سجى مشعل: رواية الخاصرة الرخوة تحارب الظلام

س

صدرت رواية “الخاصرة الرخوة” للكاتب جميل السلحوت بداية العام 2020 عن مكتبة كل شيء في حيفا، وتقع الرواية التي صمّمها ومتجها شربل الياس في 260 صفحة من الحجم المتوسط.
لفن نظري عنوان الرواية ، وشعرت معه بارتخاء العنصر الأنثوي في هذا المجتمع شديد الحمأة والوطأة على المرأة، بصفتها عورة كما نعرف ولا يعرف الكثير ممن ليسوا منا، والذين هم أولوا حظّ وافر، لأنهم ليسوا من أبناء أمّتناا، بكيت فيها مع كلّ قطرة من وبال أمر صاحبة كل قصة، فالهمّ الوحيد المشترك تحت إطار هذه الرواية هو “قضية المرأة بصفتها مضطهدة اجتماعيا وإنسانيّا، خاصة وإن حظيت برجل لا يفقه من الدين سوى مثنى وثلاث ورباع”، هذا وقد جرت أحداث الرواية حول بطلة القصة جمانة وزواجها من أسامة، فكانت تلك محور الرواية، وتطرق الكاتب لقصتين أخريتين بشكل مستقطع أثناء المرور بين الأحداث هنا وهناك، وهما “قصة زواج عائشة وزياد، وزواج صابرين ويونس”.
فقصة زواج جمانة باءت بفشلٍ ذريع قاسٍ على قلبها الذي غدا متكوّرا على نفسه، كانت تعجن الصبر مع خبز الصباح فقط لتعيش، زُوّجت أسامة أستاذ الشريعة الإسلامية الحاصل على شهادة ماجستير شريعة رغما عنها، بسبب الضغط والعادات والتقاليد، وجهل الأهل، والخوف من القال والقيل، زُوّجت وردةٌفواحة رغما عنها لذئب بشريّ متمرّس متفنّن بألوان العذاب معها، وعلى الرغم من كل خوفها وحنقها من هذا الزواج وتلك الخطبة، إلا أن الظروف كانت أقوى منها وأرغمت على ذلك الرجل الذي لا تعرف، وحينما أُغلق الباب عليهما ذاقت ألوان العذاب دون أي مماحكة منها تذكر، لقد استسلمت بشراهةٍ تنمّ عن هزيمة، “كأنها لأول مرّة تعرف بأن المرء يخنق من إصبعه”، تحمّلت لأجل والدها المُرهقة حواسّه من عمله وكدّه لأجلها ولأجل أخواتها الأربعة، ولأجل همّه من أجلها بالستر الذي لا يتم إلا بالزواج قبل فوات أوان القطار، تحمّلت بُخل أسامة، وحنقه وغضبه اللّا مبرر تجاهها، تحمّلت فحولته وتفاخره بكلّ ما يفعله، تحملت إجباره لها أن تلبس نقابا، تحملت عجرفة حماتها الظالمة، تحملت عفونة بيتها، وفقرها الذي فيه عاشت، واضطرت لتعيش في أفقر أحياء الرياض بعيدة عن الوطن والأهل، بل ومعزولة عن العالم، معزولةً عن القراءة والمطالعة بصفتها حراما، مستحملةً انقطاع أخبارها عن العالم وإنقطاع أخبارهم عنها، استحملت حتى أتاها الفرج؛ لتعود إلى أرض الوطن وتفرّ منه كما يفرّ العصفور من قفص ذهبي، وصفها الأديب جميل السلحوت بأنها فتاة مضطهدة في كل المشاهد التي مرت، حينما قرأتها من بين السطور عشت معها لحظات التوجس والخوف من المستقبل والمجهول، عشت معها لحظات خوفها من ذلك الزواج، ولحظات يأسها من تلك الحياة ورغبتها أن تلوذ بالفرار من هذا العالم الظالم أهله، لكنّ اليأس ما كان يدوم طويلا حتى يردعه وازعها النفسي شديد الأثر في نفسها وفِعالها، شعرت في لحظاتٍ أخرى ضعفا ولمسته في شخصية جمانة على الرغم من أنها متعلمة جميلة ومثقفة، لكنها كانت تستسلم بسهولة لعادات المجتمع وكلام الأهل، وضغط والدتها لتقبل بذلك العريس، كانت دموعها تقهرني، يقهرني هروبها، لكنني أبرر لنفسي ضعفها بأنها ضلعٌ مغلوب على أمره في مثل هكذا مجتمع، كلما استحضر الكاتب جملة “لعنت جمانة اليوم الذي ولدت فيه كأنثى في هكذا مجتمع لا يرحم إنسانيّة الأنثى”، كان يصرّ بأن إنسانيّتها لم تُرحم، وبأن أنوثتها لم تراعَ، بل كانت محض جارية، حتى الجواري يعشن حياة أفضل من تلك التي عاشت، كم اعتصر قلبي على جمانة، خاصة وجود طرفٍ أنثويّ أرعن، طرف قاس بشراهة تبعث الكراهية في قلوبنا جميعا تجاه الحماة. عرضت الرواية الصورة الأخرى للمرأة غير تلك الصورة التي تعيشها المرأة المضطهدة، تلك المرأة الظالمة، الغيورة، الحماة، والدة الزوج التي تقتصّ من زوجة ابنها بقسوة وشدّة، تلك المرأة فظة السلوك والقول، التي دائما ما كان زوجها يردعها، دوما ما كان يقذفها بقوله لتسكت، لتخرس، لتكف عن الهراء، وضرب أعراض الناس، لتكفّ عن التجبّر بخلقه، كانت نهاية زواج جمانة جميلة بالنسبة لها، الطلاق، الخلاص، انتهاء وجودها مع ذلك المريض تحت سقف بيت واحد، كان زغاريدها قوية، نابعة من قلب مقهور، دموع فرحها تنطق وتخبر عن كل شيء.
كان المثل حاضرا على لسان والدة أسامة كثيرا، وزوجها الذي كان يوبخها، استحضار المثل يؤكد على مطابقة الواقع لحالةِ الموقف.
أمّا عن قصة زواج عائشة، الفتاة ذات الخمسة عشر عاما، فقد كانت قصة مثيرة للرعب، انتهت بطلاق عائشة بفضيحةٌ كبرى، لأن زوجها كان يظنّ وليس وحده بل وأهلها وعشيرتها وأبناء بلدتها الذين أرادوا قتلها لأنهم يظنون بأن الشرف “غشاء بكارة”، ومن ثم زواجها مرة أخرى بعد ثلاث سنوات حتى تظهر براءتها، ممّا نعتت به، وما قذفت به في شرفها وسمعتها، كانت عائشة تحاول التمسّك بطرف قشة يأخذها إلى برّ الأمان من كل ذلك الألم، وكل تلك اللحظات التي نظرت فيها والدتها وأقرب الناس إليها موبخة ومعاتبة ومشككة في شرفها.
والقصة الأخيرة التي تحدثت عن استغلال حب الفتاة لتحقيق مآرب الرجل الجنسية، وتحقيق متعته وتسليته بجسد امرأة عارية تماما باسم الحب شهوة ورغبة، عن هاجس الثراء الفاحش واستغلال السلطة للتلاعب بأي شخص، فالنفوذ هو ما يحلّ محلّ أيّ شيء، فيتزوج يونس الرجل فاحش الثراء من تلك الفتاة الساذجة صابرين، صابرين التي تكون ابنة عم أسامة، فينتهي بها الحال أمّا بعد ستة أشهر من الزواج بجنين كاملِ الجسد والصحة، ومطلّقة تحمل مسؤوليتها ومسؤولية طفلٍ تربّيه وحدها، مع إمكانية الإنفاق عليها من طليقها صاحب المال.
رتقت قلبي تلك القصص من فيض القهر والحزن والشفقة، كم امرأة مرّ على جيدها حبلٌ ممسّد الأطراف، يحكم قبضته ويحكم خناقه كلما مرّ الموضوع جوار الدين أو الجنس، أو العادات القديمة والتقاليد، كلما مرّ الموضوع جوار الخوف من قطار العنوسة.
فلم يراعِ المجتمع معاناة جمانة مع أسامة، حينما كانت تمشط أحزانها أمام المرأة مع شعرها المنسدل على كتفيها، لم يُراعوا عيشَها المقيت مع زوج بخيل، وأب غير كفؤ، ابن والدته، فكلما جاءت في الرواية كلمة “والدته” شعرت بأن في تلك المفردة انحيازُ أسامة لطرف أمّه، ففيه منها ما فيه من دناءة، وصفات قذرة مشتركة، لم يكن استعمال هذه المفردة من فراغ، خاصة بأن الأحداث تؤكد بأنه ابن أمّه، ما كان يستفزني نداءه لها “ماما، أجل ماما” وهو طوله طول الحائط بعرضه وطوله.
ولم يُراع المجتمع بل ولم يرحم تلك الفتاة، التي قتلوا طفولتها بتزويجها رغما عنها وهي في عمر الخامسة عشرة، وهي في ريعان طفولتها، كم قتلوا فيها من معانٍ طفولية، وكم شقّقوا مسامات روحها التي لن ترمّم مع الزمن مهما حدث.
ولم يدع الناسُ الكلامَ عن صابرين التي كانت ترافق الشاب الذي أحبته بقوة، والتي حملت منه بسبب شغفها وولعها اللذين قضيا على بصيرتها، التي لم تستضئ ولو لبرهة كي تنبّهها بأنها في ورطة.
فضلًا عن غنى الرواية من الناحية اللغوية، والسلاسة السردية والعرض البارع، كم كانت الأحداث لافنة للنظر، لم أستطع أن أنام طيلة الليل، على جلسة واحدة أنهيت تلك الرواية بكل ما تحمله من ألم. كما واشتملت الرواية على الغنى الكبير بالاعتداد بالأمثال، كسّرت هذه الرواية التابوهات المحرمة، من جرأة في العرض عن التّزمّت الديني واستباحة جسد المرأة، وبالحديث عن فكر أبكم أصم جاهل بكل ما تحمله الكلمة من معنى، “لأنه يظن بأن الشرف فقط بين قدمي الأثنى، ولا يُتحقق منه إلا بقطرة من الدم”، لكني لا أجد في تلك الجرأة أي مضض، فهي تسلط الضوء على ظلمات الفكر التي اجتاحت عقول أبناء هذا الوطن.

التعليقات

جميل السلحوت

جميل حسين ابراهيم السلحوت
مولود في جبل المكبر – القدس بتاريخ 5 حزيران1949 ويقيم فيه.
حاصل على ليسانس أدب عربي من جامعة بيروت العربية.
عمل مدرسا للغة العربية في المدرسة الرشيدية الثانوية في القدس من 1-9-1977 وحتى 28-2-1990

أحدث المقالات

التصنيفات