ذاكرة سلمان ناطور في رحلة الصحراء

ذ

القدس:4-6-2009

استضافت ندوة اليوم السابع الدورية الاسبوعية في المسرح الوطني الفلسطيني في القدس هذا المساء الأديب الفلسطيني سلمان ناطور حيث ناقشت ثلاثيته ” الذاكرة .. سفر على سفر .. انتظار ..ستون عاما – رحلة الصحراء ” الصادرة عن منشورات دار الشروق للنشر والتوزيع في نيسان 2009  ، وتقع في 456 صفحة من الحجم المتوسط والكتاب الأول ” ذاكرة ” صدر عن مركز “ بديل ” في بيت لحم عام 2006 والكتاب الثاني ” سفر على سفر ” صدر عن مؤسسة تامر في رام الله عام 2008 ، وهاهي الكتب الثلاثة تصدر مجتمعة عن دار الشروق .

بدأ مشرف الندوة الكاتب جميل السلحوت النقاش فقال :

سلمان ناطور :

 

ولد في دالية الكرمل جنوبي مدينة حيفا عام  1949. أنهى الثانوية في حيفا وواصل دراسته الجامعية في القدس ثم في حيفا. درس الفلسفة العامة وعمل في الصحافة منذ العام 1968 وحتى 1990 حيث حرر الملحق الثقافي لجريدة “الاتحاد” الحيفاوية ومجلة “الجديد” الثقافية، ومجلة “قضايا اسرائيلية” الصادرة في رام الله، وكتب في النقد الأدبي والفني المسرحي والسينمائي والتشكيلي يحاضر في مواضيع الثقافة الفلسطينية.

 منسق شبكة التاريخ الشفهي الفلسطيني في مناطق 1948 ومن مؤسسي مؤتمر حق العودة والسلام العادل، شارك في تأسيس وادارة عدد من المؤسسات العربية: اتحاد الكتاب العرب، لجنة “الجديد” للسينما الفلسطينية في حيفا التي أنتجت أول فيلمين فلسطينيين في الداخل، “يافا مدينة على الشاطيء” و “الناصرة 1984”  جمعية تطوير الموسيقى العربية، مركز اعلام للمجتمع الفلسطيني في اسرائيل، لجنة المبدعين الفلسطينيين والاسرائيليين ضد الاحتلال ومن أجل السلام العادل جمعية “عدالة”، مدير  معهد اميل توما للدراسات الفلسطينية والاسرائيلية في حيفا (2002 – 2008) . شارك في العديد من المؤتمرات حول الثقافة العربية والفلسطينية، حق العودة والتاريخ الشفهي، الصراع في الشرق الأوسط  وآفاق تطوره. كتب ورقة الثقافة الفلسطينية للتصور المستقبلي الصادر عن لجنة المتابعة العليا وصاغ المسودة الأولى لوثيقة حيفا والمسودة الأولى للمشروع الوطني لأدب الطفل الفلسطيني.

 

–        الانتاج الادبي والفكري

 

1 – آراء ودراسات في الفكر والفلسفة،  القدس 1971   مقالات

2 – ما وراء الكلمات،  القدس 1972   قصص قصيرة

3 _ أنت القاتل يا شيخ، القدس 1976 رواية

4 –  الشجرة التي تمتد جذورها الى صدري 1978 الأسوار عكا  قصص قصيرة

5 – أبو العبد في قلعة زئيف 1980 بيروت دار المصير  مقالات ساخرة

6 – ساعة واحدة وألف معسكر  1981 حيفا دار اليسار  مقالات ساخرة

7 –  وما نسينا 1983 دار الجديد حيفا قصص تسجيلية عن النكبة

8 – كاتب غضب 1985 الاتحاد حيفا  مقالات ساخرة

9 – حكاية لم تنته بعد 1986 دار العماد حيفا مقالات ساخرة

10 – خمارة البلد  1987  الاتحاد حيفا قصص ساخرة

11 – يمشون على الريح 1992 مركز يافا كتابة تسجيلية (صدر باللغة العبرية أيضا)

12 – فقسوسة 1995 قصة للأطفال

13 – دكدوك  1995 قصة للأطفال

14 – شرقشند  1995 قصة للأطفال

15 – شيكي بيكي  1995 قصة للأطفال

(وزارة الثقافة الفلسطينية أعادت طباعة القصص الأربع ووزعت على المدارس الفلسطينية عام 2004)

16 – طائفة في بيت النار 1995 مقالات

17 – من هناك حتى ثورة النعناع  1995 حوارات مع الكتاب الاسرائيليين

18 – ثقافة لذاتها، ثقافة في ذاتها  1995 مقالات عن الثقافة الفلسطينية

19 – دائرة الطباشير الفلسطينية 1995 مقالات سياسية

20 – هل قتلتم أحدا هناك ؟ نص من وعن الذاكرة 2000 بيت الشعر رام الله

21 – أريحا ..رحلة يوم وعشرة آلاف عام  2000 مؤسسة تامر رام الله. تسجيلي

22 – فلسطيني على الطريق 2000 مؤسسة تامر رام الله. تسجيلي

23 – الاعلام الاسرائيلي والانتفاضة 20001 (دراسة) مركز قانون، القدس.

24- ذاكرة 2006 مركز بديل – بيت لحم ، ترجم إلى اللغة الايطالية 2008

25 – سفر على سفر ، مؤسسة تامر، رام الله 2008 

26 – ستون عاما/ رحلة الصحراء، دار الشروق عمان 2009

 

مسرحيات:

1 – المستنقع. الناصرة 1982 اخراج رياض مصاروة

2 – موال . الناصرة، 1990 اخراج راضي شحادة

3 – هزة الغربال . الناصرة ، 1992 اخراج سليم ضو

4 – هبوط اضطراري القدس – الحكواتي 1999 اخراج مازن غطاس (بالعبرية مسرح السرايا في يافا اخراج غاي كوهين 2004)

5 – ذاكرة. مسرح يافا  2003 اخراج أديب جهشان

 

اعداد وترجمة عن العبرية:

1 – الزمن الأصفر  دافيد غروسمان 1976

2 – أحاديث في العلم والقيم  يشعياهو لايبوفيتش 1995

3 – عادة للريح قصص لسبعة كتاب عبريين 1990

4 – لمن ترسم الحدود قصص اسرائيلية 1996

5 – من بياليك الى عميحاي  قصائد اسرائيلية 2000

6 – اسرائيل/ فلسطين الواقع وراء الأسطورة ميخائيل هرسيغور دراسة ناريخية

7 – قصص اسرائيلية صدرت عن مركز مدار رام الله 2004

8 – ما أروع هذه الحرب كتاب دان ياهف عن العسكرة في المجتمع الاسرائيلي صدر عن مدار 2004

9 – جدلية المنفى والوطن ، ايلان غور زئيف، مدار 2006

10 – المسرح الاسرائيلي ، شمعون ليفي، مدار 2006

11 – مسرحية “الخليل”، مركز أوغاريت، رام الله 2007

ترجمة واعداد مسرحيات:

12 – المتاهة عن رواية سامي ميخائيل انتاج بيت الكرمة

13 – الحارس مسرحية هارولد بنتر المسرح البلدي حيفا

14 – طريق الآلام مسرحية ديفيد هير مسرح الكاميري تل أبيب

 

 

وسلمان ناطور الذي عرفناه من خلال كتاباته أديبا فلسطينيا عربيا ملتزما بقضايا شعبه وأمته من مواليد 1949 في دالية الكرمل في حيفا ، وثلاثيته هذه صدرت في الذكرى الستين لميلاده ، وانتهى من كتابتها في الذكرى الستين لنكبة شعبه ووطنه ، وأديبنا مولود بعد النكبة بعام في قريته دالية الكرمل ، ونما وترعرع في وطنه المنكوب ، فهو ابن النكبة ورضع من لبانها، وشب على عذابات أبناء شعبه سواء من شردوا منهم الى أرض اللجوء، أو من عضّوا بالنواجذ على تراب وطنهم ، وأصبحوا بقدرة قادر أقلية في هذا الوطن ، يعانون من الاضطهاد القومي والاجتماعي والاقتصادي ، فقدوا أرضهم وعوملوا في وطنهم كغرباء ، وبعضهم شرد في هذا الوطن وأصبح لاجئا فيه ، بعد أن فقد أرضه وبيته وقريته ومكان مولده وسكناه ، وجميعهم يعانون معاناة تكاد تكون فريدة في العالم جميعه ، ولا شبيه لها في التاريخ الحديث ، وهذه المعاناة ارتسمت في ذاكرة أديبنا، لذا فإننا نجد صدارة نتاجه الأدبي الذي نحن بصدده تقول :

” ولدت بعد حرب 1948

دخلت المدرسة في حرب حزيران

تزوجت في حرب اكتوبر

ولد الأول في حرب لبنان ، ومات أبي في حرب الخليج

حفيدتي سلمى ولدت في الحرب التي ما زالت مشتعلة .” ص5

وكأنني بالكاتب يقول بأنه جزء من نكبة شعبه المستمرة ، وأن الحروب تطارده كما تطارد شعبه ، وأن حروب الشرق الاوسط في العقود الستة الماضية تستهدف الشعب الفلسطيني ، بل ان نكبة الشعب الفلسطيني هي سبب الصراعات والحروب في المنطقة ، وكأنني به يتساءل ايضا : أما آن لهذه الحروب أن تنتهي ؟؟ فهل هذه الستون عاما كانت بمثابة رحلة في صحراء التيه ؟؟.

وأديبنا في كتابه الاول ” الذاكرة “ من هذه الثلاثية يعتمد على الرواية الشفوية للشيخ المشقق الوجه ، وفي تقديري أنها امتداد لكتابه ” وما نسينا ” الذي صدر قبل اكثر من ربع قرن ، وذاكرة سلمان ناطور هي من ذاكرة شعبه ، فرغم الحروب ، ورغم النكبة والعذاب ، فإن ذاكرة الشعب الفلسطيني لا يمكن ان تنسى وطنها وفردوسها المفقود ، واذا ما راهن البعض على أن الزمن كفيل بأن يمحو ذاكرة الفلسطينيين فإنه واهم بذلك ، فأديبنا لم يكن مولودا عندما حصلت نكبة الشعب الفلسطيني في العام 1948 ، لكنه مع ذلك ينبش الذاكرة الفلسطينية ،ويتقصى ما جرى في النكبة من ويلات ومجازر ومصائب ، ينبش ويتفحص أسماء شهداء سقطوا وهم يتشبثون ببيوتهم ومدنهم وقراهم وأرضهم ، ويتقصى أسماء قرى دمرت تدميرا كاملا ، وتم محوها عن الخريطة ،  أو استبدالها بأسماء جديدة غريبة أعجمية ، بعد تشريد من نجا من القتل من مواطنيها .

وذاكرة سلمان ناطور مسكونة بالمكان ، هذا المكان الذي تغيرت ملامحه ان لم تطمس نهائيا ، كما تغير ساكنوه ، لذا فهو يجوب هذا المكان واصفا موقعه والطرق الموصله اليه ، وحاراته ووهاده وجباله ومن شردوا من أطفال وشباب وشيوخ ونساء قتلن أو اغتصبن ، وكيف قتلوا ؟ وكيف شردوا؟ ، وأيّ الطرق سلكوا ، ومستذكرا بطولات فريدة وعفوية ، ومؤامرات حيكت ، يستذكر كل ذلك بمرارة يكاد حبر ورقها ينزف دما .

يستذكر قرى دُمّرت ومُحيت بالكامل مثل: خربة ابو حرب ، عين حوض ، عين غزال ، أمّ الزينات ، البروة، ميعار ، معلول ، جبع ، صفورية ، اكزم ، المجيدل ، اقرث ، كفر برعم ، المزار ، الطنطورة ، كفر لام ، الشيخ براق ، سيريس ، خربة أمّ الدرج ، خبيزة ، حدثا  ، مسحة ، عولم ، سيرين ، معذر ، سمخ ، هوشة ، الكساير ، عيلوط ، عيلبون ، رميش ، علما الشعب ، الكفرين ، الجلمة ، صيدا ، زيتا ، عتيل ، سلمة ، الخيرية ، العباسية ، الساقية، بيت دجن ، يازور ، صرفند ، سيدنا علي ، سدود ، والطابية .

كما يستذكر مدنا وقرى لا تزال قائمة، ولا يزال مواطنوها أو بعض منهم فيها مثل: حيفا ، الناصرة ، أمّ الفحم ، يافا ، عارة ، بئر السبع ، والرملة التي قتل المئات من ابنائها بدم بارد بعد أن احتموا بالمسجد ، لكن المدن ” المختلطة ” لم تبق كما كانت ” حيفا لم تمسح من خريطة هذا الوطن ، لكن معالمها تتغير وتتبدل ، حيفا عتيقة وحيفا جديدة ، واحدة نعرفها نحن ، وواحدة لا يعرفها الا اولئك الذين تمر في ذاكرتهم ايام البوابة الشرقية ، وسوق الشوام ، وبندر التجار ، والقشلي كما مرت من السنوات الطويلة ” ص71

واذا كان اديبنا يؤرخ للذاكرة الفلسطينية ، وللرواية الشفوية الفلسطينية ، فإن اللاجئين أيضا لهم ذاكرتهم الحية ، فأبو محمد اللاجئ في مخيم جنين ، وابن خربة أبو حرب ، عاد بعد حرب العام 1967 ، ووقوع الضفة الغربية تحت الاحتلال ، عاد الى بيت أحد اصدقائه من مواطني دالية الكرمل ، عاد حاملا ” كوشان ” ارضه وهو يردد : “قلت آتي الى الارض وأفلحها أنا حتى أموت فيها فمن يعلم : بتروح حكومات وبتيجي حكومات بتموت ناس ، وبتحيا ناس ، وهالارض بتظلها ارض بترابها وحجارها وصوانها ، وأنا سأدفن نفسي في هذه الارض كي اظل ثابتا لا أتغير …. مثلي مثل هالتراب ” ص 15

وبينما كان الشيخ مشقق الوجه يصف حدود عين حوض جاء على لسان السارد ” كانت الشمس تشرف على السقوط في بحر ” عتليت ” خلف القلعة المحصنة من ايام ” قلب الأسد ” والغزو الصليبي البائد ، وان كانوا بنوا هذه القلاع ليوهموا الناس انهم باقون الى الأبد ، فإن ما تبقى منها لا يقنع الناس الا بأن الغزاة بناة القلاع ذاهبون حتما الى حيث لا رجعة “. ص 39

ولا يلبث الكاتب ان يعود في الصفحة 156 الى ذاتيته وذكرياته الخاصة مع ابناء جيله فيتساءل تحت عنوان ” ولدنا في الخطيئة ” لماذا ولدت بعد حرب ما زالت مستمرة الى ما لا نهاية ، وفيها منتصر ومهزوم ، ويريدونني أن أكون دائما أنا المهزوم ؟؟ ويتساءل بمرارة : لماذا ولدت في وطن يتآكل يوما بعد يوم ، ويأكل أهله ساعة بعد ساعة ” ص 156

ومع ان كاتبنا عاش وأبناء جيله من أبناء شعبه حياة معذبة الا انه يرفض القفز على براءة الطفولة فيقول : ” ولكن لماذا لا نذكر طفولة بريئة بدائية كنا نصنع فيها فرحنا على بيادر القمح ، ونمارس حريتنا في الحقول الممتدة الى ما لا نهاية …كان النبع وكان البئر وكان تراب رملي يلسع اقدامنا الحافية وكنا سعداء ” ص 159 ويتساءل الكاتب سؤالا استذكاريا : هل نحن جيل بلا ذاكرة ؟” ص159 ويجيب بأنه يعرف يوم وشهر وسنة ميلاده مع انه لا يذكرهما ، أمّا ميلاده الثاني ” فهو يوم سقطت عن سلم خشبي كان ارتفاعه ثلاثة امتار ، ولم أمت ولم تكسر جمجمتي ولا أضلاعي ” ص160 أمّا ميلاده الثالث فكان نجاته من الغرق في بحر حيفا وهو في الرابعة عشرة من عمره ، ومع هذا فإنه لا يحتفل بيوم ميلاده وله أسبابه ، والتي تتمثل في نكبة شعبه في حرب ” مستمرة الى ما لا نهاية وفيها منتصر ومهزوم ، ويريدونني أن اكون دائما أنا المهزوم …..في وطن يتآكل يوما بعد يوم ، ويأكل اهله ساعة بعد ساعة ” ص 162

وقد توقفت كثيرا عند حكاية عبد الحسن الذي كان مطلوبا للانجليز ، فجمعوا رجالات القرية في ساحة ليتعرفوا عليه ، فاتفقوا ان لا يُعرّفوا عليه تحت كل الضغوط، الى ان جاءت والدته العجوز تحمل له الطعام والماء ، ولما سألها الضابط الانجليزي عن اسم ابنها قالت انه عبد الحسن القبضاي ، فتعرفوا عليه وقتلوه ،” قسم كبير من الناس صرخ في وجهها وقال : انت السبب في قتل ابنك ، انت قتلتيه ، وهي صارت تشهق وتصيح : هذا ابني حبيبي ، جبت له أسقيه.. عطشت يمّا … جُعت يمّا ؟ وأمضت ما تبقى من حياتها حاملة صرة فيها ثياب عبد الحسن وقربة ماء وهي تلف من بلد الى بلد لا تنطق الا بجملة واحدة : يمّا يا حبيبي ، مين قتل عبد الحسن” ؟ ص 164 فهل جاء الكاتب بهذه الحكاية ليؤكد تساؤلاته في ص 156 لماذا ولدت في وطن يتآكل يوما بعد يوم ، ويأكل اهله ساعة بعد ساعة ” ؟ أم للتدليل على المظالم التي اوقعها المستعمرون البريطانيون على الشعب الفلسطيني ؟

وتعود الذاكرة في الصفحة 169 بأديبنا عندما التقى في العام 1980 بزيتونة فلسطين الشاعر الراحل عبد الكريم الكرمي ” أبو سلمى “ هذا الشاعر الذي ترك حيفا مرغما في النكبة ،وبقى حتى آخر لحظة من حياته محتفظا بمفتاحي بيته ومكتبه ، ويتذكر أبا محمد من بيت غزال الذي تشرد في نكبة العام 1948 الى مخيم جنين ، وعاد بعد هزيمة 1967 ليتفقد خزانة وضعها عند صديقه الذي يبدو انه جدّ الكاتب ، وفتح الخزانة التي بقيت مغلقة ” سحب عقدا من الفضة وورقة كبيرة ، هذا العقد لأمّ محمد وهذا كوشان الارض سآخذهما وأترك لكما الخزانة ” ص 176

ومفتاح ” أبي سلمى ” حرر أديبنا من عقدة مفاتيح زنازين الاعتقال ” ليس بيني وبين المفاتيح علاقة عشق ، وقد جاء مفتاح أبي سلمى ليحررني من حقد على المفاتيح كان اشتد في نفسي في ليلة من ليالي ايلول عام 1977 ” ص 180 وفي تلك الليلة تعرض اديبنا الى الاعتقال .

سفر على سفر

يمهد الكاتب لهذا الكتاب فيقول عنه بأنه ” ليس سيرة وليس مسيرة وليس رواية وليس أدب الرحلة والترحال ” ص 187 اذا ما هو ؟؟ ” هو المكان الفلسطيني بلا حدود ، والزمان الفلسطيني لا بداية ولا نهاية ….. هو نفي مطلق وهو فكرة مجردة وهو لا شيء ” ص 187

في هذا الكتاب يسيح الكاتب في روما وباريس ولندن ، كما يسيح في اجزاء من وطنه ، هذه السياحة ليست سياحة استجمام ، وراحة ، بمقدار ما كانت سياحة مع الذاكرة التاريخية ، في مدن جميلة اخرى خارج الوطن ، أهلها يعيشون حياة أخرى ، وثقافات أخرى ، وتاريخا آخر ، فتساعد الكاتب على نبش ذاكرته ، يستذكر الشاعر العذابات التي يلاقيها الفلسطيني في تفتيشه عند مدخل مطار بن غوريون ، وفي داخل المطار ، اثناء الخروج واثناء الدخول… يلتقي في باريس فدوى حبيب الشاعرة والفنانة التشكيلية ، التي تعرض رسوماتها في باريس وهي مولودة في بيسان ، عندما هجرت منها في النكبة كانت في السادسة عشرة من عمرها ، تحن الى مسقط رأسها ، تطرح ذكراياتها عن المكان ، وتسأل الكاتب عما جد في هذا المكان .

وفي لندن يلتقي بفلسطيني مولود في نابلس ، وترعرع في عمان في كنف عائلة ثرية ، وتعلم في لندن ادارة الاعمال والتجارة ، ويدير هناك اعمال عائلته ” ص 230 وهناك يريه هذا الفلسطيني صورة لقريته دالية الكرمل ، كان قد التقطها سائح انجليزي للقرية قبل سنوات طويلة .

ويتجول الكاتب في ربوع وطنه ، ويستذكر حضارات سادت ثم بادت ، لكنها آثارها باقية .

انتظار:

يفتتح أديبنا كتابه بقوله الى ” أمّ سميح ” على صفحة كاملة ، فمن هي أمّ سميح هذه ؟؟ وهل هذا الكتاب هدية لها من الكاتب أم ماذا ؟؟ وهذا الكتاب عبارة عن مقالات فيها حكايات باستثناء احمد بن رابعة فهو حكاية طويلة جاءت على شكل روائي.

المقالة في هذا الكتاب والمعنونة ” انتظار في ساحة باريس ” اذار 1980 وتتحدث عن العمال العرب في ثماني ساعات يومية تبدأ من الخامسة صباحا وحتى الواحدة ظهرا وهم يبحثون دون جدوى عن عمل ، فالعامل العربي يستيقظ في الخامسة  ليسعى باحثا عن رغيف الخبز المرّ في سوق العمل الاسود ، احيانا يجد عملا بأجرة أقلّ من أجرة نظرائه اليهود ، وغالبية أيامه لا يجد ، تطارده الشرطة ، ولا يعطيه مكتب العمل عملا ، المقاولون يختارون العمال ” كما تختار زوجتك البندورة في سوق الخضار ” ص 290 ومن بين العمال العرب أطفال جار عليهم الزمن ، وتركوا مقاعد الدراسة ليعيلوا أسرهم ، ويعملون بأجرة تقل عن ربع أجرة البالغين : “يحرث على الولد طول النهار … احيانا يطردهم دون ان يدفع لهم الاجرة … هؤلاء الأطفال يعملون في العتالة ، في الباطون ، في ورش العمار … انظر الى هذا الطفل ” رفع القشة ” ويحمل شوال الاسمنت على ظهره ” ص 292

ومع ذلك فإن ضريبة الدخل تطارد العمال العرب ، وتفرض عليهم غرامات تصل الى عشرات اضعاف مداخيلهم ، واحيانا تعتقلهم وتستجوبهم.

الحكاية الثانية : ” بيت من نايلون – كانون الاول 1982

وموضوع الحكاية حول العمال العرب في مزارع المستوطنات ، وهم يعملون في ظروف مأساوية وبأجرة قليلة احيانا ينامون في براكيات حظائر الحيوانات ، وبعضهم ينام في هياكل باصات قديمة ، كل عشرة في باص بدون نوافذ ، فيضطرون الى تغليف هذه الباصات بالنايلون لتقيهم من الامطار التي تتسرب اليهم ، وبعضهم اطفال في سن الدراسة ، غاليتهم يعودون الى بيوتهم مرة كل اسبوعين .

الحكاية الثالثة : ” حكاية شيخ فلسطيني – تموز 2000

وهذا الشيخ من قرية بيت جبرين  ، لاجئ في غزة ، في تشرين 1948 كان عمره تسعة عشر عاما ، وعندما دخل الجنود بيتهم حاول حماية والدته وأخيه الرضيع ، واختطف الجنود والده الذي لم يعد حتى الآن – وعندما حاول اللحاق بوالده ” أوقفه الجندي بضربة على رأسه ، سقط فاقدا الوعي ” ص 310 وفقد بعدها القدرة على النطق ، ورفض ان يتزوج مع انه كان خاطبا ، وبقي ينظر في وجوه المارة لعله يرى والده ” ولا يزال ينتظر والده ، وينتظر العودة الى بيت جبرين “

الحكاية الرابعة : “يوم حزيراني على حاجز ملتهب صيف 2002

وفيها يصف الكاتب مروره عبر حاجز قلنديا بين القدس ورام الله ، وكيف يعيق الجنود حركة السير ، بل يوقفونها ، ويطلقون الرصاص ، ومع ذلك فالبلادة هي سيدة الموقف ، فهناك سائق يقرأ الصحيفة ، وهناك ركاب سيارة يصغون الى اغنية ويطربون عليها ، وهذه البلادة اقنعت الكاتب بأن يكون بليدا حتى يتحمل الموقف ، :” اقنعت نفسي ان البلادة هي سلاح الضعفاء ، ولأن رجولتي شرقية لا تجيز لي الاعتراف بالضعف ، فقد اقنعت نفسي ان البلادة هي سلاح الأقوياء ” ص 319 والجنود ايضا مصابون ببلادة الموقف …. الجنديان على التلة يواصلان العبث وتمضية الوقت هما ايضا مصابان ببلادة حاجز قلنديا فلا يبدو عليهما التوتر ولا الانفعال ولا التأثر “

وفي هذه الحكاية احتجاج واضح على وجود الحواجز ، وعلى قبول هذه الحواجز .

 احمد بن رابعة :

وقد اخذت مساحة طويلة ما بين الصفحات 325 و440 وفيها خلط عجيب من الحكي والقص والروي ، فصاحبنا يجول بنا ما بين القرية وحيفا ، يعمل في البناء ويقع ضحية لنصاب في شركة التأمين ، يثرثر مع الصبايا والعجائز في محطات الباصات… وينتظر الطلبة الذين لا يقفون لمن هم اكبر منهم سنا في الباص ، بل ولا يعيرونهم اهتماما .

يبحث عن عمل ، ويتقدم بطلب عمل على الهاتف بناء على اعلان في الصحيفة فيقبلوه على اعتبار انه يهودي اسمه ” حايمو فيتش ” وخدم في الجيش وعندما عرفوا انه عربي رفضوه ، مع ان العمل هو سفرجي في فندق على شاطئ طبريا “

ودار على مكاتب العمل بحثا عن عمل ،  وأصبح يكره ساعي البريد بعد ان كان يحبه وهو طفل ، فهر الآن لا يأتيه الا برسائل رسمية من الضرائب المختلفة كضريبة الدخل وضريبة المسقفات ” الارنونا ” واستقبل زميلا يهوديا له ايام الجامعة ، عمل في الاخراج السينمائي بعد ان كان جنديا في فرقة ” جولاني التي احتلت جنين” ، عام 1967 واتصل باحمد بن رابعة يريد مساعدته في تصوير فيلم عن العرب ، واأصر على تصوير امرأة قروية تخبز على الصاج فنهرتة ، في حين رفض تصوير الفرن ، وحاول تصوير عربي مع حمار ففشل ،… وتعرض احمد ابن رابعة لمخالفة سير ، وعندما ذهب الى المحكمة كي ينصفه القاضي حكم عليه بضعف الغرامة ، واشتغل فراشا في المجلس المحلي ، وكان الرئيس وزملاؤه يسرقون ، وحاول ان يتهم احمد ابن رابعة بالسرقة…. وهكذا عاش حياة فقر في فقر ، وما ان يخرج من مشكلة حتى يدخل في اخرى .

اللغة والاسلوب :

خلط الكاتب ثلاثيته بلغة عجيبة بين الفصحى والعامية ، وعندما لجأ للعامية فإنه اكد بذلك الرواية الشفوية – كما يرويها ضحاياها – للنكبة وللمأساة وللجحيم الذي يعيشه الفلسطيني اللاجئ ، أو المشرد في وطنه ، والمقيم في مسقط رأسه ، وقد كان موفقا في ذلك ، ولو لجأ الى الفصحى في تقديري لأفسد المعنى المراد .

أمّا بالنسبة للاسلوب ، فواضح اننا امام ملحمة فيها خلط من القصة والحكاية ، والمقالة والخاطرة والرواية ، والسرد التاريخي والجغرافي ، والبعد الفلسفي والسياسي وأدب الرحلات وادب الحنين ، ورثاء المدن والقرى ، والبكاء على الاطلاال .

وهذا الدمج فيه نبرة لاذعة ، وأمل واضح ، ومرارة قاسية وكلها مغلفة بسخرية سلمان ناطور الذي عرفناها في مختلف كتاباته ، وهذه السخرية الفطرية في اسلوبه هي الأقرب الى ذهنية المتلقي سواء كان قارئا أو مستمعا ، ووصلت سخريته التي تكاد تطغى على الكتاب برمته الى درجة ” شر البلية ما يضحك ” أو على رأي الشاعر علي الخليلي ” الضحك من رجوم الدمامة “.

يبقى ان نقول أن هذا العمل الابداعي يشكل اضافة نوعية للمكتبة الفلسطينية والعربية.

وبعده قال الاديب ابراهيم جوهر:

 

ناطور الوطن

ينتظر عودة أصحابه

 

 

ابراهيم جوهر

 

 

في الذكرى الحادية والستين للنكبة الفلسطينية الكبرى أصدرت دار الشروق في عمان ورام الله ثلاثة كتب في مجلد واحد للكاتب سلمان ناطور هذا الربيع من عام 2009 . المجلد المقصود حمل عنوان ستون عاما ، رحلة الصحراء ، والكتب الثلاث هي : ذاكرة ، وسفر على سفر ، وانتظار . يقع المجلد في 456 صفحة من القطع المتوسط .

وهذه المداخلة ألقيت يوم نقاش الكتاب / المجلد في ندوة اليوم السابع في قاعة المسرح الوطني الفلسطيني / الحكواتي يوم الخميس 4 حزيران 2009  .

 

  هذا كتاب النكبة ، وصورة النكبة ، ومسيرة النكبة . فيه تتجلى النكبة الفلسطينية بوضوح وتتأصل كواقعة تاريخية دامية ومستفزة . فيه يشير الكاتب باصبع دامية الى مصدر النكبة وبأصابع واهنة الى ضحاياها . وهي أصابع استمدت الوهن من شدة المؤامرة وتكالب الأعداء وخداع الأقارب والأباعد .

فيه يرسم الكاتب المبدع سلمان ناطور وطنا حقيقيا يلونه بالدم والدموع والزعتر والضحك والطبيعة . يجمع فيه التاريخ الشفوي المروي بلسان من عايشوه على جلودهم ، ويغوص في الذاكرة الثقافية للشعب والذاكرة الأبداعية للكاتب نفسه فيحلق في فضاء الخيال الأبداعي القصصي والشعري المعبأ بروح الحنين والقهر والحب والكره ، هذه المتناقضات الثنائية يوضحها الكاتب بقدرة فنية عالية تأسر بأسلوبها القارىء فتمتعه وتفيده وتحرضه .

 

لقد تجاورت القصة الفنية والقصة الصحفية الى جانب الحكاية والمقابلة ، وتقاطعت الخاطرة مع القصيدة في فضاء مفتوح من التهويمات واللقاءات الحقيقية والمتخيلة ذات الأصل الواقعي مع شخصيات من لحم ودم وشخصيات من بنات أفكار الكاتب يصدق فيه  الرمز والأشارة الى شخصيات معروفة بعينها أو وقائع معروفة .

 

 لقد نقل الكاتب سيرة وطن ، سيرة المكان والزمان والناس والزعتر ، سيرة فلسطين التي كانت والتي هي كائنة عليه الآن ، وأشار الى المسقبل المنتظر في كتاب كامل حمل عنوان ( انتظار ) .

وقد حرص الكاتب سلمان ناطور على نقل الوطن فلسطين بجغرافيتها ومدنها وقراها وناسها وعاداتها ولهجتها ، الوطن الذي كان والوطن الكائن وهو يذوب بناسه ويتلاشى ” بنعومة” ممنهجة

ويتعبرن لينساه أهله ولا يتعرفون عليه.

لقد اقتادت الحفيدة جدها المناضل القديم المنسي غير المعروف حتى من حفيدته فلا تعرف شيئا عن ماضيه واسهاماته ، وهي نفسها قد نسيت لغتها العربية والعادات العربية ، مما يعني ضياع الهوية الذاتية . كما أشار الكاتب الى نموذج الشاب اللامبالي المتفرنج شكلا ومسلكا ومضمونا ليحذر من خطورة التماهي مع الآخر الى حد الذوبان .

 أما المدينة ( حيفا نموذجا ) فينقلها الكاتب على أنها مدينة غريبة عن نفسها وعن انسانها ، كما أن انسانها فيها غريب ومغترب ، فقد كان عباس الفران يوزع الخبز والحكمة صباح كل يوم ، أما الآن فصار الخبز ( بيتا ) بلا طعم ولا حكمة … لقد صار الفلسطيني لاجئا في وطنه .

 

 ينقل الكاتب بلوعة سيرة الغربة المكانية والزمانية وسيرة الأغتراب الأنساني في بلاد احتلها الغرباء

وحين علد بعض أهلها اليها صاروا غرباء أو وجدوا أنفسهم غرباء فيها وعنها ، غربة مكانية ونفسية

وفكرية ، غربة هوية وانتماء ومصير . الكاتب ينقل لنا الواقع القائم بلغة اللامنطق الكائن بحكم قوة الواقع وحدة تغريبه ، لذلك فانه يحتال على هذه القسوة الطاحنة بالسخرية ؛ السخرية في اللغة وفي الموقف ، وهو يوظف ثقافته ليدعم آراءه .

من هنا نجده وقد عاد الى أسلوب ألف ليلة وليلة الحكائي ، وأسلوب غسان كنفاني الروائي برموز لغته وشخصياته ، ومن نجيب محفوظ فلسفة أحداثه وشخصياته وقوة لغته ، وعرّج على يحيى حقي وقنديل أم هاشم ، وجارى متشائل اميل حبيبي في سخريته ولغته ومحمود درويش في عمق طرحه وجمالية لغته وعرضه . لقد جمع بعض تعاليم الدين أو الأشارات الدينية ، وأقوال الحكماء وحكمة البسطاء في ثوب سرديّ جميل وساحر ، فيه الحركة والتشويق واللفظة المعبرة والصورة المؤثرة ذات الدلالة المعنوية والأثر النفسي.

 لقد جمع أسلوب المقال الصحفي والقصة والقصيدة والخاطرة ولغة السينما والسيناريو والحوار ، فنقل بؤس الشخصيات وفقرها وألمها وأطلعنا على عالمها وأمنياتها  من خلال عالمها الجواني النفسي ولغتها البسيطة الأليفة .

 

 شهادات حية وتاريخ حي صاغه قلم الأديب سلمان ناطور محافظا على أصالته ونكهته وتاريخيته

في كتابه الأول ( ذاكرة ) ليتواصل مع مضمونه العام من خلال سيرته الذاتية التي قامت امتدادا للسيرة الجمعية العامة للمكان والزمان والشخصيات … هكذا جاء الكتاب الثاني ( سفر على سفر )

ليمتع ويجرح ويدهش ويفاجىء ويقدم أسلوبا جديدا ذكيا في لغته ورؤاه ووصفه وعمق أفكاره وأصالة مفاصله .

 

ثم جاء الكتاب الثالث ( انتظار ) لينقل مشاهد وصورا والوانا للمنتظرين ويؤكد على انتظارهم ومأساتهم وخيبة أملهم وقدرتهم أحيانا على المنافسة والتأثير وضياعهم أحيانا أخرى وذوبانهم في عالم جديد غريب متوحش وان كانت تضيء عتمته بعض الفلاشات البسيطة ضعيفة الأثر والتأثير .

 

 الشيخ مشقق الوجه هو امتداد للشعب ذاته المتوحد مع الأرض المندمج بها ، هو الأرض نفسها . أما الشيخ عباس جامع المفاتيح فانه الشعب المنتظر وهو أم الروبابيكا في المتشائل . والمفاتيح نفسها التي يجمعها عباس فهي مفاتيح حقيقية ومجازية ، اذ لكل شيء مفتاح …

 سلمان ناطور كتب هنا التاريخ بلغة القلب وحكاه بصدق من خبروه . وحين كتب سيرته الذاتية وجدناه يغوص في لغة الشعر لأنها لغة القلب والحنين والحسرة والأنفعالات كلها ، فصاغ مزيجا أسلوبيا جميلا  .

 ( سفر على سفر) عنوان الكتاب الثاني / كتاب السيرة الذاتية ، اذ يبدأ الشعر يتدفق مع العنوان نفسه

المحمّل بالدلالات والأيحاءات والصور لتسري في مفاصل اللغة الوصفية وتكتسي بالعاطفة والحنين والشوق والحب ، ولتأخذ تجسيدها على جسم الصفحات من حيث التوزيع للجمل والألفاظ .

 

 سلمان ناطور في كتاب النكبة هذا ( ستون عاما – رحلة الصحراء ) يكتب ويصرخ وينادي وينتقد ويعلّم ويعلم وينتظر ويحذّر . انّه يبكي ويضحك ، ويمتع ويفيد ويستفز . وانه ليجرح ويؤشر الى الجرح القديم الذي يجب أن لا ينسى . وهو لا ينسى انتظاره مع المنتظرين، فلا يضيع في اليأس ولا تأخذه الحيرة . انه يعرف ما يريد ، ويريدنا أن نعرف نحن ما يريده هو وما نريده نحن .

 

   هذا كتاب آسر في أسلوبه ومضمونه . فيه ما هو جديد ومفيد . أقترح تدريسه في مدارسنا كتاريخ ، ولغة ، وتعبير ، وسخرية فنية ، ومكوّنات الهوية المبثوثة في ثناياه ، وللتدريب على البحث والتحليل والوقوف على معاني الوطن ومكوّناته ومفهومه .

 وقال الاستاذ موسى أبو دويح:

 

كتب سلمان ناطور ثلاثيته، وأخرجها مجموعة في كتاب واحد سنة 2009، وأسماها:

ستون عاما

رحلة الصحراء

ذاكرة.. سفر على سفر.. انتظار

       أما ذاكرة فصدر لأول مرة في بيت لحم سنة 2006 عن مركز”بديل” وأما سفر على سفر فصدر لأول مرة عن مؤسسة ثامر/ رام الله سنة2008. وأما انتظار فصدر لأول مرة مع سابقيه عن دار الشروق سنة 2009.

       والستون عاما هي ما مضى من عمر الكاتب حتى خروج الثلاثية هذا العام 2009.

       أم رحلة الصحراء فقد وفق الكاتب في اختيار العنوان أيما توفيق. فالارتحال في الصحراء فمحفوف بالمخاطر، وغالبا ما يلقى مرتحل الصحراء حتفه فيها: ضياعا أو عطشا أو جوعا أو افتراسا. وسماها العرب مفازة لعل داخلها يفوز بالنجاة، كما سموا لديغ الأفعى بالسليم عله يسلم من موت مؤكد.

       جاء في لسان العرب:” وأصل المفازة مهلكة، فتفاءلوا بالسلامة والفوز. والمفازة أيضا: واحدة المفاوز، وسميت بذلك لأنها مهلكة من فوّزأي هلك وقيل سمّيت تفاؤلا من الفوز بالنجاة”.

          أما العيش في فلسطين وعلى الأخص منذ سنة 1948 وإلى الآن، فأي مفازة أو صحراء أو بيداء أشد هلاكا وقتلا وأكثر سجنا واعتقالا وأمرّ طردا وتشريدا وأسوأ قهرا وعذابا مما جرى ويجري في فلسطبن على أيدي يهود. ففلسطين من هذه الزاوية صحراء بلقع.

       وذاكرة الكاتب -التي اتخذ الشيخ المشقق الوجه راوية لها- شاهدة على كل هذا، وفصلته تفصيلا دقيقا، حيث لم يترك مدينة ولا قرية ولا خربة ولا جبلا ولا واديا ولا سهلا ولا وعرا ولا بئرا ولا عينا ولا مرجا ولا تلا، ولا طفلا ولا شيخا ولا صبية ولا عجوزا ولا حاملا ولا مرضعا ولا مختارا ولا ختيارا، إلا وأثبته في ذاكرته، فهي سجل حافل ومرجع قيم ومصدر جيد لأحداث فلسطين خلال هذه الفترة(1948-2009) بل وما قبلها منذ بداية الهجرة اليهودية المشؤومة إلى هذه الأرض الطيّبة المباركة. اسمعه يتحدث عن أسماء الأماكن في الرحلة في صفحة 126:” هنا كانت سكنة الوهّاب. نقطة. هل نبدأ سطر جديد، هل نفتح صفحة جديدة؟ سكنة زبانة، فانوس، حارة النصاره، حارة الجمال، حوش المصري، المارستان، الكافوري، الحنة، الزحاقية، حارة السوق، سكنة المحص، سجل يا عمي، إللي ساكنين خلف الحدود بيعرفوها شبر بشبر وبيت بيت، طمنهم إنّا احنا هون، ما نسينا حارات الوطن، وراح نسجله للعايش واللي راح ييجي من بعدنا”.

       حتى إن الكاتب لم يغفل أسماء الضباط الإنجليز الذين مكنوا يهود من تحقيق ما يريدون بأساليب ملتوية. فقد قال الكاتب قي صفحة 141:” الضباط الكبار يفرغوا بواخر أسلحة لليهود، وعلشان يضحكوا علينا يبعثوا أكم جندي مع أكم قطعة سلاح يعطوها للزعما حتى يصدقوا انها بريطانيا بتساعدهم. كله كان ضحك على الدقون”.

       وكذلك لم يغفل أسماء خواجات يهود الذين كان لهم دور بارز في تحقيق الحلم اليهودي بإقامة دولة ليهود في فلسطين.

       ويكشف الكاتب في ذاكرته خيانة الدول العربية وتآمرها وتسليمها فلسطين ليهود بردا وسلاما ، مع أنهم يظهرون لأهل فلسطين أنهم جاؤوا لانقاذ فلسطين، حتى إنهم سمّوا “جيش الانقاذ”. استمع إلى الكاتب يقول في صفحة 73-74:”وصل القاوقجي ومعه أربعة ضباط بنجمتين أو ثلاث نجمات، وتطلع في الناظور وأمعن النظر وقال: تحرير البلد لا يكلفني سوى شهيدين ولا أكثر.. خلال ثلاثة أيام تصل المدافع والمصفحات ونحررها – والحديث عن البروة – ومنها نحرر المكر والجديدة وعكا. والله ما صدقنا هالحكي.. كنا نعرف قوة جيش الانقاذ.. لا هم انقاذ ولا هم جيش منظم.. هالحكي إللي بيحكوا اليوم عن سبع جيوش عربية كله دعاية بدعاية، لا سبع جيوش ولا سبع فرق. صوروا الحرب كأنها طوشة عمومية أو بين عائلتين. كنا نعرف هالحقيقة المرة. اجتمعنا وقررنا نحرر بلدنا بأنفسنا. وخصوصا بعدما انتظرنا 3 أيام وأربعة وخمسة واسبوع.. وما وصلت مجنزرات ولا مصفحات بعدما يئسنا تجمعنا ورحنا طريق الوعر وهجمنا على القرية بقيادة شاب من شعب اسمه ابو اسعاف، واجهنا مقاومة عنيفة لكن ارادتنا كانت قوية.. وتمكنا نحرر بلدنا.. سقط منا شهيد و3 جرحى. كان يوم عرس في حياتنا. وكان درس تعلمناه.. هالأرض ما بحررها إلا أصحابها.. لا ملوك ولا خواجات.. ولا الشعارات الرنانة”.

       ويكشف الكاتب خيانة جيش الملك عبدالله بقوله صفحة 128: “في نفس الليلة جنود عبدالله بدأوا ينسحبوا. شفناهم خارجين من بين البيوت، جيش اسرائيل فتح لهم الطريق من جهة الشرق ليطلعوا على الضفة.. تركوا البلد وهم يضحكوا على الناس ويقولوا: النجدة جاي، النجدة جاي. الصبح مع طلوع الفجر دخل الجيش الاسرائيلي.. كنا منهكين من الجوع والعطش.. دخلوا يقوسوا في الشوارع”.

       ويبين لنا الكاتب جرائم يهود فيقول في صفحة 121: “شوي ولا جندي حمل رشاش ووقف على باب الجامع وصار يرش في الناس.. طيخ.. طاخ.. طيخ.. طاخ.. شفتها في عيني.. قتلوا 65 واحد.. غير الناس اللي انجرحوا.. جثثهم غطت أرض الجامع.. تركوهم سبع أيام في الجامع.. حتى الناس تشوف وترتعب”.

       وتظهر دعوة الكاتب إلى التمسك بالأرض والوطن قوية صريحة مدوية في قوله في صفحة 76: “لن نرحل من وطنا..

                       راح نبقى في وطنا لو منموت

                واذا بقينا بوطنا مش راح نموت

                كل واحد بيرحل ما بيرجع للبلد إلا سائح..”

       ويقول في صفحة 77: “استعدينا للرجوع لبلدنا قلنا: اذا كان هون موت وهناك موت.. لأ، نموت على ترابك يا بلدنا.. راح ييجي يوم وأولادنا.. وأولاد أولادنا يرجعوا للأرض ويعمروا بيوت البلد ويزرعوا، ويذكروا دم أجدادهم.. أحسن ما نموت في الغربة، على أرض مش إلنا، وعلى تراب ما عمره حملنا، وما عمرنا زرعناه”.

       أما لغة ذاكرة سلمان ناطور فجاءت باللغة المحكية، لغة أهل فلسطين، ويشفع له أنه جعل راويها شيخا عجوزا طاعنا في السن ومثل هذا لا يناسبه إلا اللغة العامية، فلو جاءت لغة الذاكرة بالفصيحة لجاءت نشازا. وان كان ذلك مقبولا ومفهوما عند أهل فلسطين، إلا أنه ليس كذلك في بقية الأقطار العربية.

 وقال الاديب محمد خليل عليان:

 

 

سلمان ناطور وأدب الذاكرة الفلسطينية

 

هو  ليس رواية بالمفهوم التقليدي ، هو ليس  مجموعة قصصية   ، كما أنه بالتأكيد ليس  مجموعة شعرية أو خواطر ونصوص أدبية ،  ليس  تأريخا لإحداث جرت وما زالت تجري ، ليس  تكهنا لمستقبل لم يأت بعد ، وربما لن يأتي  أبدا  ، هو  كل هذا وذاك ، صنفه كما شئت ، ضعه  في الخانة التي تريد ، اقرأه  بالطريقة التي تريد ، قيمه  من أية زاوية تشاء ، فلا بد أن تتوصل إلى نتيجة حتمية وهي انك أمام عمل  عظيم وغير مسبوق .  “ستون عاما – رحلة الصحراء”

قرأت ما سنحت لي الفرصة أن أقرأ للكاتب سلمان ناطور ،  وحتى قبل أن يصلني هذا الكتاب الذي يجمع ثلاثية :   ” ذاكرة  ،  سفر على سفر ، انتظار ” . كنت أدرك أن الكاتب مشدود للذاكرة الفلسطينية، وقد رهن قلمه لأحياء الذاكرة التي يصر أن تبقى حية،  ولا تموت بل تنمو في داخلنا في كل يوم وتأبى النسيان.

الذاكرة ليست تأريخا لأحداث جرت، ولو كانت كذلك لما تميزت، لان المكتبة الفلسطينية تعج بكتب التاريخ القديم والحديث،  وما أكثر المؤرخين الفلسطينيين والعرب، الذين امتهنوا الكتابة عن  القضية الفلسطينية .

” الذاكرة ” هي تسجيل، كما لو كان حيا، لأحداث حصلت في حقب مختلفة  ، بدءا من النكبة وحتى اليوم. وهذا التسجيل لم يكن على لسان الكاتب أو نقلا عن كتابات تاريخية ، بل جاء على لسان رواة عايشوها أو عايشوا من عايشوها. وقد جاء هذا التسجيل الصادق والأمين على شكل حكايات سردت بلغة الرواة أنفسهم دون تدخل من الكاتب ، مما أضفى عليها جمالا خاصا ومتميزا وغير مسبوق في الأدب التسجيلي الفلسطيني.

الذاكرة عند سلمان ناطور لا تتلاشى  ولا تموت  ، بل تبقى حية تحضرنا في كل لحظات حياتنا ، وإذا كان الشيخ متشقق الوجه يستعيدها بألم وحسرة  فهذا الألم هو الم الحياة وليس الموت ،  فنحن لا نستعيد ذاكرتنا كي نموت بل كي نحيي حاضرنا ونرسم لمستقبل أجيالنا . فالذاكرة عند سلمان ناطور إذا ليست بكاءا على الأطلال ولطما على الوجوه  ونياح نساء بل هي محطة لا بد منها للانطلاق نحو المستقبل الذي لا بد آت .

وفي ” الذاكرة ” كما في ” سفر على سفر ” ومثل ” الانتظار ” أيضا لا يوجد شخصية محورية  او ما يقال عند بعض النقاد ” بطل روائي ”  ، فالشخصية المركزية أن جاز لنا التعبير ، هو الفلسطيني المعذب ، المقهور ، المشرد في عام التشريد وما بعد عام التشريد ، انه العامل الفقير الكادح ، الفلاح الذي سلبت أرضه وهدم بيته ، اللاجئ الذي جال العالم بحثا عن مأوى ولم يجد بديلا عن الوطن السليب ، انه الفلسطيني

”  الذي  ولد بعد حرب 1948 ،
ودخل المدرسة في حرب حزيران ،
وتزوج  في حرب أكتوبر ،
وأنجب  الولد الأول في حرب لبنان ، ومات أبوه  في حرب الخليج ،
وحفيدته سلمى ولدت في الحرب التي ما زالت مشتعلة
.

وهذا الفلسطيني قطعا ليس سلمان ناطور وان بدا لكم ذلك ، فالكاتب لا يكتب السيرة الذاتية ولا يبكي ماضيه هو بل  يحيي ذاكرة شعب كامل تشرد في بقاع الدنيا وما زال ينتظر .

لا تحتاج إلى  خبرة في النقد  والتحليل الأدبي كي تكتشف عمق الانتماء الوطني عند  هذا الكاتب القدير  ، أن الهم الاول ، أن لم يكن الوحيد ، الذي يؤرق بال الكاتب هو الهم الوطني العام ، وإذا كان قد تناول في بعض الأحيان قضايا أخرى فانه يتناولها فقط من الجانب الوطني ويبرز انعكاسها على القضية أو انعكاس القضية عليها ،  ولكن بعمق وإثارة وتميز . فقضية العامل هي قضية وطنية وان كان لها أبعاد طبقية وكذا المرأة والفلاح والسياسة والتعليم وكل القضايا الملحة التي تستوجب الاهتمام في حاضرنا هذا.

 سلمان ناطور لا يكتب الرواية أو القصة أو النص الأدبي  بلغة الأدب الفصحى ، بل يدمج على نحو مبدع اللغة الأدبية والصحفية والعامية ، وهو لا يضلل القاريء بهذا الشأن ولا يقول انه يكتب الرواية أو الأدب في هذا العمل ، انه يسجل أحداث كان لها اثر حاسم على حياتنا وإذا كانت الرسالة من وراء هذه الحكايات قد وصلتنا ، فأي أهمية تبقى لموضوع اللغة ؟ . أنا هنا لا اقلل من شان اللغة ولكنني هنا ، وفقط هنا ،  أعلي  من شأن الرسالة التي تسمو على كل شيء   .

ولم تكن اللغة خليطا من الأدب والصحافة والعامية وحسب ، بل كانت ساخرة أيضا في الأحداث التي تستوجب السخرية ، سخرية من القدر ، سخرية من منطق الأحداث ، سخرية من الألم ، من  الموت ، من الفقر ، من الجوع ، من العري ، من الحرب ، من التشرد ، من السفر ، من فلسفة الانتظار ، من الماضي  ، من الحاضر ، من المستقبل ،  من اللا يقين ، من الغربة ، من الاغتراب ،  وأخيرا سخرية من السخرية  واللا مبالاة ، ومن اجل الحياة مع الذاكرة التي بفقدانها يغيب ماضينا ويتشوه حاضرنا ونفقد مستقبلنا . الكاتب يسخر إذن من العالم ويقول ذاكرة هذا الشعب ستبقى حية ومسيرته لا بد أن تنتهي وانتظاره حتما لن يطول .

أما  القاص سمير الجندي فقد قال:

 

ستون عاماً، رحلة الصحراء، ذاكرة.. سفر على سفر.. انتظار، من إصدارات دار الشروق للتوزيع والنشر، رام الله، الطبعة الأولى، 2008.nللكاتب سلمان ناطورnيتكون الكتاب من ثلاثة أجزاء هي: n1– ذاكرة.n2– سفر على سفر.n 3– انتظار.n تناولت في دراستي الفنية هذه، الجزء الأول وهو ذاكرة. nتحدث الكاتب في هذا الجزء من الرواية، عن مسيرة شعب فلسطين، فقد شُرد ،واضطهد وعُذب، وفقد أملاكه، وسلامه، وراحته، فقد صادرتها آلة القمع الإنجليزية، وبعدها آلة الدمار الصهيونية، بأسلوب ساخر عبَّر به الكاتب عن ذاته المعذبة، متكئاً على شخصية تمثل النكبة بكل حذافيرها، هي شخصية “الشيخ مشقق الوجه” بطريقة الحكاية الشعبية، وباللهجة العامية التي جاءت هنا مناسبة لسرد الحكاية، فكان الكاتب مبدعاً بصورة لافتة، بحيث جعلنا نغوص في أعماق الحدث المروي شفاهية، فصور لنا النكبة وجسدها أمامنا، فأبكانا وأغضبنا واستفز مشاعرنا لدرجة القهر، عندما شاهدنا كل تلك القرى والبلدات التي مُسحت عن وجه الأرض، فهي مرسومة على ملامح الشيخ المشقق الوجه، في خطوط وتجاعيد وجهه، يقول الكاتب في الصفحة 11 ” فالخط الأول الذي يمتد من اعلى حنكه وحتى طرف حاجبيه يكون عام الثورة..والخط الثاني الذي تقوس على أسفل جبهته يكون عام القحط، والخط الثالث المتعرج فوق الخط الثاني تبلور عام التشرد.. ” nويشير الكاتب إلى حالة الشتات التي خلفتها هجمات المستوطنين وعصاباتهم، فقد تفرقت السبل بين الأهل والأصدقاء، والأماكن أصبحت غير متاحة، ” أنا أصبح عمري أكثر من ثمانين سنة.. قبل أن أموت سأقابل أصدقائي.. وجئت لأودعكم الوداع الأخير..” صـ 15.nكما انه مر على دور المخاتير في نكبة فلسطين وبأن المستعمر مهما كان فقد استغل بعض النفوس المريضة في الألتفاف على قضية شعبهم وفي التعامل مع المحتل الغاصب، ” كان في القرية ثلاثة مخاتير، الأول عينه أهل القرية، والثاني عينه الانجليز، والثالث عين نفسه بنفسه” صـ19 ، المختار الأول يحب أهل القرية ويحبوه، اما الثاني فهو مكروه لديهم لأنه يخلق الفتنة مع القرى ببعضها البعض، والثالث ، لا أحد يعرف كيف صار مختارا، وكان الخواجه شلوموا يزوره أكثر من ثلاث مرات في الأسبوع، فهو إذن عميل للخواجه وعصاباته التي تقتل وتستبيح الحرمات، وتمسح قرى وتبني فوقها كبانيات.nأما ما لفت انتباهي في هذه الرواية هو صورة الآخر عند كاتبنا، فقد عبر عنه بأنه الأدون، أي السيد باللغة العبرية، فقد ذكر الكاتب بأن هذا اللقب قد استحدث في عام النكبة، ” حين تحول السيد إلى عبد والعبد إلى أدون” صـ34، كما سماه “ابن الميتة” : ” جيش الإنقاذ محاصر بلدنا ومش راح يسمح لأي “ابن ميتة” يفوت”صـ36. وهذا التعبير كان يستخدم عند عامة الناس، واعتبره في موقع آخر بأنه إنسان له ضمير، إذ يقول: ” وقرر الفنان المنذهل الحزين أن يخلي البيت، فانتقل إلى بيت آخر،” صـ 41 ولكنه خاف أن يأتي عربي آخر يسأل عن بيته الذي خلق فيه، أصابه القلق، وقرر أن يترك البلاد.” فقد كانت تداهمه الكوابيس في الليالي المعتمة”ص41 ، وادعى بأنه صديق، وبأن صداقته كانت قبل عام 1936، وكنا نتبادل احترام الجيرة، يقول الكاتب” لي صديق قديم… ” ويضيف” كنا نحترم الجيرة”صـ53 ، ” كان لنا جار من الكمبانية اسمه ابراهام غيفر، كان يشتغل في الحرس..”ص62 ، ولكن هذا الصديق وهذا الجار يتحول إلى خائن، ” ورحت أبحث عن شريكي، أبراهام شميدو، هالعكروت كان بايع الخان وبايع الشراكة”صـ67، كما وصفهم بالقتلة الذين يقتلون الناس ويهدمون بيوتهم ويمسحون قراهم عن وجه الأرض، فهو يحدثنا قائلاً: ” الانجليز كانوا ينسفوا البيوت وما يقتلوا البني أدم.. اخوانا بالله ، بيقتلوا البني أدم وبيهدموا البيوت”صـ96، واستخدم السخرية بشكل واضح في وصف أحد ضباطهم بـ “اللطافة والإنسانية” لا لشيء الا لأنه خيرهم بالطريقة التي يرغبون بها في ترك قراهم ومنازلهم، وبعد دقائق يقتلوهم بالحقول، فهم سفاحون في حقيقة الأمر” أمروا الرجال أن يقفوا صفاً واحداً، كانوا سبعة شبانك يوسف أبو مهارج، عادل الحسين الدبور، حسين رجا فحماوي، حافظ عبد الله فحماوي، صبري كيوان فحماوين والشابان من الطيرة… كان واحد من بلدنا من دار بشير.. زلمة فش أثبت منه.. رجع إلى البلد يصيح: الاولاد مقتلين في خبيزة.. الاولاد مقتلين في خبيزة..” صـ49-50 . n ويذكر لنا الكاتب اسماء العديد من القرى التي تهدمت ومسحت عن وجه الأرض، لدرجة أنني فكرت كثيرا بعمل فهرس لكل تلك القرى والأماكن حتى تصبح مرجعاً مهما للباحثين والدارسين، كما أنه ذكر الكثير الكثير من الأعلام، ، فمن القرى” عين غزال والمزار وجبع، والطنطورة، وكفر لام والشيخ براق وعين حوض “صـ39 ، ” الدربية، وغرب البلاطية، وقطعة الجامع، والذيل”صـ35، ويذكر الكاتب قرى اخرى وكثيرة تم مسحها عن وجه الأرض فيقول: ” فالحدثة تقع جنوبي كمبانية يمة، وشرقي مسحة، وكانت لها جارات: عولم، سيرين، ومعذر، كلها مُسحت وظلت يمة”صـ52، والبيوت تحولت إلى متاحف ومعارض فنية ” تحولت دار ياسين إلى مرسم لا يرسم إلا المشلحات” صـ41 والمساجد حولت إلى مطاعم وبارات تعمل فيها الحسان ” وفي بلد الفنانين أصبح الجامع مطعماً تقف فيه فتاة جميلة وتقدم إلى الفنانين وضيوفهم ما تيسر”صـ40، والقرى صارت تجمعات لعصابات الصهاينة.n لم يغب عن ذهن الكاتب عملية التهويد الممنهجة، فقد غيروا أسماء الشوارع في المدن الرئيسة مثل حيفا ويافا، والآن القدس، فاستخدم اسماء عبرية مثل ” ي.ل.بيرتس،هنفئيم،مندلي موخير سفاريم، أفراهام أفينو” صـ66 ، وأشار الكاتب للأسلوب المخادع الذي استخدمه ضباط الجيوش العربية في جمع السلاح من المقاومين أو كيف كانوا يقنعوهم بالأنسحاب من مواقع كانت تحت سيطرتهم، وقد ذكرني ذلك بما ورد عن هذا الأمر في رواية ” زمن الخيول البيضاء” للكاتب الفلسطيني إبراهيم نصر الله” فقد ورد في الصفحة 75″ ” لم يكن بإمكان أية قوة أن تنتزعهم من بيوتهم التي عادوا إليها يغنون ويزغردون.. ووسط تلك النشوة وبارقة الأمل.. وصل قائد أردني بثلاث نجم وآخر عراقي بنجمة ومعهم جنود… يتوقف الشيخ مشقق الوجه عندما يحكي هذه الحادثة.. ويقول: لحد اليوم مش فهمان كيف ردينا على الضابط لما قال لنا اتركوا البلد..”صـ75nلقد أجاد الكاتب في وضعنا أمام الحدث بطريقة معبرة سهلة ، صادقة فيها الحبكة مترابطة، أنا لا أستمتع عادة باللهجة العامية عند قراءة رواية، ولكنني هنا قد استمتعت حقيقة، خاصة وأن أسلوب الكاتب الساخر، في موضوع جدي وهام، قد وفر عنصر التشويق، والإثارة، أستطيع القول أنه أسلوب السهل الممتنع.

وقال محمد موسى سويلم:

 

ستون عاما رحلة الصحراء، ستون عاما من عمر النكبة و لكن حين بدأ يكتب عن ذاكرة الشيخ مشقق الوجه كتب عن احداث فاقت الستين عاما ،فقد تمت الكتابة عن ثورة ال1936 ثم رحلة الصحراء فهل قصد بكلمة الصحراء البيئة أم ماذا ؟عنا …………… رحلة الصحراء  رغم ان فلسطين لم تكن صحراء يوما .

   

      لقد كتب في ثلاثيته عن ذاكرة،ونبش في الماضي، وعن جرائم الاحتلال وقتل الشباب امام عيون الأهل ،وعن عدم السماح للأهل بدفن موتاهم  ، وعن شتات الأهل والأبناء، والتفرق في الأصقاع و من الماضي الجميل و البساتين الغناء من كل نوع، وأشجار وأثمار من كل ما لذّ وطاب الى الخيم و افتراش الارض و المواد الغذائية ………………… المقدمة من وكالة الغوث .

    و قد صدق الشاعر حين قال :-

نبيت في اكواخ قد خلت من أناسها

  فقام عليها البوم يشكو و يندب

ونشرب مما تشرب الخيل تارة

وتارة  تعاف الخيل ما نحن نشرب

 ومع هذا و ذاك نتهم الارهاب و التخريب، وعدم الرغبة في السلام وصانعي اعمال الشغب، ونظلم من العالم ومن ابناء جلدتنا .

    

      ولدنا في الخطيئة لماذا هذا التشاؤم؟؟ فكل الانبياء و الرسل و الصالحين ولدوا في ظروف أصعب وأشد قسوة من ظروفنا، هذا من جهة ومن جهة أخرى اننا اصحاب حق، وقد قدر لنا ان نكون من اهل الرباط ومن أشد المدافعين عن الحقوق في العالم بشكل عام والعرب بشكل خاص، فنحن لسنا جيلا بلا ذاكرة، وما الانتفاضة الاولى التي قام بها اطفالنا عام 1987 وانتفاضة الأقصى الا دليل على عمق الذاكرة ودفاع عن الحق .

 

   

     

 

       سفر على سفر ……….. و انا اقول ربما هي سفر على سفر أي كتاب على كتاب، فقد بدأ من روما الى باريس والفلسفة الوجودية ،الموجود و اللا موجود، وعن التاريخ والواقع والمكان و الخوف واللا خوف، فهل هكذا يعترف العام بوجودي جراء السكوت عن الحق، والتسليم بالواقع وعدم الخوض في أمور السياسة وقبول الآخرين والتنازل عن الانسانية وكرامتها وعدم جرح المشاعر و الأحاسيس ……… نعم روما وباريس وكل عواصم الغرب الذي لا يرى سوى الحق للآخرين، وانما ما اقترفت ايديهم من شتات وضياع وقتل ……………… الخ هو تبرير ……….  .

     صدق القائل :-

قتل حيوان جريمة لا تغتفر    

وقتل وتشريد شعب فيها نظر

لقد اصبح شعار العربي الجيد هو العربي الميت،  وقد يصبح الشعار العربي الجيد هو الميت ولكن خارج هذه البلاد ،أيّ لا وجود للأموات ايضا . نعم لم تعد طريق الآلام هى نفس الطريق التي سار فيها  وعليها عيسى ابن مريم عليه وعلى أمّه السلام،  وانما كل فلسطين هى كلها اصبحت طريق الآلام من راس الناقورة الى أمّ الرشراش،  اصبح السير فيها آلاما تدمي الاقدام ….. والقلوب  هذا ان سمح لك بالسير فيها … وان سرت تحتاج الى دليل  . ولكن ( ان موعدهم الصبح أليس الصبح بقريب ) صدق الله العظيم .

  ص 254   اقتبس من النص

    تغيرت كثيرا معلم القدس

وجهها اليوم ليس كوجهها بالامس وقلبها لم ولن يتغير

الحياة التي لا تهدأ في أسواقها وأزقتها

للقدس نبض لا يحرك من يسكنها أو يأتي اليها فقط

للقدس نبض يحرك كل من يشعر معها بأيّة علاقة من بعيد أو قريب

 مدينة ترفض ان تكون رمزا

انها واقع وحالة غير عادية

التاريخ لا يتوقف

لا شى خالد على هذه الارض

كل شى يتغير ثم يزول من جديد

 كثيرون مروا من هنا

كثيرون احتلوا وهدموا وبنوا وذهبوا وجاء غيرهم

ولا يبقى سوى قصص التاريخ

 

صدقت يا استاذ سلمان لايبقى سوى قصص التاريخ،  وها هو التاريخ  وها هو التاريخ رغم التزوير ومحاولة اخفاء الحقائق  الا ان الشمس لا تغطى بغربال . ولكن ما اخشاة ان يطالب الرومان والفرس والاغريق  وورثة الاسكندر بحق لهم  ويقولون ارض الآباء والاجداد . ان دولة الظلم ساعة ودولة الحق الى قيام الساعة .

 

 اريحا أولا ص270 لا يا سيدي سلمان المصطلح  غزة اريحا اولا       (اقتضى التنوية ) في سفر على سفر لم تذهب الى غزة يا استاذ سلمان،  وكان غزة ليس جزء من تاريخ فلسطين..  اذهب لو سمحت لأنك  سوف تكتب عن احداث  حاضرة وماضية لنا فيها يد ………

 أو ربما ذهبت وأنا لم أتبع جيدا .

 

انتظار بدأ من رقم الخامسة فان ما قبلها  ربما سقطت سهوا أو ربما لم أفهم  والثانية أصح .  الكتاب الذي بين يدي طبع سنة 2009 ولا تزال العملة بالليرة  وليس بالشاقل، فما القصد علما ان العملة تغيرت عام 1979 من الليرة الى شاقل ان صحت ذاكرتي . في ص 294 ورآنا اولاد سقط حرف الدال من الكلمة  . ص 306 المستسلمة  سقط حرف الميم الاولى من الكلمة .

 

 انا بليد اذا انا موجود ص 319 شكرا ايها المفكر الفلسطيني العزيز نظرية ستدرس في الجامعات ان شاء الله  ضمن مناهج علم الاجتماع الفلسطيني .

 

 

 

 ستون عاما رحلة الصحراء كان الكاتب بفكرة الثاقب  دخل الى اعمق مراحل الشتات الفلسطيني… تحدث عن مرحلة مرت ولكن اثرها باق للعيان…  وشواهدها في كل حي وواد وكأن الامور تزداد تعقيدا وصعوبة..  ونحن ننظر الى الامر منتظرين ان يحل الزمان عقدتنا ، كأن هذا الشعب كتب له وعليه الشقاء  والهم  والتشرد  لا لسبب ولكن صراع القوة والظلم والخوف من المجهول . فتفرق الاخ والابن والأم والزوج ……………….. الخ  العيش والاعيش .

 

  تحدث الكاتب عن العقل الفلسطيني والقدرة على ايجاد الحلول والالتفاف على كل المحن  والمصائب والنكبات  ،تحدث عن الذكريات الجميلة في المدن والريف والحضر والبدو وكل اطياف الحياة الفلسطينية من هناء و صفاء ، تحدث عن ماض تليد وعيش رغيد في البيت والبيارة والحارة والقرية والمدينة . ضاع العمر ضاع كتب تورث للاجيال وينقش في الذاكرة كل سنين الضياع و الشتات والعيش على الأمل و المستقبل و الغد ………………

         

        يا ليل الصب متى غده ***   أقيام الساعة موعدة  

 

       

  

 

 

 

 

 

التعليقات

جميل السلحوت

جميل حسين ابراهيم السلحوت
مولود في جبل المكبر – القدس بتاريخ 5 حزيران1949 ويقيم فيه.
حاصل على ليسانس أدب عربي من جامعة بيروت العربية.
عمل مدرسا للغة العربية في المدرسة الرشيدية الثانوية في القدس من 1-9-1977 وحتى 28-2-1990

أحدث المقالات

التصنيفات