار الطبيعة،أو انها ارادة الخالق؟أو اي تفسير تحفيزي تعليمي للطفل عن عملية التهجين في ممالك الحيوان؟ أو ايماني غيبي أو ما شابه؟
وحيث ذلك استوقفتني هذه العبارة مطولا، اذ ان لكل كاتب ان يكتب ما يراه مناسبا، وللقارئ ان يرى في ذلك رأيا، ولكن هنا، ترك الكاتب الباب مفتوحا على كل الاتجاهات،وقد جاء الاتجاه الأوضح بإيحاء سلبي ان لم يكن ممجوجا، إذ قرن عملية التزاوج هذه بمفردة “الغواية” المأخوذة من ذهنية استقـر فيها لأجيال مصطلح غواية المرأة، وليس الانثى في سائر ممالك الأحياء.
القصة بسيطة وواضحة، وسياق الإيحاء فيها جاء مفهوما ومبسطا وواضحا، تماما كما هو فاضح في استعمال المفردات المركونة والمتجذرة في الوجدان الذكوري.
فغواية الأنثى -وفق الكاتب-هي الأصل في صراع البقاء، واكثر من ذلك، لقد جَيـَّر الكاتب هذه “الغواية” في السياق العام للقصة، بحيث تحمل الكثير من المعاني السلبية، وذلك ان السياق العام للقصة يؤدي بالقارئ الى التعاطف المباشر والجارف مع القطيع، مع الخراف ومع الراعي، كما ان فيها ما يشير الى القارئ الطفل باستخلاص العبر واسقاطها على مجتمعه الانساني.
منذ فجر الكتابة الانسانية، ما وصلنا من نصوص، تعرّضت الى ما يمكن تسميته”غواية المرأة”، بالمعنى السلبي المكروه والممجوج أو الهدام، في صيغة واضحة لا لبس فيها، أو في إيحاء ضمني يؤدي الى شيطنة المرأة،بغض النظر عن كونها انسانة أو إلهة أو نصف إلهة، وقد تقاطع هذا المنهج عبر الأزمان والحضارات المختلفة، وظهر في معظم النصوص، الأسطورية منها، أو الدينية، التي يصطلح على تسميتها بالتوحيدية.
فمنذ ملحمة غلغامش من الحضارة السومرية، التي تحكي لنا مشهد “غواية المرأة” بطلب من غلغامش نفسه، حيث ارسل هذا امرأة جميلة طالبا اليها ابراز مفاتنها للايقاع بأنكيدو.
لاحقا، في الأساطير اليونانية لشخصية المرأة، بندروة، التي كان العالم قبلها يعيش وادعا هانئا
دون منغصات،واذ بهذه المرأة تفتح الصندوق الذي أوصاها زوجها، الرجل، الذكر، ان لا تفتحه، وبهذا تنطلق من الصندوق كل المصائب التي تلمّ بالبشر،الى آخره مما جاء في اسطورة “صندوق بندورة”.
مرورا في فصل لاحق من التاريخ البشري، والذي كتبه على وجه العموم الرجل – الذكر، بما في ذلك، النصوص الاسطورية الدينية التوحيدية، تحدثنا التوراة في سفر اشعيا 34 عن ليليت. زوجة آدم الاولى {قبل حواء}، التي تمردت على آدم، وهـربت منه الى البحر الاحمر وهناك تزاوجت مع أشمداي،وانجبت مئات الأولاد الشياطين، الى آخر القصة المعروفة.
ثم جاءت التوراة اليهودية بحكاية خلق آدم وحواء وأسطورة ثمار شجرة الحكمة التي منعهما الرب من أكلها، وغواية حواء لآدم التي أدت الى طردهما من الفردوس.
وصولا الى تبني المسيحية قصة الخليقة بما فيها من اشارات الى غواية المرأة .
كذلك في سياق متصل عرفت المجتمعات الانسانية اساليب التحويل والتبديل، بأن عزت الى المرأة السحـر والشعوذة وغيرها من الظواهر الانسانية الخارقة، حتى انها نسبت للمرأة الظواهـر الطبيعية التي لم يتقبلها الانسان، ولم يجد الى تفسيرها سبيلا، كالأوبئة، والأعاصير، والتحكم في محاصيل الزراعية وما الى ذلك، مرورا في حقبة تعدت القرن 1550 – 1650 فيما اصطلح على تسميته “صيد الساحرات” في التاريخ الاجتماعي للقارة الاوروبية.
درجت الأساطير والحكايات، على شيطنة المرأة وترديد “المعلومات” عن “غوايتها”.
كقارئة عادية طالما اعتقدت ان “غواية المرأة” شر لا بد منه في انتاج القلم الذكوري لنصوصه، خاصة وان جذوره موغلة في القدم تمتد الى الأساطير البائدة عن الآلهة والآلهات وأنصافها، التي سطرها وجدان الانسان، وقد يكون لها مسوغات تتعلق بماهية الدور الوظيفي للذكر والأنثى في الحفاظ على النوع واستمراريته، ورأيت انه يجدر بنا مناقشة الموضوع والتوعية والتنوير فيه.
اما ان تتعدى “الغواية” تلك، مفاهيمها لتصبح “غواية الأنثى” في الطبيعة أو في ممالك الحيوان، واسقاط هذه المفاهيم في صياغة لغوية توحي بغواية المرأة، ففي هذا ما تعدى امكانياتي المتواضعة لفهمه أو القبول به.
فاللغة كائن حي، وهي تعيش فينا وبنا نحن ابناءها، لقد اصطلح الأقدمون من اهل العـربية على مفردات كان لها مدلولات في حياتهم، وللتعبير عما يجيش في وجدانهم ومعتقداتهم ومداركهم. الكثير من المفردات سادت، ثم بادت أو كادت، أو انتفت الحاجة الى استعمالها، وها نحن اليوم اهل العربية نقف، امام هذا السيل الجارف من المصطلحات العلمية والتقنية التي نذوتها ونتبناها من منبتها عشوائيا، لغياب مرجعية تمسك زمام المبادرة لتعريب منهجي وتعميمه على اهل العربية.
في أوان العولمة هذا، لغة المعرفة العلمية والتقنيات والتواصل المعلوماتي، كما ان لغة النظريات في العلوم السلوكية هي الانجليزية بالدرجة الاولى، وأتساءل، اذ اصغي الى حوار الناشئة من اهل العربية، هل وصلنا الى نحت لغة جديدة نستطيع تسميتها “العربيزي”؟.
اسوق هذا لأسأل اذا ما كان من واجبنا وليس من حقنا فقط، مطالبة كتابنا بالتمحيص والحذر فيما يقدمونه للاطفال والناشئة من مفردات ذات مدلول اشكالي واضح أو على الأقل يوحي بإشكالية. أقول هذا، خاصة ونحن بصدد كتابة القصة للاطفال والناشئة، للطفلة تقرأها كما يقرأها الطفل.
فما يتجذر في وجدان طفل العربية اليوم هو مجتمعنا العربي غدا.
هذا ناهيك عما توميء اليه من تقزيم وتهميش للمرأة وقدراتها ودورها، الذي يتلخص في الغواية.
في القصة بعنوان “ذكر وانثى”، يشرح الكاتب باسلوب مبسط للقارئ الطفل، على لسان الجدة لحفيدها، سر انقطاع الدجاجتين عن البيض وملازمة القن لا تخرجان منه “… انهما ليستا مريضتان، بل هي غريزة الأمومة…”. لاحقا يسقط الحفيد النتائج متسائلا، وبحق “…هل اختي فاطمة لن تلد إلا عندما تكبر وتتزوج؟” وتجيبه الجدة : “…نعم…فالحياة لا تكتمل ولا تستمـر إلا بالذكر والانثى.”
الغريزة وفق ما عرفها مؤسس علم النفس الحديث، هي مكان التقاء أو وعاء، هي كتلة الطاقة “الهو” التي تجتمع فيها حاجة ٌ وتيقظ أو هيجان فسيولوجي مع الرغبة النفسية الفطرية لحالة معينة، لدى الانسان.
أيّ ان الغريزة مركبة من عنصرين اولهما حالة تمثيل أو انعكاس نفسي فطري، يسمى الرغبة، واستنفار أو تيقظ فسيولوجي يسمى الحاجة، فالتقاء الحاجة والرغبة هي الغريزة، هي التي تحرك ردة الفعل الانسانية، ردة الفعل الغريـزية، هي فطرية وغيـر مشروطة، بفعل مبادءة على سبيل المثال: الجوع بحد ذاته هو محرك فسيولوجي، لانه يشيـر الى تناقص الغذاء للانسجة والالياف الخ في الجسم البشري، عندها ترافقها حالة من الرغبة في الحصول على الطعام، {والرغبة هي طاقة نفسية} تتحرك هذه ككتلة واحدة تسمى الغريزة، علما ان هناك مشاهد تنفصم فيها الرغبة عن الحاجة، أيّ ان يأكل الانسان على الرغم من عدم حاجته فسيولوجيا للغذاء، أو ان تكون الحاجة ملحة، ولكن الرغبة غير متوفرة، لعدة اسباب لا مجال للخوض فيها، ولكن بعجالة أشير، على سبيل المثال الى الصوم “تهذيبا للنفس”.
من الغرائز التي اشار اليها فرويد، الحياة والموت، وممارسة الجنس على سبيل المثال، هو جزء من غـريزة الحياة، وهو حاجة لاستمرار بقاء الجنس البشري والحفاظ على النوع.
بهذا المعنى من الخطأ تعريف “الأمومة” على انها غريزة لدى المرأة.
وان كنت اكاد اجزم ان الكاتب تعرض الى الأمومة على انها غريزة في هذا السياق، جاء بهدف التسامي بمعني الأمومة، ولكن عند قراءة القصة بإمعان، أستطيع التأشيـر بوضوح الى الانطباع السلبي والنظرة الدونية للمرأة والأنثى، كما قفزت من سطور القصة.
في المقام الاول هالني ما قرأت من مقارنة بين الدجاجة في القن وبين “اختي فاطمة عندما تكبر”. هل يفهم القارئ الطفل من الايحاء، ان على اخته فاطمة ان “تـَنـْكـَبّْ” في البيت اثناء الحمل وكذلك لاحقا بعدما تضع حملها؟
وأكثر من ذلك قرأت الخطأ في اختلاط المفاهيم والمعلومات التي تقدمها هذه القصة، وارى ان الخطأ يكمن اساسا في نسبة الأمومة الى الغرائز، صحيح ان رقود الدجاجة {الانثى} على البيض هو من الغرائز لديها والتي تمارسها، دون تعليم أو تدريب، وهذا ما يؤكد غريزية الفعل، للحفاظ على بقاء النوع واستمراريته في مملكة الحيوان، الدجاج هنا، ولكن هذا لا ينسحب على المرأة {الانثى}، كما اوحت القصة اولا ثم اكدت على ذلك، بما يقطع الشك باليقين للطفل القارئ.
ناهيك عن ان في تعريف كهذا ما يقزم الأمومة، ويحط من قدرها اذ ينسبها الى سلوك فطري،ويحاصرها في سلوك بهيمي أولي، ويحد من دورها ويقلصه الى ادنى المستويات، ففي هذا ما يخالف الواقع بالاضافة الى ما نعرفه من نظريات قديمة وحديثة في العلوم السلوكية.
فالأمومة دور ووظيفة، وظيفة اجتماعية تربوية توعوية وتشمل ادوارا اخرى كثيرة، تختلف في بعض مفاهيمها من مجتمع لآخر، ومن حقبة لأخرى ومن منطقة لأخرى. مفهوم الأمومة كذلك يشمل عدة مركبات وتراكمات كإكتساب المهارات السلوكية والنضوج العاطفي، والتعلم والتثقف العقلاني لرعاية الوليد.
كل هذا لا ينفي ان هناك من الرجال الذين يستطيعون تأدية دور”الانثى”الذي تحدثت عنه القصة كدور”أموميّ”. وقد تعرض ابن طفيل في قصته الفلسفية الشهيرة “حي بن يقظان” من ضمن ما تعرض له الى هذا التمييز بين الدور الوظيفي للأمّ كراعية تحافظ على شروط دنيا لإستمرار الحياة للنسل، وبين الدور الفسيولوجي للأنثى في الانجاب للمحافظة على النوع واستمراريته. وفي الواقع ان اختفاء الأمّ من حياة وليدها مباشرة بعد الولادة لا يعني بالضرورة ولا يؤدي حتما الى موته، تماما كما ان انتفاء القدرة على الانجاب عند المرأة لا يعني انها لا تتمتع بقدرات “الأمومة”.
المعيار الفاصل هنا ايضاح الفرق بين مصطلح الأمومة البيولوجية – أيّ الانجاب – وهذا كذلك ليس غريزة، بل نتاج لممارسة فعل غريزي،أيّ ممارسة الجنس بين المرأة والرجل، عندما ينتج عنه الاخصاب، وبين الأمومة الاجتماعية كدور ووظيفة. واستدرك، ان تقدم العلوم الطبية في ميدان الهندسة الوراثية، الاخصاب الخارجي والانجاب، وغير ذلك، قد يحمل في ثناياه ما لا يخطر لنا على بال.
أسوق كل هذا للاشارة الى الحاجة الماسة للتمحيص في معاني المفردات والمصطلحات ومدلولاتها، خاصة حينما نخاطب أذهـان الأطفال والناشئة، ولتحاشي زرع مفاهيم لا علاقة لها بالواقع اولا، ثم لانها تشكل نتاج ذهن ذكوري متعصب يأبى ان يراجع ويصوب “معتقداته” المتسلطة والفوقية البائدة، ويدعو الى الاستمرار في تعزيز دونية المرأة، تارة بدعوى غرائـزيتها وطورا بدعوى غوايتها. هذا اذا اتفقنا على الحاجة الى احداث تغيير منشود في موقع ودور المرأة في المجتمع.

التعليقات

جميل السلحوت

جميل حسين ابراهيم السلحوت
مولود في جبل المكبر – القدس بتاريخ 5 حزيران1949 ويقيم فيه.
حاصل على ليسانس أدب عربي من جامعة بيروت العربية.
عمل مدرسا للغة العربية في المدرسة الرشيدية الثانوية في القدس من 1-9-1977 وحتى 28-2-1990

أحدث المقالات

التصنيفات