رائد محمد الحواري: من بين الصخور وسيرة السلحوت الصعبة

ر

صدر في نهاية العام 2019 الجزء الثاني من سيرة الكاتب المقدسي جميل السلحوت تحت عنوان “من بين الصخور”: عن مكتبة كل شيء في حيفا، ويقع الكتاب الذي يحمل غلافه الأوّل لوحة للفنان التشكيلي محمد نصر الله، ومنتجه وأخرجه شربل الياس في 262 صفحة من الحجم المتوسط.
هذا الكتاب يجمع ما بين السيرة الذاتية وأدب الرحلات، فهناك ذكر لدمشق، وبيروت، والقاهرة، وقسنطينة، وموسكو، وشيكاغو، ومن هنا يمكننا التعرف على شيء من السيرة الذاتية “للجميل السلحوت”، والسيرة الذاتية مهمة لنا كفلسطينيين؛ لأنها توثق تاريخ مرحلة معينة قد تكون مجهولة عند البعض، كما أن الصيغة الأدبية التي يستخدما الكاتب/الأديب بالتأكيد تعطي السيرة بعدا أدبيا ممتعا، فهي مادة تاريخية وأدبية ممتعة، حتى لو تعرضت لمراحل القسوة والألم، فالشكل والطريقة والأسلوب الأدبي كلها تسهم في تخفيف من حدة المشاهد القاسية، وبما أن كاتب السيرة “جميل السلحوت” أديب، يكتب الرواية والقصة والمقالة، فإنه بالتأكيد سيعرفنا على أدباء وحركات/مؤسسات ومجلات وصحف أدبية خافية علينا، وهذا يعد توثيق للحركة الأدبية في فلسطين.
حرب حزيران
بداية ننوه إلى أن عنوان الكتاب “”من بين الصخور، مرحلة عشتها” يشي للقارئ بأنه أمام سيرة، الفترة الزمنية التي يتناول “جميل السلحوت” تبدأ من منتصف العقد السادس من القرن العشرين وحتى 2018، ويبدأ الكاتب بالحديث عن أول القهر الذي تعرض له كفرد وكشعب، يقول عن حرب 1967 وسقوط القدس: “…وسط لعلعة الرصاص وهدير المدافع، وعند ساعات المساء أعلن الناطق العسكري الأردني أن الأوامر صدرت للجيش بالانسحاب إلى خط الدفاع الثاني، ولم نعرف أن ذلك الخط هو نهر الأردن إلا في الأيام اللاحقة” ص6، وهنا إشارة إلى أن اصدار أمر انسحاب الجيش كان والمعارك محتدمة، وكان الجنود مستبسلين في الدفاع عن القدس وبقية المدن، من هنا وجدنا العديد من الجنود الذي استمروا في المواجهة وسقطوا شهداء: “…وفيما جرت معركة شرسة حيث واجه الجنود الأردنيون المسلحين بالبنادق الدبابات الإسرائيلية ببسالة، وتعرضوا للقصف من الطيران الإسرائيلي، وسقط منهم عشرات الشهداء” ص6، هذا كان المفارقة في حرب1967، الجنود يستبسلون والقيادة تعطي أمرا بالانسحاب، وهذه الهوة كانت أيضا بين القيادة وبين الشعب، وما زالت حتى الآن تفصل بينهما مسافة كبيرة.
ويحدثنا الكاتب عن مأساة الهجرة التي تعرض لها الفلسطيني عام 1948 وتكررت عام 1967، إلا أنهم تعلموا من الهجرة الأولى فكان المشهد: “…والفضل في عدم نزوحنا الجماعي يعود إلى أحد حكماء القرية المسنين، الذي كان يقول للمواطنيين:
“هذه حرب بين دول “ومن يترك داره يقلّ مقداره” ص7، ورغم الإغراءات الإسرائيلية التي عملت جاهدة على تفريغ الأرض من خلال توفيرها للباصات للراغبين بالهجرة: “فكانت حافلات شركة “إيجد” تجوب شوارع المدن والقرى بصحبة دوريات عسكرية، معلنة استعدادها لنقل المواطنيين إلى نهر الأردن مجانا” ص8، وهنا يؤكد الكاتب على أن الفلسطيني لم يترك وطنه برغبته، بل تمسك به رغم الترغيب والتسهيلات، ورغم الترهيب والعنف الذي مارسه الاحتلال.
وبعد الاحتلال يكتشف الكاتب هويته: “بعد انتهاء حرب حزيران 1967 اكتشفت أنني فلسطيني، فكل ما كنت أعرفه أن فلسطين هي التي احتلت عام 1948، وقامت عليها دولة إسرائيل، وعشت وتربيت وتعلمت فيما مضى من حياتي كمواطن أردني، والضفة الغربية كانت جزءا من المملكة الأردنية الهاشمية، لكن وسائل الإعلام لفتت انتباهي بأن إسرائيل احتلت ما تبقى من فلسطين التاريخية” ص10و10، وهذه معلومة إضافية يجهلها بعضهم، وهي أن بقية فلسطين عندما سقطت في يد الاحتلال كانت تحت الحكم الأردني.
ومأساة الفلسطيني لم تقتصر على فقدانه لهويته الوطنية فحسب، بل في دفاعه عن الأنظمة العربية، وتقديم ما هو قومي على الوطني: “…حركة القومين العرب، وحزب البعث والحزب الشيوعي الأردني” ومضمون المنشور “يتمحور حول النصر في الحرب” لأن الإسرائيل لم تستطع إسقاط النظامين التقدميين في مصر وسوريا، ولم تستطع هدم الكيان الأردني” ص 13و14، هكذا حللت الأحزاب التقدمية حرب 1967، فالمأساة الفلسطينية متشابكة ومتداخلة، يهجر الناس ويقتلون، وتحتل الأرض ويضيع الوطن، ويأتي قادة التغيير والثورة ليتحدثوا عن انتصار.
ويكشف لنا “جميل السلحوت” نظرتنا للفلسطينيين الذين بقوا في فلسطين المحتلة عام1948: “..وبما أن المعلومات التي كانت مترسخة في عقولنا، بأن من تبقى في دياره من الفلسطينيين في نكبة 1948 هم مجرد بضعة آلاف من عملاء الحركة الصهيونية والانتداب البريطاني، فقد نظرنا إليهم بازدراء” ص17، وهذا ما يؤكد حجم المأساة الفلسطينية، فهناك احتلال إسرائيلي، وقيادة رسمية عربية ضيعت فلسطين كأرض وكشعب، وهناك احزاب (تقدمية) تحلل الأحداث بسخافة وسذاجة، ثم يأتي أحدهم ليسأل أين كان الشعب الفلسطيني؟ ولماذا لم يدافع عن أرضه؟ ولماذا خرج من وطنه؟ يرد عليه الكاتب من خلال هذا الحدث: “…حتى اقتادتني المخابرات الأردنية إلى عمان للتحقيق، وأنا طالب في الصف الأول الثانوي، وبعد أن فزت قبل عام بجائزة “مسابقة صندوق البريد” في إذاعة موسكو باللغة العربية، وحقق معي أحدهم حول الحزب الشيوعي الأردني، وحتى ذلك اليوم لم أكن أعلم بوجود أحزاب شيوعية سوى في الاتحاد السوفييتي والصين الشعبية” ص219، هذا الحادث يشير إلى طريقة تعامل النظام الأردني مع فلسطيني الضفة، فأن يتم استحضار طالب من القدس إلى دائرة المخابرات في عمان للتحقيق معه، فقط لأنه فاز في مسابقة تقيمها إذاعة موسكو” وأن يتهم بالانتماء لحزب لا يعرف عنه شيئا، يشير إلى حجم الممنوعات والمحظورات على الفلسطيني، ويشير إلى حالة التجهيل التي مارستها الأنظمة بحق الفلسطينيين، وإذا أخذنا المقطع الذي يتحدث في الكاتب عن هويته الأردنية التي لم يعرف سواها، يتأكد لنا حجم المعاناة والضغط الذي وقع عليه.
ونتائج حرب 1967 على السكان يختزلها الكاتب بهذا القول: “لم تقتصر نتائج الحرب على ما حصدته من أرواح، ومن أصابتهم بجروح، بل تعدتها إلى نزوج الآلاف من المناطق التي وقعت تحت الاحتلال، كما أن آلاف العاملين والط\لبة الجامعين في الأردن وبقية الدول العربية منعوا من العودة إلى ديارهم، ومن كان منهم متزوجا فقد التحقت به الزوجة وأبناؤه” ص18.
وبعد الاحتلال تعرض الفلسطيني لأشرس احتلال عرفه التاريخ، فهو يسعى للسيطرة على الأرض ومحو كل ما هو عربي، يحدثنا الكاتب عن السجن والطريقة التي عامل بها المحتل الأسرى: “.. رافق التحقيق تعذيب جسدي ونفسي قاس،… كانوا يشعلون صوت موتورات صاخبة، كي لا يسمع أحد صوت من يصرخ ألما تحت التعذيب، … وما أن يدخل المعتقل الحمام حتى يبدأ الشرطي بركل الباب الذي لا يغلق بأحذيتهم…غرف المسكوبية وبطانياتها كانت مليئة بالقمل وبشكل لافت ومزعج… في تلك الغرفة لا يوجد مراحيض، وفيها دلو معدني لمن يريد قضاء حاجته… أغلبية الأسرى في تلك الغرفة لم يتناولوا قطعة الخبز التي تلقى لهم على الأرض خوفا من قضاء الحاجة” ص26و27،هذا ما تعرض له الفلسطيني بعد الاحتلال، ومع هذا، ها نحن نجده حاضرا بيننا ومستمرا في عطائه الأدبي الإنساني، ويقدم لنا كتابه “من بين الصخور” الكتاب الذي ينسجم فيه العنوان مع المضمون. أليس خروج كاتب له عشرات المؤلفات بعد كل تلك المعاناة يعد خروجا من بين الصخور؟.

الأدب والكتاب
الحياة الأدبية لم تكن سهلة، بل تعترضها مجموعة من الصعوبات والمعيقات، وليس أدل على ذلك من التحقيق مع الكاتب وهو طالب عندما فاز في المسابقة، كما أن أثر حرب 1967 كان سلبيا على الحركة الأدبية في فلسطين، وذلك: “نزح العديد من الكتاب والمثقفين الفلسطينيين أمثال: ماجد أبو شرار، معين بسيسو، عبد الرحيم عمر، عز الدين المناصرة، يحيى يخلف، رشاد أبو شاور، خالد أبو خالد، يوسف الخطيب، ليلى الأطرش، مفيد نحلة، فخري قعوار، حكم بلعاوي، ليانة بدر، غيرهم” 118، وبعد الاحتلال كان الحاكم العسكري يحول دون وجود مثقفين أو جسم ثقافي أو مجلة أو جريدة ثقافية، يستطع المثقف الفلسطيني أن يكون نفسه أو أن يقدم انتاجه الأدبي، ويعطنيا حادثة تؤكد على هذا الأمر: “في الفاتح من سبتمبر 1974 بدأت العمل في صحيفة الفجر المقدسية التي أسسها يوسف نصري نصر، وكانت سببا في اختطافه واغتياله، ولا يزال جثمانه مجهولا حتى يومنا هذا” ص81، إذن العمل الأدبي لا يقل خطورة عن أي عمل مقاوم آخر، وقد كان الإعتقال والموت والمطاردة ينتظر كل من يحاول أن يتقدم من هذا العمل.
والكتابة الفلسطينية لها ظرفها الخاص، فهي كتابة تأتي وتخرج ويشكلها الواقع الذي يعيشه الفلسطيني، يقدم لنا الكاتب هذا المشهد: “…وإذا بسيدة تخرج إلى الشارع صارخة وهي تحمل طفلا لا يتجاوز عمره ثلاث سنوات على صدرها، والدماء تصبغ ثوبها، توقفت وركضت باتجاه المرأة واحتضنت الطفل خوفا من أن يسقط من بين يدي والدته التي ظننتها جريحة، وتفاجأت أن الطفل هو المصاب برأسه، وسقط جزء من دماغه على صدري، …وأذكر أن “ماهر” هو اسم ذلك الطفل، وأنه أصيب برصاصة حجمها كبير أطلقت من دبابة تتمركز على جبل الطويل.
شرعت أكتب بدموعي قبل قلمي، وأنا أتخيل الشهداء بمثابة ابني قيس الذي كان في الرابعة من عمره، كتبت خلال أسبوع عددا من القصص للأطفال، وعنهم، مستفيدا من مشاهداتي أثناء عملي الصحفي، وتحصل لدي مجموعة قصصية أسميتها ” المخاض” ” ص97و98. من هنا العمل الأدبي الفلسطيني خارج ومتأثر بالواقع الدامي، ومع هذا استطاع الأدب الفلسطيني أن يتحرر من إظهار الإنفعال والمباشرة، وقدم أدبا راقيا متألقا متجاوزا واقعه.
أمّا عن الجسم النقابي للكتاب الفلسطينيين في الأرض المحتلة فيخبرنا: ” ظهر أول تنظيم نقابي للكتاب الفلسطينيين عام 1977 كتجمع يحمل اسم “كتاب البيادر” نسبة إلى مجلة البيادر التي أسسها ويرأس تحريرها الصحفي المقدسي جاك خزمو، ومن بين هؤلاء الكتاب فوزي البكري، أسعد الأسعد، عادل سمارة، عادل الأسطة، جميل السلحوت، خليل توما، محمد أيوب، عبد الله تايه، جمال بنورة، سامي الكيلاني، إبراهيم جوهر ربحي الشويكي، عدنان الصباح، غسان عبد الله، إبراهيم العلم، يوسف حامد، مفيد دويكات، نبيل الجولاني، وآخرون” ص120، تكمن أهمية هذا الخبر في أنه يوثق ويؤرخ الحالة الثقافية النقابية في فلسطين، فهنا ليس المسألة ذكر اسماء أو معلومة، بقدر تقديم تاريخ منظم للعمل الثقافي والأدبي.
المدن
قلنا في البداية أن الكتاب يجمع بين أدب الرحلات والسيرة الذاتية، من هنا قدم لنا الكاتب انطباعاته عن المدن التي زارها، يخبرنا عن معلومة نادرة عن الثورة البلشفية وعن اليمن، قول: ” … وفي المتحف رسالة ملك اليمن الإمام يحيى حميد الدين إلى لينين والتي يعترف فيها بالثورة البلشفية، حيث أن اليمن هي الدولة الأولى التي اعترفت بهذه الثورة نكاية ببريطانيا التي استعمرت عدن وما عرف بجنوب اليمن، والرسالة مخطوطة بريشة وبحبر أسود، ومما جاء فيها:
“بسم الله الرحمن الرحيم
من أمير المؤمنين يحيى حميد الدين إلى رئيس الكفرة والملحدين فلاديمير إيلتيش لينين.
بعد الاتكال على الله قررنا الاعتراف بثورتكم الكافرة، ولكم دينكم ولي يدين.”
فكتب لينين بخط يده على الرسالة “لا استغرب كيف دخل الاستعمار دول العالم الثالث ما دام هذا فهم قادتهم.. اكتبوا له ردّا مهذبا يليق بالملوك” ص138و139، هذا الحادثة تشير إلى واقع قياداتنا وإلى الطبيعة التي تفكر بها، وإلى ضحالة تفكيرهم وثقافتهم، وأيضا تؤكد على سخطنا في المنطقة العربية على الاستعمار.
ويحدثنا عن مدينة دمشق بقوله:” …وسرت باتجاه سوق الحميدية التاريخي، فأدهشني أن هذا السوق يشبه سوق العطارين في مدينتي القدس” ص50، فالدهشة التي أصابت الكاتب تشير إلى اكتشافه الوحدة العمرانية/الثقافية/الاجتماعية/الاقتصادية التي تجمع دمشق والقدس.
أمّا عن بيروت ولبنان، فيخبرنا عن مجد ودور لبنان الثقافي والفكري في نماء وتطوير الإنسان العربي: “… وفي لبنان تنتشر الكتب التي لا يسمح بنشرها في بلدان عربية أخرى، كما أن المعارضين السياسيين الهاربين من بلدانهم العربية يجدون في لبنان ملاذا آمنا” ص61، وهذا ما يجعلنا نقول أن الضربة الثانية للمشروع القومي التحرري العربي كان خروج المقاومة الفلسطينية من لبنان، فبعد أن تم قتل المشروع القومي رسميا بوفاة عبد الناصر، تم قتله شعبيا/حزبيا بعد خروج المقاومة الفلسطينية، وما انطوى عليه من خروج العديد من المفكرين والمثقفين العرب وتشتتهم في بقاع الأرض، فلم يعد هناك جسم/إطار يجمعهم أو يجتمعون فيه يناقشون ويطورون انفسهم وفكرهم.
الكتاب من منشورات مكتبة كل شيء، حيفا، الطبعة الأولى 2020

التعليقات

جميل السلحوت

جميل حسين ابراهيم السلحوت
مولود في جبل المكبر – القدس بتاريخ 5 حزيران1949 ويقيم فيه.
حاصل على ليسانس أدب عربي من جامعة بيروت العربية.
عمل مدرسا للغة العربية في المدرسة الرشيدية الثانوية في القدس من 1-9-1977 وحتى 28-2-1990

أحدث المقالات

التصنيفات