من بين الصخور-مرحلة عشتها

م

مكتبة كل شيء -حيفا-2020
صورة الغلاف:لوحة للفنان التشكيلي محمد نصر الله
بداية
في كتابي “أشواك البراري-طفولتي”الصّادر عام 2018 عن مكتبة كل شيء في حيفا، كتبت ما أسعفتني به الذّاكرة عن سيرتي الذّاتيّة في مرحلة الطّفولة التي لم تكن سعيدة، وتضمّن ذلك ما يشبه الوصف للحياة الاجتماعيّة وتقلّباتها لأبناء جيلي، بل إنّ هذا الوصف قد طغى على مجمل الكتاب.
وفي هذا الكتاب “من بين الصّخور- مرحلة عشتها” والذي أعتبره الجزء الثّاني من سيرتي الذّاتيّة، هناك خلط بين ومضات من أشياء عشتها، وتشكّل محطات من سيرتي الذّاتيّة، لكنّها تتشابك مع مرحلة عاشها شعبي وأمّتي، وكنت شاهدا عليها، تماما مثلما تتشابك مع نزر يسير من سيرة مدينتي المقدّسة، فللمكان سحر لا ينفصل عن سيرة ساكنه، خصوصا إذا كان المكان يسكن قلب وعقل وذاكرة من يعيش فيه، فما بالكم إذا كان هذا المكان هو القدس الشّريف التي تأسر عقول ووجدان مواطنيها الفلسطينيّين، الذين توارثوها أبا عن جدّ عبر مسيرتها الحافلة بقوى طامعة كثيرة ومتعدّدة الأجناس والأهداف، وكان مصيرها مزابل التّاريخ.
وهذا الخلط بين السّيرة الذّاتيّة، وسيرة المكان وتاريخه لا أراه غريبا ولا نشازا؛ لسبب بسيط هو أنّني أجد صعوبة بالغة في الكتابة عن نفسي، وكأنّي بطريقة وأخرى ودون قصد منّي أغيّب “الأنا” فيما أكتب، حتّى بتّ على قناعة تامّة بأنّ أفضل من يكتب السّير الذّاتيّة هو شخص آخر يعرف صاحب السّيرة معرفة جيّدة؛ لأنّه سيكتب بحياديّة تامّة حول ما لصاحب السّيرة وما عليه.
لكنّني في الأحوال كلّها اجتهدت وكتبت شيئا قد يسلّط الضّوء على جوانب من سيرتي الذّاتيّة، ويشكّل شهادة منّي على مرحلة عشتها.
القدس في 1-8-2019
جميل السلحوت

في نهاية –أيّار- 1967 تقدّمنا لامتحان التّوجيهي الحكوميّ”التّوجيهيّ”، وبعده بأسبوعين سنجتاز الامتحان العامّ للثّانويّة الشّرعيّة، كانت المنطقة تعيش أجواء حرب، حيث تمّ حشد الجيوش، ووسائل الإعلام تبثّ الأناشيد الحربيّة، والخطب السّياسيّة الرّنّانة.
كانت قاعة الامتحان المخصّصة لمدرستنا في المدرسة العمريّة قرب باب الأسباط، نفس القاعة التي اجتزنا فيها “مترك السّادس الابتدائيّ”.
صباح الخامس من حزيران 1967، الذي يصادف عيد ميلادي الثّامن عشر –حسب ما هو مسجّل بشهادة ميلادي- ونحن في قاعة الامتحان، طلب المراقبون منّا فور دخولنا قاعة الامتحان في الثّامنة صباحا أن نحاول إنهاء أجوبتنا بسرعة فائقة، لكنّهم لم يخبرونا أنّ الحرب اندلعت على الجبهة المصريّة، كنّا نسمع بوضوح نداءات الدّفاع المدنيّ عبر مكبّرات الصّوت المحمولة على سيّارات تجوب شوارع المدينة وتنادي:
“على المواطنين جميعهم إخلاء الشّوارع، والعودة إلى بيوتهم بالسّرعة الممكنة.” فأصبح معلوما لدينا أنّ الحرب قد اندلعت.
أنهيت إجاباتي وكنت أوّل من خرج من القاعة، قريبا من مدخل المدرسة هناك مقهى صغير، صوت المذياع منه يرتفع معلنا سقوط 23 طائرة حربيّة اسرائيليّة أغارت على المطارات المصريّة. خرجت من باب المغاربة بعد أن منعنا رجال الشّرطة عند باب العمود من الوصول إلى محطّة الباصات، لأنّ حركة المرور توقّفت وشوارع المدينة تكاد تكون خالية من المارّة ومن السّيّارات أيضا. عدت إلى البيت مشيا على الأقدام مع عدد من طالبات وطلاب أبناء قريتنا، مرورا بسلوان.
بدأنا نستمع للأخبار، وكان “صوت العرب من القاهرة” هو المحطّة الاذاعيّة المحبّبة لدينا، والكلّ مؤمن بحتميّة النّصر.
عند العاشرة صباحا اشتعلت الحرب على الجبهة الأردنيّة، دارت المعارك الطّاحنة في جنين والقدس، وأصبح جبل المكبّر ساحة حرب.
وسط لعلعة الرّصاص وهدير المدافع، وعند ساعات المساء أعلن النّاطق العسكريّ الأردنيّ أنّ الأوامر صدرت للجيش بالانسحاب إلى خطّ الدّفاع الثّاني، ولم نعرف أنّ ذلك الخطّ هو نهر الأردنّ إلا في الأيّام اللاحقة. هربنا إلى البراري، فقريتنا إحدى القرى الأماميّة، وفيها جرت معركة شرسة حيث واجه الجنود الأردنيّون المسلّحون بالبنادق الدّبّابات الإسرائيلية ببسالة، وتعرّضوا للقصف من الطّيران الاسرائيليّ، وسقط منهم عشرات الشّهداء.
هرب عشرات آلاف البشر من القدس والقرى المجاورة إلى البراري أيضا، الطّيران الإسرائيليّ يجوب أجواء المنطقة ليل نهار، يلقي حممه على الدّروع والسّيّارات العسكريّة. بعض المواطنين واصلوا طريقهم شرقا باتّجاه الضّفّة الشّرقيّة.
تأكّدنا أنّ الهزيمة قد حلّت، خصوصا بعد إعلان الرّئيس المصري جمال عبد النّاصر استقالته في 9 حزيران معلنا مسؤوليّته عن الهزيمة، لكنّه عاد وسحبها استجابة لملايين المتظاهرين، الذين خرجوا مطالبين بعودته.
كانت الهزيمة صادمة للجميع، فأكثر النّاس تشاؤما كانوا يتوقّعون أنّه إذا لم يتمّ تحرير المحتلّ من فلسطين في نكبة العام 1948م، فإنّه يستحيل على اسرائيل أن تحتلّ أراضي جديدة، بل إنّ أحدا لم يفكّر بأنّ اسرائيل ستحتلّ أراضي جديدة.
لم ينزح من أبناء قريتنا إلى الضّفّة الشّرقيّة سوى من كانوا يعملون فيها أو في دول الخليج أو مغتربين في دول أخرى، فلحقت بهم أسرهم، كما انقطعت السّبل بطلاب الجامعات الذين كانوا يدرسون في جامعات عربيّة وأجنبيّة. والفضل في عدم نزوحنا الجماعيّ يعود إلى أحد حكماء القرية المسنّين، الذي كان يقول للمواطنين:
هذه حرب بين دول و”من يترك داره يقلّ مقداره”، وقال بأنّ هناك فلسطينيّين بقوا في ديارهم عام 1948، ولا يزالون يعيشون فيها.
كما أنّ إسراع اسرائيل في الإعلان عن وصول جيشها إلى نهر الأردنّ، ونسفها للجسور كان له دور أيضا في منع النّزوح، مع أنّ الحكومة الإسرائيليّة استغلّت حالة الهلع بين النّاس؛ لتتخلّص من أكبر عدد ممكن من الفلسطينيّين، تماما مثلما فعلت في حرب العام 1948م، فكانت حافلات شركة “إيجد” التي تحتكر حركة المواصلات العامّة في اسرائيل، تجوب شوارع المدن والقرى بصحبة دوريّات عسكريّة، معلنة استعدادها لنقل المواطنين إلى نهر الأردنّ مجّانا.
بدأت جرّافات الاحتلال بهدم حارتي المغاربة والشّرف المحاذيتين لحائط البراق، الحائط الغربيّ للمسجد الأقصى قبل سكوت هدير المدافع، تمهيدا لبناء حيّ يهوديّ في المكان داخل أسوار القدس القديمة.
اندلعت الحرب وقد تبقّى على طلبة التّوجيهي مادّتين، ولاحقا أعلنت وزارة التّربية والتعليم إعفاء الطلبة منهما. الصّدمة كبيرة جدّا وتفوق الخيال، وألحقت الضّرر بالمواطنين جميعهم، فعدا عن الخسائر البشريّة والمادّيّة التي نتجت عن الحرب، فإنّ نتائجها النّفسيّة كانت ظاهرة للجميع، فخسارة الوطن لا تعادلها خسارة أخرى، وقد أصبحت فلسطين التّاريخيّة من بحرها إلى نهرها تحت الاحتلال، إضافة إلى صحراء سيناء المصريّة ومرتفعات الجولان السّوريّة، ومزارع شبعا اللبنانيّة.
أكثر المتضرّرين من الحرب هم أبناء جيلنا، الذين تحطّمت كلّ طموحاتهم في استكمال تحصيلهم الجامعيّ، وبناء مستقبل كنّا نحلم به. كنت أبني آمالا بأن أستكمل دراستي الجامعيّة، وأن أدرس اللغة العربيّة وآدابها. وقْعُ الهزيمة عليّ كان أكبر من قدرتي على الاحتمال، كنت أصعد إلى قمّة جبل المنطار في براري قريتنا وأنظر إلى القدس حزينا، أنام ليلي باكيا، أحلم أحلاما سوداويّة مزعجة لا نهاية لها، قرّرت العودة إلى بيتنا في جبل المكبّر، عدت بعد أسبوع من انتهاء الحرب برفقة والدي الذي عاد ليأخذ حمولة البغل من الطّحين، الرّز، العدس وأشياء أخرى، انتظارا لدراسة المحصول على البيادر في البرّيّة. رفعنا سروال أبي الأبيض على زاوية حبل الغسيل أمام بيتنا-كما فعل كثيرون مثل ذلك-، دلالة على الاستسلام، عاد أبي إلى البرّيّة وبقيت في البيت وحدي، نمت ليلتي وحدي قلقا، في اليوم التّالي عدت ثانية إلى البرّية.
قمنا بدراسة محصولنا من الحبوب على الدّواب، ورجعنا جميعنا إلى بيتنا في المكبّر. سمعنا نتائج التّوجيهي من الإذاعة الأردنيّة في عمّان، حيث نجحنا أنا وشقيقي ابراهيم.
الثّانويّة الشّرعيّة
راجعت مدرستي بخصوص امتحان الثّانويّة الشّرعيّة العامّ، فوضعت إدارة المدرسة الجديدة بقيادة الأستاذ عكرمة سعيد صبري برنامجا لمن تبقّى من الطلاب في الأراضي المحتلّة. اجتزت الامتحان بتفوّق رغم الظّروف السّيّئة المحيطة، وهذا أهّلني للالتحاق بكلّيّة الشّريعة في الجامعة الأردنيّة كمنحة دراسيّة، لكنّ الجسور مغلقة، فعمّان أصبحت بعيدة عنّا رغم قربها، والوصول إليها بات شبه مستحيل، ووجدت نفسي بين خيارين هما:
الالتحاق بالجامعة ومغادرة الوطن، أو البقاء في الوطن حتّى ينتهي الاحتلال، فاخترت البقاء في الوطن، فأن تكون في قفص لا أبواب له خير من أن تصبح مشرّدا، وبدأت عذاباتنا وامتهان كرامتنا، واستباحة حياتنا منذ ذلك التّاريخ، لكنّني لم أتخلّ ولو للحظة عن حلمي باستكمال تعليمي الجامعيّ.
إكتشاف
بعد انتهاء حرب حزيران اكتشفت أنّني فلسطينيّ، فكلّ ما كنت أعرفه أنّ فلسطين هي التي احتلّت عام 1948م، وقامت عليها دولة اسرائيل، وعشت وتربّيت وتعلّمت فيما مضى من حياتي كمواطن أردنيّ، والضّفّة الغربيّة كانت جزءا من المملكة الأردنيّة الهاشميّة، لكنّ وسائل الإعلام لفتت انتباهي بأنّ اسرائيل قد احتلّت ما تبقّى من فلسطين التّاريخيّة، والذي بات يعرف بعد نكبة العام 1948م بالضّفّة الغربيّة وجوهرتها القدس، وقطاع غزّة، إضافة إلى هضبة الجولان السّوريّة وصحراء سيناء المصريّة.
انتهت الحرب على غير ما نتمنّى، وسقط فيها عدد من المواطنين المدنيّين من قريتي ومنهم: نعمة محمّد حسين منصور، محمّد عبد حسن عبده، جميل حمدان سليم زحايكة، محمد محمود خلايلة ومحمّد سلامة عيد زحايكة.
زيارة الأقصى
رغم الجراح التي لا تندمل للهزيمة الماحقة التي حصلت في حرب حزيران، والتي تشكّل نكبة ثانية لشعبنا العربيّ الفلسطينيّ، ورغم حالة الرّعب التي أورثتها هذه الحرب، كان لا بدّ من زيارة القدس للاطمئنان على المسجد الأقصى على الأقلّ، شجّعني على ذلك رؤية حافلات مناطق جنوب الضّفّة، بيت لحم، بيت ساحور، بيت جالا والخليل كانت تمرّ من الشّارع في قمّة جبل المكبّر إلى القدس ومنها. وصلت القدس أحتضن أحزاني وتراودني أفكار شتّى بالباص، كانت المدينة الحزينة تعجّ باليهود الذين كانت نشوة النّصر بادية على وجوههم، وعلى تصرّفاتهم، بينما المقدسيّون الفلسطينيّون تعلو الكآبة والانكسار والحيرة وجوههم. عند باب العمود وهو الباب الرّئيس للمدينة المقدّسة كان هدير الجرّافات التي تهدم الجدار الذي يمتدّ من الطّرف الغربيّ لباب العمود باتّجاه شارع المصرارة، وهو جدار بني بعد نكبة العام 1948م؛ ليكون حدّا فاصلا بين القدس الجديدة التي وقعت تحت السّيطرة الإسرائيليّة، والقدس الشّرقيّة بكامل جزئها القديم الذي يحتضنه سور المدينة التّاريخيّ. في حين كانت الأرض الواقعة خلف الجدار حتّى بناية “النوتردام” منطقة عازلة بين الطرفين. الجرّافات تهدم والشّاحنات تحمل الطّمم، والغبار يمتدّ في السّماء ويتساقط على المدينة المقدّسة، مشوّها قدسية المكان ووجه المدينة، وكأنّه يزيد أحزانها أحزانا جديدة.
دخلت المسجد الأقصى من باب المجلس الإسلاميّ الأعلى، عندما اكتحلت عيناي برؤية الصّخرة المشرّفة بكيت المكان الذي كان هو الآخر باكيا. عندما وصلت المسجد القبليّ كان بابه الرّئيس -وهو باب خشبيّ تاريخيّ سميك- محطّما، وعلمت من المصلّين المقدسيّين أنّ دبّابة إسرائيليّة لاحقت المواطنين المدنيّين الذي احتموا بالمسجد العظيم أثناء اقتحام الجيش الغازي للمدينة، ولجأوا إلى المسجد القبليّ وأغلقوا الباب خلفهم، فدمّرته الدّبابة عندما اقتحمته بجنازيرها ومدفعها الثّقيل، ودخلت فيه أكثر من ثلاثة أمتار فارمة السّجّاد الفارسي الفاخر بجنازيرها. صلّيت ركعتي تحيّة المسجد وخرجت إلى السّاحة، كانت مئذنة باب الأسباط “المئذنة الصّلاحيّة” تعاني من بعض الانهيارات؛ بسبب قصف جوّيّ استهدف جنديّا أردنيّا كان يستحكم عند قمّة المئذنة، ويطلق نيرانه صوب الغزاة. لم يحتمل قلبي ما شاهدت، فقرّرت العودة إلى بيتي مشيا على الأقدام، كان باب المسجد الموصل إلى باب المغاربة مغلقا، حيث كانت عمليّات الهدم والتّجريف قائمة في ساحة حائط البراق الغربيّة وحارتي الشّرف والمغاربة. فعدت باتّجاه باب الأسباط، ومررت بمقبرة الرّحمة في طريقي إلى بلدتي عبر سلوان.
النّصر الوهميّ
قبل نهاية شهر حزيران، أي قبل مرور ثلاثة أسابيع على الحرب امتلأت الطرقات والشّوارع بمنشور موقّع من الأحزاب التي كانت تعمل في الضّفّة الغربيّة سرّا، وهي: “حركة القوميّين العرب، وحزب البعث والحزب الشّيوعيّ الأردنيّ”، ومضمون المنشور “يتمحور حول النّصر العربيّ في الحرب؛” لأنّ اسرائيل لم تستطع إسقاط النّظامين التّقدّميّين في مصر وسوريا، ولم تستطع هدم الكيان الأردنيّ”! وهذا المنشور يبيّن مدى جهل “الأحزاب الطّليعيّة” بحقيقة الأمور، وحتّى بمفهوم الوطن، وإلّا كيف يمكن تفسير هذا “النّصر” ببقاء رئيسين في الحكم مع أنّ الوطن وقع تحت الاحتلال؟ وكيف يمكن التّغاضي عن أرواح آلاف الشّهداء والجرحى، وأنين الملايين الذين وقعوا تحت الاحتلال؟ وهل الوطن هو الأرض معروفة الحدود أم هو نظام الحكم؟ ولاحقا في عام 1969م سقط نظام نورالدّين الأتاسي في سوريّا بانقلاب قاده الفريق حافظ الأسد، وانتهى نظام عبدالنّاصر في مصر بوفاته في 28 سبتمبر 1970م، لكنّ الضّفّة الغربيّة وجوهرتها القدس، وقطاع غزّة، والجولان السّوريّة وسيناء المصرية بقيت تئنّ وشعبها من نير الاحتلال. وقد سألت واحدا ممّن هم أكبر منّي عمرا حول المقصود “بالكيان الأردنيّ”، فردّ عليّ موبّخا، ويبدو أنّه لا يعرف الجواب، كما أنّني لا أزال لا أعرفه حتّى يومنا هذا.
نكسة أم هزيمة؟
أطلق العرب في وسائل الإعلام على هزيمة العام 1967م اسم “نكسة”، وهذا المصطلح ابتدعه الصّحفيّ المصريّ الكبير المرحوم محمد حسنين هيكل، لكنّها في الواقع كانت هزيمة ماحقة، بل هي نكبة كبرى للشّعب الفلسطينيّ بشكل خاصّ وللأمّة العربيّة بشكل عامّ.
في القدس الجديدة
رغم المرارة والحزن الذي ملأ قلبي ولا يزال، فقد كنت في شوق لزيارة الفردوس المفقود، فقرّرت زيارة المكان والتّجوّل فيه، وبصحبة أحد الأصدقاء الذي يصغرني بعام، تجوّلنا بحذر وخوف في القدس الغربيّة مشيا على الأقدام، مررنا بحيّ البقعة الذي يشكّل الامتداد الغربيّ لجبل المكبّر، عند محطّة القطار القريبة من المدخل الغربيّ لحيّ الثّوري الواقع بين قريتي”جبل المكبّر والقدس القديمة، اتّجهنا يسارا، بعد بضعة مئات من الأمتار وصلنا حديقة عامّة” حديقة الجرس” التي تبعد مئات الأمتار عن فندق الملك داود، فجلسنا على أحد المقاعد العامّة، وممّا لفت انتباهنا هي تلك الأشجار التي تزيّن جنبات الشّوارع، وهذا ما لم نعتد رؤيته سابقا، كان الخوف يملأ قلوبنا، غالبيّة المارّة كانوا من النّساء والمسنّين والأطفال، فالشّباب اليهوديّ في الجيش، واصلنا طريقنا باتّجاه فندق الملك داود ونحن نأكل المكان بعيوننا، حتّى وصلنا زاوية مقبرة مأمن الله التي يطلق عليها العامّة مقبرة “ماميللا”، عند مثلثّ تقاطع الطّرق من الجهة الشّرقيّة الجنوبيّة، لفت انتباهنا مبنى قديم منقوش على بوّابته الرّئيسيّة “المجلس الإسلاميّ الأعلى”، ثمّ اتّجهنا إلى المقبرة حيث الجزء الغربيّ الأعظم منها حديقة عامّة، جلسنا تحت شجرة وارفة الظّلال، لم نكن نعلم أنّ هذا المكان جزء من المقبرة التي جرى تجريفها، ولم يبق منها سوى بضع عشرات من القبور في جزئها الجنوبيّ الشّرقيّ، تماما مثلما لم نكن نعلم أنّنا نجلس على المقبرة الجماعيّة، التي تحوي رفات سبعين ألفا هم مواطنو القدس جميعهم الذين قتلهم الفرنجة عند احتلال المدينة عام 1099م، عندما غزوا المشرق العربيّ، كما أنّها تحوي رفات الآلاف من الصّحابة والتّابعين والأعيان والعلماء.
جلسنا نتأمّل المكان وفي قلبينا غصّة لا تزول، بينما كان اليهود نساء وفتية ينصبون حلقات الرّقص والغناء احتفاء بالنّصر. وغالبيّة المحتفلين هم من خارج القدس جاؤوا لزيارة القدس القديمة التي وقعت تحت الاحتلال.
تجوّلت وزميلي في غالبيّة أحياء وشوارع القدس الجديدة، وتحاورنا كثيرا حول ما شاهدناه، فقد رأينا شوارع نظيفة، محلّات تجاريّة تغصّ بمختلف البضائع، مستشفيات، مدارس وغيرها، ووجدنا أنفسنا في وسط بيئة كنّا نجهل عنها كلّ شيء، فما كنّا نعرفه من خلال معلّمينا وكبار السّنّ أنّ فلسطين احتلّت من قبل عصابات إجراميّة أشبه ما تكون بقطّاع الطّرق، وأنّه يمكن طردهم بمظاهرات تتسلّح بالحجارة!
كنّا ننهي كلّ يوم من جولاتنا بالعودة إلى منطقة باب العمود في القدس الشّرقيّة؛ لنستقلّ إحدى الحافلات عائدين إلى بيوتنا.
ذات يوم صادفنا عند باب العمود مجموعات من عرب الدّاخل الذين جاؤوا إلى القدس على غير ما كانوا يتمنّون، فسألونا عن الطّريق إلى المسجد الأقصى، وبما أنّ المعلومات التي كانت مترسّخة في عقولنا، بأنّ من تبقّى في دياره من الفلسطينيّين في نكبة العام 1948م هم مجرد بضعة آلاف من عملاء الحركة الصّهيونيّة والانتداب البريطانيّ! فقد نظرنا إليهم بازدراء! وأشرنا إليهم بأنّ الأقصى يقع إلى الشّمال باتّجاه رام الله، في محاولة منّا لتضليلهم. غير أنّ إحدى المسنّات قالت لهم بأنّها تذكر أنّها كانت تصل إلى الأقصى عبر باب العمود الذي أشارت إليه بيدها، ووجدت لنا عذرا بطريقة عفويّة وهي تقول لمن معها:
“يبدو أنّ هؤلاء الأولاد لا يصلّون ولا يعرفون الأقصى”.
كنت أعود من القدس حزينا، أمضي ليلي يائسا باكيا على حالنا، فالوطن محتلّ وما عدت قادرا على تكميل تحصيلي العلميّ، وحدود الوطن مغلقة، ومن يخرج منه لا يمكن أن يعود، ولا توجد جامعات في الوطن المحتلّ.
الأسر المشتّتة
لم تقتصر نتائج الحرب على ما حصدته من أرواح، ومن أصابتهم بجراح، بل تعدّتها إلى نزوح مئات الآلاف من المناطق التي وقعت تحت الاحتلال، كما أنّ آلاف العاملين والطلبة الجامعيّين في الأردنّ وبقيّة الدّول العربيّة منعوا من العودة إلى ديارهم، ومن كان منهم متزوّجا فقد التحقت به زوجته وأبناؤه. وكان لعائلتنا نصيب من هذا الشّتات، فأخي محمّد “الأسمر” كان معلّما في السّعوديّة هو وابن عمّي محمد موسى، فالتحق أخي بإحدى الجامعات البريطانيّة لدراسة إدارة الأعمال، في حين التحق ابن عمّي بجامعة هيوستن في ولاية تكساس الأمريكيّة ودرس الهندسة الكهربائيّة، كما أنّ ابن عمّي موسى بن محمّد وأسرته كان معلّما في السّعودية، حيث توفّيت زوجته هناك تاركة خلفها طفلة وطفلا. في حين انقطعت السّبل بأخي محمّد “الكبير” وأخي أحمد وابن عمّي اسماعيل موسى في البرازيل، حيث كانوا يعملون هناك. -أخي الأكبر المولود عام 1936 اسمه محمّد، وأخي الثالث المولود عام 1942 اسمه حسن، وأصابه مرض وهو في الثّانية من عمره، فقلبوا اسمه إلى محمّد بناء على نصيحة “فتّاحة” نوريّة، ولتمييز الأخوين اللذين يحملان الاسم نفسه كنّوا الثاني “أبو سمرا” لأنّ لون بشرته يميل إلى السّمار. –
ضمّ القدس العربيّة المحتلّة
في أواخر حزيران 1967م، وقبل سكوت هدير المدافع، اتّخذ الكنيست الإسرائيليّ قرارا بضمّ القدس القديمة وبعض ضواحيها لبلدية الاحتلال، تحت مسمّى “أورشليم الموحّدة عاصمة إسرائيل الأبديّة”، وذلك في مخالفة واضحة للقانون الدّوليّ، وقرارات الشّرعيّة الدّوليّة، والأكثر أهمّية رغم إرادة مواطنيها الفلسطينيّين، الذين تعتبرهم اسرائيل” مقيمين حتّى حصولهم على إقامة في مكان ودولة أخرى”. وتشمل المناطق المضمومة حوالي 71 كيلومتر مربع، وتشمل:” القدس القديمة، واد الجوز، كفر عقب، مطار قلنديا، بيت حنينا الجديدة، شعفاط، مخيّم شعفاط، العيسويّة، الطور”جبل الزّيتون”، سلوان، الثّوريّ، السّواحرة الغربيّة”جبل المكبر”، امليسون، صورباهر، أمّ طوبا، بيت صفافا وشرفات.
ويلاحظ أنّ الضّمّ تمّ على الخرائط في المكاتب دون معرفة طوبوغرافيّة المنطقة من وديان وجبال، ممّا خلق مشاكل ومعاناة للمواطنين، فمثلا تمّ ضمّ الأحياء الجديدة في قرية بيت حنينا، دون القرية القديمة، وقريبا من ضاحية البريد أحد رصيفي الشّارع في حدود البلديّة والرّصيف الثّاني خارجه، وفي بلدتي السّواحرة جرى تقسيم البلدة إلى ثلاثة أجزاء، فجبل المكبّر داخل حدود البلديّة، وامتداده “حيّ الشّيخ سعد خارجها، والجزء الشّرقي من البلدة خارجها، علما أنّ مقبرة البلدة والمراكز الصّحيّة والمدارس تقع في جبل المكبّر.

سوق العمل الإسرائيليّ
أكثر من 85% من أبناء الأرض المحتلة كانوا يعتاشون على الزّراعة العفويّة، التي تعتمد على مياه الأمطار غير المنتظمة وغير المضمونة، فمعروف أنّ منطقة شرق البحر المتوسّط، ومنها بلادنا فلسطين تخصب بمعدّل سنة من كلّ أربع سنوات. كما أنّ أجرة عامل البناء والورشات كانت قبل الحرب تتراوح بين 25-40 قرشا أردنّيا في اليوم –حسب مهنته- .
وبعد الحرب مباشرة، وما حقّقه الجيش الإسرائيليّ من نصر غير متوقّع، انهالت أموال التّبرّعات اليهوديّة على اسرائيل، وظهرت حركة بناء واسعة جدّا، وفتح باب سوق العمل الإسرائيليّ أمام الأيدي العاملة من أبناء الأراضي المحتلّة، وبأجرة يوميّة تتراوح بين 12-25 ليرة اسرائيليّة يوميّا، -الليرة الإسرائيليّة كانت تعادل عشرة قروش أردنيّة-. واستطاعت اسرائيل بفتحها سوق العمل الإسرائيليّ أمام فلسطينيّي الأراضي المحتلة أن تبعدهم عن أراضيهم الزّراعيّة، وهذه قضيّة طويلة لها أسبابها بعيدة المدى، كما لها نتائجها الخطيرة.
لم يجذبني سوق العمل الإسرائيليّ رغم حاجتي للعمل، وضرورة وجود دخل لديّ، وكلّ ما يهمّني كان يتمركز حول ضرورة الخلاص من هذا الاحتلال البغيض بشكل سريع؛ كي يتسنّى لي استكمال تعليمي الجامعيّ. كنت أمنّي النّفس -كما غيري- بأنّ هذا الاحتلال سينتهي خلال أيّام قليلة، وأكثر النّاس تشاؤما كان يراهن على أنّ الاحتلال لن يدوم حتّى بداية العام 1968.
إضراب المدارس
في اليوم الأوّل من شهر أيلول-سبتمبر- بدأ العام الدّراسيّ الجديد 1967-1968م، وبناء على قرار الضّمّ طبّقت اسرائيل المنهاج الدّراسيّ الإسرائيليّ على مدارس القدس العربيّة، ممّا دفع اتّحاد المعلّمين السّرّيّ والذي تشكّل بعد الاحتلال إلى إعلان الاضراب، وعدم عودة الطالبات والطّلاب إلى مدارس القدس، كرفض للمنهاج الدّراسيّ الإسرائيليّ، في حين التحق الطّلاب بمدارس غلاف القدس التي طُبّق عليها المنهاج الأردنيّ “المعدّل”. وبما أنّ اسرائيل ملزمة بفتح المدارس الرّسميّة في محاولة منها لخداع الرّأي العامّ العالميّ، وكأنّ المواطنين المقدسيّين لم يرفضوا الاحتلال، فقد لجأت إلى تعيين معلّمين جدد من حملة الثّانويّة العامّة، أو ممّن لم ينجحوا فيها، وحتّى ممّن أكملوا الصّفّ الحادي عشر كمعلّمين في المدارس الرّسميّة، ومع ذلك فإنّ الطلبة لم يعودوا في غالبيّتهم لمدارس القدس، ولكم أن تتصوّروا أنّ كبرى المدارس الثّانويّة ” الرّشيديّة” في القدس، كان عدد المعلّمين فيها 33 معلّما، وعدد الطّلاب 32 طالبا، فلجأت المعارف الإسرائيليّة إلى تحويها إلى مدرسة صناعيّة في محاولة لاستقطاب الطّلاب، لكنّها فشلت في ذلك. وبعد دراسات من جانب المحتلين لأسباب عزوف الطّلاب عن المدارس الرسميّة، أعادوا المنهاج الأردنيّ المعدّل” والمعمول به في بقيّة مدارس الضّفة الغربيّة المحتلّة إلى المرحلة الثّانويّة، وبعدها إلى الإعداديّة فالإبتدائيّة، مع الإبقاء على مادتي “مدنيّات اسرائيل” في المرحلة الابتدائيّة، ومادّة اللغة العبريّة للمراحل الدّراسيّة جميعها، لكنّ الطلبة رفضوها كونها لغة المحتلّ. وفي شهر نوفمبر 1967م عاد المعلّمون المضربون عن اضرابهم؛ لأنّ مصلحة الطّلاب تقتضي ذلك.
مدارس الأوقاف:
في محاولة من المرحوم حسني الأشهب، مدير التّربية والتّعليم في القدس قبل الاحتلال، والأوقاف الإسلاميّة التي كان يقف على رأسها المرحوم حسن طهبوب، وجمعيّة المقاصد الخيريّة بمديرها العامّ المرحوم محمود حبّيّة، بدأ العمل على إنشاء مدارس خاصّة لحلّ مشكلة الطّالبات والطّلاب الذين عزفوا عن المدارس الرّسميّة، خصوصا الأطفال منهم الذين لم يكن باستطاعتهم الالتحاق بالمدارس خارج حدود البلديّة المزعومة نظرا لصغر أعمارهم، ونشأت عشرات المدارس، التي لا تزال حتّى يومنا هذا تستوعب أكثر من 40% من عدد الطّلاب.
مع التّنويه بوجود مدارس تتبع وكالة غوث اللاجئين، ومدارس خاصّة متعدّدة المرجعيّات ومنها: الفرير، شمدت، راهبات الورديّة، تراسنطة، دار الطفل العربي، دار الأيتام الإسلاميّة، والإبراهيميّة.
التّفاؤل برحيل الاحتلال
عندما صدر قرار 242 في 22 نوفمبر 1967م عن مجلس الأمن الدّوليّ، استبشرنا خيرا بأنّ الاحتلال سينتهي خلال أيّام. وفي اليوم الثّاني لصدور القرار كنت وصديقي نمرّ من جانب المقر الرّئيس للأمم المتّحدة القائم على قمّة جبل المكبّر، والذي بني عام 1922م كمقرّ للمندوب السّاميّ البريطانيّ، وسلّمته بريطانيا للأمم المتّحدة عندما أنهت انتدابها على فلسطين مع قيام اسرائيل في 15 مايو 1948م؛ ليكون حتّى يومنا هذا المقرّ الرّئيس لقوّات الطّوارئ الدّوليّة في الشّرق الأوسط، وهناك مررنا بموظّف من موظّفي الأمم المتّحدة يلعب التّنس الأرضي مع زوجته، توقّفنا بجانب الملعب، وعرض علينا الرّجل أن نشاركهما اللعب، فرفضنا لعدم معرفتنا اللعبة. لكنّ الرّجل سألنا عن موقفنا من القرار -242-، فقلنا له بأنّه قرار جيّد، وستنسحب اسرائيل خلال أيّام بموجبه! فدهش الرّجل وقال:
أنا إيرلندي وأتعاطف مع الفلسطينيّين وبقيّة العرب، وإذا انسحبت اسرائيل بموجب هذا القرار بعد مئة سنة فهذا نصر للعرب! فغضبنا من الرّجل وانصرفنا ونحن نتّهمه بالمولاة لاسرائيل! وقد انتشرت الإشاعات حول قرب رحيل الاحتلال، ومن هذه الإشاعات أنّ بعض المشعوذين كانوا يقولون أنّ هذا الإحتلال سيزول بعد سبعة أسابيع، أو سبعة أشهر، أو سبع سنين، أو سبعة عقود!
عملي في الأرض
التحقت بوالديّ في البراري حيث كنّا نملك قطيعا من الغنم الحلوب، كما شاركت في حراثة أرضنا التي نزرعها حبوبا “قمح، شعير، عدس وكرسنّة”، لكنّ همّ الاحتلال وضرورة الخلاص منه لم يفارقني لحظة واحدة. كنت أصعد إلى قمّة جبل المنطار المرتفعة حيث أرى جانبا من مدينة القدس، أنظر المدينة عن بعد فينتابني حزن شديد على وطني الذّبيح.
أنا والذّئب
عصر يوم ماطر وعاصف وتحديدا في 18 مارس 1969م، كنت مع الأغنام في سفح بير “البِطانة”، عند مدخل جوفة جبل المنطار المرتفع في براري قريتي، هربت الأغنام إلى حيث اعتادت عند “مغارة الشّاعر”؛ لتحتمي من الجوّ العاصف، بينما كنت ملتفعا بعباءة مديرا ظهري للهواء، وبقربي حمار الغنم والمرياع الذي كان يرقد في حضنه خروف صغير، وإذا براعي أغنام قبالتي يصيح مشيرا إليّ، لم أفهم عليه شيئا؛ لأنّ صوته كان يطير مع الرّياح العاصفة، فالتفتّ خلفي وإذا بذئب يحمل الخروف من حضن المرياع، ويصعد الجبل هاربا ببطء، لأنّه في مواجهة الرّياح، فلحقت به لتخليص الخروف منه، كانت حركتي أنا أيضا بطيئة بسبب الرّياح، وعندما وصل الذّئب قمّة الجبل، هرب شرقا والرّيح تتبعه، فلحقت به ممّا اضطرّه إلى ترك الخروف الذي وجدته ممزوع الرّقبة واليد ميّتا. فصار طعاما للكلاب بدل الذّئب.
في الأسر
في 19-3-1969م كان الجّوّ ماطرا، كنّا نسكن عند قدم جبل المنطار من الجهة الشّماليّة الغربيّة في البرّيّة “الدّمنة”، لم يكن الجوّ باردا كون المنطقة شبه صحراويّة، في ذلك اليوم تمّ اعتقالي، رافق التّحقيق تعذيب جسديّ ونفسيّ قاس، كان التّحقيق يتمّ في الطابق الرّابع لبناية في المسكوبيّة في القدس، وكانوا يشغّلون صوت موتورات صاخبة، كي لا يسمع أحد صوت من يصرخ ألما تحت التّعذيب. وفي الثّامنة صباحا كانوا يصطحبون المعتقلين مقيّدي الأيدي والأرجل لقضاء حاجاتهم في الحمّامات القديمة الواقعة قريبا من مدخل البناية، وما أن يدخل المعتقل الحمّام حتّى يبدأ الشّرطيّ بركل الباب الذي لا يغلق بأحذيتهم، ويصرخ على من هو داخل الحمّام بالخروج، بعد ذلك نقلت لمركز تحقيق عسكريّ، وأمضيت ثلاثة عشر يوما في زنزانة ضيّقة أشبه ما تكون بالقبر.
غرف المسكوبيّة وبطّانيّاتها كانت مليئة بالقمل، وبشكل لافت ومفزع. ولا إمكانيّة للاستحمام فيها. في الجهة الشّرقيّة للغرف كانت غرفة تحمل رقم “8” بابها مصفّح بالحديد، في حين كانت أبواب الغرف الأخرى قضبانا حديديّة، في تلك الغرفة لا يوجد مرحاض، وفيها دلو معدنيّ لمن يريد قضاء حاجته، وُضعتُ فيها يومين متتاليين، مع حوالي 20 معتقلا، كان فيها ثماني بطّانيّات أكثر من نصفها مبلول بالماء، عدا عن القمل الذي يتناثر منها، أغلبية نازلي تلك الغرفة لم يتناولوا قطعة الخبز التي كانت تلقى لهم على الأرض خوفا من قضاء الحاجة، ولمّا لم أطق احتمالا على حاجتي، أمسكت بطّانية ووضعتها على ظهري؛ لتستر عورتي، مقلّدا بذلك البدو الرّحل الذين كان الواحد منهم يستر عورته بالعباءة عندما يقضي حاجته في الخلاء الرّحب. وعندما رآني الآخرون قضوا حاجاتهم بالطّريقة نفسها وهو يدعون لي خيرا.
في المسكوبيّة التقيت بالدّكتور صبحي غوشة، وتعرّفت على عشرات القادة منهم: عبداللطيف غيث، فضل طهبوب، رضوان الحلو والشّيخ داود عريقات، والحلو أحد مؤسّسي الحزب الشّيوعيّ الفلسطينيّ، ويجيد العبريّة التي تعلّمها قبل العام 1948، وكان يفاخر بأنّه قد التقى عام 1919م الزّعيم السّوفييتي فلاديمير إيليتش لينين، كما أنّه أحد مؤسّسي عصبة التّحرّر التّي تأسّست في فلسطين عام 1945م، وكان أحد أبرز قادتها. بينما كان الشّيخ داود عريقات يحمل العود معه، ويعزف عليه كلّما عنّ الطّرب على باله.
اخلع سروالك
انتقلنا من المسكوبيّة إلى سجن الرّملة، وكان يوم جمعة، كنّا ستّة أشخاص، في قسم المرور عند مدخل السّجن، جرى تفتيشنا تفتيشا دقيقا، وبعدها دخل أحد السّجانين وبيده قضيب بلاستيكيّ مخروطيّ الشّكل، طلب منّي أن أخلع بنطالي فخلعته، ثمّ قال لي:
اخلع سروالك وأدر ظهرك لي راكعا، فرفضت، وبدأوا بالصّراخ والتّهديد، وعندها دخل ضابط، وقال له:
اتركهم فهؤلاء أمنيّون لا علاقة لهم بالمخدّرات، وتبيّن لي أنّ ذلك القضيب في مقدّمته ناظور، يدخلونه في مؤخّرة السّجين، ليفحصوا إن كان قد ابتلع مخدّرات!
بعدها قادونا داخل ممرّات ضيّقة، وفتحوا أبوابا حديديّة عدّة، وأخيرا وصلنا ممرّا بعرض حوالي متر واحد، في نهايته مرحاض أرضيّ مكشوف، وعلى ارتفاع حوالي متر ونصف نافذة بعرض حوالي أربعين سنتيمترا وارتفاع يصل إلى حوالي ستين سنتيمترا، البناية قديمة وعرض المدماك حوالي سبعين سنتميترا، فيه ثلاثة شباك حديديّة، ويطلّ على قطعة أرض مليئة بالأعشاب، على يمين الدّاخل ثلاث زنزانات عرض كلّ منها حوالي متر وعشرين سنتيمترا، أبوابها قضبان حديديّة، وارتفاعها حوالي متر وثمانين سنتميترا، وضعوا في كلّ زنزانة اثنين منّا، وكان معي في الزّنزانة خليل جواد سموم، الذي تمدّد فيها واضعا رأسه عند الباب، في حين أنا وضعت رأسي في نهايتها؛ لأنّها لا تتسّع لنا إذا ما تمدّدنا فيها ورأسانا بعضهما بجانب بعض، وكانت فرصة لي لأخرج قدميّ من بين قضبان الباب الحديديّة، وبعد أن أغلقوا الباب المفضي إلى الزّنازين بحوالي ربع ساعة، عادت خشخشة المفاتيح من جديد، ودخل شخص قويّ البنية وبصحبته حارسان، وتهدّد وتوعّد وهو يرغي زبدا ويقول:
أنا مدير هذا السّجن وأنتم في عهدتي حتّى صباح الأحد، وأريدكم هادئين، وإذا خرج صوت من ابن شرمـ… منكم فالويل لكم.
عندما كانوا يسمحون للواحد منّا بقضاء حاجته، كان يقضيها في المرحاض الأرضي المكشوف أمام الآخرين. ومن الطّريف أنّنا شاهدنا في اليوم التّالي السّبت أفعى صفراء مرقّطة تحاول الدّخول من النّافذة، فدخلت من بين القضبان الحديديّة الخارجيّة الأولى، لكنّ الشّباك الحديديّة الثانية والثّالثة كانت تمنعها لضيق فتحاتها، فجثمت تستظلّ بينهما.
صباح الأحد تمّ نقلنا إلى سجن الدّامون، وهناك أبلغونا أنّنا موقوفون إداريّا، وسجن الدّامون يقع على قمّة جبل الكرمل في حيفا، بؤرة السّجن كانت مصنعا لشركة سجائر قرمان قبل نكبة العام 1948م، وفي شهر تمّوز –يوليو- لحق بي الأديب الكبير محمود شقير، حيث كنت وإيّاه في غرفة واحدة، وعلى سرير معدنيّ واحد، هو في طبقته الأولى وأنا في الثّانية، وكانت فرصة لي؛ لأتعرّف عليه عن قرب، علما أنّني أعرفه منذ ولادتي، بحكم صلة القرابة فهو ابن عمّ والدتي، وكوننا أبناء قرية واحدة، وهناك تعرّفنا على بعض قادة حركة الأرض التي تأسّست عام 1958م في الدّاخل الفلسطيني مثل: صبري جريس وابراهيم غنايم، كما تعرّفنا على الشّاعر فوزي الأسمر، وعلى الشّاب محمّد الصّديق الذي أكمل تعليمه في أمريكا حتّى الدّكتوراة، ولا يزال يعمل محاضرا في إحدى الجامعات الأمريكيّة، كما تعرّفت على بعض القادة السّياسيّين من القدس مثل: فهمي الحمّوري، نعيم الأشهب، إسحاق علي المراغي، عزمي مرّار وأخرين.
رغم مرارة السّجن الذي لا يصلح للعيش البشريّ، وما يصاحبه من امتهان لكرامة الإنسان، فقد افتتح من هم أكبر منّا سنّا دورتين تعليميّتين، واحدة للغة العبريّة، كان الأستاذ فيها محمّد الصّدّيق، والثّانية للانجليزيّة كان الأستاذ فيها ميشيل سنداحة. وقد واظبت أنا على حضور الدّورتين، كما افتتحت دورة لتعليم الأبجديّة العربيّة للأمّيّين، وأذكر أنّ أحد البدو من النّقب أصبح يقرأ ويكتب العربيّة بطلاقة، حتّى إنّه صار ينافس الآخرين على قراءة الصّحيفة، وبعض الكتب التي كانت متوفّرة في السّجن.
في السّجن ظهرت عليّ عوارض التّقرّحات في القولون، والتي تمثّلت بإسهال شديد مصحوب بالدّم، شخّصها طبيب السّجن بأنّها”باسور”، وكنت قد أصبت بانزلاق غضروفيّ بالرّقبة وآخر بين الفقرتين الرّابعة والخامسة أسفل العمود الفقريّ، واعتبرت ذلك وما يترتّب عليه من آلام في حينه أمرا عاديّا. ومع ذلك واظبت على مطالعة عشرات الكتب، وبعضها قرأته أكثر من مرّة نظرا لقلّة الكتب المتوفّرة، ومن الكتب التي قرأتها أكثر من مرّة كتاب “حول العالم في 200 يوم” للكاتب المصري أنيس منصور، وكذلك مذكّرات ونستون تشرتشل رئيس وزراء بريطانيا في الحرب الكونيّة الثّانية. في السّجن كانوا يفتحون لنا المذياع باللغة العبريّة من السّادسة صباحا حتّى العاشرة ليلا عندما تطفأ الأنوار، باستثناء ما بين الرّابعة والخامسة من بعد ظهر كلّ يوم، حيث كانت الإذاعة الإسرائيليّة تبثّ أغنية لكوكب الشّرق أمّ كلثوم، كما كنّا نسمع نشرة الأخبار بالعربيّة من الإذاعة نفسها في الخامسة والنّصف من مساء كلّ يوم.
الحاج فلّوص
في سجن الدّامون التقيت بالحاج فلّوص، وهذا لقبه، ولم أعرف اسمه الحقيقيّ، وكان في بداية السّبعينات من عمره، وهو من حيفا كما يزعم، ويدّعي بأن لا أقارب له، ويقال أنّه أمضى 42 عاما من عمره في السّجون، وقد ورثته اسرائيل من بريطانيا، خرج من السّجن ونحن فيه لمدّة شهر، وعاد بحكم لمدّة سبع سنوات، والرّجل ضعيف البنيّة كثّ اللحيّة الشّيباء، ويتمتّع بخيال مجنون، مع لوثة عقليّة، يجيد القراءة، ويبدو أنّه قد طالع بعض الكتب الموجودة في السّجون، وأحاديثه شبيهة بالحكايات الشّعبيّة التي توصف “بأنّ أوّلها كذب وآخرها كذب”، وكان يتخيّل أنّه كان مساعدا لهتلر في الحرب الكونيّة الثّانية، ومن طريف ما كان يرويه قوله: ” كنت والفوهرر هتلر نقود الحرب من غوّاصة في البحر الأسود، وجاء حوت ضخم وابتلع الغوّاصة، بقينا في بطن الحوت أكثر من شهر، ولمّا وصل بنا الحوت مضيق جبل طارق، تضايق الفوهرر وطلب منّي المساعدة للخروج من بطن الحوت، فقلت له: هذه قضيّة بسيطة؟
فسألني: كيف؟
فأجبته: نلعب بكبد الحوت، فيصاب بالغثيان فيتقيّأنا!
وهذا ما فعلته، فشكرني الفوهرر على ذكائي وفطنتي، وعندما خرجنا بغوّاصتنا من بطن الحوت تنفّس الفوهرر الصّعداء، وكانت المفاجأة أنّ الطّباّخ أسود البشرة الذي كان يطبخ طعامنا، قد انقلب لون بشرته من السّواد إلى البياض!”
وكان السّجناء القدامي ينصحون السّجناء الجدد بعدم الضّحك أو التّساؤل عن مدى مصداقيّة وصدق “سوالف الحاج فلّوص”، لأنّ من يضحك يغافله وهو نائم ويقوم بتشطيب وجهه بشفرة حلاقة، رغم تفتيش السّجانين له بشكل مستمرّ، ولا يجدون الشّفرة معه، وبعد عدّة أشهر وجدوه يخبّئ الشّفرة من الجهة الخلفيّة في لحيته الكثّة.
ومن خياله الخصب الذي كان مقتنعا به أنّه كان يروي أنّه عندما كان يرى علامات تعذيب على جسد شخص ما، كان يهزأ به وهو يقول:
أنتم أبناء هذا الجيل لستم رجالا، فقد كنت “كوماندوز” زمن الانتداب البريطانيّ، وعندما كانوا يقبضون على واحد منّا، كانوا يرفعونه مصلوبا على الخشب، ويضعون فوق رأسه قوالب ثلج في عزّ البرد، ويشعلون نارا تحته، ويجلدونه بالسّياط، ومع كلّ هذا التّعذيب لم يكن أحد منّا يعترف بكلمة واحدة.
وعندما كان يسأله أحد عن دينه كان يجيب هكذا:
“أنا هندكوسيّ”، ولا أؤمن بالأدّيان السّماويّة لأنّها سبب مصائب البشر!
البدو
في السّجن التقيت بأكثر من ثلاثين شخصا من أبناء القبائل البدويّة، وقد خصّص “المتنفّذون” في القسم للبدو الغرفة الوسطى من ثلاث غرف كانت مخصّصة للمعتقلين الإداريّين، ومنهم “شيخ عشيرة” من بدو شمال فلسطين، وضعوه في السّجن؛ لأنّه لم يتنازل عن أرض العشيرة، احتراما لوصيّة والده، مع أنّه خدم في الجيش الإسرائيليّ، ويزعم بأنّه من أنقذ موشيه ديّان عندما أصيب بعينه على الجبهة السّوريّة، وتربطه علاقات “صداقة مع بعض قادة اسرائيل مثل:” جولدة مائير، إيجال ألون، موشيه ديّان” وغيرهم. كما أنّ أبناءه في الجيش، وأحدهم كان يزوره وهو يرتدي الزّيّ العسكريّ للجيش الإسرائيليّ وعلى كتفيه رتب عالية، كما أنّ العديد من أبناء عشيرته يخدمون في الجيش الإسرائيليّ “كقصّاصي أثر”.
أمّا الأخرون فهم من النّقب، ويتحلّون برجولة وشهامة لافتة، وقد اعتقلوا بتهم أمنيّة لم يعترفوا بها رغم ما تعرّضوا له من تعذيب أثناء التّحقيق، وعندما كنت أسأل أحدهم عن سبب اعتقاله، كان يجيبني ساخرا من سؤالي:
“سرقت بعير، أو سرقت شوال قمح!”
تقرّبت من هؤلاء البدو، وصرت أتحدّث معهم بقولي لكلّ واحد منهم: يا قرابة.
وقد كنت أمازحهم، واطمأنّوا لي بعد أن عرّفتهم على أصولي البدويّة.
الأطفال الجنائيّون:
ذات يوم من فترة اعتقالنا عرضت إدارة السّجن أن تضع في غرفة من غرف قسم المعتقلين الإداريين الثّلاثة، أحداثا يهودا معتقلين على خلفيّات جنائيّة، غالبيّتهم تمّ اعتقالهم بسبب استغلال أحد ذويهم لهم، وتكليفهم بنقل مخدّرات من مكان إلى آخر، وأوضحت إدارة السّجن أنّ هدفها من هذا النّقل هو الحفاظ على هؤلاء الأطفال، لأنّه في قسم الجنائيّين يستغلّونهم جنسيّا ولو اغتصابا. كما عرضت إدارة السّجن بأنّ هؤلاء الأطفال سيقومون بتنظيف القسم. وفعلا جاؤوا بالأطفال، وجاؤوا بسجين جنائيّ عربيّ،؛ ليكون مسؤولا عنهم. ووضعوهم في الغرفة الثالثة، وهناك اختار مسؤولهم الطّبقة الأولى من السّرير عند زاوية الغرفة الدّاخليّة، لتكون مكان نومه، وقد أحاطها ببرداية من القماش، وكلّ ليلة كان يختار واحدا منهم ليكون “عروسا” له.
ولم يستمرّ وجود أؤلئك الأطفال في القسم أكثر من أسبوعين، بعدما ضبط بعضهم وهم يتعاطون المخدّرات.
الدّمامل
في أوخر صيف عام 1969م انتشرت ظاهرة مرض جلديّ، ويبدو أنّه معد بدلالة أنّه أصاب جميع من في القسم، وتمثّل ذلك ببروز دمامل في جسم الشّخص، وكانت الدّمامل تظهر في “أضيق الأعضاء” كما يقول تراثنا الشّعبيّ، حيث تنمو في المناطق الحسّاسّة بين الفخذين، أو تحت الإبط، ويصاحبها ارتفاع في درجة حرارة الجسم، وتبرّع أحد السّجناء وكان في أواخر الأربعينات من عمره، بعصر هذا الدّمامل، حتّى تخرج نواتها، ثمّ يقوم “بتعطيب” فتحة الدّمّل بواسطة طرف قميص مهترئ، يشعل النّار بطرفه كما السّيجارة، ويقرّبها من فتحة الدّمل في محاولة منه لتعقيم الجرح خوفا من التّسمّم، وعندما انفجر الدّمّل الذي أصابني وأنا في الحّمّام، خرجت دائخا ثمّ سقطت مغشيّا عليّ.
تحرّرت من السّجن في 20-4-1970م، وخضعت لإقامة جبريّة حتى نهاية ذلك العام.
في المستشفى
بعدها حوّلني طبيب إلى مستشفى المقاصد الخيريّة الإسلاميّة الرّابض على قمّة جبل الزّيتون في القدس؛ لإجراء عمليّة جراحيّة؛ لاستئصال “الباسور” كما شخّصه الطّبيب، وفي غرفة العمليّات قال الطّبيب الجرّاح “محمّد عيسى” بأنّني غير مصاب بالباسور، وعلى أطبّاء الأمراض الدّاخليّة أن يحدّدوا سبب الإسهال المصحوب بالدّم دون أن تصاحبه الآلام، وبعد فحص القولون بالنّاظور، قرّر الطّبيب بأنّني مصاب بالسّرطان، ومنعني من الطّعام، باستثناء السّوائل كالعصير، كما بدأ علاجي بالكيماوي، وصاحب ذلك انخفاض يوميّ بوزني مع تساقط الشّعر عن جسمي، كما تساقطت البشرة عن جلدي، وكنت دخلت المستشفى بوزن 81 كيلوغرام، وبعد ثلاثة وثلاثين يوما أصبح وزني 49 كيلو غرام، أي مجرّد جلد وعظم حسب طولي البالغ 190 سنتيمتر، فقدت قوايّ وأصبحت عاجزا بكلّ ما تعنيه كلمة العجز. وفي اليوم الثّالث والثّلاثين زارتني محاميتي الشّيوعيّة فليتسيا لانجر، بصحبة مدير مكتبها يونا سلمان، وهو يهوديّ كرديّ شيوعيّ من العراق، والياس نصرالله الذي كان طالبا في الجامعة العبريّة ويعمل في مكتب المحامية لانجر، ومعهم طالب طبّ يهوديّ لزيارتي في المستشفى، وصعقوا عندما رأوا حالتي الصّحّيّة المتردّية، خصوصا أنّني فقدت الأملاح في جسمي، وأصبحت في ظمأ دائم.
أصرّت المحامية لانجر ومن معها على نقلي إلى مستشفى هداسا في القدس الغربيّة، وهذا ما حصل. وهناك شخّصوا المرض بأنّه تقرّحات في القولون، وأوّل عمل قاموا به هو أنّهم أعطوني جرعة أملاح مركّزة، ذهبت بالظمأ الذي أهلكني. ثم شرعوا بإعطائي العلاج المناسب، مكثت في المستشفى 56 يوما، وتحرّرت منه بوزن 72 كيلوغرام، لكنّني استمرّيت –بناء على تعليمات الأطبّاء- في تعاطي الدّواء نفسه “Salazopyrin” حتّى يومنا هذا، علما أنّه في العام 1994م جرى قصّ 101 سنتميتر من القولون بعد أن تحوّلت التّقرّحات إلى أورام سرطانيّة. وقبل ذلك أجريت لي عمليّة جراحيّة عام 1992م للانزلاق الغضروفي في رقبتي، بعد أن استفحل أمره، ولم أعد أحتمل الآلام التي يسبّبها، في حين لا أزال أعاني من آلام الانزلاق الغضروفي أسفل ظهري حتّى يومنا هذا.
عودة إلى الأرض:
اقتنى أبي منذ عام 1949م قطيعا من الغنم البلديّ الحلوب كان يتراوح عدده بين 180-250 رأس غنم، واضطرّ لبيعه في 5 أيّار –مايو- 1970م؛ بسبب عدم وجود رعاة، فقد التحق الفلّاحون ورعاة الأغنام بسوق العمل الإسرائيليّ، وبسبب عدم قدرة الوالد المولود عام 1900م على العمل، وبعد أن تشافيت بشكل جزئيّ من الأمراض التي أصبت بها، عدت لفلاحة أرضنا.
الحراثة على الدّوابّ:
بلادنا فلسطين-إذا استثنينا السّاحل والأغوار- غالبيّتها أرض جبليّة وعرة، فيها صخور كثيرة، وبما أنّ شعبنا يعتاش في غالبيّته وعبر أجياله المتعاقبة على الزّراعة، فإنّه لم يترك أرضه الجبليّة التي لا تطولها الآلات الزّراعيّة بورا، لذا فإنّ الفلاح الفلسطينيّ يحرث أراضيه الوعرة على الدّواب كالبغال والحمير، ومنهم من يفلحها بالحبوب كالقمح، الشّعير، العدس، الكرسنّة والبيكيا وغيرها. ومنهم من يزرعها بالأشجار المثمرة كالعنب واللوزيّات. وحتّى الأراضي الصّخريّة قليلة التّربة فإنّها مزروعة بأشجار الزّيتون. وتفيد الإحصائيّات بوجود اثني عشر مليون شجرة زيتون معمّرة يزيد عمرها على الألف عام في فلسطين.
وقد قمت بفلاحة أرضنا الواقعة في حيّ الشّيخ سعد، وهي في غالبيّتها أراض وعرة، فحرثتها على بغل، وزرعت جزءا منها عدسا، والباقي قمحا، كنّا نحصدها بأيدينا، وننقلها إلى البيدر على ظهور الدّواب، وندرسها بالماكينات.
وفي العام 1986م غرستها هي وأراضينا في جبل المكبر بأشتال الزّيتون، حيث غرست فيها 1500 شتلة زيتون، وقمت مع آخرين بحملة توعية للأهالي لتشجير أراضيهم بأشتال الزّيتون، وأحضرت لهم عشرات آلاف الأشتال من مشتل الإغاثة الزّراعيّة في أريحا وبأسعار زهيدة، كما استعنّا بلجان العمل التّطوّعيّ لمساعدة الأهالي في زراعة أرضهم بأشتال الزّيتون.
الدّراسة الجامعيّة:
لم يغادرني حلم مواصلة تعليمي الجامعيّ لحظة واحدة منذ أن أنهيت الثّانويّة العامّة عام 1967م. ووقتها سمحت سلطات الاحتلال للطلبة بالانتساب لجامعة بيروت العربيّة، وكانت تعطي الطلبة تصاريح تتراوح بين أسبوعين وثلاثة أسابيع للسّفر من أجل تقديم الامتحانات، فانتهزت الفرصة وسجّلت في مكتب خدمات جامعيّة في القدس؛ لأدرس اللغة العربيّة. وعند فترة الإمتحانات في حزيران-يونيو-1971م حصلت على تصريح يبدأ قبل الامتحانات بيومين وينتهي بعدها بيوم، ومن المفارقات التي لم تعد عجيبة بسبب المصائب التي ألحقها بنا الاحتلال، أنّني التحقت بالجامعة في العام الذي كان يستعدّ فيها أبناء جيلي، وأبناء صفّي الذين نزحوا إلى الأردن بسبب ويلات حرب عام 1967م كانوا يستعدّون للتّخرج والحصول على اللقب الجامعيّ الأوّل، واعتقد بعض من لا يعرفونني أنّ الفارق في العمر بيني وبين الطّلبة بسبب رسوبي المتكرّر في المدرسة! مع أنّ هذا لم يحصل، علما أنّه كان بعض المنتسبين في الجامعة في عمر يساوي ضعف عمري أو يزيد، وغالبيّتهم كانوا من معلمّي المدارس الذين التحقوا بسلك التّعليم بعد أن أنهوا الثّانويّة العامّة في خمسينات القرن العشرين.
وفي العام 1972م ضاع عليّ العام الدّراسيّ لعدم حصولي على تصريح.
في الطّريق إلى الجامعة:
غادرت وطني المحتلّ للمرّة الأولى في طريقي إلى جامعة بيروت العربيّة، غادرت القدس في اليوم المحدّد من شهر حزيران 1971م، وكم كانت فرحتي كبيرة عندما اجتزت نهر الأردنّ إلى الضّفّة الشّرقيّة، فقد خفق قلبي لرؤية العلم الأردنيّ يرفرف أمام نقطة العبور الأردنيّة، صفّقت للعلم واحتضنت ساريته وقبّلتها، لعلّ قبلتي تصل الى العلم الذي يرفرف عاليا، واستقلّيت سيّارة إلى عمّان، ومن هناك الى أحد مكاتب التّاكسيات التي تعمل على خطّ عمان-دمشق بيروت.
لا يعرف معنى الحرّيّة إلا من خبر العبوديّة والظلم، ولا عبوديّة أسوأ من ان تعيش تحت احتلال بغيض، يسرق وطنك ويستعبدك وشعبك، فيقتل من يقتل ويجرح من يجرح، ويحاصر ويصادر ويبني جدرانا توسعية، ويسجن ويهجر…إلخ.
وأنا أعاني من ذلّ الاحتلال منذ وقوعي ووطني تحت براثنه منذ الخامس من حزيران 1967م، والذي يصادف لسوء حظي تاريخ ميلادي، فقد ولدت في مثل ذلك اليوم الأسود من العام 1949، ففطمت على ويلات أورثتني ويلات أخرى، ليس أقلها تقرّحات جهازي الهضميّ.
أقول هذا وأنا أستذكر سنوات ما قبل الاحتلال عندما كنّا نصل عمّان من القدس في حوالي السّاعة، وأصبحنا بفعل جبروت وظلم الاحتلال نحتاج يوما كاملا للوصول إليها، نمرّ حواجز عسكريّة وتفتيشات”أمنيّة” قد تصل ووصلت فعلا درجة التّعرّي، وتحسّس ما بين الفخذين قبلا ودبرا، والحواجز العسكريّة -خصوصا تلك المحاذية للنّهر من الجهة الغربيّة- قد تغلق لدقائق أو لساعات دون سابق انذار؛ ليبقى المسافر يتلظي تحت لهيب الشّمس الحارقة صيفا في أكثر منطقة منخفضة في الكرة الأرضيّة، لهيب شمس يرهق الشّباب، فما بالكم بالمسنّين، ترى أطفالا رضّعا وفي أعمار مختلفة ممدّدين في أحضان أحد والديهم، أو على أحد مقاعد الباص، هذا يطلب ماء، وذلك يصرخ ضيقا، وترى امرأة حاملا أو عجوزا هرمة وقد ألقت رأسها على المقعد لا تقوى على شيء، تحمل العجوز سبحتها، تحرّك خرزاتها، تسبّح بحمد ربّها، وتحوقل، وتلعن الاحتلال و”اليوم اللي شفناه فيه” فتنهرها عجوز أخرى قائلة:
“وحدي الله يا حجّه..بلاش يسمعوك ويردّونا، والله لي أكثر من عشر سنين ما شفت بنتي ولا شفت اولادها”.
والمشكلة في الحافلة المتوقّفة لا تكمن في صراخ طفل يريد أن يقضي حاجته، فقد يقضيها في ملابسه أو أمام الآخرين، لكنّها في هدر كرامة عجوز أو مريض يعاني أو تعاني من سلس البول، فتراه يتقلب ضيقا وذرعا داعيا الله أن يصبّره حتى يصل الجانب الشّرقيّ للنّهر؛ ليجد مكانا يقضي حاجته فيه، فهو بعيد عن مكاتب الجسور حيث دورات المياه، وترى أفواها عطشى يلوك لسان صاحبها شفتيه بشكل عفويّ؛ ليطرد الجفاف عنهما، وتنطلق الشّتائم من أفواه عجائز يلعنون فيها القادة العرب الذين تركونا تحت احتلال أهلك البشر والشّجر والحجر، وتسمع عجوزا تقول لجارتها في المقعد بحسرة:
“والله يا خيتي خايفه أموت وأنا في بلاد وولادي في بلاد ثانيه!”
فترد عليها جارتها:
“توكّلي على الله يا خيّتي، انشاء الله بنقلعوا من بلادنا قبل ما تموتي وبيرجعوا اولادك إلك، بس قولي يا خيّتي دون مواخذه ليش ما تظلي عند اولادك تايفرجها ربنا؟”
فترد عليها:
“يا ريتني ما سمعت هالحكي منك، وين بدّي أدشّر الدّار والأرض إذا رحت عند الولاد؟ أي ما هي الأرض أغلى من الولاد يا خيتي”.
تتحرّك الحافلة بعد أن يفتح الجندي الحاجز، يسير شرقا، تشرئبّ الأعناق تنظر إلى النّهر الذي جفت مياهه، فالنّهر لم يعد نهرا بعد أن تمّ سحب مياهه إلى طبريا، ومن هناك إلى النّقب، ولتتحوّل آلاف الدّونمات على ضفّتي النّهر إلى صحراء قاحلة، بعد أن كانت مزروعة بالخضار والفواكه المرويّة، ولتتذكر مدى انحسار مياه البحر الميّت الذي يتهدّده الجفاف بعد أن انقطعت عنه مياه النّهر التي كانت تعوّضه عن الكمّيّات الهائلة التي تتبخّر في الجوّ، وتتساءل إذا ما كان البحر الميت منكوبا كشعبك؟ وهو البحيرة الوحيدة الأكثر ملوحة في العالم، والتي يطفو الانسان على سطحها كيفما شاء ودون معرفة السّباحة، تسير الحافلة وهمومك أكبر من بحيرة مصيرها الجفاف حتما، إذا لم يسارع ذوو الشّأن في انقاذها قبل فوات الأوان، ترى العلم الأردني يرفرف أمامك، فيصفق له قلبك قبل يديك، فهو صنو العلم الفلسطيني وشبيهه، بل يزيد عليه بنجمة تتوسّط مثلثّه أحمر اللون…يبتسم لك الجنود ورجال الأمن الأردنيّون، فتفرح بهم وقد يكون أحدهم قريبك الذي لا تعرفه، فأكثر من ثلاثة ملايين فلسطيني في الأردنّ منذ النّكبة الكبرى في العام 1948م والهزيمة الكبرى في حزيران 1967م، وهم يعيشون كمواطنين كاملي الحقوق، وهذا ما لا يحظى به اللاجئون الفلسطينيون في الدول العربية الشقيقة الأخرى، خصوصا في لبنان حيث يعاني الفلسطينيّون معاناة كبيرة، بحجّة عدم التّوطين، أمّا في العراق بعد الاحتلال عام 2003م فقد تعرّضوا للقتل والنّهب والاغتصاب على أيدي اللصوص والسّرّاق ودعاة الطّائفيّة المذهبيّة، الذين عادوا على ظهور دبابات الجيوش المحتلة.
كما أنّ العلاقة الأخويّة بين الشّعبين الفلسطيني والأردنيّ قائمة منذ فجر التّاريخ، فالمصاهرة وحتى التّملك من قبل أبناء القطرين متواصلة عبر أجيال، فالشّعب واحد والأمّة واحدة والأرض واحدة، والاقليميّة من صنع الاستعمار…تتمّ إجراءات الجسور في الجانب الأردنيّ بشكل سريع جدّا، تنهي معاملتك وتخرج لتجد أحد أقاربك –ان كان لك أقارب في الأردن- بانتظارك، ينتظرك وقد عانى ما عانيت من انتظار تحت لهيب شمس حارقة، فمنطقة المظلات لا تكفي لتظليل عابري الجسر، لكنّك فرح بلقاء قريب وبخلاص -ولو بشكل مؤقت- من سطوة محتلّ لم يحفظ يوما كرامتك، فيدبّ النّشاط في جسدك الذي وهن، ويصيبك اكتئاب وأنت تنظر إلى وطنك خلفك مكبّلا بقيود الاحتلال.
في الطريق الى عمّان:
مررنا ببلدة الكرامة، وكان حال قناة الغور الشّرقيّة أسوأ بكثير من حال البحر الميّت، أمّا قناة الغور الشّرقيّة فقد جفّت منذ سنوات طويلة، وتشقّقت جدرانها وأرضيّتها ونمت فيها الأعشاب والأشواك، ولم تعد تلك القناة التي حذّرنا المعلمون من مدّ أرجلنا فيها خوفا من أن تجرفنا، مثلما جرفت عددا من أطفال وصبيان المنطقة، عندما مررنا بها أثناء رحلة مدرسيّة في العام 1966م، زرنا خلالها جرش واربد وأمّ قيس والحمّة التي كدت أغرق فيها لولا حذاقة زائر لبنانيّ، كان يستجم في الفندق الصّغير المقام بجانب البركة التي حول رأس النّبع، وعدنا لننام ليلتنا الأولى في حرم دار المعلمين في عجلون، صعدنا إلى قلعة الرّبض حيث يستطيع زائروها رؤية القدس الشّريف جنّة السّماوات والأرض، ثم زرنا معان وانتهى بنا مطاف اليوم الثّاني في مدرسة وادي النّبي موسى عند مدخل المدينة الورديّة-البتراء-.
في الطريق الصّحراويّ بين عمّان ومعان تعطل بنا الباص بعد ساعات الظّهر بقليل، فانتشرنا في الشّارع نتسابق بصبيانيّة متناهية ملوّحين لسيّارات الشّحن التي تنقل البضائع؛ كي يزوّدونا بمياه الشّرب، وكان في المنطقة قطيع جمال، من ضمنه ناقة في رقبتها رسن، أمسكتها به وأنختها، وطلبت من زميلي الذي كان برفقتي أن يمتطيها لأصوّره على ظهرها، وقبل اكتمال وقوفها خاف وصرخ وسقط على وجهه الذي تهشّم وسالت منه الدّماء، فعجبت من ذلك؛ لأنّ شيوخ بلدتنا كانوا يروون لنا أنّ من يقع من على ظهر جمل، لن يلحق به أيّ أذى؛ لأنّ الجمال تبسمل عندما يقع شخص ما من على ظهرها، ولمّا سألت جدّتي عن إصابتنا عندما نقع ونحن نلعب قربها مع أنّها تبسمل لم تجبني ونهرتني، وغضبت منّي عندما تساءلت إذا ما كان الله –سبحانه وتعالى- يستجيب لبسملة الجمل أكثر من بسملتها، لكنّني امتطيت النّاقة فوقفت بي، ففرحت بذلك رغم الجراح النّازفة من وجه زميلي، وفي هذه الأثناء مرّت بنا سيّارة مكشوفة فيها شابّ بلباس البحر، فرفعت يدي لسائقها كي يتوقّف فوقف، وسألني عن حاجتي وعن سبب وجودي وزميلي في هذا المكان، فشرحنا له بأنّنا طلبة في رحلة مدرسيّة، وأشرنا له إلى حافلة الرّحلة الذي ابتعدنا عنها أكثر من كيلو متر، زوّدنا بماء بارد من قربة، وطلب منّا أن نركب في سيّارته؛ ليعيدنا إلى معلمّينا ورحلتنا المعطوبة، وكنت مركّزا نظري على وجهه، فسألني:
هل تعرفني؟
فأجبت: نعم أنت الأمير حسن، فردّ باسما لا… أنا الأمير محمّد، وعند الحافلة تحدّث مع مدير المدرسة ومع المعلمين سائلا إيّاهم عمّا سيفعلونه، فأخبره المدير بأنّه بعث معلما مع سائق شاحنة؛ ليأتي بميكانيكي من عمّان لإصلاح الحافلة المعطوبة، فسأله الأمير:
واذا جاء متأخرا وبقي هؤلاء الأولاد هنا فمن يضمن أن لا تفترسهم الذّئاب؟ وقال للمدير سأرسل لكم حافلة، ويبدو أنّه كان بحوزته جهاز ارسال حيث وصلتنا حافلة سياحيّة جديدة وواسعة قياسا بحافلتنا، وفي فترة قصيرة جدّا، أي قبل وصول الأمير إلى عمّان، وكانت تكاليف رحلتنا على حساب الأمير الذي كان وحيدا ودون حراسة.
رثيت لمزارعي الأغوار الذين يفتقدون مياه قناة الغور التي حولها الأسرائيليّون من اليرموك قبل أن تصل إلى القناة، وعند مدخل وادي شعيب الغربيّ، هناك سدّ فيه بقايا مياه رأيت قطعانا من الغنم ترتادها للشّرب، ووادي شعيب هذا فيه مياه جارية وهي أشبه ما تكون بقناة صغيرة جدّا، يستطيع طفل تخطيها دون ازعاج أو خوف، والوادي الذي يمتدّ باتّجاه مدينة السّلط التّاريخيّة، واد سحيق يحيط به جبلان شاهقان شديدا الوعورة، وبجانب الشّارع قرب السّيل صخور شاهقة مشقّقة وقابلة للانهيار. أهل المنطقة استغلوا الأرض المحاذية للسّيل لزراعة الأشجار المثمرة مثل الرّمّان، التّين، العنب، التّوت وغيرها، كما أنّ البعض أقام مزرعة وبيتا للتّنزّه هناك، والمنعطفات كثيرة وحادّة في الوادي، تمتّعنا بالمناظر الجميلة ومررنا من طرف السّلط الجنوبي، وواصلنا الصّعود باتجاه مدينة صويلح، وإلى تلاع العلي حيث يسكن أخي.
في سوريّا
في نقطة الحدود السّوريّة على مدخل مدينة درعا الحدوديّة عام 1971م، وبينما كان السّائق يختم جوازات السّفر، التقيت بدويّا قرب الحمّامات، كان رثّ الثّياب، يضع طرفي قمبازه في حزامه، ويثبّت طرفي كوفيته البيضاء المتّسخة بعقاله، ويحمل شوالا فيه مئات السّاعات من طراز “سايكو”، ويزعم أنّها مهرّبة من السّعوديّة دون جمارك، فاخترت ساعة منها…صفراء اللون…ثمنها في الأسواق في حينه حوالي 40 دينارا، واشتريتها منه بخمسة دنانير، وأعطيته ساعتي”الجوفيال” التي كانت على يدي، ولم أعلم إلا متأخرا وفي اليوم التالي أن السّاعة مزيّفة، وغير قابلة للاستعمال أو التّصليح، وهي تباع للأطفال بعشرة قروش.
في دمشق:
العاصمة السّوريّة دمشق غنيّة عن التّعريف، فهي عاصمة الدّولة الأمويّة، ومسجدها الأمويّ أشهر من أن يعرّف.
تركت حقيبتي في الكراج الموحد، وسرت باتجاه سوق الحميديّة التّاريخي؛ لأشتري ملابس للاستعمال الشّخصيّ، فأدهشني أنّ هذا السّوق يشبه سوق العطّارين في مدينتي القدس، والملابس في دمشق أنيقة ورخيصة جدا، فهي صناعة محليّة، كان الدّينار الأردنيّ في حينها يساوي 16 ليرة سورية، سرت في السّوق لأجد نفسي في نهايته عند مدخل الجامع الأمويّ، فدخلت المسجد العظيم، وفي بهوه كانت قبّة صغيرة معلّق فيها صور للمسجد الأقصى وقبّة الصّخرة، وهناك بطاقات تحمل رسما لكلا المسجدين، يبيعهما شيخ معمّم للمصلين وللزّائرين، رأيته يحمل صورة قبّة الصخرة ويشرح لعدد من المصلّين الخليجيّين بأنّها المسجد الأقصى أولى القبلتين وثالث الحرمين الشّريفين! فتطفّلت وقلت له:
هذه قبّة الصّخرة وهي مسجد قائم في باحات الأقصى، وأشرت إلى صورة المسجد القبليّ.
فقال لي:”كلامك غير صحيح يا ولد”!
فرددت عليه مؤكّدا صحّة معلوماتي، وأنّني من القدس الشّريف، فقال لي هذه المرّة:
“عيب عليك أن تكذب يا ولد، فكيف تكون من القدس المحتلة وتتواجد هنا؟”
ولم أستطع أن أقنع ذلك الشّيخ بالمعلومة الصّحيحة.
نظرت إلى يساري فرأيت قبر المجاهد صلاح الدّين الأيوبي الذي حرّر القدس الشّريف من احتلال الفرنجة في نهاية القرن الثّاني عشر الميلادي”1187م”، فجثوت على ركبتي عند شاهد القبر، وقرأت الفاتحة بخشوع على روحه الطّاهرة، وبثثت له همومي وهموم القدس، وقلت له باكيا:
لقد أضاعوا من بعدك القدس التي حرّرتها من الفرنجة يا صلاح الدين، ويا حسرة التّاريخ لو يعلمون أيّ مدينة أضاعوا؟ والمسجد الأقصى يئنّ من الاحتلال يا صلاح الدّين، فتخيّلت صلاح الدّين شاهرا سيفه على سور القدس ويهتف: لبّيك يا قدس…قبّلت الثّرى الذي يحوي رفات المجاهد العظيم، وعدت حزينا خائبا؛ لأواصل رحلتي، لكنّني عقدت العزم على زيارة ضريح هذا الرّجل العظيم؛ لأقرأ الفاتحة عن روحه الطّاهرة كلّما مررت بدمشق.
نهر بردى:
لم تصدّق عيناي أنّ السّيل الذي يخترق دمشق هو نهر بردى، هذا النّهر الذي التصق بذاكرتي عندما كنت فتى غِرّا، وحفظت قصيدة أمير الشعراء أحمد شوقي التي قالها في أعقاب معركة ميسلون التي قادها الشهيد يوسف العظم عام 1927 ضد الغزاة الفرنسيين، الذين احتلوا سوريا ولبنان تنفيذا لاتفاقيّة سايكس بيكو سيّئة الذّكر الصّادرة عام 1916م، والتي تقاسم فيها المستعمرون الانجليز والفرنسيّون العالم العربيّ، والتي مطلعها:
سَلامٌ مِن صَبا بَرَدى أَرَقُّ*** وَدَمعٌ لا يُكَفكَفُ يا دِمَشقُ
وَمَعذِرَةُ اليَراعَةِ وَالقَوافي*** جَلالُ الرُزءِ عَن وَصفٍ يَدِقُّ
وَذِكرى عَن خَواطِرِها لِقَلبي*** إِلَيكِ تَلَفُّتٌ أَبَدًا وَخَفقُ
وَبي مِمّا رَمَتكِ بِهِ اللَيالي*** جِراحاتٌ لَها في القَلبِ عُمقُ
وقد تخيّلت وقتها نهر بردى بأنّه نهر عظيم تمخره السّفن، وأنّ نسيم الصّبا المنبعث من هذا النّهر يشفي الصّدور العليلة، فهل حبّي لدمشق ولسوريّا وشعبها هو ما قاد خيالي إلى هذه المعلومة الخاطئة؟ وفي الواقع فإنّني لا أجد جوابا لسؤالي، لكن رؤيتي لبردى سيلا بسيطا خيّب آمالي، وأحزنني أنّ البعض يرمي القمامة فيه، ممّا يشوه الصّورة الجميلة التي تحفظها ذاكرتي للنّهر، الذي طالما منّيت النّفس بأن أرتوي من مياهه، التي تخيّلتها عذبة تشفي العليل، وعندما عدت إلى دمشق بعد سنوات، شعرت بالسّعادة عندما رأيت الجزء المكشوف من النّهر في العاصمة قد تمّ سقفه، مع أنّني تمنّيت لو أنّنا نحافظ على نظافة مواردنا المائيّة، ومفاتن بلداننا الطبيعيّة. ورغم ذلك فإنّ نهر بردى لا يزال يفتنني ويغذّي ذاكرتي، وليرحم الله أمير الشعراء، وليرحم القائد يوسف العظم وشهداء الأمّة جميعهم.
المقهى الأدبي:
ذات يوم في أواخر العام 1982 لاحقة التقيت الأديب الفلسطيني المعروف يحيى يخلف، وكان رئيسا لاتّحاد الكتّاب والصّحفيين الفلسطينيين، فزوّدني ببطاقة شرف لحضور عرض الافتتاح لمسرحيّة “لكع بن لكع” التي كتبها الأديب إميل حبيبي، والحضور كان نخبة من المثقفين السّوريين، بينهم الرّوائي السّوري الشّهير حنا مينا، عرفته منذ اللحظة الأولى، فصوره تتصدّر غلاف رواياته الصّادرة عن دار الآداب في بيروت، والتقيت بعدد من الأدباء والمثقفين الفلسطينيين، منهم محمود شاهين ابن قريتي الذي يكبرني بعامين، والذي لم يكمل تعليمه الإعدادي، وهو قاصّ وروائيّ صدرت له عدّة روايات ومجموعات قصصيّة، منها”موتي وقط لوسي” التي صدرت عن وزارة الثّقافة الفلسطينيّة في رام الله، وهو فنّان تشكيليّ رسم مئات اللوحات، كما أنّه يجيد العزف على “الشَّبّابة والنّاي” وهو الخال غير الشّقيق للأديب المعروف محمود شقير…لم يعرفني محمود شاهين ولم أعرفه عندما التقينا صدفة، فقام الأديب يحيى يخلف بتعريفنا على بعضنا البعض….جلست ومحمود شاهين على مقهى الأدباء والفنانين القريب من بيته الخشبيّ المكوّن من غرفة صغيرة واحدة، وهناك عرّفني على عدد من نجوم الفنّ في سوريا، منهم ياسين بقّوش، ذلك الرّجل الوسيم واللماح على عكس ما كنّا نراه في الأدوار التي يمثلها في المسلسلات التّلفزيونيّة.
ومسرحية”لكع بن لكع” التي أخرجها مخرج من عائلة الأتاسي منعت من العرض بعد افتتاحها؛ لأنّها تسخر من “الجعجعة” القومية الفارغة. وهناك تعرّفت على الرّوائيّ الكبير حنّة مينا، الذي دعاني أنا والشّاعر خليل توما إلى وجبة عشاء في مطعم دمشقيّ، وتناولنا طعام الغداء في اليوم التّالي في بيته.
الماء والخضراء والوجه الحسن:
اللافت في دمشق جمال نسائها، ووسامة رجالها، ففي فلسطين عندما يمتدحون جمال فتاة فإنّهم يصفونها بجميلة”كأنّها شاميّة”…ويتميّز الدّمشقيّون بحب الورود والأشجار دائمة الاخضرار، حتى أنّ البيت المزروعة شجرة أمامه يزداد سعره بعشرات آلاف الليرات السّوريّة-الدّينار الأردنيّ وقتئذ كان يساوي ست عشرة ليرة سوريّة-، واللافت أنّ الكثير من مقاهي دمشق تشبه الحدائق والمتنزّهات، فالطاولات تنتشر تحت الأشجار وتتخلّلها قنوات مائيّة صغيرة تبعث الرّاحة في النّفوس….فترى الزّبائن يحتسون القهوة والشّاي ويدخّنون الأرجيلة والسّعادة بادية على وجوههم، والمطاعم الرّاقية أيضا تبحث عن فسحة أمامها؛ لتكون لها حدائقها المزروعة بالورود والأشجار.
معلومة جديدة:
ممّا أثار إعجابي هو رؤيتي للعلم الفلسطينيّ يرفرف بجانب العلم السوريّ المرفوع على المؤسّسات الرّسميّة، فأكبرت للأشقّاء السّوريّين عملهم هذا، خصوصا وأنّهم يعتبرون فلسطين”اللواء الجنوبيّ المحتلّ” ولم أعلم إلا متأخّرا أنّ العلم المرفوع هو علم الوحدة العربيّة، وأنّ العلم الفلسطينيّ هو علم الوحدة العربيّة الذي عُرف في العصر العبّاسيّ، ومعروف أنّ حزب البعث الحاكم في سوريّا يرفع شعار الوحدة العربيّة”وحدة…حرّيّة…اشتراكيّة” و “أمّة عربيّة واحدة ذات رسالة خالدة”.
في لبنان
في حزيران 1971 وبعد تسوّق من سوق الحميديّة في دمشق وزيارة للمسجد الأمويّ استغرق أقلّ من ساعتين، استقلينا سيّارة إلى بيروت، عبرنا نقطة المصنع الحدوديّة؛ ليقف جبل صنّين أمامنا شامخا، يتصاعد بخار الماء منه ضبابا من تبخّر الثّلوج المتجمّدة في بطون أوديته، الجبل تكسوه الخضرة في عزّ الصّيف، وأشجار الأرز تتمايل كأنّها تفتح ذراعيها للقادمين إلى بلادها، الخضرة أيضا تكسو سهل البقاع، فالشّعب اللبناني شعب مزارع، يجيد استغلال أراضيه، تماما كما يعشق أبناؤه الغربة بحثا عن الرّزق، فيجمعون أموالا ويعودون إلى لبنان ليستثمروها، سلسلة الجبال تأسر من يدخل لبنان، وتجبره على النّظر إليها مسبّحا بقدرة الخالق على تشكيل الطبيعة.
في شتورا:
أوقف السائق سيارته أمام محطة استراحة في شتوراـ قبل تسلّق سلسلة الجبال العالية-، جلست وجاري في السّيّارة، ذلك الكهل السوريّ العامل في لبنان على طاولة واحدة، فسألنا النّادل عمّا نريد أن نشربه؟
فأجبته: شاي.
وعاد يسأل: ساخن أم بارد؟
فأجبته ساخرا: بارد.
واذا به يحضر لي كأسا كبيرة ملأى بالشّاي المثلّج، فقبلتها على مضض؛ لأنّني لم أكن أعلم وقتئذ بوجود شاي بارد، فكانت هذه المفاجأة الأولى لي في لبنان…أمّا جاري السّوريّ فقد رفض تناول كأسه ووبّخ النّادل الذي اعتبره يستهزئ بنا بشايه المثلّج! فما كان من النادل سوى أن اعتذر واستبدل له الشّاي المثلّج بالشّاي السّاخن.
تسلّق الجبال:
لا مجال للقادمين من سوريا عبر نقطة المصنع قاصدين بيروت سوى المرور بالشّارع الذي يشبه الأفعى في بطن سلسلة الجبال، إنّه شارع شديد الخطورة لكثرة انحناءاته؛ ليكسر شدة انحدار سلسلة الجبال، ومع ذلك فإنّ المنظر مغر لعشّاق الطّبيعة، فكلّما تقدّمت السّيّارة باتّجاه قمّة الجبل انكشفت مناظر جميلة وجديدة، ويحتار المرء في أيّ الاتّجاهات ينظر، فلبنان عروس تجيد الغواية، والثّلوج المتحجّرة في(جوفات) السّلسلة الجبليّة ساحرة، بخار الماء يتصاعد منها كدخان موقد عظيم، والأعشاب تتطاول في سباق بحثا عن الضّوء والحرارة، جداول مائيّة تنساب بخريرها العذب. شعرت بصداع نصفيّ عندما وصلت قمّة السّلسلة الجبليّة، وهذا ما كان يحصل معي كلّ مرّة مررت بها من ذلك المكان، ويبدو أنّ لاختلاف الضّغط الجويّ دورا في ذلك…اتّجهت السّيّارة باتّجاه الغرب في طريقها إلى بيروت، توقّف السّائق قرب نبع وسط المكان المأهول للتّزوّد بالماء، كان الماء زلالا شديد البرودة، ومن منطقة الأشرفيّة تبدو بيروت الغربيّة باذخة وهي تسترخي على شاطئ البحر.
في بيروت:
وصلنا مكتب التّاكسيات في ساحة البرج، ويومنا يوشك على الرّحيل…استقلّيت سيّارة إلى جامعة بيروت العربيّة حيث يقابلها مكتب تسجيل الطّلّاب المنتسبين؛ لأجد عنوان زميليّ وقريبيّ اللذين سبقاني إلى بيروت ببضعة أيام، يقع البيت على الجانب الشّرقي للملعب البلديّ، ليس بعيدا عن الجامعة، إنّه شقّة في الطّابق الثّاني من بيت قديم جدّا، تصل إلى الشّقّة بدرج خارجيّ، وهي شقّة مكوّنة من غرفتين، صالة، مطبخ وحمّام، وبجوارها شقّة أخرى تسكنها امرأة شابّة مع طفلها الذي لم يتجاوز عمره ثلاث سنوات، وقد أخبرتنا أنّ زوجها تاجر سيّارات سافر الى ألمانيا لشراء صفقة سيّارات، وتبيّن لنا لاحقا أنّه سارق سيّارات ويقضي عقوبة في السّجن. أمّا الطّابق الأوّل فتسكنه الأسرة مالكة البيت، وربّة البيت هي شقيقة زوج جارتنا في الطّابق الثّاني، وهي امرأة فاضلة عطوفة، عاملتنا وكأنّنا أبناؤها، تعيش مع ابنها الذي يعمل جزّارا في ملحمة تملكها العائلة، وتقع على الشّارع وهي جزء من البيت، وابنها شابّ أديب حييّ، تزوج ونحن في جوارهم، وقد لبّيت دعوة والدته لنا بحضور الزّفاف، في حين رفض زميلاي ذلك حياء، ولأنّهم على موعد مع امتحان جامعيّ صباح اليوم التّالي، كان الحفل عائليّا والحضور حوالي عشرة رجال ومثلهم من النّساء، وعدد من الأطفال، دبكوا دبكة شعبيّة مشتركة على موسيقى القِرَب…أعطوني رعاية خاصّة وألزمتني والدة العريس أن أقف معهم في الدّبكة وهي تطوي ذراعي بذراعها، شاركتهم طعام العشاء وعدت إلى مكان سكني في الطّابق الثّاني.
الخصوصيّة اللبنانيّة
يتميّز لبنان بجماله وطيب شعبه، وتعدّد الثّقافات فيه عن غيره من البلدان العربيّة، بأشياء كثيرة، أوّلها أنّه بلد ديموقراطيّ يحافظ على توليفة طائفيّة يحكمها الدّستور اللبنانيّ الذي يقسّم المناصب العليا بين الطّوائف، ومع أنّ الوطن واحد، والشّعب واحد إلّا أنّه من اللافت في بيروت وجود أحياء تسكنها طائفة معيّنة، ولا ينفي هذا سكن آخرين من طوائف أخرى في أحياء الغالبيّة فيها لطائفة بعينها، وبيروت التي تقام أحياؤها الحديثة على نمط المدن الأوروبيّة، ويظهر ترف الأثرياء خصوصا من اغتربوا وعادوا بأموال وبنوا العقارات الفاخرة، واقتنوا السّيّارات الفارهة، تظهر فيها أحياء الفقر المدقع لأسباب لا يفهمها الزّائر للبنان، وقد لا يفهمها ساكنو هذه الأحياء، أو أنّهم ارتضوا قدرهم ولو إلى حين، وأحياء الفقر في بيروت يتمركز فيها أبناء الطّائفة الشّيعيّة، الذي يظهر أنّ بناتهم لا يحظين بحقهنّ في التّعليم وقتئذ، أو على الأقلّ هذا ما علمته من البيوت التي سكنّاها في سنوات الدّراسة-1971-1975- فقد شاهدت صبايا يواكبن موضة الملابس، لكنّهنّ أمّيّات لا يجدن القراءة والكتابة، وتلتصق ببيروت مخيّمات اللجوء الفلسطينيّ، الفاكهاني، صبرا، شاتيلا، وبرج البراجنة، وهي متداخلة في أحياء بيروت الجنوبيّة التي يقطنها أبناء الطّائفة الشّيعيّة، والقيود المفروضة على لاجئي لبنان لا مثيل لها في الدّول العربيّة الأخرى، ففي الأردنّ مثلا يحظى اللاجئون بحقّ المواطنة الكاملة بكلّ ما لها وما عليها، لكنّ أوضاعهم في لبنان مختلفة تماما، وهم يعيشون في أوضاع مزرية في مختلف مجالات الحياة، وجزء كبير منهم يعمل في بيع الخضروات والفواكه من خلال العربات المتنقّلة التي يجوبون فيها أحياء المدينة بحثا عن رغيف الخبز المرّ.
أوّل مظاهر الدّيموقراطية التي شاهدناها في لبنان هو حرّيّة الصّحافة، وما يظهر فيها من مقالات تنتقد المسؤولين بمن فيهم رئيس الجمهوريّة والوزراء، بل إنّها تكتب فضائح عن مسؤولين كبار، وفي لبنان تنشر الكتب التي لا يسمح بنشرها في بلدان عربيّة أخرى، كما أنّ المعارضين السّياسيّين الهاربين من بلدانهم العربيّة يجدون في لبنان ملاذا آمنا، والتّحرّر من قيود العادات والتّقاليد السّائدة في المجتمعات العربيّة الأخرى ظاهر للعيان في بيروت، فالحرّيّات الشّخصيّة يحميها القانون، لذا فلا غرابة عندما أُطلق على بيروت”باريس الشّرق الأوسط”، ونظرا لهذا الانفتاح في لبنان فإنّ بيروت تعجّ بزائريها العرب-خصوصا من أبناء الخليج- الذين وجدوا في لبنان ما لا يجدونه في بلدانهم، وقد شاهدت الخليجيّين يتهافتون على بسطات بيع الكتب أمام الجامعة لشراء الدّواوين الشّعريّة لشعراء فلسطين مثل محمود درويش، سميح القاسم، توفيق زياد، عبد الكريم الكرمي”أبو سلمى”ومؤلفات إميل حبيبي، إميل توما، وآخرين، حتّى أنّ بسطات الكتب على العربات المتنقّلة لم تكن تحتوي إلّا على مؤلّفات فلسطينيّة، وسبب تهافت الشّباب العربيّ على الابداعات الفلسطينيّة يعود إلى اعتبارهم القضيّة الفلسطينيّة قضيّة العرب الأولى، وذات يوم وفي حرم الجامعة كان طالب فلسطينيّ من إحدى قرى قلقيلية يصيح مولولا عندما افتقد محفظته ولم يجدها، وبداخلها تسعون دينارا أردنيا هي كلّ ما يملكه، فهدّأت من روعه، ووقفت قرب نافورة في ساحة الجامعة طالبا من الطلاب الآخرين أن يتبرعوا له، فتقدّم منّي بضعة طلاب خليجيّين وتبرّعوا بأكثر من مائتي دينار أردنيّ دفعة واحدة، وانتهت عمليّة جمع التّبرّعات في أقلّ من دقيقة.
الرّوشة:
على شاطئ بيروت الغربي، تقع منطقة الرّوشة الصّخريّة الجميلة، والتي يقع عليها حيّ راق، يفصله عن البحر شارع، وما بين الشّارع والبحر يقع مطعم سياحيّ يعلو الارتفاع الصّخريّ الذي تتلاطم تحته أمواج البحر، وعلى امتداده القريب تظهر صخور مدبّبة حادّة، تعقبها في البحر صخور مرتفعة وسط المياه، إحداها صخرة يخترقها ما يشبه النّفق، أو ما يشبه البوّابة، ويطلقون على هذا الشّريط السّاحليّ الصّغير”مكان انتحار العشّاق” وذلك لأنّ بعض الشّابّات والشّبّان ممّن يخفقون في حبّهم يلقون بأنفسهم من تلك المنطقة الصّخريّة، التي يزيد ارتفاعها على عشرة أمتار، فيلقون حتفهم، ولا يستطيع المنقذون إخراج جثامينهم إلّا عندما يكون البحر في حالة مدّ، فيدخلون بقوارب صغيرة ويسحبون جثمان المنتحر، أمّا في حالة الجزر فإنّ الصّخور المدبّبة التي تشبه السّيوف الصّائلة في الجوّ تحول دون دخول السّبّاحين والقوارب.
بجانب منطقة انتحار العشّاق يتداخل الشّاطئ الصّخريّ؛ ليشكّل بركة دائريّة متّصلة بالبحر بما يشبه عنق الزّجاجة، ومن أعلاها الذي يصل إلى ما يقارب عشرة أمتار يمارس من يهوون القفز في الماء هوايتهم، فيقفزون بالمياه العميقة ثمّ يستديرون إلى جهة الجنوب، ويخرجون إلى الشّاطئ؛ ليعاودوا ممارسة هوايتهم مرّات ومرّات، وذات يوم كان رجل يعلّم طفله ابن السّابعة القفز في مياه ذلك المكان، يقفز الطّفل ويتبعه والده مباشرة، وكانت امرأة شابّة قرويّة ترتدي ثوبا مطرزا جميلا وبصحبتها أطفالها، فاندفعت بعاطفتها الأموميّة وأمسكت بيد الطّفل تريد تخليصه من إرشادات والده له بالقفز، وصاحت بالوالد وبشكل عفويّ:
“خاف ربّك..أترك هذا الطّفل” وسألت الطّفل “وين أمّك يا ليتك تقبرها يا أمّي”وسحبت الطّفل وأجلسته بجانبها، وقبّلته مذعورة خائفة عليه من الغرق، ولم يستطع والده اقناعها -وهو يبتسم لردّة فعلها- بأنّ طفله يجيد السّباحة والغوص والقفز في الماء، وأنّه متعوّد على ذلك.
وما بين مكان القفز والمطعم السّياحيّ مرورا بمكان”انتحار العشّاق” لا يزيد طول الشّريط السّاحليّ على 200 متر تجدها مكتظّة بعشّاق البحر.
وجبة ضفادع:
ذات يوم تحقّقت رغبتي وزميل لي بدخول مطعم الرّوشة الذي لا يدخله إلّا الأثرياء، وذلك بأن دعانا طالب عُمانيّ ثريّ يركب سيّارة “جيكوار” الفاخرة، يدرس التّجارة، كان يجتاز امتحان مادّة ويعتذر عن أخرى، فهو ليس على عجلة من أمره لتكميل دراسته، وكلّ همّه أن يسيح في لبنان، وأن يتمتّع بجمال هذا البلد…رافقته وزميلي يوما واحدا بعد إلحاح شديد منه، وقد رفضنا بعد ذلك رفقته لعدم قدرتنا الماليّة على مجاراته، غير أنّ طيب الرّجل ومرحه كسر حاجز الحياء عندنا، وقد أخبرته بأنّنا لا نملك أموالا لإنفاقها خارج ضرورات الحياة، إلّا أنّه أجابنا:
“لا تهتموا يا اخوان…خير الله كثير واعتبروني أخاكم”.
وعرض علينا أموالا إلّا أنّنا رفضناها بإصرار، قاد سيّارته بنا صباحا الى منطقة الزّيتونة السّاحليّة الرّاقية؛ لنتناول قهوة الصّباح في مطعم على سطح فندق من عدّة طبقات، ونقد النّادل مائة ليرة لبنانيّة إكرامية”بغشيش”، وهي تعادل مصروفنا لأكثر من أسبوع، وعند الظّهيرة قاد سيّارته بنا إلى مطعم الرّوشة لتناول الغداء، وهو مطعم كنّا نحلم بالجلوس فيه والتّمتّع بجمال الطّبيعة، وجمال السّاحل الصّخريّ، حيث تجوب قوارب المتنزّهين والمصطافين مياه البحر، لكنّ أوضاعنا الماليّة حالت دون تحقيق ذلك.
وفي المطعم امتلأت طاولتنا بعشرات صحون السّلطات المختلفة والمقبّلات من مخلّلات وغيرها، وطلب رفيقنا زجاجة ويسكي، ثم استأذننا بأن يختار لنا وجبة الطّعام الرّئيسة، وكانت تشكيلة كبيرة من اللحوم المشويّة، لحوم الخراف وعدد من طائر”الفرّ” المشويّ على الفحم، وبجانبه عدد من التي حسبناها عصافير، فاستهوتنا بطعمها اللذيذ، ولم نعلم نحن ورفيقنا العُماني أنّها ضفادع بحريّة إلّا بعد أن أنهينا وجبتنا، فأبدينا تقززنا، ولو علمنا أنّها ضفادع لما أكلناها لاقتران ضفادع المستنقعات بذاكرتنا، ولأنّنا لم نعتد على أكل الضّفادع.
جمال الرّيف:
أمضينا يومنا مع رفيقنا العُماني، حيث اتّجه بنا شرقا، ومن بطن جبل كانت قبالتنا قرية بديعة الجمال كما هي القرى اللبنانية، فطلبت من رفيقنا التّوقّف لنُغذّي عيوننا بجمال تلك القرية، فأبنيتها تشي بثراء أبنائها، وهندسة الأبنية تدعو إلى التّأمّل، في حين أنّ أشجار الأرز المتداخلة بين البيوت تنبئ أنّ وجودها ليس عفويا، والورود تصطّف في حدائق البيوت وعلى أرصفة الشّوارع، أمّا الشّوارع الواسعة فتتمطّى كالأفاعي لتربط أحياء القرية بعضها ببعض، والجمال ليس حكرا على تلك القرية، فالقرى اللبنانية في غالبيتها منظّمة وجميلة، وهي تعكس ذائقة أشقّائنا اللبنانيين الذين يقدّسون الجمال، وعند المساء فارقناه بحجّة انشغالنا في الدّراسة استعدادا لامتحان اليوم الثّاني، ولم نرضخ لإصراره على اصطحابنا في الأيّام التّالية.
الرّطوبة:
بيروت الغربيّة التي تقع على ساحل البحر حارّة جدّا في الصّيف نظرا لارتفاع نسبة الرّطوبة في الجوّ، لذا فإنّ جزءا كبيرا من مواطنيها يصطافون في الجبل..في بيروت الشّرقيّة، حيث النّسيم العليل، والجوّ المعتدل الذي قد يلزمك بارتداء معطف ليلا وفي ساعات الصّباح، ويقومون بتأجير بيوتهم للطّلاب المنتسبين لجامعة بيروت العربيّة، وفي إحدى السّنوات استأجرنا بيتا من ضابط شرطة لبنانيّ، قرب المدينة الرّياضيّة، يفصل بينه وبين مخيّم الفاكهاني شارع، ويقع قبالته مستشفى للأمراض العقليّة، وفي ليلتي الأولى في ذلك البيت نمت على”صوفا” في الصّالون بدون غطاء نظرا للحرارة المرتفعة، وما أن أطفأت الضّوء حتّى شعرت بلسعات مؤلمة، فنهضت مذعورا وأضأت المصابيح الكهربائيّة، وإذا بطوابير من حشرات البقّ تنتشر، آلاف مؤلّفة من البقّ القاتل، ونهض زملائي الثّلاثة من غرف النّوم، وكان فراش أسِرَّتِهِم يتناثر منها البقّ بكثرة، فلمتهم على استئجار البيت، لأنّهم سبقوني بيومين إلى بيروت، واتّصلنا بضابط الشّرطة مالك البيت هاتفيّا، وقلت له مازحا وغاضبا: هل يوجد عندك مخطّط لقتلنا بلسعات البقّ الذي يملأ بيتك؟ وفي صباح اليوم التّالي حضر بصحبة زوجته، وصحبة رجل يحمل على ظهره مضخّة لمكافحة البقّ، وقام برشّ البيت يومين متتاليين، وتنازل لنا عن نصف الأجرة البالغة 500 ليرة لبنانيّة.
أمسية شعريّة:
في العام 1973 سكنّا في ضاحية المزرعة، فأخبرني جارنا اللبناني عن وجود أمسية شعريّة للشّاعر العراقي مظفر النّوّاب في سينما بيروت على كورنيش المزرعة، وهو مكان قريب من سكننا، ومع أنّني لم أسمع باسم ذلك الشّاعر من قبل، إلّا أنّني رافقت جارنا اللبناني لتلك الأمسيّة، كانت قاعة السّينما مكتظّة بالحضور، وعندما خرج الشّاعر من خلف الكواليس، كان مخمورا وفي يده زجاجة ويسكي، وتنتظره أخرى على الطّاولة، وبعد قصيدته الأولى احتسى ما تبقّى في الزّجاجة التي في يده، وكسر الزّجاجة وقام بتجريح ساعديه وهو يلقي قصيدته الثّانية منفعلا، فخلته مجنونا وانسحبت من القاعة.
شارع الحمراء:
يغصّ شارع الحمراء بالمحلات الرّاقية، وعلى مقربة منه تقع جامعة بيروت الأمريكيّة، وفيه تقع المسارح والفنادق، وحياة التّرف التي يعيشها المترفون من لبنان ومن زائريها، سكن فيه أحد أقاربنا الذي يعمل مديرا لإحدى الشركات في الأردنّ، وجاء بيروت بصحبة زميل له؛ ليدرسا الحقوق انتسابا في جامعة بيروت العربيّة، التقيته وزرته أكثر من مرّة في الشّقّة المفروشة التي استأجراها في شارع الحمراء.
وفي أحد الأيام طلب منّي -لوجود امتحان عنده- أن أذهب إلى الميناء، لإحضار ابن عمّه القادم على ظهر باخرة من روسيا حيث يدرس الهندسة الكهربائيّة، فذهبت إلى الميناء، وعند مدخل الميناء طلب رجل أمن جواز سفري، ولم يكن معي سوى بطاقتي الجامعيّة، لكنّه لم يعتمدها بحجّة وجود بطاقات جامعيّة مزيّفة، ونظرا لقرب وصول السّفينة، ولبعدي عن مكان سكني فقد صحت به غاضبا:
وهل تراني أملك مصنعا لتزييف البطاقات الجامعيّة؟ وحاولت الدّخول عنوة، فغضب رجال الأمن منّي واقتادوني إلى المخفر الأمنيّ، حيث احتجزوني في زنزانة دون سؤال أو جواب، وبعد حوالي نصف ساعة، طرقت باب الزّنزانة بعنف، فأطلّ عليّ شرطيّ من كوّة الباب ينهرني، فطلبت منه أن يعمل معي معروفا بأن يتّصل هاتفيّا بقريبي؛ ليخبره أنّني أنا “الشّيخ جميل” محجوز عند الشّرطة، كي يتدبّر أمره باحضار ابن عمّه من الميناء، فغاب الرّجل وبعد أقل من دقيقة حضر بصحبة الضّابط؛ ليطلق سراحي ويعطيني إذنا بدخول الميناء مع الاعتذار الشّديد لي، وعرفت من قريبي لاحقا أنّ الرّجل ربّما ظنّ بأن لقب الشّيخ هو اسم حركيّ لرجل في المقاومة الفلسطينيّة، وخاف من الوقوع في مشكلة، وهذا ما دفعة لإطلاق سراحي والاعتذار لي.
وعندما خرجت من باب المخفر شاهدت قريبي القادم من موسكو في سيّارة أجرة، فصحت عليه مناديا باسمه، واستقلّيت السّيّارة معه الى شارع الحمراء حيث يسكن ابن عمّه.
الهجرة إلى افريقيا:
في صيف العام 1974م استأجرنا بيتا قرب الملعب البلدي قريبا من الجامعة، البيت قديم جدّا ويتكون من غرفة نوم واحدة وصالة ومطبخ صغير وحمّام، وأمامه برندة بمساحة غرفة، على جنباتها تصطفّ قوارير الورود المختلفة، البيت يقع في شارع أبنيته حديثة ومن طوابق عدّة، وفي كلّ طابق أربع شقق، لا بيوت قديمة في ذلك الشّارع غير البيت الذي استأجرناه من امرأة عجوز في آواخر الثّمانينات من عمرها، أجّرتنا البيت وذهبت للإقامة مع ابنتها التي تسكن شقّة في البناية المجاورة، والعجوز تزورنا يوميا لريّ ورودها، كانت تتحسّس كلّ نبتة وكأنّها تطمئنّ عليها، أو كأنّها تعتذر منها على رحيلها عنها الذي سيمتدّ لثلاثة أسابيع. نمت على سرير بجانب نافذة تطلّ على البرندة، ويمتدّ السّرير إلى باب البيت، وبعد يومين من سكننا غفونا بعد منتصف الليل، وإذا بشخص يمدّ يده من نافذة الباب يريد أن يفتحه من الدّاخل، فأمسكت بيده وثنيتها بالإتّجاه المعاكس، وصحت بزميليّ كي يستيقظا للإمساك بـ”اللص” الذي يحاول اقتحام البيت، كان الرجل مخمورا وعرّفنا على نفسه بأنّه حفيد صاحبة البيت، ولا يعلم بأنّ جدّته لأبيه قد أجّرت البيت، وألقى سيلا من الشّتائم على جدّته، فاقتنعنا بصدق روايته، وأخبرنا أنّه يعمل حلاقا، ويعود إلى البيت مرّتين أو ثلاثة في الأسبوع؛ لينام بجوار جدّته، لأنّه مطرود من بيت والديه لتعاطيه المخدّرات، حمل “صوفا” ونام في البرندة.
في اليوم التّالي عرفنا منه ومن جدّته ومن شقيقه أنّ أحد أبنائها يملك عشر بنايات في الشّارع، وأنّه يريد إزالة البيت القديم؛ ليقيم مكانه بناية حديثة، لكنّ والدته العجوز ترفض إخلاء البيت الذي قضت فيه غالبيّة حياتها، وأنجبت فيه جميع أبنائها، وترفض استبداله بقصور الدّنيا، وأخبرونا أنّ الرّجل مغترب في أوغندا، ويملك فرنا للخبز هناك، وهو الفرن الآلي الوحيد في ذلك البلد، وقد جمع أموالا طائلة من عمله هذا، وعلمنا أنّ جزءا من المهاجرين اللبنانيّين قد اتّجهوا في هجراتهم منذ ستّينات القرن الماضي إلى الدّول الإفريقيّة؛ لأنّهم يعتبرونها أراضي بكرا للاستثمار، وأنّ هناك جاليات لبنانيّة في مختلف الدّول الإفريقيّة غير العربيّة، ودهشنا من ذلك لأنّ الهجرة في بلادنا إلى إفريقيا غير معروفة، والمهاجرون من بلادنا يتّجهون للعمل في الدّول العربيّة الثّريّة، أو إلى الدّول الغربيّة خصوصا أمريكا.
في مصر
أتيحت لي الفرصة لزيارة أمّ الدّنيا، عندما قرّرت جامعة بيروت العربيّة عقد الامتحانات للطلبة من غير اللبنانيّين في جامعة الإسكندرية، لتعذّر عقدها في بيروت نتيجة للحرب الأهليّة البغيضة التي اندلعت في لبنان….كان ذلك في شهر شباط-فبراير- 1975م، كنت في سنتي الأخيرة للحصول على ليسانس آداب- لغة عربيّة- وكنت أعمل محرّرا في صحيفة الفجر المقدسية، فوجدتها فرصة لي كي أحقق حلمي بزيارة مصر العروبة، مصر حضارة وادي النّيل- الحضارة الأكثر عراقة في العالم- مصر وارثة الحضارة الفرعونيّة، مصر الأهرامات التي تمثّل إحدى عجائب الدّنيا، والتي اقترنت بمنارة الاسكندريّة لتحوز مصر بجدارة على اثنتين من العجائب الدنيوية السّبعة، مصر الجامع الأزهر، مصر قاهرة المعزّ، مصر التي أنجبت جمال عبد الناصر، وأنجبت قبله أحمد عرابي باشا، مصر التي أحببناها جميعنا.
في القاهرة:
استقليت الطائرة من مطار ماركا في عمّان إلى مطار القاهرة في التّاسعة ليلا، حملنا حقائبنا واستقلينا سيّارة مع زميل أردنيّ جلس بجانبي في الطّائرة؛ لتوصلنا إلى فندق بسيط لا يتقاضى أجرة عالية، فما نملكه من نقود قليل جدا، فأوصلنا السّائق إلى ميدان التّحرير، وهناك طرقنا أبواب عدد من الفنادق، فوجدناها جميعها غرفها مشغولة، ونصحنا بعضهم بالتّوجه الى فنادق النّجوم الخمسة، لكنّنا لم نجرؤ على ذلك لضيق ذات اليد، وبعد أن تعبنا، رأيت شرطيّ مرور فاتّجهت اليه طالبا المساعدة، فسألني الرّجل: هل أنتما فلسطينيان؟
ولمّا أجبته بـ “نعم” طلب منّي الانتظار قليلا، وما هي إلّا لحظات حتى حضر شرطيّ آخر استلم العمل مكانه، وأقلنا الرّجل وسط حيرتنا بسيّارة الشّرطة إلى بيته، أيقظ زوجته وأخبرها أنّ بصحبته ضيوفا، شقّة الرّجل فيها غرفتان صغيرتان عدا غرفة نوم الزّوجين الرّئيسة، له ولد وبنت، عمر الولد حوالي سبع سنوات، والبنت تصغره بعامين، أيقظ الولد وطلب منه أن ينام في غرفة شقيقته؛ لتكون الغرفة لي ولزميلي، وأصرّ أبو جمال هو وزوجته الفاضلة أن يقدّما لنا طعام العشاء مع أنّنا كنا في السّاعات الأولى من الصّباح.
ولاحظنا مدى تعاطفهما مع الشّعب الفلسطينيّ وقضيّته العادلة، تعاملا معنا وكأنّنا ابناهما، ولما أخبرناه بأنّني فلسطينيّ وزميلي أردنيّ، أعاد التّرحيب بنا ثانية وهو يردد:
أهلا وسهلا…كلنا اخوان، فأكبرت فيه تلك الشّهامة، وذلك الانتماء الأصيل.
نمنا قليلا …واستيقظت مبكرا…بقيت في فراشي حتى سمعت حديث الزّوجين في صالة الشّقّة، ففتحت الباب على استحياء…وجدتهما قد أعدّا لنا إفطارا…ولم يأذنا لنا بالمغادرة إلّا بعد أن أقسمنا أغلظ الأيمان أن امتحاناتنا ستبدأ في اليوم التّالي…فحملنا الرّجل في سيّارة الشّرطة إلى موقف السّيّارات العموميّة المغادرة والقادمة من الاسكندريّة وإليها، وهو وزوجته يوصياننا بأن نمرّ عندهما في طريق عودتنا من الإسكندريّة، وكتبا لنا عنوان البيت ورقم الهاتف.
وعندما استقلّينا سيّارة التّاكسي، أخذ الشّرطيّ رقم السّيّارة، واسم السّائق ورقم بطاقته، وهو يوصيه محذّرا بأنّ أيّ مكروه سيحصل لهذين الشّابّين سيكون في رقبته، وأكّد علينا بأن نتصل به هاتفيّا عند وصولنا إلى الإسكندريّة لنطمئنه على وصولنا سالمين، وعلمنا لاحقا أنّ الطّريق الصّحراويّ بين القاهرة والاسكندريّة غير آمن أحيانا.
في الإسكندريّة:
في الإسكندريّة وأمام الجامعة التقيت بأحمد سرور، وهو طالب من أبناء قريتي، فذهبت للسّكن معه ومع آخرين من أبناء القرية هم: قريبي أحمد أمين السلحوت، ومحمد شراري الأعرج، ونجم عبيدات، أمّا زميلي الأردني فقد كان معه عنوان لزملاء له فاستقلّ سيّارة إليهم.
وجدت زملائي من أبناء قريتي قد استأجروا شقّة مفروشة في بناية على الكورنيش-الشّاطئ- فيها ثلاث غرف، وصالة ومطبخ، نمت ومحمد الأعرج في غرفة واحدة، والشّقّة قريبة من كازينو نفرتيتي الذي تصل أمواج البحر الأعمدة المقام عليها، كنّا نشرب القهوة والشّاي في الكازينو، نجلس بقرب الحائط الزّجاجيّ الذي يطلّ على البحر، نراقب الموج الذي يأتي هادرا؛ ليتكسّر على رمال الشّاطئ، وتعود مياهه بنعومة إلى حضن البحر؛ لتتشكّل أمواجا جديدة تطارد بعضها البعض، والبحر مُغر للتّأمل والتّفكير، ويبعث الدّفء في القلوب التي تتعطّش لرؤية البحر، خصوصا إذا ما كانت محرومة منه كما هو حالنا، فلم يتبقّ لنا من الشّاطئ الفلسطينيّ سوى شاطئ قطاع غزّة، البعيد البعيد عنّا رغم قرب المسافة بيننا.
البيت الذي نسكنه وكازينو نفرتيتي يطلان على قصر الملك فاروق، الذي تحوّل إلى متحف يؤمّه الزّوّار والسّيّاح.
العطش لمعالم المدينة التّاريخيّة:
استقليت وأحد زملائي في اليوم التّالي لوصولي سيّارة أجرة عموميّة للتّجوال في مدينة الإسكندريّة، دون تحديد عنوان معيّن، طلبنا من السّائق أن يأخذنا إلى مناطق مختلفة في المدينة، لفت انتباهنا كثرة اللافتات واليافطات التي تحمل صور جيهان السّادات -سيّدة مصر الأولى- مرحبّة بقدومها لزيارة الاسكندريّة، فقلت يبدو أنّ زوجة الرّئيس ملكة غير متوّجة لمصر، وهذا ما كتبته في صحيفة الفجر المقدسيّة بعد عودتي إلى القدس، وسألنا السّائق إذا ما كانت زوجة الرّئيس جمال عبد الناصر كانت تفعل في حياة زوجها ما تفعله زوجة الرّئيس محمّد أنور السّادات، فأوجس منّا السّائق ريبة، وتحفّظ على أسئلتنا، ولما سألناه عن المفارقات بين حكم عبد النّاصر وحكم السّادات، وكان قد مضى على رحلتنا ساعة من الزّمن معه، توقّف الرّجل فجأة وأخرج بطاقة تفيد بأنّه يعمل مخبرا للمخابرات المصريّة، وقال بانكسار: أنتم فلسطينيّون ولا أريد إيذاءكم، أنا رجل مخابرات، وما يدريني أنّكم مدسوسون عليّ؟ انزلوا من السّيّارة لو سمحتم، ولا أريد منكم أجرة، ولم نستطع اقناع الرّجل بالبقاء معنا، وفي النّهاية وافق على إعادتنا إلى نفس النّقطة التي انطلقنا منها معه.
الحنطور:
مرّ بنا حنطور- عربة يجرها حصان- واستقلّينا الحنطور الذي طاف بنا حوالي أربع ساعات في مناطق مختلفة وقريبة من الشّاطئ….مرّ بنا في أسواق شعبيّة، وفي محيط جامعة الاسكندريّة، وكان الحنطوريّ رجلا خفيف الظّلّ صاحب نكته، ولمّا سألناه عن صور السّيّدة جيهان السّادات قال ساخرا:”دي الحاكمه بأمر الله يا بيه”.
تدمير القطاع العامّ:
لاحظنا أنّ نظام الرّئيس السّادات قد شرع بتدمير القطاع العامّ، من خلال سياسة الانفتاح الاقتصاديّ التي تبنّاها، وتمثّل ذلك بتصفية المؤسّسات الاستهلاكيّة العامّة، التي كانت تبيع الموادّ الأساسيّة للمستهلك بالأسعار التي تحدّدها الدّولة، والتي تخدم جمهور المستهلكين، خصوصا الفقراء ومحدودي الدّخل منهم، كما أنّها بدأت ببيع المصانع التي تملكها الدولة، أو اهمالها وعدم استبدال القطع التّالفة في الآلات لإجبارها على الإغلاق، مصحوبة بسياسة الاحتكار التي مارسها المتنفّذون في النّظام، وظهور طبقة القطط السّمان كما أطلق عليها رجل الاقتصاد الشّهير الدّكتور فؤاد مرسي، وعندما عدت إلى البلاد كتبت في صحيفة الفجر المقدسيّة انطباعاتي عن زيارتي لمصر تحت عنوان” مصر السّادات تدمير للقطاع العام وبراءة من العهد النّاصري” ممّا أثار غضب أحد أعضاء مجلس إدارة الصحيفة، الذي قال:” هذا الولد يريد أن يمنعني من دخول مصر”! ويجب فصله من الصّحيفة، غير أنّ رئيس التّحرير بشير البرغوثي وبقية أعضاء مجلس الإدارة لم يستمعوا له، فطلب حذف اسمه من مجلس الإدارة، وبقي غاضبا لمدّة تزيد على عام وتسعة أشهر حتّى جرت تغييرات في الصّحيفة، وتمّ استبدال طاقم تحريرها بالكامل.
عبد الناصر والسّادات:
من اللافت أنّ النّاس العاديّين كانوا يخافون من الحديث عن فترة حكم الرّئيس جمال عبد النّاصر، أو مقارنتها بحكم السّادات، وفي حديثنا مع مهندس مصري يسكن في جوارنا، أخبرنا أنّ الخوف نابع من التّهديد بلقمة العيش، فمن يترحّم على عبد النّاصر وأيّامه، أو يغمز بحكم السّادات فإنّه سيتعرّض للمساءلة وللاعتقال ولفقدان عمله في بلد تنتشر فيه البطالة، وعصا أمن النّظام فيه غليظة لا ترحم. ذات يوم أحضر لنا صحيفة الأهرام وأرانا خبر تساقط الثّلوج على الأراضي الفلسطينيّة منشورا في مكان بارز على الصّفحة الأولى، في حين أنّ خبر استشهاد شابّ فلسطينيّ كان منشورا في الصّفحات الدّاخليّة ووسط أخبار عاديّة، وعقّب على ذلك قائلا: هذا واحد من الفوارق بين عهدي عبد النّاصر والسّادات.
الصّدفة أنقذتني من الموت:
بعد أن انتهينا أنا وزميلي محمّد شراري الأعرج من الامتحانات، عرضت عليه أن نغادر عصر ذلك اليوم في القطار إلى القاهرة، كي نستطلع بعضا من ملامحها، غير أنّه رفض ذلك بشدّة، على أن نسافر في صباح اليوم التّالي، وبقيت مصرّا على رأيي، وعدت إلى البيت وحملت حقيبتي واستقليت سيّارة إلى محطّة القطارات، وعندما عاد ولم يجدني لحق بي في سيّارة أخرى، وأمسك بي وأنا على درجات القطار وأنزلني مرغما؛ لأبقى معه حتى صباح اليوم التّالي.
وفي صباح اليوم التاّلي توقّف بنا القطار على بعد عدّة كيلو مترات، حيث كان القطار الليليّ قد اصطدم بقطار آخر وسقطت منه أربع عربات في إحدى قنوات النّيل، وكان هناك إصابات بينهم قتلى وجرحى، وقوّات الجيش تقوم بعمليّات الانقاذ، وهكذا أنجاني الله من موت محقّق عندما سخّر زميلي؛ كي يمنعني من السّفر في القطار المنكوب.
وفي القاهرة تجوّلنا في ميدان التّحرير، وبقينا فيه حتّى موعد إقلاع طائرة العودة من مطار القاهرة إلى مطار ماركا في العاصمة الأردنيّة.
في الصّحافة:
في الفاتح من سبتمبر 1974م بدأت العمل في صحيفة الفجر المقدسيّة التي أسّسها المرحوم يوسف نصري نصر، وكانت سببا في اختطافه واغتياله، ولا يزال جثمانه مجهولا حتّى يومنا هذا، عندما عملت في الصّحيفة كان بشير البرغوثي رئيس تحريرها، ومن أعضاء هيئة التّحرير فيها يومئذ: عادل سمارة، أسعد الأسعد، حسيب النّشاشيبي. وجرى تغيير طاقم هيئة التّحرير في الصّحيفة يوم 23 نوفمبر 1976م، حيث تسلّم السّيّد مأمون السّيّد رئاسة تحريرها.
وعملت بعدها محرّرا في مجلّة “الشّراع” نصف الشّهريّة لصاحبها مروان العسلي.
وفي العام 1978 عملتُ محرّرا في “مجلّة “الكاتب” التي يرأس تحريرها الأديب أسعد الأسعد. ومن أعضاء هيئة التّحرير فيها: جمال بنّورة، تيسير العاروري، بسّام الصّالحي، محمد البطراوي، محمود الشّيخ، محمّد أيّوب، عبدالحميد طقّش، خليل توما، فؤاد رزق وفي فترة قصيرة التحق بهيئة التّحرير الدّكتور زياد أبو عمرو.
في العام 1991م عملت رئيس تحرير لمجلّة “مع النّاس” الشّهريّة ومحرّرها المسؤول كان محمد ناظر التّكروري، وعمل في التّحرير كلّ من ديمة جمعة السّمان، وربحي الشويكي. وسحب الاحتلال رخصة المجلّة بعد صدور أحد عشر عددا منها.
في العام 1992م عملت رئيس تحرير لصحيفة الصّدى الأسبوعيّة لمدّة ثمانية أشهر، وعملت معي في التّحرير ديمة جمعة السّمّان.
ما بين شباط -فبراير- 1996م وفبراير 1998م عملت محرّرا في مجلّة العودة التي يرأس تحريرها الشّاعر إبراهيم القراعين، وكانت السّيدة ريموندا الطّويل محرّرها المسؤول، ومن أعضاء هيئة تحريرها يومذاك: عبد الحكيم سمارة، محمّد عبدربّه، أحمد عبد أحمد، ووليد العمري.
وأثناء عملي في الصّحافة كنت أعطي أولويّة خاصّة للأقلام الشّابّة والنّاشئة، وأنشر كتابتاتهم.
العمل في التّدريس
عملت من بداية سبتمبر 1977م وحتّى نهاية شباط – 1990م- مدرّسا للغة العربيّة في المدرسة الرّشيديّة الثّانويّة في القدس. وأثناء عملي في التّدريس كنت حريصا جدّا على مواهب الطلبة في الكتابة، وشجّعت من توسّمت فيهم خيرا، ونشرت لهم في الصّحف المحليّة.
وبعد قيام السّلطة الوطنيّة الفلسطينيّة في العام 1994، أصدرت وزارة التّربية والتّعليم صحيفة “مسيرة التّربية” الشّهريّة، وكتبت فيها 25 مقالة تحت عنوان “تعلّمتُ من طلابي”، ولاقت قبولا حسنا من المعلّمين ومن مسؤولي الوزارة.
وفي بداية شباط –فبراير- 1998م عملت مديرا للعلاقات العامّة في محافظة القدس، وأنهيت العمل في بداية حزيران-يونيو- 2009 لبلوغي السّتّين من عمري.
الرّقابة العسكريّة على الصّحف
فرض المحتلّون رقابة عسكريّة مشدّدة على الصّحف، فكلّ صحيفة ملزمة بأن تبعث نسختين من أيّ مادّة ستنشر إلى الرّقيب العسكريّ الذي مقرّه في بيت الصّحافة الإسرائيليّ”بيت أجرون” المقام على جزء من مقبرة “مأمن الله” الشّهيرة، وقد شمل ذلك بعض الإعلانات التّجاريّة، ونعي الموتى، خصوصا عندما يكون الميّت شهيدا، وكان الرّقيب يقوم بشطب كلّيّ أو جزئيّ لأخبار وتقارير ومقالات وتحليلات، وقصائد وقصص، ويحيط الكلام المشطوب بخط قلم حبر أحمر اللون، ويضع خاتم الرّقابة عليه.
العمل في البناء
في بداية العام 1971م وبعد أن حرثت أرضنا في منطقة الشّيخ سعد، وزرعتها عدسا، وفي انتظار موسم الحصاد، عملت في ورشة بناء اسرائيليّة مساعدا لـ”طوبرجي”، ولم أنه يومي الأوّل، وانتقلت للعمل مع مقاول عربيّ في ورشة أخرى، حملت حجارة البناء حتّى المدماك للبنّاء، كما عملت في تزفيت الجدران الخارجيّة لملجأ تمهيدا لطمّها بالتّراب، واستمرّ عملي مدّة ثلاثة أشهر.
في بداية العام 1972م عملت لمدّة شهرين فرّاشا في فندق.
وفي بداية العام 1977م عملتّ “صبيّ بلّيط” ، مع اثنين من قريتي كانا يأخذان مقاولات لتبليط الأبنية التي تسارعت إقامتها في بلدة الرّام بين القدس ورام الله. ومن الأشياء التي بقيت عالقة بذاكرتي في تلك المرحلة، أنّني وفي بداية اليوم الأوّل لتبليط شقّة لأحد الأثرياء أضافها لبيته وكان يوم الأحد الذي هو إجازته الأسبوعيّة حيث يملك “كراجا لتصليح السّيّارات المعطوبة” في واد الجوز، وأثناء إعدادي للطّينة أمام البيت طلب ربّ البيت من زوجته أن تغلي فنجاني قهوة للعمّال، وسمعت زوجته تردّ عليه قائلة: العمّال ثلاثة وليسوا اثنين!
فردّ عليها: معلمو البلاط اثنان، والعامل “بلاش يتعوّد على شرب القهوة!”
فقالت له: عيب يا رجل…العامل إنسان أيضا.
فقال لها: “اعملي مثلما قلت لك وسكّري ثمّك.”
سمعت ذلك وكظمت غيظي، وأدخلت الطّينة، احتسى زميلاي القهوة وهم لا يعلمون ما جرى من ربّ البيت. وفي هذه الأثناء أحضر صينيّة عليها صحن حمّص، بيضتان مقليّتان بالزّيت، وخمسة أرغفة “كماج”. ومعه ثلاثة من أحفاده الأطفال، فقال: تفضلوا افطروا، لكن لا تطمعوا أن يكون لكم كل يوم فطور، فقط يوم الأحد يوم عطلتي! فجلسوا يأكلون وأحفاده يتخاطفون الطّعام، وهو يقول:
“تفضّلوا…سلامة خيركم… خير الله كثير.”
لم أشاركهم الطّعام، وأعتذرت عن ذلك بحجّة أنّني أفطرت في بيتي.
وعند العاشرة صباحا قلت لزميليّ بأنّني ذاهب لأحضر لنا طعاما من مطعم قريب، وفعلا ذهبت وأحضرت معي ثلاثة كيلوغرام، شواء، مع صحني حمّص وفول، وأكثر من عشرين رغيفا، وناديت على صاحب البيت وأحفاده؛ كي يشاركونا الطّعام، فحضروا وأصطفّوا معنا على الطّعام، وقمت بعمل رغيفي “ساندويش” ملأتهما بالشّواء، وطلبت من أحد الأطفال أن يوصلها لجدّته، وأنا أردّد مقولة صاحب البيت ساخرا: “تفضلوا…سلامة خيركم…خير الله كثير.”
وبعد أن أكلوا حتّى الشّبع سألتهم:
هل تريدون أن أحضر لكم مزيدا من الشّواء؟
فردّ صاحب البيت: “لا…وين بدنا نحطّه؟”
بعدها وقفت ووبّخته بلهجة قاسية وكلمات بذيئة، وقلت له بعدها:
أنت نذل وجبان والعمل عندك حرام. ورويت لزميليّ ما حصل، وغادرت المكان، فلحقوا بي بعد أن علموا بما جرى.
شاءت الصّدف أن ألتقي به بعد سنوات على وليمة فاخرة، في بيت ابن شقيقه الذي تربطني به علاقة مميّزة، ورفضت أن أجلس معه على مائدة واحدة بعد أن قصصت على الحضور فعلته الشّنيعة السّابقة.
أنا والكتابة:
بدأت الكتابة في سنّ مبكرة، تماما مثلما بدأت المطالعة في سنّ مبكرة، وأجزم بأنّ شغفي بالمطالعة ومواظبتي عليها قد أفادني كثيرا في كتاباتي، وقد خضت مجال الكتابة في أصناف أدبيّة عدّة، ولا أزال أعمل باستمرار على تحسين أدواتي الكتابيّة، ويبقى الحكم على كتاباتي للقرّاء والنّقاد، وقد استفدت كثيرا من ملاحظاتهم، ولم أغفل عن أيّ ملاحظة أبدوها، تماما مثلما أحترم رأي النّقّاد برحابة صدر.
عندما عملت في صحيفة الفجر المقدسيّة في سبتمبر 1974م صرت أكتب مقالة بشكل شبه يوميّ، وأوقّعه باسم جميل حسين، وحسين هو والدي كما ذكرت سابقا، وعندما كنت أكتب مقالتين كنت أوقّع الثّانية باسم “فايز جميل”، وذات يوم في اجتماع لهيئة التّحرير امتدح رئيس التّحرير بشير البرغوثي، الكاتبين “جميل حسين وفايز جميل”، ولم يكن يعرف أنّني صاحب الاسمين، فابتسم أسعد الأسعد وهو يشير إليّ وأخبره بأنّني أنا صاحب الاسمين، فالتفت إليّ البرغوثي وسألني:
مِمّ تخاف من كتابة اسمك “جميل السلحوت”؟
فأخبرته بقصّتي مع الصّحيفة المقدسيّة التي رفض محرّروها مواصلة نشر ما أكتبه تحت زاوية “بأقلام القرّاء”، وأنا تلميذ في المرحلة الثّانويّة، عندما رأوني يافعا.
فقال لي: الخطأ ليس فيك ولا في اسمك وإنّما في الحم…. الذي أوقف نشر كتاباتك. وأضاف ضاحكا: أمّا نحن فقد رفعنا الحظر عن اسمك.
ومنذ ذلك الوقت وأنا أكتب باسمي الأوّل واسم عائلتي”جميل السلحوت.”
في تلك المرحلة أجدت كتابة الخاطرة والمقالة السّياسيّة، وكثيرا ما أبدى بشير البرغوثي ملاحظاته وتوجيهاته على مقالتي السّياسيّة، وكنت أنتبه بتركيز لتوجيهاته، لقناعتي بأنّه كان أفضل محلّل سياسيّ في الأراضي المحتلة؛ لكنّه لم يرفض نشر مقالة واحدة لي. علما أنّني كنت أعرض مقالتي على الزّميل أسعد الأسعد قبل دفعها للطّباعة.
في تلك المرحلة لم يكن الحاسوب”الكمبيوتر” معروفا، ولم تكن “الأوفست”، كانت الطّباعة تتمّ على ماكينات “اللينو تايب، والإنترتايب” وهي ماكينات ضخمة تحتاج الواحدة منها إلى مكان واسع، وكانت تعمل على صفّ الكلمات على أسطر من الرّصاص الذي يذاب بقوّة الكهرباء، وإذا ما حصل خطأ بكتابة كلمة واحدة في السّطر الواحد، فقد كان الطّابع يعيد طباعة السّطر كاملا، وكان موضّب الصّفحات يرتّب الأخبار والتّقارير، على قالب معدنيّ بحجم صفحة الجريدة.
ولم تكن الشّبكة العنكبوتيّة “الإنترنت” معروفة، ولا “الفاكس” أيضا. كانت الصّحيفة مشتركة مع وكالة أنباء “تويتر”، كما كان هناك لاقط أخبار يسجّل نشرات الأخبار التي تبثّها عدّة محطّات إذاعيّة، كما كان هناك مراسلون للصّحيفة في مختلف مدن الوطن المحتلّ، من هنا فقد كانت الأخبار شحيحة، وكان عمل هيئة التّحرير شاقّا، وقد يبقون في دوامهم حتّى بعد منتصف الليل، خصوصا أنّ الرّقيب العسكريّ الإسرائيليّ، الذي كنّا نرسل إليه كلّ ما ينشر في الصّحيفة- بما في ذلك الاعلانات التّجاريّة ونعي الأموات- على نسختين، فيشطب ما شاء وكيفما يشاء، وأحيانا كان يشطب أخبارا وتقارير صحفيّة كاملة، أو جزئيّا، حتّى أنّه كان يشطب قصصا وقصائد أدبيّة.
ومن طريف ما حصل في تلك الأيّام أنّ إحدى الصّحف المقدسيّة بقي فيها فراغ لخبر على صفحتها الأولى، ولم يجد المحرّرون خبرا لسدّ الفراغ، فكتب المحرّر خبرا طريفا مفاده:
” هرعت سيّارات الإطفاء لإخماد حريق هائل شبّ في أحد المتاجر في شارع صلاح الدّين في القدس، ولمّا وصل مراسلنا إلى المكان، تبيّن له أنّ الخبر كاذب.”
منشورات صلاح الدّين:
في منتصف سبعينات القرن العشرين، أسّس السّيّد الياس نصر الله من شفا عمرو دارا للنّشر، افتتح لها مقرّا في شارع صلاح الدّين في القدس، وسمّاها باسم الشّارع، وقد نشرت الدّار عدّة كتب لكتّاب محلّيّين على قلّة عددهم وقتذاك، كما أعادت نشر العشرات من الكتب الثّقافيّة التي صدرت في العالم العربيّ؛ لتكون في متناول أيدي القرّاء في فلسطين. غير أنّ الدّار تراجعت بعد اضطرار مؤسّسها إلى مغادرة البلاد للإقامة في لندن لأسباب خاصّة. وأغلقت أبوابها لاحقا.
كتابي الأوّل
في صيف العام 1977م كنت في سهرة عرس لأحد الأقارب في قريتي، وكان الحادي يقول ويردّد البعض خلفه منتقدا طريقة الحبّ عند البدو:
ملعون أبوكم عرب واوي طرد واوي
ملعون أبوكم عرب ما فيكم الغاوي
وإذا بالفتى “ناصر داود مطر” يقترب منّي غاضبا ومستنجدا بي لوقف السّامر؛ لأنّ الحادي يشتم العرب! فأوضحت له أنّ المقصود بالعرب هنا هم الأعراب، أي البدو، وأنّ الحادي هنا ينتقد حالة العشق عندهم، ويشبّهها بطريقة العشق عند “الواويّات” وهي نوع من الثّعالب. لكنّ ذلك لفت انتباهي إلى ضرورة جمع تراثنا الشّعبيّ وتدوينه، خصوصا أنّه يتعرّض لعمليّة سطو مبرمجة ومدروسة، من أجل نسبه للآخر الذي لم يكتف بسرقة الوطن، بل تعدّاها إلى سرقة الثّقافة وطمسها، مستغلّا نكبة شعبنا وتشتيته في مختلف بقاع الأرض، فقمت بجمع عدد من حكاياتنا الشّعبيّة، وقد لفت انتباهي أنّ تراثنا الشّعبيّ تراث طبقيّ، وكلّ طبقة أنتجت ثقافتها، كما لفت انتباهي تلك الثّقافة الذّكوريّة التي أنتجت حكايات وأمثالا نسبت فيها كلّ الشّرور والخطايا للمرأة، ومن هنا فقد وضعت مجموعة من الحكايات التي أنتجتها الطبقات المغلوبة على أمرها، والتي تبيّن فساد الحكّام والسّلاطين، ووضعتها في باب خاصّ، في حين أنّ الباب الثّانيّ كان مجموعة من الحكايات التي تحوي مضامين ضدّ المرأة، وقمت بنشرها في كتاب “شيء من الصّراع الطّبقيّ في الحكاية الفلسطينيّة”، صدر عام 1978 عن منشورات “دار صلاح الدّين للنّشر والتّوزيع”.
تراثنا الشّعبيّ:
التّراث الشّعبيّ جزء مهمّ من مكوّنات الهويّة الوطنيّة لأيّ شعب، بل إنّه أحد مكوّنات هذه الهويّة، فمن لا ماضي له لا حاضر ولا مستقبل له أيضا.
والموروث الشّعبيّ بشقّيه القوليّ والماديّ إرث حضاريّ للشّعب، والتّنكر لهذا الإرث الحضاريّ، هو استجابة مقصودة أو دون قصد لطروحات الأعداء الذين يرون في الشّعب الفلسطينيّ مجرّد تجمّعات سكّانيّة، وهم بهذا ينفون عنه صفة كونه شعب.
يتعرّض التّراث الشّعبيّ الفلسطينيّ إلى السّرقة والتّشويه والضّياع، نتيجة للغزو الصّهيوني لفلسطين، وتشريد ملايين الفلسطينيّين عن أرض وطنهم. فمئات القرى الفلسطينيّة تمّ تدميرها بالكامل، ومحو كلّ أثر لها. وما تبقى جرى تحريفه وتشويهه، فعسقلان أصبحت أشكلون، وبيسان أصبحت بيت شان وبيت محسير أصبحت بيت مائير وهكذا.
وحتّى على مستوى المأكولات الشّعبيّة فإنّ الحمّص والفلافل يقدّم على اعتبار أنّه أكلة شعبيّة عبريّة. أمّا على مستوى الأدب الشّعبيّ فقد تمّ تقديم أغنية ” الدّلعونا ” بنفس لحنها الشّعبي الفلسطينيّ بعد ترجمة كلماتها إلى العبريّة على أساس أنّها أغنية شعبيّة عبريّة.
وكذلك الثّوب النّسائيّ الفلاحيّ الفلسطينيّ المطرّز تمّت سرقته على اعتبار أنه موروث شعبيّ عبريّ.
والآثار الفلسطينيّة تمّت سرقتها وعرضها في المتاحف الإسرائيليّة على اعتبار أنّها آثار العبريّين القدامى. والحكايات الشّعبيّة الفلسطينيّة والعربيّة تمّت ترجمتها واستبدال الأسماء العربيّة فيها بأسماء عبريّة ونسبتها إلى العبريّين.
ونتيجة لتشتّت الفلسطينيّين فإنّ الأغنية الشّعبيّة الفلسطينيّة قد ضاعت في أرض اللجوء، أو تمّ دمجها في الأغاني المحليّة خصوصا في الدّول العربيّة الشّقيقة، وتمّ نسبها إلى هذا القطر أو ذاك. ويجدر التّنويه هنا أن لا خلاف على الثّقافة العربيّة المشتركة، لكنّ ضياع الموروث الشّعبيّ الفلسطينيّ تحديدا يجب عدم المرور عليه مرّ الكرام؛ نظرا لظروف الشّعب الفلسطينيّ الخاصّة، والتي تهدّد وجوده كشعب ساهم في بناء الحضارة العربيّة والإسلاميّة والإنسانيّة.
من هنا ومن منطلقات الحرص على ثقافتنا الشّعبيّة، فقد قمت وبالشّراكة مع ابن قريتي الدّكتور محمّد شحادة بجمع الأغنيّة الشّعبيّة للمناسبات المختلفة في قريتنا “السّواحرة”، وصنّفناها –حسب مناسباتها-، وصدرت عام 1982م في كتاب تحت عنوان “صور من الأدب الشّعبيّ الفلسطينيّ”عن منشورات الرّوّاد في القدس، وهي تتبع لجمعيّة الملتقى الفكريّ العربيّ في القدس.
وواصلت بحثي في التّراث الشّعبيّ، ولفت انتباهي أنّ لكلّ جماعة متجانسة جوانب ثقافيّة خاصّة بها، ومنها المثل الشّعبيّ، حيث عُرف أنّه لكلّ منطقة بعض الأمثال الخاصّة التي لا يفهمها إلاّ أهل تلك المنطقة، وقد عرف العرب أنّ لأهل مكّة أمثالهم، ولأهل المدينة أمثالهم وهكذا. وهذا لا يعني إهمال بقيّة الأمثال العامّة التي يفهمها جميع أبناء الجنس الواحد كالأمثال العربيّة مثلا، بل إنّ هناك أمثالا عالميّة يتداولها جميع البشر، لأنّ الشّعوب إذا عاشت ظروفا متشابهة تنتج ثقافة متشابهة. من هنا جاء كتابي:
” مضامين اجتماعيّة في الحكاية الفلسطينيّة”، وصدر عام 1983 عن دار الكاتب للنّشر والتّوزيع في القدس.
البيئة والتّربية العشائريّة
نشأتُ في بيئة عشائريّة، “عرب السّواحرة”، وهم عشائر بدويّة بدأت تستقرّ في العقد الثّالث من القرن العشرين، وأصبحت بلدتهم إحدى ضواحي القدس الشّريف، وأنا وُلدت وتربّيت في هذه البيئة العشائريّة، حيث كانت الأعراف العشائريّة هي الأعراف السّائدة، ولا تزال حتّى يومنا هذا، لكن لم تعد لها السّطوة نفسها التي كانت سائدة حتّى ثمانينات القرن العشرين، وذلك بسبب انتشار التّعليم بين الأجيال الشّابّة، وقد تعلّمتُ هذه الأعراف دون قصد منّي، بل بحكم الواقع المعاش، وذلك من خلال بيتنا وبيوت الأقارب التي كانت ملتقى لحلّ الخلافات والنّزاعات والخصومات المختلفة، فالتّربية العشائريّة تقضي بأن تُحلّ الخلافات حسب الأعراف والتّقاليد، ومن المعيب اللجوء للشّرطة أو المحاكم لحلّ الخلافات، وترسّخت هذه المفاهيم بعد الاحتلال الإسرائيليّ، الذي لا يعترف به المواطنون، وبالتّالي فهم يحلّون مشاكلهم –حسب الأعراف والتّقاليد- بعيدا عن تدخّل السّلطات المحتلّة. ومع قناعاتي بعدم جدوى العشائريّة، بل أعتبرها سببا من أسباب “التّخلف الاجتماعيّ” الذي يقودنا إلى حلقات متداخلة من الهزائم على مختلف الأصعدة، وأتمنّى ذلك اليوم الذي ستقوم فيها دولتنا المستقلّة، بعد كنس الاحتلال ومخلّفاته كافّة؛ لتكون السّيادة للقانون. إلا أنّني وجدت نفسي في معمعة الأعراف العشائريّة رغما عنّي، وذلك بعد أن غيّب الموت الآباء والأجداد الذين كانوا يقومون بهذه المهمّة. فكثيرا ما يلجأ آخرون إليّ لحلّ مشاكلهم وخلافاتهم، ويطرقون باب بيتي دون موعد مسبق. وهذا يأخذ وقتا وجهدا وسهرا منّي، وعلى حساب مشروعي الثّقافيّ المتمثّل بالمطالعة والكتابة وحضور الندوات واللقاءات الثّقافيّة.
عند اندلاع الانتفاضة الفلسطينيّة الأولى في ديسمبر 1987م، كثرت الخلافات والخصومات، وكان لا بدّ من حلّها من خلال لجان الإصلاح التي تشكّلت في مختلف المناطق، ودخل في هذه اللجان شباب لا دراية ولا خبرة لهم في هذا المجال، وهذا دفعني لكتابة “القضاء العشائريّ”، الذي صدر عام 1988م عن دار الأسوار في عكّا.
أدب الأطفال
في الانتفاضة الشّعبيّة الفلسطينيّة الأولى، كنت أعمل في التّدريس صباحا وفي الصّحافة بعد الظّهر، وأيّام اغلاق المدارس بأوامر عسكريّة، وقد شاهدت بأمّ عيني عددا من جثامين الأطفال الذين اصطادهم جنود الإحتلال، فصعدوا إلى السّماء شهداء، تحفّهم أحزان أمّهاتهم وآبائهم ومن عرفوهم، وذات يوم من عام 1988م كنت مارّا في أحد شوارع مدينة البيرة، وإذا بسيّدة تخرج إلى الشّارع صارخة وهي تحمل طفلا لا يتجاوز عمره ثلاث سنوات على صدرها، والدّماء تصبغ ثوبها، توقّفت وركضت باتّجاه المرأة واحتضنت الطّفل خوفا من أن يسقط من بين يدي والدته التي ظننتها جريحة، وتفاجأت أنّ الطفل هو المصاب برأسه، وسقط جزء من دماغه على صدري، ممّا أثار أحزاني وأبكاني. وأذكر أنّ “ماهر” هو اسم ذلك الطفل، وأنّه أصيب برصاصة حجمها كبير أطلقت من دبّابّة تتمركز على جبل الطويل، واخترقت جدار شرفة البيت وأصابت رأس ذلك الطفل الذي كان يلعب على سيّارة دمية لم تتمّ فرحته بها.
مشاهداتي للأطفال الشّهداء والجرحى أدمت قلبي، وأرهقت عقلي، فمن غير المعقول أن يُقتل أطفالنا أمام العالم أجمع، دون أن يجدوا من يحميهم. مشاهدتي للطّفل الشّهيد “ماهر” وغيره من الأطفال أورثتني حزنا دائما لا ينمحي، فانخرس قلمي وما عدت قادرا على الكتابة عن الأطفال الشّهداء لمدّة زادت عن الشّهر، لكنّ الفاجعة لم تغب عن مخيّلتي ولو للحظة واحدة. بعدها جلست في مكتبتي، أغلقت الباب خلفي وكأنّي أهرب من نفسي لنفسي، لم تعد عندي شهيّة للطّعام، شرعت أكتب بدموعي قبل قلمي، وأنا أتخيّل الشّهداء بمثابة ابني قيس الذي كان في الرّابعة من عمره، وابنتي أمينة التي كانت في الأشهر الأولى من عمرها، كتبت خلال أسبوع عددا من القصص للأطفال وعنهم، مستفيدا من مشاهداتي أثناء عملي الصّحفيّ. وتحصّل لديّ مجموعة قصصيّة أسميتها “المخاض” لقناعتي في حينه أنّ دماء أطفالنا وشهدائنا ستتمخّض عن ولادة دولة فلسطينيّة مستقلّة بعاصمتها القدس، بعد كنس الاحتلال ومخلّفاته كافّة، وقد صدرت عام 1989م عن منشورات اتّحاد الكتّاب الفلسطينيّين في الأراضي الفلسطينيّة المحتلّة، الذي كنت عضوا في هيئته الإداريّة.
وواصلت كتاباتي القصصيّة للأطفال فصدر لي:
– الغول، قصّة للأطفال، منشورات ثقافة الطفل الفلسطيني-رام الله 2007م.
– كلب البراري، مجموعة قصصيّة للأطفال، منشورات غدير،القدس2009م.
بلغ حبّي للأطفال مداه عندما أصبحت جدّا، وانطبق عليّ المثل القائل “ما أغلى من الولد إلا ولد الولد”، أو كما يقول المثل الإغريقيّ” ابنك ولدته مرّة، وابن ابنك ولدته مرّتين”، وعندما وصل سبطي “كنان ابن ابنتي أمينة” سنّ –الخامسة، كتبت له قصّة ” الأحفاد الطّيّبون”، التي صدرت عن منشورات الزّيزفونة لثقافة الطفل، بيتونيا-فلسطين 2016. وفي العام 2019 كتبت قصّة أخرى لكنان وشقيقته بنان تحت عنوان ” كنان وبنان يحبّان القطط”-صدرت عن دار الياحور للطباعة والنشر-القدس 2019.
وعندما بلغ سبطي “باسل ابن ابنتي لمى” عامه الأوّل كتبت له قصّة “باسل يتعلّم الكتابة”، صدرت عن منشورات الزّيزفونة لتنمية ثقافة الطفل، بيتونيا، فلسطين، 2017.
أمّا أحفادي أبناء ابني قيس، فلم أنعم بقربهما كما نعمت بقربي من أبناء ابنتيّ أمينة ولمى، فابنتا قيس ولدتا في أمريكا وتعيشان فيها، وقد التقيت الكبرى لينا المولودة في 21-5 – 2015م أربع مرّات أولاهما بعد ولادتها بساعات قليلة، أمّا شقيقتها ميرا المولودة في 1-12-2017م، فقد التقيتها مرّتين أولاهما في صيف العام 2018م والثانية في حزيران 2019م عندما جاؤونا زائرين، وقضوا معنا أسبوعين. وقد كتبت رواية لليافعين لحفيدتي لينا أسميتها “لنّوش”، صدرت عام 2016 عن دار الجندي للنّشر والتّوزيع في القدس، وغلافها الأوّل يحمل صورة شخصيّة للغالية لينا وهي في سنّ تسعة أشهر.
أمّا أميرة قلبي حفيدتي ميرا التي سحرتني بحبّها عندما رأيتها، فقد كتبت لها قصّة
“ميرا تحبّ الطيور”، صدرت عن دار الياحور للطباعة والنشر-القدس 2019م. وغلافها الأوّل يحمل صورة شخصيّة للينا وهي ابنة عام.
كما كتبت ثلاث روايات أخرى موجّهة لليافعين محورها يدور حول الأرض، وضرورة زراعتها والاعتناء بها، خصوصا وأنّها تسلب منّا يوما بعد يوم. وهذه الرّوايات هي:
– عشّ الدّبابير-رواية للفتيات والفتيان-منشورات دار الهدى-كفر قرع، تمّوز-يوليو- 2007م.
– الحصاد-رواية لليافعين، منشورات الزّيزفونة لثقافة الطفل، 2014م، ببيتونيا-فلسطين.
– البلاد العجيبة- رواية لليافعين- مكتبة كل شيء- حيفا 2014م.
الأدب السّاخر:
بعد توقيع اتّفاقيّات أوسلو في 13 سبتمبر 1993م بين منظّمة التّحرير الفلسطينيّة وإسرائيل، استبشرنا خيرا بأنّ السّلام المنشود سيتحقّق، قدت سيّارتي إلى مدينة أريحا، ورأيت بصحبة ابني قيس الذي كان في التّاسعة من عمره قوّات الأمن الوطنيّ الفلسطينيّ تجوب شوارع المدينة بلباسها العسكريّ وبأسلحتها الخفيفة، ففرحنا بها، وقد شملت مرحلة “غزّة أريحا أوّلا” انضمام بلدة العوجا في الأغوار إلى أريحا، فقرّرت زيارة تلك البلدة التي تبعد بضعة كيلومترات، وعند المدخل الشّماليّ لمدينة أريحا أوقفتني دوريّة مؤلّلة للجيش الإسرائيليّ، وطلبت منّي بطاقة الهويّة، فصرخت بهم رافضا طلبهم، وسألتهم عن وجودهم في ذلك المكان، وبأنّني أنا سأطلب منهم هويّاتهم؛ لأنّ المنطقة تابعة للسّلطة الوطنيّة! فضحك ضابط الدّوريّة وهو يشرح لي بأنّ الانسحاب كان من أريحا والعوجا، ولا يشمل ذلك الطريق الواصل بينهما! ولم أقتنع منه، فاتّصل بالدّوريّة المشتركة التي يشارك بها فلسطينيّون وإسرائيليّون، ولمّا حضرت الدّوريّة أوضح ضابط فلسطينيّ صحّة ما قاله الضّابط الإسرائيليّ، وكان ذلك صدمة لي، حيث تلفّظت بكلمات نابيّة، وقرّرت العودة إلى أريحا، وفي مخيّم عقبة جبر عند المدخل الجنوبيّ لمدينة أريحا، تذكّرت حكاية كانت مقرّرة في كتاب القراءة للصّفّ الرّابع الإبتدائيّ أيّام دراستي في أواخر خمسينات القرن العشرين، وجاء فيها “وقف حمار الشّيخ في العقبة”، وعدت إلى بيتي وكتبت مقالة ساخرة بعنوان”حمار الشّيخ” مستغلا لقب الشّيخ اللاصق باسمي دوما، سخرت فيه من الموقف الذي حصل معي، ومن اتّفاقات أوسلو، وواصلت كتابة المقالات تحت ذلك العنوان الذي اتّخذته “كلاشيه” لعشرات المقالات السّاخرة حول مشاهداتي في المدن والبلدات الفلسطينيّة، وجمعتها في كتابين هما:
– حمار الشيخ.منشورات اتّحاد الشّباب الفلسطيني -رام الله2000م.
– أنا وحماري .منشورات دار التّنوير للنّشر والتّرجمة والتّوزيع – القدس2003م.
في هذين الكتابين اللذين تلقّاهما القرّاء بقبول حسن، وأحدثا ضجّة واسعة، كان الحمار في كلّ مقالة حواريّة بيني وبينه يأخذ دور الحكيم الذي لا يخطئ، بينما أنا آخذ دور المسؤولين والمتنفذّين، فيصحّحني الحمار، وكأنّه يقول لي:” أنتم ترتكبون أخطاء لا يخطئ فيها حمار!” وسأكتفي هنا بمقالة واحدة للمفكّر الفلسطيني د. خضر محجز عن الكتاب جاء فيها:
“سؤال الثقافة والأيديولوجيا
في حوارية جميل السلحوت: “حمار الشيخ”
المطالع لكتاب جميل السلحوت (حمار الشيخ) يكتشف، منذ الوهلة الأولى، أنه أمام نوع من كتابة مختلفة: حيث تبرز قدرة الأسلوب الأدبي، على الخوض في مسائل سياسيّة وثقافيّة واجتماعيّة شائكة، لا يجرؤ على خوض غمارها، إلا من امتلك ناصيتي النّقد السّياسيّ والنّقد الإبداعيّ.
لقد قيل كلام كثير حول انفصال السّياسة عن الإبداع، لكن كلّ هذا الكلام يتعرّض للشّطب على يد جميل السلحوت، بجرّة قلم، عندما يقول:
“أما أنا وحماري، فلم تكن لدينا مشكلة على الإطلاق؛ فأينما وجدنا طريقا سالكا سرنا فيه، بغض النّظر: على الرّصيف، أو على جانب الشّارع، أو في منتصفه. ولا أخفيكم سرا أنّني كنت أشعر، وكأنّني عنترة زماني، عندما نوقف السّير، أو تهرب مجموعة من السّيّاح مبتعدة عنّا، لالتقاط الصّور التّذكارية لنا”.
إذا كانت هذه الحواريّة نصّا غير مكتمل، وواقعة ثقافيّة، فإنّ علينا أن نحللها باعتبارها مادّة خامّا، يجري استخدامها، مع موادّ أخرى ذات علاقة بالنّصّ، ومن خارجه. فالقصّة في النّصّ ما زالت بعيدة عن الاكتمال: بمعنى أنّ هناك فجوات في الحكي وتكتّما في النّصّ، واستعمالا متضاربا، إلى حدّ كبير، لسرد كلّ من المؤلف الضّمني والرّاوي والمؤلّف المدنيّ.
فالمؤلّف المدنيّ، جميل السلحوت، شخص موجود، ويسكن في القدس، وله رقم هوية وعنوان محدّد. لكنّنا ـ كمتلقّين ـ لا نعرف آراءه السّياسيّة، ولا موقعه الأيديولوجيّ، رغم أنّه جزء جوهريّ من النّصّ. كيف سنعرف ذلك؟. ليس أمامنا إلا أن نستكشفه من النّصّ، عن طريق إعادة تكوين لحمة المؤلّف، من خلال نصّه.
لكنّ النّصّ لا يبرز لنا جميل السلحوت بشحمه ولحمه، بل يبرز بدلا من ذلك مؤلّفا معدّا بعناية، على يدي جميل السلحوت الشّخص المدنيّ. وهذا المؤلّف المقدّم لنا بين السّطور، سوف يكون هو المؤلّف الضّمنيّ، الذي يتموقع وراء منظومة القيم ومواقف الأيديولوجيا.
إذن فالمؤلف الضّمنيّ هو الذي سنحاوره ـ كمتلقين ـ ونكتشف آراءه. يقول وين بوث:” إنّ المؤلّف عندما يكتب لا يخلق مثالا إنسانيّا عامّا فقط؛ ولكنّه يخلق نسخة مضمونيّة من نفسه، تكون مختلفة عن المؤلّفين الآخرين، والذين نقابلهم في أعمال مؤلّفين آخرين… فمهما حاول أن يكون لاذاتيا، فإنّ قارئه لا بدّ أن يشكّل صورة عن المؤلّف الرّسميّ، أو المؤلّف الثّاني، أو الضّمني، الذي يكتب بمثل هذه الطريقة”.
أضف إلى كلّ ذلك، شخصيّة الرّاوي، الذي ليس هو المؤلّف الضّمنيّ، ولا المؤلّف المدنيّ؛ بل هو شخصيّة وهميّة، مهمّتها التّنقل بين مفاصل النّصّ؛ لتمارس الحكي نيابة عن واحد منهما، في أغلب الأحيان، أو عن كليهما في أحوال نادرة.
إنّ ابتداع شخصيّة الرّاوي أمر جوهريّ لعمليّة السّرد. فلا يعقل أن يكون هناك سرد دون سارد. ثم لا يعقل أن نتصوّر أن جميل السلحوت هو الرّاوي ـ أو السّارد ـ (فالمصطلحان يشيران إلى ذات المعنى). لذلك يلجأ السّرد ـ ولا أقول المؤلّف: فالقصّة هي التي تبتدع راويها ـ لابتداع هذه الشّخصيّة، التي يمكن اعتبارها مجرّد تقنيّة، أو أسلوب لا يمكن الاستغناء عنه. وفي النّقد الثّقافيّ سوف يكون أمامنا مجال واسع، لمقارنة حقيقيّة، بين هذه الشّخصيّات الثّلاث: المؤلّف المدنيّ، والمؤلّف الضّمنيّ، والرّاوي، إضافة إلى كشف الانزياحات الأيديولوجيّة بين ثلاثتها.
سوف يبرز لنا المؤلّف الضّمنيّ، في حمار الشّيخ، منتقدا صلبا لكثير من الظّواهر المجتمعيّة، في الأرض المحتلّة، التي صارت أرض السّلطة الفلسطينيّة. وعندما نتأمّل المقطع المقتبس السّابق قليلا، فسوف نتساءل: أين حدود السّياسة هنا من الإبداع، وأين هو الفارق بينهما؟
لقد امتزجا في خطاب ثقافيّ، ينتقد كلّا من السّلطة السّياسيّة وثقافة المجتمع. ولنا أن نتساءل هنا: أيّ نوع من المجتمعات هذا الذي يستطيع فيه راكب حمار أن يوقف حركة المرور!. إنّ أوّل مظاهر التّحضّر وجود القوانين. وإنّ أوّل مظهر من مظاهر وجود القانون في بلد هو حركة المرور. وإنّ من أوّل ما درسناه، في مساقات القانون، هو أنّه لا يوجد قانون حيث لا تتوفّر له سلطة القهر. إنّ توفّر القدرة على القهر، لدى أيّ تشريع، هو الذي يعطيه صفة القانون. دع عنك سخافات أناس يجلسون في السّلطة، ثم يدعون النّاس لاحترام القانون، فهذه مهمّة المخاتير وشيوخ العشائر. ولا أظنّ أحدا منّا انتخب رئيس السّلطة؛ ليحل محلّ كبير المخاتير!.
إنّ جميل السلحوت يبرز تخوّف السّيّاح، من حمار الشّيخ، بالسّخرية السّوداء من هذه العجائبيّة، التي تحكم مجتمعا يفترض أنّه الآن على أبواب الاستقلال، بعد حرب طويلة خاضها طوال مرحلة من الثّورة والانتفاضة، سعيا وراء هذا الاستقلال. أفلا يكون السّؤال الثّقافيّ المضمر في هذا الخطاب هو: هل نحن مؤهلّون فعلا لإنشاء مجتمع مستقلّ؟ وإذا ما أنشأناه، فهل سيكون على هذه الشّاكلة؟ وهل يستحقّ مجتمع ما الاستقلال السّياسيّ، لمجرد رغبته في العودة إلى الوراء؟
إنّ جميل السلحوت يدرك أنّ النّص منظومة علاماتيّة ألسنيّة، وليس مجرّد كلمات منفصلة عن الواقع، لمجرّد أنّها مطبوعة على الورق. وبذا فهو يخرج للنّصوصيّة اليمينيّة المتطرّفة لسانه: ساخرا من كل شعوذات منظّريها السّخفاء القائلين باستقلال النّصّ عن خارجه. فقد أدرك جميل السلحوت مبكرا أن تلك النّصوصيّة هي، في نهاية المطاف، خدمة ثقافيّة مجّانيّة للاستعمار الثّقافيّ، الذي يريد من المثقّفين أن ينشغلوا بعلاقات متوهّمة، بين حروف النّصّ المطبوع، وطرق تنسيقها على الورق، وجماليّات الفواصل والعتبات، بعد أن قتلوا التّاريخ والمؤلّف والعلاقات الإنسانيّة.
لقد تحوّل النص بين أيدي غلاة اليمين المتطرّف في أمريكا ـ وعلى أيدي مدفوعي الثّمن هنا ـ إلى (الله): الذي هو علّة العلل، والمستغني بذاته عن سواه. لقد حدث كل ذلك، بهدف تحويل الدّرس الأدبيّ إلى غرفة مظلمة، مقفلة الأبواب، لا يرى طلّابها ما يحلّ بذويهم في الخارج، على يد علاقات القوّة، تاركين كلّ ذلك دبر آذانهم!. ولا جرم؛ فهم مشغولون الآن بقراءة (الأرض الخراب)، أو سماع باخ وبيتهوفن!.
والكاتب مدرك لطبيعة هذه العلاقة المرضيّة، التي أتاحت لكتّاب أن يظهروا للمتلقّين في صورة المدافعين عن الحقيقة، ثم نراهم في موطن آخر (واقعيّين)، مدركين بأنّ الحقيقة في هذه الأيّام صارت (نسبيّة)، وتحتمل وجوها عدّة. لقد صار بإمكان بعض هؤلاء الكتّاب، الظّهور بمظهر (النّيتشويّين) المتحرّرين، من أيّ تصوّر مسبق لوجود الحقيقة الجوهر. وبذا فقد أصبح باستطاعة العدوّ ـ وفق هذا المنطق ـ إعادة تشكيل الحقيقة، وفق رؤيته، متذرعا بقوّة القوّة، القادرة على فرض (حقائق جديدة)، بغضّ النّظر عن موافقتها لمنطق العدالة أم لا!.. وكأنّ الحقيقة، المستمدّة قوّتها من ذاتها، لم تعد موجودة!
الكاتب ليس مدركا كلّ هذا فحسب، بل إنّ حماره ـ حتّى ـ يدرك ذلك ويتصرّف وفقه، في منطق حماريّ مترفع عن شعوذات (المثقّفين)، فيقول:
“حتى أحد كتّابكم الكبار يقدّم التّنازلات السّياسيّة المجّانيّة، ليس لوجه الله، وإنّما من أجل وجه مقرّري منح جوائز نوبل للآداب”( ).
وعندما يعترض الرّاوي، ويزجر هذا الحمار الحكيم، يأبى الحمار أن ينزجر، مواصلا التّحدي بإظهار الحقيقة، قائلا:
“ولكنّه تبرّع بمساواة المستوطنين مع الفلسطينيّين، الذين بقوا في ديارهم، في حدود إسرائيل.”……………………………………………………………….
سنعود الآن إلى اعتراض الرّاوي على منطق حماره (الحمار)، في كشفه لهذا القبح؛ لنكتشف أنّ هذا الخوف هو خوف أيديولوجيّ، ناتج عن شعور الكاتب بالقوّة المضمرة لـ(بلدوزرات الثّقافة) الذين يسمّيهم إدوارد سعيد، طبقة الإنتلجنسيا. يقول:
“لكن طبقة رجال الفكر (الإنتلجنسيا) هي ذاتها عنصر مساعد… وقد رُسم دور لهذه الطّبقة، وصُنع لها ؛ بوصفها طبقة مُحدثِنة [من اسم الفاعل]: أي أنّها تمنح الشّرعيّة، والسّلطة المرجعيّة، لأفكار حول التّحديث والتّقدّم والثّقافة، تتلقّاها من الولايات المتّحدة، بصورة رئيسيّة. ويقوم الدّليل على هذا في العلوم الاجتماعيّة، وبما يفاجئ إلى درجة كبيرة [يقوم الدّليل كذلك] من الجذريّين [ اليساريّين الرّاديكاليّين] الذين أخذوا ماركسيّتهم، بالجملة، من نظرة ماركس التّسلطيّة إلى العالم الثّالث.”
ومعلوم لنا جميعا، أنّ تلك الطّبقة قد استطاعت ـ بسبب عوامل تاريخيّة متعدّدة، أكثرها ينقصه الشّرف ـ أن تتعاقد، مع المؤسّسة السّياسيّة، على صياغة مؤسّسة الأدب، بما يخدم هذا التّحالف، في وجه كلّ أنواع الثّقافة المهمّشة والشّعبيّة، السّائدة في أوساط البسطاء، الذين لا يعرفون لهم وطنا سوى فلسطين، التي عرفوها، وآمنوا بأنّها تستحقّ منهم أكثر من هذا.
لكن هذا الخوف الأيديولوجيّ، الموظّف إبداعيا على يد جميل السلحوت، لا يستطيع أن يرفد الرّاوي بقوّة المنطق، إذ سرعان ما يجد الرّاوي نفسه صغيرا، أمام منطق هذا الحمار الحكيم، المتعالي بحمرنته، عن إنسانيّة أشخاص ينسبون أنفسهم إلى طبقة الإنتلجنسيا، ثم لا يشعرون بالعار من ” أن تُقرن قضيّة الأسرى بقضيّة العملاء المتعاونين.” لا في الأدب وحده، بل في الاتّفاقات السّياسيّة كذلك.
يواصل الرّاوي هذه السّخرية السّوداء، من علاقات ثقافيّة، في المجتمع الفلسطينيّ، بدأت تبرز أخيرا، من مثل هذا النّوع من (ثقافة البلاغة)، التي تتوسّل بطنين الكلمات الكبيرة؛ لتخفي وراءها فراغا موحشا، وجهلا مختبئا وراء قعقعات الحروف. وهذا النّوع من الخطاب السّياسيّ الدّيماغوجيّ، الذي يستخدمه أناس مدفوعو الأجر، في أغلب الأحيان، وجهلة مغرّر بهم في قليل من الأحيان، هو الذي يبرّر للدّكتاتورية السّياسيّة، عقد اتّفاقيات تحتاج منها إلى كلّ هذا العدد من المروّجين الدّيماغوجيّين. فتعال لنرى كيف يحلو للرّاوي أن يتزيّا بزيّ واحد من هؤلاء الدّيماغوجيين، فيقول:
“كنت مزهوّا بنفسي كالطاووس، وأنا أشرح للحضور المكاسب التي حقّقناها منذ بدء العمليّة السّلميّة… وقد زادني حماسا جمهور المستمعين، الذي كان في غالبيّته من كبار السّنّ، الذين لا يسمعون جيّدا. بينما كان الباقون تنقصهم الثّقافة السّياسيّة، ويطربون للشّعارات الرّنّانة، التي اعتدت على استعمالها… أخذت أهاجم كلّ فلسطينيّ وعربيّ ينتقد العمليّة السّلميّة… فهم مناضلو شعارات، جلبوا الويلات على شعبنا، ولم يستوعبوا العمليّة السّلميّة”.
لقد كان من الممكن لنا أن نتصوّر، للحظة، أنّ موقف الرّاوي هنا هو نفس موقف المؤلّف الضّمنيّ، لولا أنّنا رأينا المؤلّف الضّمنيّ يبرز لنا فجأة، من خلال تبنّيه لمنظومة القيم، التي يؤمن بها الحمار؛ في تبادليّة ذات مدلول أيديولوجيّ، تفضّل منطق الحمار المتمسّك بالثّوابت، على منطق الإنسان المضحّي بالثّوابت، على مذبح احتياجاته الصّغيرة. وهكذا كان لا بدّ للرّاوي ـ استجابة لموقف المؤلّف الضّمنيّ ـ أن يبيّن الموقع الأيديولوجيّ للحمار، الذي هو نفس موقع المؤلّف الضّمنيّ، فيقول، استكمالا للموقف السّرديّ السّابق، ما يلي:
“وعندما انصرفت، وجدت حماري أبا صابر متكدّرا غاضبا من حديثي واتّهمني بالتّهريج وعدم الوضوح في الموقف السّياسيّ”.
وأخيرا:
نحن، كمتلقّين، قد شكّلنا للمؤلّف الضّمنيّ في (حمار الشّيخ) صورته التي انطبعت في أذهاننا، واستنتجناها من نصّه. لكن ما يبقى هو سؤال من نوع جديد: هل جميل السلحوت هو نفس هذه الصّورة، التي رسمناها له بتأثير نصّه؟ أرجو أن يكون الجواب نعم. وأعتقد أنّه كذلك.”
“موقع دنيا الوطن-19-12-2005”
******

ندوة اليوم السّابع
في شهر آذار 1991م وبمبادرة ودعوة من جميل السلحوت التقى كلّ من: جميل السلحوت، ديمة جمعة السمان، ابراهيم جوهر، ربحي الشويكي ونبيل الجولاني، ودعوا عشرات الكتّاب والمثقّفين الفلسطينيّين لعقد ندوة ثقافيّة دوريّة أسبوعيّة أسموها “ندوة الخميس” في مركز القدس للموسيقى في القدس الشّريف، يتحاورون ويتبادلون في الشّأن الثّقافيّ المحليّ والعربيّ والعالميّ، ثمّ انتقلت من يوم الخميس إلى يوم السّبت كي لا تتعارض مع ندوة يعقدها اتحاد الكتّاب في الوقت نفسه، فحملت النّدوة المقدسيّة اسم “ندوة اليوم السّابع”، وعندما توقّفت ندوة اتحاد الكتّاب عادت النّدوة إلى مساء الخميس، واحتفظت باسمها ولا تزال “ندوة اليوم السابع”، وبعد حوالي عامين انتقلت إلى المسرح الوطنيّ الفلسطينيّ، ولا تزال النّدوة مستمرّة حتّى يومنا هذا.
أهداف الندوة:
– الحفاظ على الهويّة الوطنيّة والثّقافيّة في القدس.
– عقد ندوات ولقاءات لفضح ممارسات الاحتلال وسياساته التّهويديّة للمدينة.
– جمع وتدوين التّراث الشّعبيّ الفلسطينيّ في القدس.
– عمل دراسات وأبحاث عن الأبنية التّاريخيّة والمساجد والكنائس والأديرة والزّوايا والتّكايا والمقابر التّاريخيّة في القدس.
– عمل دراسات وأبحاث عن العائلات المقدسيّة العريقة، وحياة”التّمدّن” في المدينة كنموذج للحياة المدينيّة في فلسطين.
– عمل دراسات وأبحاث عن الشّخصيّات المقدسيّة والفلسطينيّة والعربيّة والاسلاميّة التي كان لها دور في القدس.
– طباعة النّتاجات الأدبيّة والثّقافيّة والأبحاث لمبدعي القدس.
– تواصل المثقّفين والكتّاب الفلسطينيّين مع بقيّة زملائهم في الدّاخل الفلسطينيّ وبقيّة أجزاء الضّفّة الغربيّة.
وكبداية-ضمن الامكانيّات المتاحة-استقرّ رأيهم أن يناقشوا كتابا يختارونه، وأن يحدّدوا موعدا لمناقشته، وتعطى الأولويّة في الحديث لمن كتب عن الكتاب، ثم يجري نقاش عام يشارك فيه من يريد من الحضور، واشتراط الكتابة هنا من أجل تشجيع الحركة النّقدية ومحاولة تفعيلها، ومن أجل النّشر والتّوثيق في الصّحافة المحليّة والعربيّة والألكترونيّة.
ومن أهداف النّدوة أيضا هو الأخذ بأيدي المواهب الإبداعيّة الشّبابيّة، حيث يستمع الحضور لإبداعاتهم ويقيّمونها ويوجّهون أصحابها نحو الرّقيّ الابداعيّ .
ومن اللافت للانتباه أنّ النّدوة قد استمرّت دون انقطاع، وتكاد تكون النّدوة الثّقافيّة الوحيدة المستمرّة على السّاحة الفلسطينيّة، بل على السّاحة العربيّة، وهي النّشاط الثّقافي الأبرز في القدس، حيث إنّها مستمرّة منذ بداية آذار – مارس- العام 1991 بشكل أسبوعيّ دوريّ دون انقطاع، ويحرص الكتّاب والمثقّفون المقدسيّون الفلسطينيّون على حضورها بدافع ذاتيّ، لإيمانهم بأنّ كلّ فرد فيها سيستفيد بتنمية قدراته الثّقافيّة والإبداعيّة، حتّى أنّ البعض يترك عمله من أجل حضور النّدوة.
ويكفي النّدوة فخرا أنّها تقوم بالتّعريف على الكثير من النّتاجات الثّقافيّة المحليّة والعربيّة فور صدورها، وكثير من المخرجين المسرحيّين يعرضون (بروفاتهم) الأخيرة أمام روّاد النّدوة، ويستمعون إلى ملاحظاتهم وانتقاداتهم قبل أن يعرضوها أمام الجمهور، وقد صدر عن النّدوة كتاب تسجيليّ توثيقي بذلك تحت اسم “أبو الفنون”.
وكثير من الكتّاب والأدباء المقدسيّين يعرضون إبداعاتهم على عدد من روّاد النّدوة؛ ليعطوا ملاحظاتهم عليها قبل نشرها، ويعدّلون ويصحّحون ابداعاتهم بناء على ذلك،
دار الجندي للنّشر والتّوزيع في القدس:
في العام 2010م أسّس الكاتب سمير الجندي، وهو أحد روّاد الندوة دارا للنّشر أسماها “دار الجندي للنّشر والتّوزيع في القدس، وكانت روايتي “ظلام النّهار” باكورة إصداراتها. وصدر عنها لاحقا مئات الكتب.
والنّدوة تعنى بمواهب الشّباب الإبداعيّة، فتأخذ بأيديهم وتوجّههم، وتستمع لهم من أجل صقل مواهبهم وتنمية إبداعاتهم. ونظرا لاستمراريّة النّدوة ومواظبتها وجدّيّتها، فقد أصبحت قراءاتها وإصداراتها المنشورة في العديد من الصّحف والمواقع الإلكترونيّة المتخصصّة، مرجعا للطّلبة والدّارسين في الكثير من الجامعات المحليّة والعربيّة.
دواة على السّور:
انبثق عن النّدوة نشاط ثقافيّ شبابيّ شهريّ هو: دواة على السور، أسّسته عام 2011م الشّابّتان المبدعتان نسب أديب حسين ومروة السيوري، وتعقد نشاطاتها شهريّا في أماكن مختلفة في القدس وغيرها من الأراضي الفلسطينيّة، حيث يجري تجميع المواهب الشّابة في مختلف مجالات الابداع، والاستماع إليهم وتوجيههم، والأخذ بأيديهم.
تاريخ:
من ذكرياتي عن ندوة اليوم السّابع حرص الشّاعرة الكبيرة الرّاحلة فدوى طوقان على حضور النّدوة بشكل شبه مستمرّ، كانت تأتي غالبا بصحبة الشّاعر المرحوم عبد القادر العزّة، الذي كان يستضيفها في بيته في بير نبالا شمال القدس، وقد حدّثتنا عن لقائها بزعيم الأمّة الرّاحل جمال عبد النّاصر، وكيف قال لها بأنّه عرض عليه الانسحاب من سيناء مقابل إنهاء حالة الحرب مع إسرائيل، فأجاب:
أوجاع الشّعب الفلسطينيّ في الأراضي المحتلّة أكثر أهمّيّة عندي من رمال سيناء.
كما عزفت لنا ذات أمسية على العود بعد الحاح منّا عليها، عندما علمنا منها أنّها تجيد العزف على العود، لكنّها –كما قالت- لم تمسك العود بيديها بعد حرب حزيران 1967م، ووقوع ما تبقّى من فلسطين تحت الاحتلال.
وفي النّدوة تشجّعت بعض الأقلام على نشر نتاجها الأدبيّ، بعد أن شاركوا في النّدوة، واستمعوا إلى نصائح بعض روّادها، ومن هؤلاء المرحوم الشّاعر عبد القادر العزّة، نسب أديب حسين، الكاتب سمير الجندي صاحب دار الجندي للنّشر والتّوزيع في القدس، مروة السّيوري، الشّاعر بكر زواهرة، الرّوائي عيسى القواسمي، الرّوائي عبدالله دعيس، الشّاعر رفعت زيتون، الرّوائي مهنّد الصبّاح، الشّاعر نعيم عليّان، الشّاعر د. عزالدين أبو ميزر، رائدة أبو الصويّ، وغيرهم.
وخصّصت النّدوة العام 2005م جلساتها لأدب الأطفال، وركّزت في نقاشاتها على أدب الأطفال الإسكندنافي المترجم إلى اللغة العربيّة، والصّادر عن دار المنى في ستوكهولم، والذي وزّعته مؤسّسة دياكونيّا السويدية في الأراضي الفلسطينية والدّول العربيّة، وصدرت النّقاشات في كتاب تسجيليّ “في أدب الأطفال” وتمّت ترجمته إلى اللغة السويديّة.
وفي صيف العام 2011م زارت السّيّدة منى زريقات هيننج، وكاتب أدب الأطفال السّويديّ أولف ستارك النّدوة، واجتمعا مع عدد من أعضاء النّدوة، حيث شرحوا لهم عن الأوضاع في الأراضي الفلسطينيّة المحتلة، خصوصا جدار التّوسّع الاسرائيلي، وما يسبّبه من معاناة للشّعب الفلسطينيّ، وعن تاريخ ندوة اليوم السّابع، وقد أشاد السّيّد ستارك بالنّدوة ووصفها بأنّها النّدوة الأسبوعيّة الممؤسسة والمستمرة في العالم جميعه، وعندما عاد إلى بلاده كتب بناء على تلك الزّيارة قصّة الأطفال”الصّبيّ والصّبيّة والجدار” والتي صدرت في نفس العام باللغتين العربية والسويديّة مزيّنة برسومات أنّا هيجلند عن دار المنى في ستوكهولم.
وممّا يجدر ذكره هنا أنّه صدر عن النّدوة حتّى الآن ثلاثة وعشرون كتابا توثيقيّا لجلساتها.
رابطة الكّتاب الفلسطينيّين
كانت نتائج حرب حزيران 1967م العدوانيّة كارثيّة على فلسطين الوطن والشّعب، وتعدّت عواقبها الوخيمة حدود فلسطين إلى دول الجوار والمنطقة برمّتها.
وبسبب هذه الحرب نزح العديد من الكتّاب والمثقّفين الفلسطينيّين أمثال: ماجد أبو شرار، معين بسيسو، عبد الرّحيم عمر، عزّالدّين المناصرة، يحيى يخلف، رشاد أبو شاور، خالد أبو خالد، يوسف الخطيب، ليلى الأطرش، مفيد نحلة، فخري قعوار، حكم بلعاوي، ليانة بدر، وغيرهم ممّن قادوا الحراك الثّقافيّ بين النّكبة والنّكسة فيما بات يعرف بالضّفّة الغربيّة وقطاع غزّة، وفي حزيران 1969م جرى إبعاد الأديب خليل السّواحري، وعام 1975م جرى إبعاد الأديب محمود شقير، ولم يعد في الأراضي المحتلّة من كتّاب وأدباء جماعة “الأفق الجديد” سوى صبحي الشّحروري، فدوى طوقان، محمّد البطراوي وجمال بنّورة. كما لم تعد هناك صحف يوميّة أو مجلات، ممّا حدا بالبعض مثل محمود شقير إلى الكتابة في الصّحف العربيّة التي تصدر في الدّاخل وهي صحافة الحزب الشّيوعي الاسرائيلي “الاتّحاد، الجديد والغد”.
وهذا الفراغ كانت له تأثيراته السّلبيّة على الحراك الثّقافيّ، تماما مثلما هو كذلك في مختلف مجالات الحياة.
غير أنّ الشّعب الفلسطينيّ سرعان ما استوعب المرحلة الجديدة، وبدأ يعدّ نفسه لمواجهتها، وهذه المواجهة اتّخذت أشكالا عديدة، منها التّنظيم الجماهيريّ والمؤسّسيّ، وبدأت بعض المؤسّسات النّقابيّة تستعيد عافيتها، فظهرت عدّة نقابات كانت موجودة أصلا قبل الاحتلال، مثل نقابات: عمّال البناء، عمّال الفنادق، عمّال الطراشة والدّهان، سائقي الباصات، وغيرها. وساعدها في ذلك أن تبنّت النّضال الجماهيري بعض الأحزاب والتّنظيمات، مثل الحزب الشّيوعيّ الذي تحوّل لاحقا إلى حزب الشّعب، والجبهة الديموقراطيّة لتحرير فلسطين.
التّنظيم النّقابي للكتّاب في الأراضي المحتلّة
ظهر أوّل تنظيم نقابيّ للكّتاب الفلسطينيّين عام 1977م كتجمّع يحمل اسم “كتّاب البيادر” نسبة إلى مجلّة البيادر التي أسّسها ويرأس تحريرها الصّحفيّ المقدسي جاك خزمو، ” ومن هؤلاء الكتّاب: فوزي البكري، أسعد الأسعد، عادل سمارة، عادل الأسطة، جميل السلحوت، خليل توما، محمد أيوب، عبدالله تايه، جمال بنورة، سامي الكيلاني، إبراهيم جوهر، ربحي الشويكي، عدنان الصباح، غسان عبدالله، إبراهيم العلم، يوسف حامد، مفيد دويكات، نبيل الجولاني وآخرون، وصدر عن هذا التّجمّع مجموعة قصصيّة مشتركة لعدد من الكتّاب.
وتوالت لقاءات الكتّاب ومشاوراتهم إلى أن اتّفقوا عام 1978م مع إدارة الملتقى الفكري العربي في القدس ومن رموزها المرحومان الدّكتور حيدر عبدالشّافي والمهندس ابراهيم الدّقاق، على تأسيس دائرة للكتّاب في الملتقى لتشكّل غطاء قانونيا يمارسون فيه نشاطاتهم الثّقافيّة، وقد تمّ الاتّفاق على ثلاثة أشخاص لإدارة هذه الدّائرة وهم: أسعد الأسعد، علي الخليلي وجمال بنّورة، ومن نشاطات تلك الفترة تأسيس دار للنّشر باسم “دار الرّوّاد” تعمل تحت مظلّة الملتقى الفكريّ، وأصدرت عدّة كتب عام 1982م منها “ساعات ما قبل الفجر” وهي مجموعة قصصيّة للأسير محمد عليّان، وكتاب “صور من الأدب الشّعبيّ الفلسطينيّ” لجميل السلحوت والدّكتور محمد شحادة، ومجموعة قصصيّة مشتركة لعدد من القاصّين. ولم تكن هذه الدّائرة كافية لتلبية طموحات الكتّاب، فبقي الحراك مستمرّا رغم معارضة حركة فتح التي لم تكن تؤمن بالعمل الجماهيري وقتئذ، واتّخذت الكفاح المسلّح شعارا وحيدا لها.
رابطة الكتّاب الفلسطينيّين في الأراضي المحتلّة:
استمرّت النّقاشات بين الكتّاب بمبادرات منّي ومن الكاتب أسعد الأسعد، الذي كان يدعو الكتّاب لاجتماعات في مجلّة الكاتب التي كان يرأس تحريرها، حتّى تمخّضت في ربيع العام 1984 عن تأسيس رابطة للكتّاب تحمل اسم ” رابطة الكتّاب الفلسطينيّين في الأراضي الفلسطينيّة المحتلّة”، وأن يكون مقرّه الرّئيس في القدس عاصمة الدّولة الفلسطينيّة العتيدة، مع امكانيّة فتح فروع له في بقيّة المدن، وأن تقتصر عضويّته على كتّاب الضّفّة الغربية وقطاع غزّة المحتلتين، وشارك في تأسيس الرّابطة عدد من الكتّاب منهم: أسعد الأسعد، جميل السّلحوت، ابراهيم جوهر، يوسف حامد، نبيل الجولاني، سامي الكيلاني، ربحي الشويكي، غسّان عبدالله، عدنان الصّبّاح، محمد أيّوب، عبدالحميد طقّش، صالح زقّوت، وعمر حمّش.
وتشكّلت هيئته الإداريّة الأولى من: أسعد الأسعد رئيسا، جميل السلحوت، ابراهيم جوهر، سامي الكيلاني، نبيل الجولاني، يوسف حامد، ربحي الشويكي، غسان عبدالله، وعمر حمش، وكان مقرّ الاتّحاد في مكتب مجلّة الكاتب في بيت حنينا، وتمّ استصدار ترخيص للاتّحاد كجمعيّة عثمانيّة باسم كلّ من أسعد الأسعد، ابراهيم جوهر ونبيل الجولاني.
في حين رفض المحسوبون على حركة فتح الانضمام للرّابطة، لعدم إيمان الحركة بالعمل الجماهيري في حينه.
في العام 1986م شكّل أنصار حركة فتح اتّحادا للكتّاب موازيا للاتّحاد القائم، وكان يقف على رأسه الشاعران المرحومان عبد اللطيف عقل، علي الخليلي وعدد آخر من الكتّاب منهم: المتوكل طه، الدكتور سمير شحادة، عبدالناصر صالح وعزّت الغزّاوي.
وجرت لقاءات عدّة من أجل توحيد الاتّحادين في جسم واحد، وبعد اندلاع انتفاضة الشّعب الفلسطينيّ في 9 كانون أوّل 1987م، اتّخذت اللقاءات جدّيّة أكثر من قبل، وللخروج من المأزق تمّ طرح أسماء كبيرة لرئاسة الاتّحاد مثل المرحومين الشّاعرة فدوى طوقان، والدّكتور اسحاق موسى الحسيني- رغم شيخوختهما-، وفي نيسان –ابريل- من العام 1988م، وبعد انطلاق الانتفاضة الفلسطينيّة الأولى، جرى الاتّفاق على توحيد الاتّحاد في اجتماع في بيتي، وبمبادرة منّي حُسم الخلاف بالاتّفاق على إعطاء رئاسة الاتّحاد وأمانة الصّندوق لأنصار حركة فتح كبرى الفصائل الفلسطينيّة، وبناء عليه جرت انتخابات هيئة إداريّة مكوّنة من: المتوكّل طه رئيسا، أسعد الأسعد أمينا للسّرّ، وعضوية كلّ من: جميل السلحوت، عمر حمّش، محمد أبو ضاحي، سامي الكيلاني، إبراهيم جوهر، نبيل الجولاني، يوسف حامد، الدكتور سمير شحادة وعبد الناصر صالح. وتمّ اتّخاذ عيادة الدّكتور أنيس القاق في شارع صلاح الدين في القدس مقرّا للاتّحاد، ثمّ انتقل بعد حوالي عام إلى بيت حنينا.
وفي العام 1991م جرت انتخابات جديدة للهيئة الإدارية، فاز فيها كلّ من: المتوكل طه رئيسا، أسعد الأسعد، جميل السلحوت، ديمة جمعة السمان، عبدالناصر صالح، د. يونس عمرو، د. سمير شحادة، عمر حمش، عبدالحميد طقش، محمد أيوب، سامي الكيلاني وربحي الشويكي. وبعد قيام السّلطة الفلسطينيّة إثر اتّفاقات أوسلو التي جرى توقيعها في 13 سبتمبر 1993م، جرى دمج الكّتاب في اتّحاد الكتّاب الفلسطينيّين الذي نقل مقرّة من دمشق إلى رام الله، واستمرّت المسيرة.
الأندية
شاركت مع نخبة من أبناء بلدتي عام 1976م في تأسيس نادي جبل المكبّر، ومنهم: المحاميان محمد موسى أسعد عويسات وحسين عبيدات، جميل السلحوت، فهد شقير، علي محمد علي عويسات”أبو سميح”، حسين محمد داود العلي عويسات، حسين محمد علي القنبر، موسى عطا عبده، ابراهيم موسى السلحوت، ابراهيم حسين السلحوت، محمد شحادة، ناصر محمد بشير، خليل ورّاد زعاترة، عارف محمد أبو اصبع، محمود تيّم هلسة، عيسى الحصيني، وآخرون، وكنت عضوا منتخبا في هيئته الإدارية عدّة دورات.
كما كنت عضوا في نادي الموظّفين المقدسيّ، وشغلت عام 1976م عضوا منتخبا في هيئته الإداريّة. كما كنت عضوا في نادي الخرّيجين العرب في القدس.
أدب الرّحلات:
أتيحت لي الفرصة لزيارة عدد من الدّول العربيّة والأجنبيّة، وبما أنّ الترّحال يحمل في ثناياه فوائد جمّة، ومنها الاطّلاع على ثقافات وحضارات البلدان والشّعوب التي يزورها المرء، فإنّني اغتنمت هذه الرّحلات لزيادة معرفتي، وقد كنت كثير الأسئلة؛ لأعرف أشياء كثيرة كنت أجهلها، كما كانت تلحّ عليّ ضرورة معرفة الفوارق بيننا وبين الشّعوب الأخرى، فانتبهت لجمال الطّبيعة، والعمران في المناطق التي شاهدتها عن قصد، أو تلك التي قادني إليها مضيفوي. كنت أختزن في ذاكرتي كلّ ما أشاهده، وكلّ ما أسمعه، وكتبت ذلك بداية في كتابي:
كنت هناك، من أدب الرّحلات، منشورات وزارة الثّقافة، رام الله-فلسطين، تشرين أوّل-اكتوبر-2012م.
ومن البلدان التي زرتها العاصمة السوفييتيّة موسكو
في أواخر حزيران –يونيو-العام 1984م ونتيجة لمعاناتي المتواصلة من تقرّحات القولون إضافة الى قرحة في المعدة، سافرت إلى الاتّحاد السّوفييتي باعتباره دولة عظمى ومتقدمة، وصديقة للشّعب الفلسطيني وللشّعوب المضطهدة، وجاء قراري بناء على نصيحة المرحوم بشير البرغوثي الذي كان أمينا عاما للحزب الشيوعي الفلسطينيّ، وهو من رتب لي اجراءات السّفر.
في قبرص:
طرت من مطار اللد الى مطار لارنكا في قبرص على متن شركة الخطوط البريطانيّة، ومن لارنكا استقليت سيّارة الى نيقوسيا العاصمة القبرصيّة…وفي الطريق ما بين لارنكا ونيقوسيا شاهدت تربة جيرية قاحلة كالبراري الصّحراوية في بلادنا، وفي قبرص مقود السّيّارة على اليمين، وليس على اليسار كما هو في بلادنا، ويسير السّائق على يسار الشّارع وليس على يمينه كما هو في بلادنا أيضا، وفي نيقوسيا اتّصلت بالأستاذ نعيم ناصر الذي كان يعمل في الهلال الأحمر الفلسطيني، وتحديدا في مجلة بلسم الصّادرة عنه، فرافقني إلى السّفارة السّوفييتية حيث زودوني بتذكرة سفر في الدّرجة الأولى على متن شركة الخطوط الجوّيّة السّوفييتيّة “إير فلوت.”
أمضيت في نيقوسيا ثلاثة أيام، وغادرتها في اليوم الرّابع، وفي اليوم الثاني لوصولي، وقبل أن ألتقي الاستاذ نعيم ناصر، خرجت باحثا عن مطعم لأتناول طعامي، فشاهدت مطعما مكتوبا عليه:”طعام عربي وهندي” فدخلته….نظرت الى لائحة الطعام واخترت اسما طويلا، فأنا لا أعرف اسماء الطعام بالانجليزية، فسألني النادل:Do you want hot food?فأجبته:نعم..وكنت تعلمت في المدرسة أن Hotتعني ساخن، واذا بالرجل يأتيني بطعام هندي مثلج لم أشاهد مثله سابقا ولا لاحقا، فقلت له:I told you that I want hot food not like thise فاعتذر الرّجل وأخذ الصّحن وأضاف إليه الكثير من الشّطة الحارقة، أكلت من أطراف الصّحن وفمي يحترق من نار الفلفل والشّطة…دفعت الحساب وغادرت المطعم جائعا….مشيت في الشّارع وشاهدت أشخاصا في(أكشاك)يشوون اللحوم على قارعة الطريق، ولديهم بعض الطاولات، يضعون سيخا من اللحوم بعظامها يزيد وزنه على الكيلو غرام….وثمن السّيخ مع زجاجة مشروب مع الخبز باوند واحد-يعادل دولارين- أكلت واستمتعت، واستمرّيت آكل كل يوم وجبتين، وفي اليوم الثالث وبعد أن أنتهيت من طعامي مرّ بي شخص ملتح يرتدي ثوبا وسروالا على طريقة الباكستانيين، فسألني الرّجل بلغة عربيّة فصحى بعد أن طرح عليّ السلام:
هل أخي مسلم؟
ولما أجبته بالايجاب عاد وسأل:
هل تعلم ماهي اللحوم التي تأكلها؟
فأجبته: نعم إنّها لحوم خراف لذيذة.
فقال: كلا إنّها لحوم خنزير، وكلّ هذه “الأكشاك” التي تراها لا تشوي إلا لحوم الخنازير ولحوم الأرانب، فاستغربت ذلك، مع أنّني كنت أظنّ أنّ اللحوم الصّغيرة هي لحوم دجاج، ولو كنت أعرف لحوم الخنزير لما أكلتها…شكرت الرّجل وكانت تلك هي الوجبة الأخيرة لي في تلك الأكشاك.
في موسكو:
في مطار موسكو وجدت شخصا اسمه فيكتور في استقبالي على سُلّم الطائرة، اصطحبني في سيّارة سوداء إلى قصر الضّيافة الجديد، وهو فندق راق جدا ومكون من طبقات عدّة، يحيط به سور عالٍ، وله بوابّة يحرسها ضبّاط، ولا يسمح بدخوله الا للشّخصيّات الرّسميّة المحليّة، ولضيوف الدّولة المقرّرة لإقامتهم فيه، وفيكتور هذا يجيد العربيّة بطلاقة، بل إنّه يجيد مختلف اللهجات العربيّة المحكيّة، ويفاخر بأنّه ترجم كتاب(خريف الغضب) للأستاذ محمد حسنين هيكل، كما أنه يفاخر بأنّه علّم الشّاعر الكبير محمود درويش في المدرسة الحزبيّة في أوائل سبعينات القرن العشرين.
أمّا غرف الفندق فإنّها مرتّبة بشكل فاخر جميل ولافت، وفي كلّ غرفة تلفاز، وطاولة عليها أوراق وأقلام لمن يريد كتابة أيّ شيء، وفيها ثلاجة تحوي عددا من زجاجات العصائر والمشروبات الرّوحيّة والغازيّة، وكلّ زجاجة تفتح كانت تُستبدل بأخرى فور خروج نزيل الغرفة منها، وتقوم على خدمة نزلاء الفندق حسناوات يرتدين الملابس البيضاء، تماما مثل ممرضات المستشفيات، وكلّ طابق من الفندق يتكوّن من جناحين، يفصل بينهما مساحة فيها طاقم جلوس فاخر، لمن يريد استقبال الضّيوف….عدا عن لوبي الفندق الموجود في الطابق الأوّل، أمّا المترجم فإنّه لا يدخل غرفة الضّيف، وينتظر في اللوبي دائما.
دهشة:
ممّا أثار استغرابي في يومي الأوّل أنّني رأيت فتاتين ممّن يعملن في خدمة الضّيوف تتزاحمان على أخذ كيس نايلون، وضعت فيها السّجائر التي اشتريتها من طائرة الخطوط الجوّيّة البريطانيّة، التي سافرت على متنها من مطار اللد الى مطار لارنكا، ولم أعرف إلا لاحقا أنّ أكياس النايلون لم تصل إلى الاتّحاد السّوفييتي في حينه، كما أنّ المترجم فيكتور كان سعيدا جدّا بالآلة الحاسبة البسيطة، التي كانت مرفقة كدعاية بكرتونة سجائرKent التي اشتريتها من الطائرة البريطانيّة، ومع أن ثمن الآلة الحاسبة لا يتجاوز الدّولار، وهي في متناول أيدي طلاب المدارس في مختلف دول العالم، إلا أنّها لم تكن متوفّرة في أسواق الاتّحاد السّوفييتي، لكن المفجع أنّ ورق التواليت في حمامات الفندق الفاخر هو ورق مصقول، ممّا يعني أنّ ورق التواليت بجميع أشكاله المعروفة غير موجود أيضا.
ومن المدهش أيضا أنّ المحلات التّجاريّة الضّخمة، بما فيها المخازن الحكوميّة الواقعة في ساحة الكرملن، والتي تحتوي بضائع مستوردة وبسعر رخيص جدّا، ولا يدخلها إلا كبار رجالات الدّولة، أو الضيوف على الحكومة، والحساب في المحلات يتم بقوائم عليها خرز ملون، أمّا الآلات الحاسبة بجميع أشكالها فهي غير متوفّرة في السّوق، وليست في متناول أحد….حتّى السّيّارات”الأوتوماتيك” غير معروفة أيضا.
في المستشفى:
لا أعرف لماذا يطلقون عليه مستشفى”اللجنة المركزيّة” فلربما لأن العلاج فيه مقصور على كبار رجالات الحزب الحاكم، وضيوف الدّولة القادمين إليها طلبا للعلاج.
والمستشفى عبارة عن أبنية عدّة جميلة ومتعدّدة الطوابق، وتحيط بأحد جوانبه غابة، تدخل منها الحيوانات كالخنزير البرّي، وغزال الرّنة، إلى ساحة المستشفى، وقد شاهدت غزال الرّنة أكثر من مرّة في ساحة المستشفى، ويقرع الحراس أجراسا محمولة بأيديهم وهم يطاردون الحيوانات لإعادتها إلى الغابة، وحدائق المستشفى جميلة ورائعة، وتتوسّطها بحيرة صغيرة، فيها عدد من طيور البط، التي تتكاثر في قنّ مبني لها بشكل جميل.
وأحد الأبنية مخصّص للحجر الصّحّيّ، حيث يحجز فيه المصابون بأمراض معدية، أو من يُشك به أنّه مصاب بمرض معد.
ومن طريف ما سمعته مباشرة من شخص ترأس الوفد الأردنيّ لمؤتمر الشبيبة الشيوعيّة في بداية سبعينات القرن العشرين، أنّه أصيب باسهال، وذهب للحمام مرّتين أثناء تناوله لطعام الغداء في الفندق، فاحتجزوه في قسم الحجر، حتى انتهت نتائج الفحوصات بانتهاء المؤتمر.
بناية تشخيص الأمراض:
في المستشفى بناية مجهزة بالآلات الطبّيّة، وفيها غرف للمرضى ينامون فيها حتّى يتمّ فحصهم وتشخيص أمراضهم، ومع أنّني أحمل تقارير طبّيّة عن تشخيص حالتي المرضيّة من مستشفى المقاصد الخيريّة الاسلاميّة في القدس، ومستشفى هداسا الاسرائيلي في عين كارم غربيّ القدس، الا أنّهم أعادوا إجراء الفحوصات، حيث مكثت يومين وليلة في تلك البناية، وفي غرفة النّوم في المستشفى سريران، واحد لي، وآخر يشغله شخص من أوزبكستان.
وفي مساء اليوم التالي نقلوني إلى قسم المرضى الأجانب الذي يشغل الطابق الأوّل من البناية الرئيسة، وكلّ نزلائه ليسوا من الاتحاد السوفييتي.
العلاج بالأعشاب:
في المستشفى قدّموا لي يوميّا كأسا مغليّا من أوراق شجرة مزروع منها الكثير في ساحة المستشفى اسمها”شاي” ويقولون أنّها مفيدة لكلّ الأمراض…وفي هذا القسم مترجمون لمختلف اللغات التي يتحدّثها النّزلاء.
وفي تلك الفترة كانت موسكو لا تظلم ليلا إلا في حدود الحادية عشرة، وتشرق شمسها قبل الرّابعة صباحا، حيث يستيقظ السّكان على نعيق الغربان التي تُعد بالآلاف.
وبالرغم من العناية الفائقة التي كانوا يقدمونها للمرضى، إلا أنه كان واضحا تخلّف الأدوات الطبّيّة المستعملة في المستشفى، والتي لا تختلف عن الموجودة في الكثير من المستشفيات الحكوميّة في الدّول النّامية، ممّا أعطى انطباعا بأنّ هذه الدّولة العظمى، تنفق أموالها على سباق التّسلح في الحرب الباردة، وأنّها لم تتطوّر في أمور أخرى كثيرة، وهذا هو أحد أسباب انهيار الاتّحاد السوفييتي لاحقا.
أمّا الشيخ داود عريقات المبعد من الأراضي الفلسطينيّة المحتلّة عام 1975، وكان يقيم في دمشق، والتقيته صدفة في المستشفى، فقد كان ينقل خارج المستشفى يوميّا ليفحصه الدكتور فيودروف طبيب العيون الأشهر على مستوى العالم.
المرأة السّوفييتية:
شاهدت في طريقي من مطار موسكو إلى الفندق نساء يعملن في تعبيد الشّوارع جنبا إلى جنب مع الرّجال، كما شاهدت في ساحة المستشفى نساء يعملن على آلة الحفر”الكومبريسة” التي تحتاج الى رجال أقوياء، كما شاهدت نساء يعملن في البناء.
مأساة إيمان:
في المستشفى التقيت الطبيبة العراقية إيمان سلام عادل، وهي طبيبة متخصّصة في جراحة الأعصاب الدّقيقة، كانت مريضة في المستشفى تتلقى العلاج، ووالدها سلام عادل المعروف باسم”الرفيق فهد” كان الأمين العام للحزب الشّيوعي العراقيّ، وعندما استولى البعثيّون على الحكم أعدموه، وتمّ تهريبها هي وشقيقها وكانا طفلين مع والدتهما إلى سوريا ومن هناك إلى الاتّحاد السّوفييتي، حيث تربّيا وتعلما وعاشا هناك، وإيمان فتاة حسناء شديدة الفخر بعراقيتها وبعروبتها، وهي حزينة لأنّها أمّيّة باللغة العربية، التي تتحدّثها بطلاقة.
وقد شاهدتها أكثر من مرّة تخرج قطعة قماش من جيبها تشمّها وتعيدها، فحسبت أنّها تستنشق مخدّرات، ولما جالستها مرّات، تجرّأت وسألتها عن المادّة التي تشمّها عشرات المرّات في اليوم، فأخرجتها لأراها وهي تبكي وتقول:
هذه خصلة من شعر طفلي الذي حرموني منه.
وحدّثتني أنّها افتتحت عيادة طبّيّة في دمشق، وتردّد على عيادتها بطل سباحة سوريّ، أصيب بكسر في عموده الفقريّ عندما قفز ليلا في بركة سباحة أُفرغت من مياهها دون علمه، فأحبّت ذلك الرّجل وتزوّجته وأنجبت منه طفلا، غير أنّ أهل الزّوج انقلبوا عليها وأجبروا زوجها على طلاقها، وجرّدوها من طفلها الذي تعيش على رائحة خصلة من شعره، كانت إيمان ترسم الحزن خريطةَ تعاسةٍ على وجهها الجميل.
فايق ورّاد:
في المستشفى زارنا المرحوم فايق ورّاد الأمين العامّ للحزب الشّيوعيّ الأردنيّ في حينه، وكانت برفقته زوجته رقيّة النّجّاب، والحقيقة أنّه حضر إلى المستشفى لتلقي العلاج، حيث كان مصابا بجلطة دماغيّة، وقد أعطوه رعاية خاصّة في المستشفى، فخصّصوا له غرفة في الطابق السّادس، وهناك قال له المرافق السّوفييتي: أنت ضيف مهمّ يا رفيق، لذا خصّصنا لك الغرفة التي توفّي فيها الرّفيق أندروبوف الرّئيس السّابق للإتّحاد السّوفييتي.
فردّ عليه فايق ورّاد ساخرا: الله يطمنك”يطمئنك” يا رفيق.
في المستشفى:
مكثت في المستشفى حوالي الشّهر، ولم أجد أيّ جديد طبّيّ في مساعدتي على الشّفاء، بل بالعكس فقد شعرت أنّني سأعود كما جئت، ولينصحني الأطبّاء السّوفييت بمواصلة العلاج في مستشفى هداسا الاسرائيلي، وهذا ما حصل.
وفي المستشفى قابلت الموسيقار اليونانيّ ميكيس ثيودوراكيس الذي كان يعتبر نفسه صديقا وفيّا للشّعب الفلسطينيّ، الذي أعاد عام 1981م توزيع الموسيقي للنّشيد الوطنيّ الفلسطينّ”فدائيّ” الذي ألّفه الشّاعر سعيد المزيّن، وفي المستشفى كان يرقد السّيّد محمود الأيوبي رئيس وزراء سوريا الأسبق، والذي كان لا يخالط أحدا.
ومن اللافت في المستشفى أنّ الممرضات والأطباء والطبيبات كانوا ينظّفون القسم يوميا في العاشرة ليلا، وعندما استفسرت عن سبب ذلك، قالوا لي هذه ديكتاتوريّة الطبقة العاملة، فالسّيادة كانت للعمّال، وهذه أيضا إحدى الأسباب التي أدّت إلى انهيار الاتّحاد السّوفييتي لاحقا.
وفي القسم كانت عشرات الكتب لمؤلفين روس المترجمة إلى العربيّة، والصّادرة عن دار التّقدّم، فقرأتها كاملة.
بيت لينين وضريحه:
في اليوم الثاني لخروجنا من المستشفى، وجدت مترجمة للعربيّة شابّة، وخريجة حديثا من معهد اللغات، فقد تغيب المترجم فيكتور لوفاة قريب له، كانت هذه المرّة الأولى لها التي ترافق فيها ضيفا عربيّا، ولا تتكلّم إلا باللغة الفصحى، اصطحبتني إلى الساحة الحمراء-ساحة الكرملن- حيث ضريح لينين قائد الثّورة البلشفيّة، تنزل بضع درجات …تشاهد الجثمان المحنّط…وتخرج من مدخل آخر، والناس يصطفّون بالدّور في صف يبلغ مئات الأمتار؛ ليلقوا نظرة على جثمان لينين، الذي يحرسه عدد من الضّبّاط، في حين أنّ ضيوف الدّولة والحزب لهم الأولويّة، فلا يصطفّون على الدّور، ويبدو أنّ لينين لم يكن يحبّ التّصوير، فالصّور المنشورة له هي صور جثمانه المحنّط، وفي جدار الكرملن هناك بقايا رماد مع لافتة صغيرة لبعض المشاهير، كالرّؤساء السّابقين، وكرائد الفضاء يوري غاغارين الذي اخترق الجاذبيّة الأرضيّة للمرّة الأولى في العالم، وزرنا الكنيسة الذّهبيّة الواقعة في طرف الساحة الحمراء، وفيها تماثيل تزن أطنانا من الذّهب.
وبعدها استقلينا السّيّارة الرّسميّة إلى بيت لينين، وهو بيت عادي من طابقين، كان يشغله محافظ موسكو زمن القيصر، وعندما استولى الشّيوعيون على الحكم في اكتوبر 1917 سكنه فلاديمير ايليتش لينين قائد الثّورة، وأثاثه لا يزال فيه، وفي حديقته عدد من مقاعد خشبيّة عاديّة، كما فيها مشربان، واحد للماء البارد، والثاني للصّودا.
ومن المعروف أنّ لينين لم ينجب أبناء فكان يعيش في البيت هو وزوجته فقط.
متحف موسكو:
في اليوم الثاني اصطحبونا لزيارة متحف موسكو، وهو متحف واسع جدا وغني بموجوداته، ومن اللافت أنّه يحتوي على مخلفات القياصرة التي لم تمسسها يد السّوء، لأنّها ملك للشّعب، وهم يمثّلون مرحلة تاريخيّة من حياة الشّعب الرّوسي، وهناك تمثال لافت من ذهب وبالحجم الطبيعيّ لأحد القياصرة وهو يمتطي حصانا….ويحتاج المرء إلى ساعات طويلة كي يرى موجودات المتحف بشكل سريع جدّا….وقد أكبرت فيهم هذا الرّقيّ الحضاريّ، وتذكرت حزينا الانقلابات العسكريّة التي كانت تحدث في بلداننا العربيّة، وتمحو كلّ أثر تركه النّظام السّابق، وفي المتحف رسالة ملك اليمن الإمام يحيى حميد الدّين إلى لينين، والتي يعترف فيها بالثّورة البلشفيّة، حيث إنّ اليمن هي الدّولة الأولى التي اعترفت بهذه الثّورة نكاية ببريطانيا التي استعمرت عدن وما عرف بجنوب اليمن، والرّسالة مخطوطة بريشة وبحبر أسود، وممّا جاء فيها:
بسم الله الرّحمن الرحيم
من أمير المؤمنين يحيى حميد الدين إلى رئيس الكفرة والملحدين فلاديمير ايليتش لينين.
بعد الاتكال على الله قررنا الاعتراف بثورتكم الكافرة، ولكم دينكم ولي دين.
فكتب لينين بخطّ يده على الرّسالة” لا أستغرب كيف دخل الاستعمار دول العالم الثالث ما دام هذا فهم قادتهم…اكتبوا له ردّا مهذبا يليق بالملوك”
المسارح:
عند المساء كانوا يصطحبوننا الى أحد المسارح، ومسارح موسكو بذاتها تحفة فنّيّة، وكانوا يحجزون لنا في الصّفّ الأوّل، ومن أجمل ما رأيت رقص الباليه على خشبة مسرح البولشوي-الكبير-وهو المتحف الأجمل والأكبر والأحسن إعدادا وتجهيزا في العالم.
العرب في الفندق:
في فندق الضيافة، كان المرحوم خالد الحسن عضو اللجنة المركزية لحركة فتح، وبصحبته عدد من أفراد أسرته، نساء وأطفالا وشبابا، شاهدته في غرفة الطعام بصحبة تيسير قبعة القياديّ في الجبهة الشّعبيّة، الذي التقيته في السّجن عام 1969م كما أنّه يعرف الشيخ داود عريقات، فقام وصافحنا في حين تجاهلنا المرحوم خالد الحسن؛ لأنّه لا يعرف أحدا منّا، كما أنّ وزير الدفاع الكويتي والوفد المرافق له كانوا يشغلون جناحا كاملا في الفندق، لكنّني لم أقابل أيّا منهم.
أمّا خالد بكداش الأمين العام للحزب الشّيوعيّ السّوريّ، وكان شيخا هرما فقد كان هو وابنه وصبية لم أعرف إن كانت ابنته أم هي زوجة ابنه.
في برج موسكو:
زرنا برج موسكو الذي يرتفع 450 مترا، وصعدنا بمصعد سريع جدا، لا تشعر بحركته، وفي قمّة البرج مطعم دائريّ، يدور ببطء ليرى المرء معالم موسكو، فتذكّرت مصعد كليّة الزّراعة في جامعة موسكو، عندما دعتنا ماجدة البطش وزميلتها الطالبة السّورية إلى وجبة”مقلوبة” حيث حسبت أنّ البناية ستنهار فوق رؤوسنا من الصّوت المزعج جدا الذي انطلق من المصعد.
في الولايات المتّحدة الأمريكيّة
أكثر بلد زرته هو الولايات المتّحدة الأمريكيّة، فقد زرتها 26 مرّة؛ لتواجد سبعة من إخوتي هم وأزواجهم وأبناؤهم وأحفادهم، وابن عمّي محمد موسى فيها، ولاحقا في العام 2001م التحق بهم ابني قيس، حيث التحق بإحدى الجامعات الأمريكيّة ” دومينيكان” في شيكاغو، ودرس الاقتصاد والتّجارة الدّوليّة، وعمل في شركات “برمجة”، وتزوّج هناك من فتاة تونسيّة. تجوّلت في ولايات ومدن أمريكيّة عدّة، ولفت انتباهي نمط الحياة الأمريكيّة الذي يختلف كليّا عن السّياسة الخارجيّة الأمريكيّة، وأكثر ما لفت انتباهي هو نظام التّعليم الأمريكيّ المتطوّر والمتجدّد في مختلف مراحله، والتّعدّديّة الثّقافيّة في ذلك البلد، والحرّيّات الشّخصيّة للأمريكيّين التي يضمنها الدّستور ويحميها القانون، وتطبّق على الجميع، وقد كتبت عن مشاهداتي في أمريكا كتاب:
في بلاد العمّ سام، من أدب الرّحلات، منشورات مكتبة كل شيء-حيفا2016.
******
أنا والرّواية
أعترف بأنّني أتهيّب كثيرا عندما تراودني الكتابة في صنف أدبيّ معيّن، وأعترف أنّني لم أخطّط يوما لكتابة شيء معيّن، لكن الفكرة تهاجمني وتؤرّقني، حتّى أقذفها على الورق.
حاولت الابتعاد عن كتابة الرّواية، لكنّ مواضيع شتّى كانت تسلب راحتي، وتساءلت كثيرا عن حياة البؤس والحرمان والهزائم التي عشتها أنا وأبناء جيلي، ومن قبلنا جيل الآباء والأجداد، ولاحقا جيل أبنائنا، وهذا لا ينطبق علينا نحن الفلسطينيّين فقط، بل يشاركنا فيه إخوتنا العرب، ووجدت أنّ الجهل وما يصاحبه من كوارث ومآسي على مختلف الأصعدة هو ما أوصلنا إلى ما وصلنا إليه من نكبات. من هنا كانت بداياتي مع الرّواية، التي طرقت أبوابها بعد أن تجاوزت الخمسين من عمري. ومن هنا جاءت سداسيّتي الرّوائيّة “درب الآلام الفلسطينيّ”، وهي “ظلام النّهار، جنّة الجحيم، هوان النّعيم، برد الصّيف، العسف ورولا”. ومع تنوّع وتعدّد الحكايات والقصص التي طرقتها في هذه الرّوايات، إلا أنّ القارئ سيلاحظ أنّ البطل فيها هو التّخلّف، الذي طرحته بطريقة مقزّزة ومنفّرة، مع التّأكيد على الشّخصيّة الرّئيسيّة فيها وهو خليل الأكتع، الذي رافقته من يوم ولادته حتّى نهاية العشرينات من عمره، مرورا بالمعاناة التي عاشها وسط بيئة متخلّفة، وسجنه من قبل المحتلّين، وتحرّره وتعلّمه وزواجه.
رواية ظلام النّهار
ظلام النّهار-رواية، دار الجندي للطباعة والنشر- القدس –2010م.
اعتمدتُ التّقابل “الضّدّيّة” في عناوين الأجزاء الأربع الأولى، تساوقا مع التّناقضات التي نعيشها، ففي “ظلام النّهار” وجدت أنّ شعوبنا لا ترى الصّواب وتعيش عتمة التّخلّف والجهل في وضح النّهار، كما أنّ عدالة قضيّتنا الفلسطينيّة وحقوق شعبنا وأمّتنا مغيّبة عن الرّأي العامّ العالميّ بسبب القصور الإعلاميّ العربيّ، فنظر إلينا العالم كإرهابيّين ومعتدين، مع أنّنا ضحايا للإرهاب، ولغطرسة الامبرياليّة العالميّة.
رواية جنّة الجحيم
جنّة الجحيم-رواية – دار الجندي للطباعة والنشر- القدس- 2011م.
وامتدادا لهذا ومع بدايات التّعليم، مع كلّ السّلبيّات التي ترافق العمليّة التّعليميّة في بلداننا العربيّة، إلّا أنّ المتعلّمين وجدوا جنّتهم من خلال التّعليم، وسط جحيم الجهل السّائد، ومن هنا جاءت “جنّة الجحيم”.
رواية هوان النّعيم
هوان النّعيم. رواية- دار الجندي للنشر والتوزيع-القدس-2012م.
أمّا “هوان النّعيم” فقد فضحت المتساقطين المتذيّلين لذوي الجاه والسّلطان، حتّى تطّورت شخصيّة أبي سالم المتذيّل منذ بداياته، إلى السّقوط في براثن الخيانة والعمالة للاحتلال، بعد وقوع البلاد تحت الاحتلال الغاشم في حرب حزيران-يونيو- 1967، حيث تمّ إسقاطه بإغراءات جنسيّة. يضاف إلى ذلك أنّ كرامة أبناء شعبي الذين عضّوا على تراب وطنهم بالنّواجذ، وصمدوا فيه امتهنت على أيدي المحتلّين رغم النّعيم الذي عاشوه في الفترة السّابقة للاحتلال.
رواية برد الصّيف
برد الصّيف-رواية- دار الجندي للنشر والتوزيع-القدس- 2013م.
لـ”برد الصّيف” قصّة أخرى تتعلّق برجل مخابرات إسرائيليّ كان يحقّق مع طفل فلسطينيّ يرتجف من حالة الرّعب التي وضع فيها، رغم أنّ الجوّ كان في عزّ الصّيف، فقال له المحقّق ساخرا:
“واضح أنّك ترتجف من شدّة البرد، فالطّقس بارد ودرجة الحرارة 37 مئويّة!”
رواية العسف
العسف-رواية-دار الجندي للنشر والتوزيع-القدس 2014م.
تشكّل رواية “العسف” الجزء الخامس من مسلسل “درب الآلام الفلسطينيّ” الرّوائيّ، جاءت كرواية تسجيليّة لجانب من حياة الأسْرِ والاعتقال التي يعيشها أبناء الأرض المحتلّة في سجون الاحتلال.
رواية “رولا”
رولا-رواية- دار الجندي للنّشر والتّوزيع- القدس 2016م.
في رواية “رولا” وهي الجزء السّادس من “درب الآلام الفلسطيني” يتزوّج خليل الأكتع، في حين يموت العميل أبو سالم بجانب كلب لعميل ذي نفوذ، يموت العميل منبوذا مذموما حتّى من زوجته وأبنائه، وفي الرّواية وصف دقيق للكثير من الأماكن في القدس.
******
سيلاحظ القارئ لسداسيّتي الرّوائيّة أنّها تمتدّ زمانيّا من بداية القرن العشرين، وحتّى أواخر سبعيناته، وأنّ المكان فيها يدور في القدس و”عرب السّواحرة” التي تمتدّ من قمّة جبل المكبر على بعد خمسة كيلومترات إلى الجنوب الشّرقيّ من سور القدس القديمة، وحتّى البحر الميّت، وأشهر جبال بلدتي هذه هو جبل المكبّر، الذي ارتبط اسمه باسم الخليفة الثّاني عمر بن الخطّاب، ويمتدّ أحيانا إلى بعض قرى المدينة المقدّسة، وبعض المدن الفلسطينيّة. والسّبب باختيار هذا المكان دون غيره، هو أنّني بوعي أو بعفويّة مسكون بالمكان، فالقدس بالنّسبة لي جنّة السّماوات والأرض، وجبل المكبر هو مسقط رأسي، وقريتي -رغم اتّساعها- أعرف أراضيها معرفة تامّة، أعرف جبالها، وديانها، بطاحها، سهولها خِرَبِها، ينابيعها، كهوفها وآبارها. والخوف من فقدان المكان بسبب الاحتلال يرعبني، فهناك أراض تتمّ مصادرتها واستيطانها، وأخرى مغلقة بحجّة “استعمالات الجيش” تمهيدا لمصادرتها، وأخرى ممنوع البناء العربيّ عليها، وهناك “عبرنة” لبعض الأسماء لمحو الذّاكرة الفلسطينيّة، ولمعرفتي التّامة والتّفصيليّة لمدينتي وقريتي دون غيرهما من مدن وقرى الوطن الذّبيح اخترت أن تكونا مكانا لأحداث العمل الرّوائيّ، حيث يتنقّل شخوص الرّوايات من مكان إلى آخر، بمعرفة ومنطق تامّين. وكأنّي هنا ألتقط المكان لأدوّنه خوفا عليه من الضّياع.
وسيلاحظ القارئ أنّ بإمكانه قراءة هذا المسلسل الرّوائي بتسلسل، كما أنّه يستطيع قراءة كلّ جزء وحده، وكأنّه لا علاقة له بالأجزاء السّابقة أو اللاحقة له.
*****
رواية أميرة
أميرة- رواية- دار الجندي للنشر والتوزيع- القدس 2014م.
تتحدّث رواية أميرة عن نكبة الشّعب الفلسطيني في العام 1948م، من خلال الحديث عن قرية بيت دجن القريبة من مدينة يافا، وتطرقّت إلى المظالم التي ألحقها الانجليز بالشّعب الفلسطيني، كما تحدّثت الرّواية عن بعض المجازر التي تعرّض لها الشّعب الفلسطينيّ، مثلما حصل في مسجد دهمش في اللد.
زمن وضحة
زمن وضحة- رواية- مكتبة كل شيء- حيفا 2015م.
ركّزت هذه الرّواية التي يمتدّ زمانها عبر النّصف الأوّل من القرن العشرين، حيث كانت السّيادة للجهل والتّخلف، وتدور غالبيّة أحداث الرّواية في قرية قضاء مدينة جنين في شمال الضّفّة الغربيّة، دون ذكر اسمها، لأنّ التّخلف والجهل كان عامّا ومستفحلا بالبلاد، ولا يوجد اسم لمكان سوى لثلاثة مدن جاء اسمها بشكل عابر وهي: حيفا التي ولدت فيها جورجيت، وبيروت التي تعلّمت فيها، ولندن التي تعلّم فيها الدّكتور ممدوح.
وممّا كتبه الدّكتور نبيه القاسم عن هذه الرّواية:” الشّخصيّات العديدة التي تعرّفنا عليها في الرّواية هي شخصيّات واقعيّة عرفتها البيئة الرّيفيّة التي يتحكّم بها الجهل والفقر، شخصيّات تعايَشت مع بعضها بتفاهم وقبول وتعاون إلى حدّ ما. لكن وسط هذه الشّخصيّات، ومن قلب واقع الجهل والخرافة، ظهر مَنْ يحملُ الرّغبة في التّغيير ورفض الواقع مثل وضحة. ومن هذا المجتمع أيضا خرج الدّكتور ممدوح وزوجته. الدّكتور ممدوح الذي تحدّى العادات والتّقاليد والمواقف المتحجّرة، وعمل بجدّ على مداواة المحتاج بالطّرق العلميّة وفي المستشفى. وعمل جهده، وجنّد أفراد أسرته لإقامة مدرسة يتعلّم فيها فتيات وفتيان القرية، واهتمّ بتفعيل المواصلات في القرية والقيام بمشاريع عديدة عملت على تغيير حياة النّاس وقلب مفاهيمهم وأفكارهم.”
يوميّات الحزن الدّامي، يوميّات، منشورات مكتبة كل شيء-حيفا 2016.
وهو عبارة عن يوميّات عشتها عندما كان المحتلّون يشنّون حروبهم على شعبي الفلسطينيّ، فيقتلون ويدمّرون ويشرّدون على مرأى ومسمع العالم جميعه، ووسط سكوت عربيّ مريب.
عذارى في وجه العاصفة
عذارى في وجه العاصفة-رواية- مكتبة كلّ شيء-حيفا 2017م.
عانت آلاف النّساء الفلسطينيّات مآسي تضاف إلى مآسي نكبة العام 1948م، وما رافقها من قتل وتشريد، وبرد وجوع وضياع، فمن هذه النّساء من كانت مخطوبة ولجأت إلى دول الجوار مع أسرتها وبقي خطيبها في الدّيار أو العكس، وتزوّج الخطيب من أخرى في حين بقيت الخطيبة تنتظر حلّ القضيّة، وأمضت عمرها عانسا، ومنهنّ من خرج بعض أبنائها لاجئين، وتوفّين وهنّ ينتظرن عودتهم، ومنهنّ من تزوّجت وأنجبت وطلّقت، وتزوّجت من آخر وخرجت وإيّاة لاجئين، تاركة أبناءها من زوجها الأوّل أو العكس، ومنهنّ من خرج زوجها خارج الدّيار، وكان يتسلّل إليها عبر الحدود ويعاشرها، فحمل بعضهنّ وأنجبن، ممّا تسبّب لهن بمشاكل أقلّها اتّهامهنّ بشرفهنّ، وهكذا. ومع الأسف لم ينتبه أحد لمآسي هؤلاء النّساء، ولم يقلق أحد بمحاولة العمل على حلّ هذه المشاكل، ولم يكتب أحد عن نكبتهنّ المضافة إلى النّكبة العامّة، ومن هنا جاءت فكرة هذه الرّواية.
رواية نسيم الشّوق
نسيم الشّوق-رواية-مكتبة كل شيء، حيفا 2018م.
في هذه الرّواية طرقت باب الزّواج المختلط بين أتباع الدّيانات السّماويّة في فلسطين، وهو موجود فعلا على أرض الواقع، فهناك مسلمون متزوّجون من مسيحيّات، ومسيحيّون تزوّجوا من مسلمات بعد إعلانهم عن إسلامهم شكليّا وليس إيمانيّا، كما يوجد مسلمون ومسيحيّون متزوّجون من يهوديّات.
رواية عند بوّابة السّماء:
عند بوابة السّماء-رواية-مكتبة كل شيء-حيفا 2019م.
تتحدّث هذه الرّواية عن العلاقة الأخويّة بين الشّعوب العربيّة، فمثلا كانت فلسطين والأردنّ وسوريا ولبنان توائم، بينهم مصاهرة متبادلة، ويمتدّ زمن الرّواية من أواخر العهد العثماني حتّى نكبة الشّعب الفلسطيني في العام 1948م. وقد استبسل الأخوة العرب خصوصا الأردنيّين في الدّفاع عن فلسطين، وقدّموا آلاف الشّهداء من أبنائهم، ولا يزال تراب فلسطين وخصوصا في القدس يحتضن رفات الآلاف من الشّهداء العرب.
ثقافة الهبل وتقديس الجهل:
ثقافة الهبل وتقديس الجهل، منشورات مكتبة كل شيء- جيفا،2017م.
لا يحتاج المرء إلى كثير من الذّكاء ليقف على أسباب هزائمنا وخيباتنا وانكساراتنا المتواصلة منذ بدايات القرن العشرين حتّى يومنا هذا، فالجهل هو أساس كلّ هذا، فنحن كأمّة نعوم في بحر من الجهل والتّخلّف، حتّى أنّنا ما عدنا نفهم ديننا بشكل صحيح، بل إنّ الدّين الإسلاميّ الذي تدين به أغلبيّة شعوبنا اختطف من قبل جماعات ظلاميّة مسيّرة من قبل قوى استعماريّة، فانتشرت الخرافات التي تمنع شعوبنا من مواكبة الحياة المعاصرة، ولكم أن تتصوّروا وجود حوالي 200 فضائيّة متخصّصة بالشّعوذة والخرافات، ولا تزال “ثقافة الصّحراء الوحشيّة” على رأي ابن خلدون هي السّائدة حتّى يومنا هذا، وحتّى القوى والأحزاب السّياسيّة والكثير من النّخب تخضع لسلطة القبيلة والعشيرة والحامولة والعائلة.
من هنا جاء كتابي هذا الذي من خلاله أعلّق الجرس وأدقّ ناقوس الخطر، وذلك في محاولة متواضعة منّي للمساهمة في حراك فكريّ لإعادة الوعي من خلال نشر التّعليم والنّهوض من كبواتنا.
سيرة ذاتيّة- أشواك البراري-طفولتي
أشواك البراري-طفولتي، سيرة ذاتيّة، مكتبة كل شيء-حيفا 2018م.
ممّا جاء في مقدّمة كتابي هذا: توقّفت طويلا أمام طفولتي المعذّبة، فكّرت كثيرا متردّدا في كتابتها، تساءلت حول الفائدة المرجوّة من نشرها! وفي النّهاية قرّرت الكتابة والنّشر، لعلّ في ذلك ما يمكن أن يستفيد منه جيل أبنائنا المحرومين أيضا من طفولتهم؛ بسبب الاحتلال الذي أهلك البشر والشّجر والحجر. وأنا في تركيزي على طفولتي الخاصّة، لا أنقل معاناتي الشّخصيّة، بمقدار ما أكتب عن واقع اجتماعيّ عاشه الملايين من أبناء شعبي وأمّتي.
وأستطيع القول أنّني وغالبيّة أبناء جيلي قد عشنا رغما عن سنن الطّبيعة، فقد كانت نسبة وفيات الأطفال مرتفعة جدّا، ومع ذلك عشنا؛ لنكون شهودا على واقع لا خيارات لنا فيه.”
وأنا بهذا طرحت ما هدفت إليه بنشر هذا الكتاب.
*****
أدب الرّحلات مرّة أخرى:
أتيحت لي الفرصة لزيارة عدد من البلدان العربيّة والأجنبيّة، ولم تقتصر زيارتي لهذه البلدان على التّمتّع بجمال الطّبيعة أو العمران الذي رأيته في تلك البلدان، بل تعدّته إلى البحث والمقارنة بين ما رأيته وبين الموجود في بلادي، وكنت كثير الأسئلة حول الأمور التي تلفت انتباهي؛ كي تترسّخ حقيقتها في ذهني، ومن البدان العربيّة التي زرتها المملكة العربية السّعودية وذلك في نوفمبر 2009 ، وممّا كتبته عن مشاهداتي فيها:
بعد ظهر يوم 15 تشرين الثاني-اكتوبر- 2009م ذكرى إعلان استقلال فلسطين الذي أعلنه الرّئيس الرّمز الراحل ياسر عرفات في دورة المجلس الوطني في الجزائر العاصمة في مثل هذا اليوم من العام 1988م، استقلينا طائرة من الخطوط الجوية السّعودية، من مطار عمّان في طريقنا إلى الرّياض، وها أنا في هذه الذّكرى وبمناسبة “القدس عاصمة الثّقافة العربيّة للعام 2009م” أحلق في أجواء مدينتين عربيتين حرّتين، فشعرت بسعادة أورثتني يقينا بأنّ الاحتلال زائل، وأنّ شعبي سيحقّق حقّه في تقرير مصيره، وسيبني دولته المستقلّة بعاصمتها القدس الشّريف، لكنّني استعجلت الأمور وتساءلت متى سيتحوّل حلم التّحرّر والاستقلال وبناء الدّولة إلى واقع؟ فنحن أجدر النّاس بالحرّيّة، ونتمنّى أن لا يقع شعب تحت الاحتلال الأجنبيّ. كنت أمدّ نظري من نافذة الطائرة، وكأنّني أريد أن أشبع ناظري من أرض العروبة، لكنّ الغيوم كانت تحجب عنّا الرّؤية، فالطائرة تحلّق على ارتفاع تسعة وثلاثين ألف قدم كما أخبرنا قبطانها، وبعد مرور حوالي السّاعة والنصف بدت لنا جوانب من مدينة الرّياض، فخفق قلبي من رهبة وجلال الموقف.
نزلنا أرض المطار… وكان في استقبالنا السّفير الفلسطيني جمال الشّوبكي، وكان بجانبه الأمير السّعودي سعود بن مساعد مدير دائرة المسرح في وزارة الثّقافة السّعوديّة، وبعض موظّفي الوزارة، فلفت انتباهي هدوء الأمير وتواضعه وسمار بشرته التي اكتسبها من جزيرة العرب، واصطحبونا إلى صالة كبار الضّيوف حيث احتسينا القهوة العربيّة (السّادة) المشبعة بالهيل ذات اللون الأصفر المائل إلى الإخضرار.
ومن هناك توجهنا إلى فندق (الهوليدي إن) الذي أعدّه مضيفونا لاستضافتنا فيه، وعلى مدخل الفندق كان في استقبالنا وكيل وزارة الثّقافة السّعوديّة الدّكتور عبد العزيز بن محمّد السبيّل، بابتسامته العريضة الحييّة ، وبتواضعه ونبل أخلاقه.
واصطحبنا إلى بهو الفندق حيث تنتصب لافتات مكتوب عليها ( أيام فلسطين الثقافية من 15-20 تشرين الثاني 2009م.
مساء الجمعه وصباح السبت كانت لنا لقاءات مع موظفين كبار من وزاره الثّقافة السعوديّة، ومنها لقاءات مع وكيل الوزارة الدكتور عبدالعزيز بن محمد السبيّل الذي غمرنا بلطفه، وحسن حديثه وحسن اصغائه أيضا، واستعداده لتلبية جميع طلباتنا بما في ذلك تعديل البرنامج الذي وضعته وزارته، يعاونه في ذلك عدد من كبار موظفي وزارته منهم الأساتذة: عبدالرحمن الرقراق، دخيل بن عبدالله الرّاقي ، وعبدالهادي القرني، وليعذرني الآخرون لأن ذاكرتي لم تسعفني في حفظ أسمائهم، لكنّهم جميعهم غمرونا بدفء محبتهم ونبل أخلاقهم، وقد وضعوا تحت تصرّفنا عددا من السّيّارات مع سائقيها جاهزة لنقلنا الى أيّ مكان نريده، وفي أيّ زمان نريد، ولفت انتباهنا الأخلاق العالية التي يتحلّى بها السّائقون أيضا الذين التزموا الصّمت، فلا يتحدّثون إلا إجابة عن سؤال أو تلبية لطلب، وباختصار شديد، ومن الملاحظ أن الأخوة السعوديّين يتكلمون اللغة الفصيحة مع العرب الزائرين، لأنّها لغة التّفاهم بين العرب، ويتخلّون عن لهجاتهم المحليّة كي يستطيع الآخرون فهمهم، وهم لايسرفون في الكلام حتّى في المزاح فجملهم قصيرة ومفيدة.
في بحر يوم السّبت خرجنا جماعات إلى بعض الأسواق الشّعبيّة و(المولات) الحديثة التي تضاهي مثيلاتها في دول أوروبا وأمريكا، بل تزيد، ولفت انتباهنا أن مساحة مدينة الرّياض وحدها تصل إلى عشرة آلاف كيلو متر مربّع، ويزيد مواطنوها عن السّتّة ملايين شخص، حتى إنّها امتدّت إلى مناطق البدو الذين يسكنون البيوت الحديثة، ويركبون السّيّارات الحديثة وتركوا ماشيتهم وإبلهم في البادية مع رعاة من دول عربيّة كالسّودان وغيرها،- ممّا يذكر أنّه تمّ توطين جميع البدو في السّعودية- ومما يلفت الانتباه اتّساع شوارع المدينة ذات الاتّجاهين، والتي يزيد كلّ اتجاه فيها عن ستّة مسارات، ويفصل الاتّجاهين في غالبيّة الشّوارع جزيرة مزروعة بالنّخيل والأشجار الأخرى غير المثمرة، كما لفت الانتباه أنّ امتداد المدينة واتّساعها بطريقة أفقية، ويبدو أنّ اتساع مساحة ملكيّة الأرضي له دور في ذلك، والتّوسّع الأفقي لا يعني عدم وجود أبراج، فهناك أبراج مكوّنة من عشرات الطّوابق وبأشكال هندسيّة رائعة، فإحدى الأبراج مبني على شكل قلم ضخم عظيم، وإحداها على شكل سفينة، والعمل في تطوير المدينة قائم بشكل متسارع، ففي الطريق من الفندق إلى مطار الرياض هناك غابة من الرّافعات (الونشات) المقامة بجانب ابنية قيد الإنشاء. ومن اللافت أيضا أنّ غالبيّة العاملين في المحلات التّجارية هم من الوافدين الأسيويّين مثل الباكستان، بنغلادش ، الهند ، تايلند ، الفلبين …. إلخ . وفي أسواق الرّياض الشّعبيّة يجد المرء كلّ مايجول في خاطره وبأسعار مقبولة.
أيّام فلسطين الثقافية
تمّ الافتتاح في مركز الملك فهد الثّقافي في الرّياض، وهو بناء حديث محاط بالحدائق، وطريقة ترتيب حدائقه وشوارعه لافتة، فيه بهو فسيح جدّا بجوانبه عدد من القاعات والصّالونات ومسجد وصالتان للمسرح، ويقام فيه استقبال المعارض الفنّيّة والثّقافيّة، وقد عرض في أحدى جوانبه الفنّانان التّشكيليّان الفلسطينيّان نبيل العناني وحسني رضوان تسع عشرة لوحة لهما وللفنان سليمان منصور على هامش الاحتفالات، كما شاهدنا فيه يوم الأربعاء 18/11/2009 م مهرجانا للأطفال يأتي في نطاق احتفالات المملكة بيوم الطفل العالميّ.
وكان على رأس حفل افتتاح مهرجان “أيام فلسطين الثّقافيّة” الدّكتور عبدالعزيز بن محي الدين خوجه وزير الثّقافة السعودية، الذي افتتح المهرجان بصحبة السّفير الفلسطيني جمال عبداللطيف الشوبكي، والدكتور عبدالعزيز بن محمد السبيل، والأمير سعود بن مساعد، والأستاذ موسى أبو غربية الوكيل المساعد في وزارة الثّقافة الفلسطينيّة، وسفراء الأردن ومصر وتونس والمغرب وقطر ولبنان والسودان وإيرلندا والنّمسا وعدد من الدّبلوماسيين الآخرين، وجمهور كبير من الجالية الفلسطينية والمواطنين السّعوديين بينهم أكّاديميّون ومبدعون.
جرى حفل الافتتاح مساء الأحد 15تشرين الثاني-اكتوبر- في قاعة المسرح الصّغير، حيث ألقى وزير الثّقافة السّعودية والسفير الفلسطيني كلمتين قصيرتين أكدا فيهما أنّ القدس حاضرة في وجدان كلّ مسلم وعربيّ.
أمّا قاعة المسرح الكبرى في مركز الملك فهد الثقافي فهي قاعة تتّسع لأكثر من ثلاثة الآف شخص، وهي كبقية المركز الثقافي مجهّزة بآخر ما ابتكر العلم الحديث من ديكورات وأثاث، ولا أخفي عليكم أن هذه القاعة قد شكّلت لي صدمة حضاريّة إيجابية، تفوق دهشتي عندما رأيت في صيف العام 1984 مسرح (البولشوي) الروسي الذي يعتبر أفضل مسرح عالميّ.
وكان للقصائد التي ألقاها الشّاعران الفلسطينيّ مازن دويكات والسّعودي عبدالله الزّيد عن القدس وفلسطين وقع لدى الحضور، أمّا فرقة أصايل الفلسطينيّة بقيادة الفنان المتميّز ناجي أبو شخيدم فقد ألهبت جمهور الحاضرين بروعة أدائها للرّقصات والدّبكات الشّعبيّة الفلسطينيّة، وكان مسك الختام مع الشّاعر الشعبي الفلسطينيّ الزّجّال موسى حافظ الذي سيطر على عاطفة ووجدان الحضور بأغانيه وأناشيده عن القدس وفلسطين وما يجري فيها.
في اليوم الثّاني الاثنين كان النّشاط النّسوي في قاعة المسرح الكبرى، وبحضور نسائيّ فقط من الجالية الفلسطينيّة ومواطنات سعوديّات وعربيّات، وكان الحضور النّسويّ مكثفا ممّا استدعى فتح هذه القاعة، وقد افتتحت المهرجان النّسويّ إحدى الأميرات السّعوديّات، وألقت الشّاعرة والرّوائيّة الأديبة وداد البرغوثي عددا من القصائد، كما تواصلت في لقاءات عديدة على طيلة أيّام المهرجان مع مبدعات وأكاديميّات سعوديّات.
أمّا أعضاء الوفد الفلسطيني فقد كانوا ضيوفا على الدّكتور عبدالعزيز السبيّل وكيل وزارة الثّقافة السّعوديّة، وبصحبته عدد من كبار موظّفي الوزارة، وعدد من الأكاديميّين والمبدعين السّعوديّين في المبني التّراثيّ السّعوديّ في العاذريّة، حيث كانت فرقة الفنون الشّعبيّة التابعة لوزارة الثّقافة السّعوديّة تتواجد تلك الليلة، فقدمت رقصة (العرضة) السّعوديّة الشّهيرة، وهي رقصة حماسيّة تراثيّة يرقصها السّعوديّون بالسّيوف، عندما تدقّ طبول الحرب، كما قدّمت الفرقة رقصة السّيف والعزاويّ المعروفة في منطقة جيزان في جنوب السّعوديّة.
وعلمنا أنّ هذه الفرقة التي جابت العالم حاملة التّراث الشّعبيّ السّعوديّ لها مثيلات في مختلف منطاق المملكة وترعاها وزارة الثّقافة السّعوديّة فغبطناهم على ذلك.
كما قدّمت الفرقة السّامر الدّوسري السّعوديّ، وقدّم أحد افرادها عزفا على الرّبابة، وآخر قدم عزفا على العود، وأعقب الحفل عشاء متنوّع الأطعمة الشّعبيّة وغيرها، وجرت على طاولاتها أحاديث عن القدس وفلسطين، حقا لقد كانت ليلة تأسر القلوب. وفي يوم الثلاثاء زار الوفد جامعة الملك سعود في الرياض، هذه الجامعة التي تشكل بأبنيتها الحديثة والجميلة مدينة صغيرة قائمة بذاتها، والتقى الوفد عميد كليّة اللغة العربيّة الدّكتور صالح الغامدي، هذا الانسان الرائع الذي استضاف الوفد في قاعة، وبحضور عدد من المدرّسين في القسم، ومنهم الدّكتور حسين المناصرة ابن بني نعيم قرب الخليل.
وتحدّث رئيس الوفد الفلسطيني موسى أبو غربية، وجميل السلحوت ومازن دويكات وموسى الحافظ عن القدس وفلسطين، وكان عدد من الأكاديميّات السّعوديّات في قاعة أخرى يستمعن الى ما يجري عبر دائرة صوتيّة، وجرى بعد ذلك حوار شارك فيه الحضور والحاضرات، كما تجوّل الوفد في مكتبة الجامعة التي تحوي حوالي مليونين ونصف المليون كتاب ومخطوطة، وفيها قسم لترميم المخطوطات.
في المساء كانت الحفلة السّاهرة في المسرح الصّغير في مركز الملك فهد الثّقافيّ، وبحضور الدّكتور عبدالعزيز السبيّل، والسّفير جمال الشّوبكي اللذين حضرا جميع النّشاطات، وكان الشّعر مع مازن دويكات والزجل مع موسى حافظ، والرّقصات الشعبية مع فرقة أصايل وهكذا كان حفلة مساء الاربعاء .
مساء يوم الاربعاء أيضا وفي النادي الأدبي الذي لفت انتباهنا بجمال مقرّه واتّساعه وجمال حديقته أيضا، تحدّث الاستاذ موسى ابو غربية رئيس الوفد الفلسطيني، وجميل السلحوت عن تهويد مدينة القدس الذي يتمّ بشكل متسارع، وحضر الأمسية إضافة إلى الدكتور عبدالعزيز السبيّل وكبار موظّفي الوزارة والسّفير جمال الشوبكي إدارة النّادي وعدد من الأكّاديميّين السّعوديّين والفلسطينيّين. ويوم الخميس زار الوفد المتحف الوطنيّ السّعوديّ، هذا المتحف المقام بجوار الدّار التي كان يسكنها مؤسّس المملكة الرّاحل الملك عبدالعزيز آل سعود، وأصبحت جزءا من المتحف، وهو متحف بأبنية مصمّمة حسب طراز المتاحف العالميّة، ويحوي موجودات سعوديّة من العصر الجاهليّ حتّى أيّامنا هذه، كما فيه جناح خاصّ يروي قصّة ومراحل قيام المملكة العربيّة السّعوديّة منذ قرون طويلة، ويروي تاريخ الإمام محمد بن سعود الذي أعدمه العثمانيون عام 1816م، وقصّة توحيد الملك عبدالعزيز للسّعوديّة وبناء المملكة تحت سيطرته بشكلها الحاليّ، وليتوالى أبناؤه من بعده على ملكها.
وفي المساء كان الحفل في السّفارة الفلسطينيّة حيث قدمت فرقة أصايل والشّاعر الشّعبيّ موسى الحافظ لوحات فنّيّة رائعة.
وقد استجاب وزير الثّقافة السّعوديّة الدّكتور عبدالعزيز بن محيي الدين خوجة إلى طلب الوفد بأن يؤدّي خمسة من أعضائه مناسك الحج – برغم ضيق الوقت فالعيد على الأبواب- وتابع الوكيل الدّكتور السبيل هذه القضيّة الى أن أخرجها إلى حيّز التّنفيذ.
ولن ننسى مشاركة الدكتور ماهر الكركي المستشار الأوّل للسّفير الأردنيّ، والذي كان حضوره مميزا في كافة القضايا البارزة، إضافة إلى بقية موظفي السفارة الذين لم أتشرّف بمعرفتهم.
الزّي الشّعبيّ
يفرض المناخ على الشّعوب أن تختار ملابسها التي تتلاءم مع طبيعة البلاد وثقافة شعوبها، وقد فرض المناخ الصّحراوي على شعوب الجزيرة العربيّة عامّة، والشّعب السّعوديّ خاصّة ارتداء الثّوب (الدشداشة) البيضاء، وهذا ما يرتديه غالبية الذّكور من الشّعب السّعوديّ أطفالا وشبابا وشيوخا، ومن اللافت أنّ هذا الزيّ الشّعبي التقليديّ يكسر الفوارق الطبقيّة والاجتماعيّة بين أبناء الشعب، فيرتديه الأمير والفقير وما بينهما، ولا يستطيع الزّائر أن يميّز بين المسؤول والرّعيّة إلا من خلال الهيبة والوقار.
المرأة السعودية
مع أنّنا عرب جميعنا إلا أنّ هناك تفاوتا في العادات والتّقاليد تختلف من شعب إلى آخر حسب الظروف المحلّيّة والبيئة في كلّ قطر عربيّ. وممّا يلفت الانتباه أنّ النّساء السّعوديّات في غالبيتهن يرتدين العباءة السّوداء و(الملاية) التي تغطّي الرأس والوجه بالكامل، أو تكون بعض النّساء منهن منقّبات لا تظهر منهنّ إلا العيون، لكن المرأة السّعودية نالت حظّها من التّعليم أيضا، وفي مختلف التّخصّصات، ولهفتها لمواكبة العصر واضحة، فقد كان الحضور النّسويّ في الليلة الثّانية لأيّام فلسطين الثّقافيّة المخصّصة للنّساء لافتا ومتفوّقا على عدد الرّجال في الأمسيات الأخرى، ممّا اضطر مشرفي المهرجان إلى فتح قاعة المسرح الكبرى في مركز الملك فهد الثقافيّ.
ولاحقا دوّنت مشاهداتي وملاحظاتي، وصدرت في كتابين هما:
– كنت هناك، من أدب الرّحلات، منشورات وزارة الثّقافة، رام الله-فلسطين، تشرين أوّل-اكتوبر-2012.
– في بلاد العمّ سام، من أدب الرّحلات، منشورات مكتبة كل شيء-حيفا2016.
وبعد صدور الكتابين زرت الولايات المتّحدة الأمريكيّة أكثر من مرّة، وشاهدت واطّلعت على أشياء جديدة فيها، كما زرت الجزائر ضمن وفد فلسطينيّ ثقافيّ. ومن مشاهداتي في الجزائر:
في الجزائر بلد الشّهداء
من الأيّام التي شعرت فيها بكرامتي وإنسانيّتي هي مشاركتي في أسبوع فلسطين الثّقافيّ في مدينة قسنطينة الجزائريّة عاصمة الثّقافة العربيّة للعام 2015م، وبما أنّ الجزائر رئيسا وحكومة وشعبا تعتبر فلسطين قضيّتها الأولى قولا وفعلا وثقافة وانتماء، فقد ارتأت أن تبدأ احتفالاتها بأسبوع فلسطين الثّقافيّ، والعربيّ الذي يزور الجزائر سيشعر وسيرى بأمّ عينيه ما معنى أن يكون عربيّا في قطر عربيّ اسمه الجزائر.
في الطّريق
صباح السّبت 25 نيسان- إبريل- شاهدنا حسن التّرتيب والنّظام والمعاملة الحسنة في مطار الملكة علياء في العاصمة الأردنية عمّان….استقلينا طائرة شركة الخطوط الجوّية التّركيّة إلى إستانبول التي وصلناها في حدود العاشرة صباحا، وما أن هبطت الطائرة مطار إستانبول الدّوليّ حتى أخبرنا قائد الطّائرة أنّ هناك خللا في كهرباء الطائرة، وهذا سيعرقل فتح باب الطّائرة…لكنّه ما لبث أن فتح بطريقة يدوية فتنفسنا الصّعداء، ونحن لا نعلم إن كان ذلك الخلل قد حصل أثناء تحليق الطّائرة في الجوّ أم أثناء سيرها على مدرج المطار!
بعد انتظار حتى الرّابعة من بعد الظّهر صعدنا إلى الطائرة التّركيّة التي ستقلّنا إلى مطار هواري بومدين في الجزائر العاصمة، على أمل الوصول إليه في السّادسة مساء حسب توقيت الجزائر الذي يتأخّر عن توقيت القدس ساعتين، وبقينا داخل الطّائرة التّركية من الرّابعة حتى الثّامنة والنّصف وهي رابضة في مطار استانبول بحجة اصطدام سيّارة باحدى طائرات شركة الطّيران التّركيّة على مدرّج المطار في اليوم السّابق، وهذا أخّر وصولنا الجزائر حتّى الحادية عشرة ليلا بتوقيت الجزائر العاصمة، حيث وجدنا في استقبالنا عددا من طاقم سفارة فلسطين في الجزائر، الذين أجلسونا في إحدى غرف الاستقبال نحتسي القهوة والعصائر حتى الانتهاء من اجراءات المطار. انتقلنا بعدها في حافلة سياحيّة إلى فندق “السّلطان” في العاصمة الجزائريّة، وهو فندق في بناية قديمة لا يوحي منظره الخارجيّ بفخامة الدّيكورات والأثاث الذي في داخله، وهناك نمنا ليلتنا بعد أن تناولنا وجبات عشائنا كلّ في غرفته.
صباح اليوم التّالي- الأحد- غادرنا في حافلة سياحيّة إلى مدينة قسنطينة التي تبعد عن الجزائر العاصمة حوالي 420 كيلومتر، وكان بصحبتنا شابّ من وزارة الثّقافة الجزائريّة اسمه محمد، وهو شابّ دمث طيّب الأخلاق. وأخذنا ننحدر في سلسلة جبال أطلس الشّرقيّة في شوارع عريضة ذات اتجاهين…كلّ اتّجاه من ثلاثة مسارب، وهي سلسلة جبال طويلة ومرتفعة جدّا وتمتد لآلاف الكيلومترات….وتعلو قممها الثّلوج، في حين تغطّي منحدراتها الغابات الكثيفة بما فيها أشجار الزّيتون…مررنا خلالها بثلاثة أنفاق اثنان منها يزيد طول الواحد منها عن كيلو متر. وعندما وصلنا منطقة سهليّة عظيمة بدت من بعيد على يميننا سلسلة جبال وهران، بينما استمرت سلسلة جبال أطلس الشّرقيّة على يسارنا، ومن المعلوم أنّ مساحة الجزائر حوالي مليونين وثلاثمائة واثنين وثمانين ألف كيلو متر. لكنّ اللافت أنّ المنطقة التي قطعناها جميعها خضراء وهي دائمة الاخضرار كما أفادنا الأهالي…وهناك سيول ماء في الأودية يبدو أنّها تتغذّى من الثّلوج التي تذوب على قمم الجبال.
مررنا بمئات القرى الجزائريّة… ولفت انتباهنا أنّها مبنيّة على طراز الفنّ المعماريّ الأوروبيّ…ولم أشاهد أيّ بناء حجريّ كما في بلادنا، وغالبيّة الأبنية مقامة من الطّوب الأحمر الجميل، وكثير من أسطح المنازل من القرميد الأحمر اللافت.
قسنطينة عاصمة الثقافة العربيّة للعام 2015م
” مدينة قسنطينة (بالفرنسية : Constantina، وتسمّى مدينة الجسور وعاصمة الشّرق الجزائريّ، وتعتبر من كبريات مدن الجزائر تعدادا. تتميز المدينة القديمة بكونها مبنيّة على صخرة من الكلس القاسي، ممّا أعطاها منظرا فريدا يستحيل أن يوجد مثله عبر العالم في أيّ مدينة. و للعبور من ضفة إلى أخرى شُيّد عبر العصور عدّة جسور، فأصبحت قسنطينة تضمّ العديد منها، بعضها تحطم لانعدام التّرميم، وبعضها ما زال يصارع الزّمن، لذا سمّيت قسنطينة مدينة الجسور المعلّقة. يمرّ وادي الرّمال على مدينة قسنطينة القديمة وتعلوه الجسور على ارتفاعات تفوق 200 متر.
وقعتِ المدينة بعدها تحت سلطة الرّومان. وأثناء العهد البيزنطيّ تمرّدت سنة 311م. على السّلطة المركزيّة؛ فاجتاحتها القوّات الرّومانيّة من جديد، وأمر الإمبراطور ماكسينوس بتخريبها، وتمّ إعادة بنائها في عهد قسنطينين.
أعاد الإمبراطور قسطنطين بناءها عام 313 م. واتّخذت اسمه وصارت تسمّى القسطنطينة أو قسنطينة. عرفت ابتداء من سنة 429 م غزوات الوندال، ثم استعاد البيزنطيّون السّيطرة عليها.
مع دخول المسلمين إلى شمال أفريقيا عرفت المدينة نوعا من الاستقلال، فكان أهلها يتولّون شؤونهم بأنفسهم، وحتّى القرن التاسع. وفي القرن الثّاني عشر الميلاديّ عرفت المنطقة قدوم القبائل الهلاليّة.”
عادت المدينة للأمازيغ عن طريق الإمارات الأمازيغيّة الإسلاميّة، ومنها الزيريّين ثم الحمّاديّين و الموحّدين، وبعد سقوط الأندلس استوطن المدينة الأندلسيّون كباقي مناطق شمال أفريقيا، كما استقرّت بها جالية يهوديّة، وتعامل معهم أهل المدينة بالتّسامح.
قسنطينة مدينة الجسور:
تتميّز مدينة قسنطينة الجزائرية او “سيرتا” وهو الاسم القديم لها، عن جميع المدن العربيّة جغرافيّا ومعماريّا، كونها مدينة الجسور المعلّقة، ويمكن القول أنّها تستحقّ بجدارة لقب عاصمة الشّرق الجزائريّ.
حضارة وثقافة:
أهالي قسنطينة محبّون للثّقافة، لذا فإنّ هناك عدّة قصور ومسارح ودور عرض للثّقافة في المدينة، أقيم في إحداها أسبوع الثّقافة الفلسطينيّة ما بين 27 نيسان- ابريل- و2 أيار-مايو- 2015م على هامش احتفالات المدينة بكونها عاصمة للثّقافة العربيّة للعام 2015م، حيث كانت أمسيات شعريّة شارك فيها كلّ من الشّعراء الفلسطينيّين: مراد السّوداني رئيس اتحاد الكتّاب الفلسطينيّين، سميح محسن ونصّوح بدران، كما قدّم الزّجال الشّابّ عبدالله غانم أكثر من أمسية زجليّة. وكانت هناك محاضرات ثقافيّة حيث قدّم الأديب وليد أبو بكر محاضرة عن الفنّ الرّوائي عند الشّباب الفلسطينيّين، وقرأ القاصّ الفلسطيني المقيم في تونس توفيق فيّاض إحدى قصصه. وقدّم أسعد القادري رئيس جمعيّة الصدّاقة الفلسطينيّة الجزائريّة محاضرة عن العلاقة الأخويّة الحميمة بين الشّعبين الجزائريّ والفلسطينيّ، في حين قدّمت الروائيّة المقدسيّة ديمة السّمان محاضرة عن وضع التّعليم في مدارس القدس العربيّة المحتلّة، وحاضر جميل السّلحوت حول الصّراع الثقافي في القدس الشّريف والتّهويد الذي تتعرض له المدينة، وتحدّث موسى أبو غربيّة عن “القدس عاصمة دائمة للثّقافة العربيّة”. كما حاضر الدكتور فيصل غنادرة عن المقارنة بين الرّواية الفلسطينيّة والجزائريّة
وقدّمت فرقة “أوف المقدسيّة للرّقص الشّعبيّ” أمسيتين واحدة في قسنطينة وأخرى في الجزائر العاصمة، تجلّى فيها زهرات وأشبال الفرقة في عروضهم التي سحرت جمهور الحاضرين، ولاقت قبولا وإقبالا منقطعي النّظير.
وكان رئيس الوفد الثقافيّ الشّاعر عبد السّلام العطاريّ، المعروف بدماثته وخفّة دمه زمبرك الحراك في هذا الأسبوع الثّقافيّ. في حين تابع الاعلاميّ أحمد زكارنة نشر الفعاليّات في وسائل الاعلام.
أمّا الرّسام سميح أبو زاكية فقد أضفى على الأسبوع الثقافيّ رونقا ونشاطا واستقطابا فريدا.
الفنّان أحمد الدّاري:
فنّان مطبوع ينحدر من قرية العيسويّة المقدسيّة، ولد في الكويت، ويعيش الآن في باريس، وهو من كوادر وزارة الخارجيّة الفلسطينيّة، قدّم عدّة أغانيات وعزفا على العود أكثر من مرّة. وقد كان لافتا بخفّة دمه، ودماثة خلقه وسعة ثقافته وهدوئه. ذكّرته بحلف الأوديّة “الواديّة القبليّ” الذي يجمع قرى السّواحرة، سلوان، الطّور، العيزريّة، أبو ديس والعيسويّة” فضحك ملء شدقيه على ذلك.
في جامعة الأمير عبد القادر الجزائريّ:
بترتيب من الأخ منصور المغربي مندوب سفارة فلسطين في قسنطينة، وبرفقة الأخت أمّ خليل زوجة الدّكتور لؤي عيسى سفير فلسطين في الجزائر، رتّب الدّكتور عبدالله بو خلخال رئيس جامعة الأمير عبد القادر الجزائري المسكون بحبّ فلسطين وشعبها. لقاء مع الرّوائيّة ديمة السّمان وجميل السلحوت حيث حاضرا عن التّعليم والصّراع الثّقافي في القدس.
الأوركسترا:
مساء الخميس 30 نيسان دعينا لحضور حفل أوركسترا في دار الأوركسترا في قسنطينة، حفل موسيقي وغنائيّ غاية في الابداع، شارك فيه مئات الموسيقيّين وفرقة الكورال وفرقة النّشيد في الحرس الرّئاسيّ، وقدّموا رائعة “الوئام والسّلام” بقيادة المايسترو أمين قويدر، وقدّمت فيه الفنّانة الجزائريّة صاحبة الصّوت الشّجيّ ندى الرّيحان أغنية وطنيّة.
الأخوّة الجزائريّة الفلسطينيّة:
الشّعب الجزائريّ بأعراقه كافة، بعربه وبأمازيجه مجبول على حبّ فلسطين وشعبها، والحكومة الجزائرية تساعد فلسطين، ولم تحاول يوما التدخّل في الشّأن الفلسطينيّ الدّاخلي، وهم يستشهدون بمقولة الرّئيس الرّاحل هوّاري بومدين ” نحن مع فلسطين مظلومة أو ظالمة” و” استقلال الجزائر منقوص ما دامت فلسطين محتلة” وغيرها. وممّا يتميّز به الشّعب الجزائريّ هو قول الأفراد العاديّين عندما يرحّبون بأيّ فلسطين” أنت جزائريّ وأنا فلسطيني” فلله درّك يا شعب المليون ونصف المليون شهيد.
بيت لكلّ أسرة:
ومن الأمور اللافتة تلك الأبنية متعدّدة الطّوابق والممتدّة أفقيا على مساحات واسعة، وفي أكثر من مكان، فكانت الإجابة عن استفسارنا حولها بأنّها مشاريع اسكانيّة تبنيها الدّولة، وتوزّع الشّقق مجانا على الأسر الجزائريّة، لأن من حقّ كلّ جزائريّ أن يكون له بيت مستقل.ّ
الماجدات الجزائريّات:
للمرأة الجزائريّة حقوق تفوق مثيلاتها في الدّول العربيّة والاسلاميّة، وقد حفظ لها القانون الجزائريّ تلك الحقوق، ونسبة الجزائريّات المتعلّمات والعاملات مرتفعة جدّا، ومن الّلافت أنّ الغالبيّة العظمى من النّساء الجزائريّات يرتدين الّلباس الشرعيّ أو بالأحرى يرتدين الحجاب، وبعضهنّ منقّبات أيضا…وظاهرة الحجاب والنّقاب انتشرت في الجزائر منذ تسعينات القرن العشرين كما أفادنا بعض المواطنين. وعندما سألت أحد الصّحفيّين عن الحجاب بقولي:
هل حجاب المرأة في الجزائر عبادة أم عادة أم خوف من التّيارات الدّينيّة؟
أجابني ضاحكا: كلّها مشتركة!
العشريّة الظلماء:
يتحدّث الجزائريّون بمرارة عن المرحلة السّوداء التي أشعل فيها المتأسلمون الجدد خلالها نار الفتنة في الجزائر ما بين الأعوام 1992 و2002 والتي حصدت أرواح ما يزيد على مائتي ألف جزائري، عدا عن مئات آلاف الجرحى، وعن الدّمار الذي ألحقوه بالبلاد ومؤسّساتها واقتصادها، ويصفونها “بالعشريّة الظلماء” أو السّوداء أو المعتمة.
النّشيد الوطني
أشقّاؤنا الجزائريّون فخورون بتاريخهم وبانتمائهم القوميّ والدّيني، لذا فإنّ عمليّة “فرنسة” الجزائر ومحاولة الاستعمار الفرنسي فرض لغته وثقافته عليهم قد ذرتها رياح الثّورة العاتية، وبعد استقلال الجزائر أصبحت اللغة العربيّة لغة البلاد الرّسميّة، فقاموا بتعريب كلّ شيء في الجزائر، والجزائريّون شديدو الفخر برموزهم الثّقافية والتّاريخيّة والوطنيّة، لذا لا غرابة أن تجد أسماء المؤّسّسات والشّوارع تحمل أسماء شهداء الجزائر في حرب التّحرير وغيرها، وأن تجد جامعة في قسنطينة تحمل اسم المجاهد الأمير عبد القادر الجزائريّ. ولاغرابة أيضا أن يتصدّر النشيد الوطنيّ الجزائريّ احتفالات نشاطات المؤسّسات على اختلافها.
وفي أسبوع فلسطين الثّقافيّ على هامش احتفالات “قسنطينة عاصمة الثّقافة العربيّة للعام 2015 كانوا يقدّمون النّشيد الوطنيّ الفلسطينيّ على مثيله الجزائريّ، ويستمرّ عزفه حوالي ستّ دقائق:
وعندما سألناهم عن أسباب تقديم النّشيد الوطنيّ، وليس السّلام الوطني اختصارا للوقت! أجابونا بأنّ النّشيد الوطني رمز مقدّس لا يجوز التّهاون في بثّه.
ديمة وآسيا وأمّ خليل
أديبتنا الرّوائيّة المتميّزة ديمة جمعة السّمان هي السّيدة الوحيدة التي كانت ضمن وفد الأراضي الفلسطينيّة المحتلّة الثّقافيّ، وكان هناك عدد من الزّهرات العضوات في فرقة “أوف” المقدسيّة، وحضرت السّيدة آسيا الرّيان من هولندا، وهي فلسطينيّة تنحدر أصولها من منطقة حيفا، تعمل في مجال الاعلام والصّحافة والإخراج السّينمائيّ، أصيبت بوعكة صحيّة منعتها من تقديم موضوعها حول السّينما الفلسطينيّة، وهي سيدّة مثقّفة تعي قضيّتها جيّدا، تنناقشنا وتحاورنا وإيّاها أكثر من مرّة، وسعدنا بلقائها. ولا ننسى هنا أيضا دور السّيدة أمّ خليل زوجة سفيرنا في الجزائر، والتي شاركت الوفد في فعاليّات الأسبوع الثّقافيّ كاملة، فهي سيّدة فاضلة مثقّفة وفاعلة بهدوء أيضا.
أمّا زميلتنا الرّوائيّة ديمة جمعة السّمان، فقد كانت نجم الأسبوع الثّقافيّ بدون منازع، فبعد أن قدّمت محاضرتها حول التّعليم في مدارس القدس العربيّة في قصر الثّقافة في قسنطينة، وفي جامعة الأمير عبد القادر الجزائريّ، لفتت أنظار رجال الفكر والأكاديميّين ومراسلي وسائل الاعلام بغزارة معلوماتها وقوّة شخصيّتها، وجمهور الحضور، فتسابقوا على مصافحتها والحديث وإجراء المقابلات معها. وقد وصفها هي وجميل السلحوت الدّكتور عبدالله بو خلخال رئيس جامعة الأمير عبد القادر الجزائريّ بأنّهما يحملان رائحة القدس، وعرض الدّكتور أبو خلخال عليها وعلى جميل السّلحوت ترتيب لقاءات لهما؛ لإلقاء محاضرات عن القدس ومدارسها وصراعها ومعاناتها مع الاحتلال في مختلف الجامعات الجزائريّة.
الدّكتور عبدالله بو خلخال
هذا الرّجل الذي يشغل منصب رئيس جامعة الأمير عبد القادر الجزائري، مجاهد يتحلّى بتواضع العلماء، يحمل هموم فلسطين وشعبها، ويمنّي النّفس بالصّلاة في المسجد الأقصى محرّرا من الأسر، استقبلني والأديبة السّمان صحبة زميله في الدّراسة الأستاذ منصور المغربي مندوب سفارة فلسطين في قسنطينة، والسّيدة أمّ خليل زوجة السّفير الفلسطينيّ، والأخ علي الشّامي بالأحضان، واصطحبنا بجولة في أقسام الجامعة، وقدّم لي وللأخت ديمة السّمان شهادة مشاركة تقديريّة من الجامعة ممهورة بخاتم الجامعة وتوقيعه.
فنّ وفنّانون فلسطينيّون في الجزائر
في قسنطينة التقينا الفنّان النّحات زكي حسن؟ وهو فنّان يعود أصله إلى قرية الطنطورة قرب حيفا التي تعرّضت لمذبحة في نكبة الشّعب الفلسطينيّ الأولى عام 1948، وهو مولود في مخيّم اليرموك قرب العاصمة السّوريّة دمشق، ويعيش الآن في الجزائر، بعد أن فقد كلّ ما يملك في المخيّم بما في ذلك منحوتاته الشّهيرة والعالميّة، وقد كان ضمن الوفد الفلسطينيّ الثقافيّ في تظاهرة “قسنطينة عاصمة الثقافة العربيّة” في الجزائر. وخصّص له جناح في قصر الثّقافة في قسنطينة المدينة التّاريخيّة. والرّجل صاحب الابتسامة الدّائمة واللافتة هادئ بطبعه، منحوتاته لها دلالات عميقة عمق انتماء الرّجل لقضيّته ولشعبه ولأمّته، لاقت اقبالا كبيرا من جمهور من ارتادوا القصر الثّقافيّ، والرّجل يتكلّم بألمٍ شديد عن منحوتاته وعن بيته في مخيّم اليرموك، وكيف استولى “المتأسلمون الجدد” على بيته واتّخذوه مقرّا لهم بعد أن دمّروا المنحوتات التي أمضى سنوات في نحتها، وها هو يبدأ حياته من جديد في الجزائر العظيم.
أمّا الرّسام سميح أبو زاكية وهو من الخليل، فقد أضفى على أسبوعنا الثّقافيّ جمالا وحركة فقد استقطب آلاف الأطفال والأمّهات الجزائريّات والشّباب والمهتمّين بالفنون، وقد كان تفاعل الأطفال معه رائع ولافت، خصوصا تلك الطفلة المسمّاة”غزّة” والتي أطلق والداها عليها هذا الأسم؛ لأنها ولدت أثناء العدوان على قطاع غزّة في العام 2008.
لكنّ فاكهة البرنامج الفنّيّ تمثّلت بالرّائع أحمد داري ابن قرية العيسويّة المقدسيّة المولود في الكويت والمقيم في باريس، وهو هادئ بطبعه وذو ثقافة واسعة، عزف على العود رفقة الأمسية الشّعريّة التي قدّمها شعراؤنا الجميلون مراد السّوداني، سميح محسن ونصّوح بدران. كما عزف على العود وغنّى أكثر من مرّة وفي أكثر من موقع، فأسعد من شاهدوه ومن سمعوه.
أمّا الزّجال الشّعبيّ عبد الله غانم من منطقة جنين، وهو شابّ نبيل هادئ، يتحلّى بأخلاق القرية، ويجيد ارتجال الزّجل الشعبي وأغاني “الميجنا والعتابا” وغيرها، وكانت له أمسية جميله شاركه فيها الفنان أحمد داري، وأدخل الفرحة في قلوب من استمعوا إليه.
وتألّقت فرقة” أوف” المقدسيّة للرّقص والدّبكة الشّعبيّة، واستقطبت جمهور الحاضرين في أمسيتين واحدة في قسنطينة، والثّانية في الجزائر العاصمة. وألهبت القاعتين اللتين ضجّتا بالتّصفيق، وسط زغاريد أخواتنا الماجدات الجزائريّات.
في أمريكا مرّة أخرى
زرت أمريكا منذ العام 1984م أكثر من خمس وعشرين مرّة؛ لزيارة إخوتي وأسرهم، وأختي فاطمة فيها، وبعدها ومنذ العام 2001 وجود ابني قيس أيضا فيها، وقد كتبت عن مشاهداتي في أمريكا كتابا أسميته “في بلاد العمّ سام”صدر عام 2016 عن مكتبة كلّ شيء في حيفا، وفي زياراتي اللاحقة بعد صدور الكتاب، شاهدت أشياء جديدة لفتت انتباهي، وهذا بعض ما كتبته عنها:
من غرائب أمريكا Amish
في أواخر نوفمبر 2016، وبينما أنا وشقيقي راتب نجلس في مزرعة الدّجاج التي يملكها، دخلت حسناء ترتدي ملابس كما الرّاهبات، وتنتعل حذاء “جزمة” لافتة تصل حتّى ركبتيها، فقد أتته تلك السّيدة بشحنة من الدّجاج البلديّ، لفتت انتباهي بأدبها الجمّ، وحيائها الذي لا يخفى على أحد، فاستفسرت عنها وإذا بها من جماعة دينيّة تدعى “أميش” ولم أعلم من أين أتت هذه التّسمية- رغم استفساراتي الكثيرة- لكنّهم جماعة دينيّة مسيحيّة مختلفة، فعرضت على شقيقي راتب أن نزورهم في مكان سكناهم؛ لنراهم على الطّبيعة كما هم.
رتّب راتب الزّيارة هاتفيّا مع زوج المرأة، فذهبنا مجموعة مكوّنة منّي ومن كلّ من: شقيقيّ راتب وداود، ابني قيس، محمد سلامة البدوي، أبو نايف غزاونة وعفيف الياسيني.
تبعد “مضارب” جماعة ” Amish”أميش عن شيكاغو حوالي ثلاثمائة كيلومتر، وتقع في ولاية انديانا المجاورة، وصلناهم بعد سياقة ثلاث ساعات في الطريق السّريعة، كلّ واحد منهم يسكن بيتا في أرضه الزّراعيّة، لذا فإنّ بيوت قريتهم متباعدة ومنعزلة عن بعضها البعض، وقد تصل المسافة بين بيت وآخر إلى مئات الأمتار، وأحيانا تزيد على الكيلومتر.
استقبلنا الرّجل وزوجته الشّابّة بترحاب زائد، وسألت الزّوجة فور وصولنا:
ماذا تريدون أن أعدّ لكم لوجبة الغداء؟
أجابها راتب: لا شيء، شكرا لك، والتفت إلى زوجها وسأله:
هل أحضرت خروفا لنا كما اتّفقنا؟ فأجاب الرّجل بالإيجاب.
قام راتب بذبح الخروف وسلخه وقطّعه تمهيدا لشوائه على الخشب، في حين قمت باستطلاع المكان، البيت كما بقيّة البيوت الأمريكيّة في الرّيف، وفي محيطه “براكس” مخصّص لتربية طيور الإوزّ، وبجانبة بركة ماء عادية محفورة في التّراب لاستعمال الإوزّ فقط. وهناك حظيرة لتربية الخيول القزمة”النّغل” فيها ثلاثة رؤوس “ذكر وأنثيان”. سألنا الرّجل عن الحكمة من تربيتها فقال:
“كي يلعب عليها أطفالي!”
وهناك حظيرة أخرى يستعملونها لتربية الخيول، التي يستعملونها للحراثة، وجرّ العربات. بينما يوجد “براكس” تحيط به قطعة أرض لتربية الدّجاج، العلف المقدّم للطيور ذرة صفراء مجروشة فقط.
وهناك “براكس” آخر لتربية الخنازير. بينما توجد في الأرض منحلة، تعتاش على رحيق الزّهور والأشجار.
عند مدخل أرض الرّجل هناك غرفة صغيرة فيها هاتف، لا يستعمل إلا في الضّرورة القصوى والحالات الطّارئة، الرّجل لديه هاتف محمول لا يستعمل إلا للعمل فقط.
الأسرة ومن ضمن معتقداتهم لا يستعملون الكهرباء مع أنّ خطوطها تمرّ من قريتهم، يحتاجون الكهرباء لتكييف “البراكسات” للطيور والحيوانات التي يربّونها، فيستعملون “موتورات” توليد، في بيت الأسرة ثلاجة تعمل على كهرباء الموتور، لكن البيت لا يضاء بالكهرباء، ويستعينون بمصابيح تعمل على الطّاقة الشّمسيّة.
لا يستعملون التّلفاز أو المذياع، ولا يقرأون الصّحف، منعزلون كلّيا عن العالم، ولا يهمّهم ما يجري فيه. عندما سألناهم عن سبب عدم وجود تلفاز أو مذياع عندهم قال الزّوج:
لا نقتنيها كي لا تفسد أخلاق الأطفال!
و”أميش” مجموعة دينيّة بروتستنتيّة تأسّست في نهاية القرن السّادس عشر في سويسرا، ويبلغ تعدادها في أمريكا هذه الأيّام ثلاثماية وثمانية ألف شخص، وتعود أصولهم إلى مهاجرين أوروبّيّين غالبيّتهم من ألمانيا وسويسرا، وهم جماعة مسالمون لا يؤذون أحدا، ولا يكرهون أحدا. ومن معتقداتهم ” أنّ الكبرياء والتّعالي لله فقط، وعلى البشر أن يتواضعوا، وهم منقسمون في بعض معتقداتهم إلى حوالي عشر مجموعات، فهناك مجموعة واحدة منهم تؤمن باستعمال”التراكتور ” في الحراثة، وثلاث مجموعات تسمح باستعمال ماكنات تصنيع الحليب والغاز للطبيخ، بينما الآخرون يطبخون على نار الموقد، لكنّهم يجمعون على عدم إضاءة البيوت بالكهرباء، بل هناك مجموعتان منهما ترفضان إضاءة البيوت بالمصابيح الشّمسيّة.
ولا يرسلون أبناءهم وبناتهم إلى المدارس بعد الصّفّ الثّامن، فثمانية صفوف تكفي، وبعدها قد تكون المدارس والتّعليم مفسدة- حسب معتقدهم-!
وهم يزوّجون بناتهم وأبناءهم في سنّ الثمانية عشرة، ولا يجوز قبل ذلك، لذا فإنّ الزّوجين يكونان في نفس العمر، ولا يتزوّجون من غيرهم. يتعارف العروسان لمدّة عامين بوجود والدي كلّ منهما، فإن توافقا وقبل كلّ منهما بالآخر تزوّجا، وإلّا فلا، ولا يكرهون أبناءهم وبناتهم على الزّواج، ومن الملاحظ أنّ رجالهم يحلقون الشّوارب ويطلقون اللحى المشذّبة.
ويطلق على “أميش” ” Anabaptist”أنابابتست” وتعني حسب “قاموس المعاني: “قائل بتجديد العماد، ومنكر وجوب تعميد الأطفال”.
وهم يعتاشون على تربية بعض الطّيور وبعض الحيوانات، ويملكون أراضي شاسعة، يزرعونها ذرة وفول الصّويا، ومن اللافت وجود عنابر ضخمة لتخزين الحبوب بجانب عدد من البيوت، في حين توجد مجموعة عنابر تتّسع لآلاف الأطنان تملكها شركة، ويبدو أنّها تشتري الحبوب من المزارعين.
والأهالي يزرعون أرضهم بالحراثة على الدّواب.
لمضيفينا ثلاثة أبناء وبنتان، أربعة منهم في المدرسة. لديهم موقد بجانب بيتهم، وهو عبارة عن حفرة دائريّة صغيرة، قطرها حوالي متر، منصوب بجانبها قضيب حديديّ قويّ، تمتدّ منه شبكة قابلة للرّفع والتّنزيل فوق النّار.
عندما عاد أطفالهم من المدرسة، تربّعت الطفلتان على الأرض فوق الأعشاب، شاركونا الطّعام بدعوة منّا، رفضت الطفلتان أن نضع لكلّ واحدة في صحنها بعض الشّواء، بينما قبلتاه من يدي والدتهما التي كانت تفتّته لهما قطعا صغيرة كما الأطفال المفطومين حديثا. أخبرنا الزّوجان أنّهما يأكلان لحم الخراف للمرّة الأولى، وأنّ أكثر اللحوم التي يأكلونها هي لحوم الخنزير والبقر.
ومن عاداتهم أنّ نساءهم لا يستعملن أيّا من أدوات التّجميل أو العطور، ولا يتبرّجن، والحوامل منهنّ لا يراجعن الأطبّاء ولا ينجبن في المستشفيات، ويساعدهن على الولادة نساء مسنّات ذوات خبرة. وهم يحرّمون الخمور والسّجائر، ويحترمون الدّيانات والمعتقدات الأخرى. ولا يخدمون في الجيش أو قوى الأمن، وإذا ما فرضت الدّولة التّجنيد الاجباري، أو ما يسمّى “خدمة العلم” فإنّهم يخدمون في مؤّسسات مدنيّة عامّة كالمستشفيات والمدارس.
في بيت مضيفينا صالون واسع فيه عدد من “الكنبات” والكراسي، ولا توجد عندهم كنائس، وقال لنا الأب:” أنّهم يجتمعون كلّ يوم أحد في بيت واحد منهم ويؤدّون صلواتهم.
وقد لاحظنا أنّهم يكرمون ضيوفهم بطريقة لافتة، حتّى إنّ الرّجل تمنّع في استلام ثمن الخروف الذي ذبحناه، لولا اصرار شقيقي راتب على دفع ثمنه، علما أنّ الرّجل اشتراه من مكان آخر فهو لا يربّي الخراف.
وعند مضيفنا كانت فرصة للتّجوال في بعض جنبات القرية بواسطة “الحنطور” الذي تقوده الخيول، لأنّهم لا يستعملون السّيارات داخل قريتهم.
تشارلز الثّالث في مسرح شكسبير
مساء 25 نوفمبر 2016 شاهدنا أنا وزوجتي، ابني قيس وزوجته مروة، وابن عمّي محمد موسى وزوجته “جويس” وابنته أماندا العرض الأوّل لمسرحيّة “الملك تشارلز الثالث” على مسرح شكسبير في شيكاغو. يقع مسرح شكسبير على لسان بريّ يدخل بحيرة متشيغان اسمه نافي بيير “Navy Pier”، قبالة ناطحات السّحاب في مركز مدينة شيكاغو، وهذا اللسان يحوي العديد من المحلات التّجاريّة المتنوّعة، إضافة إلى عدد من المطاعم.
شكل المسرح:
لا يستطيع المرء رؤية بناء مستقلّ للمسرح من الخارج، فهو ضمن هذا اللسان البحري الذي يمتدّ داخل البحيرة لما يزيد على الكيلو متر، ويبدو البناء فيه كأنّه بناء واحد، ومن جهته الغربيّة هناك شارع عريض ذو التّجاهين، يصل حتّى نهاية اللسان، وعلى يمين الدّاخل إليه تقع مواقف متواصلة للسّيّارات، تحوي داخلها على مصاعد، ومداخل لهذا الصّرح المعماريّ اللافت.
والمسرح مكوّن من ثلاث طبقات، أمام كلّ واحد منها صالون”لوبي”، وفي “لوبي”الطّابق الأوّل هناك تمثال لشكسبير يظهر فيه رأسه وصدره.
يدخل المرء صالة العرض المكوّنة من طابقين، فيجد أمامه مسرحا بيضاويّ الشّكل، تمتدّ خشبة العرض في منتصفه، ويجلس الحضور على ثلاثة جوانب.
في المنتصف هناك ثمانية صفوف في كلّ صفّ منها ستّة عشر مقعدا، على جانبيها ممرّات إلى صالة العرض، ومنها وعلى اليمين واليسار خمسة صفوف في كلّ واحد منها أربعة عشر مقعدا، وفي الطبقة الثّانية”لوج” مكوّن من حوالي عشرين قوسا خشبيّا، بين كلّ واحد منها والآخر يجلس ثمانية أشخاص، كلّ أربعة في صفّ واحد، أمّا في الطّابق الثّالث فهناك صفّ واحد وبنفس المواصفات والأعداد.
الإضاءة: من خلال الطابقين الثّاني والثّالث، يظهر أمام كلّ مقعد أماميّ مصباح إضاءة ضخم متحرّك مصوّب على “ستيج” العرض، عدا عن المصابيح الأخرى المعلّقة في السّقف.
هذه المسرحيّة: مؤلف هذه المسرحيّة هو مارك بارتليت، ومخرجها جاري جريفين، وشارك في تمثيلها ثلاثون فنّانة وفنّانا، منهم فنّانون معروفون ومشهورون عالميا أمثال: روبرت باثروست، كاتي سكنّر، جوردان دين، أماندا درينكال، أليس مانلي ويلسون، جونثان وير.
تعرض هذه المسرحيّة منذ عامين متتاليين، وحازت على جوائز عالميّة عدّة، والعرض الذي حضرناه هو عرضها الأوّل في أمريكا.
موضوع المسرحيّة:
تنتقد المسرحيّة التي امتدت ساعتين ونصف، تقسمها استراحة مدّتها ربع ساعة محاولات الالتفاف على “الدّيموقراطيّة” تحت مسمّيات مختلفة.
ويدورموضوعها بطريقة ساخرة حول وفاة اليزابيث ملكة بريطانيا الحاليّة، وانتقال العرش بعدها لابنها الأمير تشارلز؛ لتبدأ بعدها المؤامرات للالتفاف على صلاحيّات الملك الدّستوريّة، لتنتهي بتنصيب الأمير وليام ابن تشارلز ملكا بدلا من أبيه، وتلاحظ في المسرحيّة السّخرية من الأمير هاري الابن الأصغر للأمير تشارلز وللأميرة ديانا، لتشكيك العائلة المالكة بصحّة نسبه.
الحضور:
بداية يجدر الانتباه أنّه يتمّ الحجز مسبقا لحضور أيّة مسرحيّة، ويمكن الحجز بواسطة الهاتف والدّفع مسبقا من خلال بطاقة الدّفع، لذا فإنّ جميع المقاعد مشغولة، وتتراوح أعمار الحضور بين العشرينات وحتّى الثّمانينات، وكان هناك حضور لاثنين من ذوي الاحتياجات الخاصّة يجلسان على كراسي مقعدين، ولم أشاهد أيّ طفل بغضّ النظر عن عمره، ويسود الهدوء التّام أثناء العرض، ولم نسمع رنين هاتف محمول.
تشجيع المسرح:
يبلغ سعر التّذكرة الواحدة مئة دولار في الغالب، لكنّ المسرح يعطي خصما لافتا لمن هم دون الخامسة والثّلاثين من العمر، فيبيعهم التّذكرة بعشرين دولارا فقط؛ ليشجّعهم على ارتياد المسرح.
بجانب المسرح يوجد مطعم ضخم وراق جدّا، يقدّم خصما بنسبة 15٪ لمن جاء لتناول عشائه، بعد أن يسأل النّادل الزّبائن على كلّ طاولة: هل جئتم لحضور مسرحيّة، فإن كان الجواب بالإيجاب، سيجدون الخصم في فاتورة الحساب، وبهذا يصطادون عصفورين بحجر واحد، فبخصمهم هذا يشجّعون الزّبائن على تناول طعامهم في هذا المطعم المجاور للمسرح، ويشجّعونهم على حضور المسرحيّات التي تقدّم كلّ ليلة على خشبة مسرح شكسبير، كما أنّ موقف السّيّارات التّابع للبلديّة يعطي هو الآخر خصما لمن يحضرون العروض المسرحيّة.
الدّيكور: كان الدّيكور لافتا ببساطته وعمقه، فكان العلم البريطاني يتوسّط شاشة العرض، وبقي مرفوعا بشكل طولي فوق خشبة العرض، وتغيير الدّيكور، بعد كلّ مقطع يتمّ في ثوان معدودة، وكان لافتا نزول وسحب مجسم لمدخل رئاسة الوزراء البريطانيّة في ١٠ داوننج ستريت، من أعلى المسرح بسرعة فائقة.
سرعة تبديل الممثّلين والدّيكور عند نهاية كلّ مشهد كانت تتمّ في ثوان معدودة.
حديقة جار فيلد Gar field Park
في غربيّ مدينة شيكاغو ووسط حارات السّود، توجد حديقة” ومتنزّه جار فيلد” المدهشة والمتميّزة، فهذه الحديقة التي تبلغ مساحتها 744 دونما، عبارة عن غرف زجاجيّة ضخمة، مكيّفة لتوفّر للنّباتات المزروعة فيها المناخ نفسه الذي تعيشه في الطّبيعة التي تعيشها.
وتتوفّر في هذا المتنزّه الطبيعيّ نباتات وأشجار المناطق الاستوائيّة، إلى نباتات المناطق الصّحروايّة وما بينهما، فالمناطق الصّحراوية نباتاتها شوكيّة، وهذا ما استهوى حفيدتي “لنّوش” ابنة العام والنّصف واستهوتها الحصوات التي تراها للمرّة الأولى، عندما زرنا الحديقة في نوفمبر 2016، ممّا استدعى حراستها والحدّ من حركتها كي لا تؤذيها الأشواك في أثناء زيارتها للمتنزّه رفقة والديها وجدّتها لأبيها، في حين لم أدخلها أنا لارتباطي بموعد آخر في وقت الزّيارة.
وتنبع أهمّية هذه الحديقة المفتوحة مجّانا أمام الزّائرين، أنّها توصل لزائريها الكثيرين، طبيعة حياة النّباتات في بيئاتها المختلفة، ليروها على طبيعتها وكأنّهم يزورونها في أوطانها الأصليّة.
مكتبة عامّة في متنزّه
يوم 23 اكتوبر 2016 دعانا صديق لجولة في بعض مناطق الرّيف الأمريكيّ، وعلى أطراف ولاية وسكنسن مرّ بنا على مزارع أغنام لشراء خروف سنقيم عليه حفل شواء، ومررنا هناك بثلاث مزارع متجاورة لمربّي الأغنام، واحدة لشيخ ثمانينيّ، واثنتان لابنتيه وزوجيهما، كلّ مزرعة مكوّنة من آلاف الدونم، عند مدخلها بيت أنيق لأصحابها، وبجانبه “براكسات” لحفظ الأعلاف من الأمطار والثّلوج، والأعلاف هي بالات برسيم، وهناك بيت لكلاب الرّعي. المزرعة مقسّمة لحظائر، منها حظيرة للخراف المعدّة للبيع، في كلّ مزرعة آلاف الأغنام، التي يجري تقسيم الأرض لها؛ لتنتقل من جزء لآخر؛ كي ترعى الأعشاب، طبعا لا يوجد تسمين، وفي كلّ مزرعة يمرّ جدول مائي تشرب منه المواشي.
توقّفنا عند مزرعة إحدى البنات، التي اعتادت على التّرحيب بزبائنها، خرج زوجها بعدها بقليل. في حظيرة الخراف المعدّة للبيع هناك خراف متفاوتة في أوزانها، سعر الخروف مائتي دولار بغضّ النّظر عن وزنه. هناك مكان للذّبح والسّلخ، اشترينا خروفا، وذهبنا لشوائه في متنزّه عامّ قريب من المزرعة المتواجدة في منطقة تعتبر من البراري، لكنّها زراعيّة، شاهدنا حقول الذّرة، الشّوارع معبّدة، والخدمات متوفّرة من كهرباء، ماء، وانترنت.
مساحة المتنزّه حوالي عشرة دونمات على شكل مستطيل، يحيط به شارع معبّد، بعده غابة من الأشجار المعمّرة الكثيفة، في المتنزّه أشجار غابات معمّرة أيضا، ما بين الأشجار خال من الأعشاب، فيه مقاعد خشبيّة وطاولات للجلوس، مراجيح وسحاسيل للأطفال. هناك مناقل للشّواء ترتفع حوالي متر عن الأرض، وفي طرف المتنزّه مراحيض عامّة للنّساء وللرّجال، وفيها ورق تواليت رغم أنّها عامّة وموجودة في براري.
في وسط المتنزّه خزانة كتب لها أبواب زجاجية، مكتوب على أعلاها” مكتبة متنزّه صغيرة” ومكتوب أيضا:”خذ كتابا وضع كتابا آخر”، في الواقع أنّ هذه المكتبة أدهشتني بمكان وجودها، لكن من كانوا معي ويعيشون في أمريكا أكّدوا لي بأنّ هكذا مكتبات موجودة في متنزّهات كثيرة! هناك من يأخذ كتابا، يطالع فيه، وعند انصرافه يعيده إلى مكانه، لا أحد يسرق الكتب، ولا أحد يمزّقها، وحتّى الأطفال الذين يتأرجحون ويتسحسلون لا يؤذون الكتب.
عندما حلّ المساء، لاحظت أن لا إضاءة في المتنزّه الذي يفتح أبوابه من الثّامنة صباحا وحتّى العاشرة ليلا، لكنّ مكتبته استثناء، فهناك ضوء كشّاف يضيئها ويضيء محيطها.
المكتبات العامّة مكان للمطالعة
من الأمور التي صدمتني حضاريّا في شيكاغو، هذه المدينة التي تدور في فلكها مائتان وستّ بلديّات؛ لتقديم الخدمات الأفضل للمواطنين، هو وجود المكتبات العامّة، فعدا عن المكتبة المتواضعة التي شاهدتها في متنزّه عامّ، هناك مكتبات عامّة في كلّ حيّ”بلديّة” تحتوي على عشرات آلاف الكتب إن لم تكن أكثر، وفي البلديّات الكبيرة هناك مكتبات عامّة فيها ملايين الكتب، وفي كلّ مكتبة جناح خاصّ لكتب الأطفال، وفيه طاولات وكراسي خاصّة للأطفال، الذين يريدون المطالعة داخل مقرّ المكتبة. وطبعا هناك قسم خاصّ للكبار، في ساعات ما بعد الظّهيرة تجد أطفالا، يطالعون، بعضهم لا يتجاوز الخامسة من عمره، يأتي معه أحد والديه أو كلاهما، أو أحد جدّيه، وتجد في ركن الكبار أشخاصا من مختلف الأعمار، المسنّون تجدهم في ساعات النّهار المختلفة، يطالعون بصمت، يحافظون على نظافة المكان، قيّمة المكتبة تساعد أيّ شخص –مهما كان عمره- للحصول على الكتاب الذي يريده.
وللمكتبة قوانين لإعارة الكتب، وهو أن تشترك مجّانا دون مقابل، كي تحصل على بطاقة الاشتراك؛ ليسهل على قيّمة المكتبة تسجيل اسم المشترك واسم الكتاب الذي يستعيره، وتاريخ استعارته، وللاستعارة مدّة لا يجوز تجاوزها وهي ثلاثة أسابيع، على مستعير الكتاب أن يعيده خلالها، أو في اليوم الأخير منها، ومن يستعير كتابا ويتأخّر في إعادته يدفع غرامة مقدارها دولار عن كلّ يوم تأخير، وبعد عشرة أيّام من التّأخير يدفع ثمن الكتاب كاملا.
وممّا لاحظته أنّ هناك صندوقا مخصّصا للكتب المعادة، فبإمكان من استعار كتابا أن يضعه في ذلك المكان، ولا يشترط عليه أن يعيده للقيّمة على المكتبة.
المطالعة ضمن المنهاج الدّراسيّ
من خلال أبناء شقيقيّ داود وراتب، علمت أنّ المطالعة تدخل ضمن المنهاج الدّراسيّ، ولها علامة في الشّهادة، وتؤثّر على معدّل التّلاميذ، ففي الصّفوف الابتدائية الأولى في مدرسة “جمعيّة الأقصى” الواقعة بجانب مسجد في حيّ الغالبية العظمى من سكّانه عرب، وغالبيّتهم فلسطينيون في “بريدج فيو”، إحدى البلديّات الواقعة في فلك بلديّة شيكاغو، وهي مدرسة خاصّة تتقاضى رسوما شهريّة تبلغ ستمائة دولار على كلّ طالبة وطالب، وتدرّس المنهاج الأمريكي مضافا إليه مادّتي التّربية الاسلاميّة واللغة العربيّة.
وضمن المنهاج الأمريكي هناك حصّة أسبوعيّة للمكتبة، وأخرى للرّسم، وتُخصّص للطلبة من الصّفّ الأوّل إلى الثّالث الابتدائي كتب قصص للأطفال، على الأهل أن يشتروها لأطفالهم، ويعطى كلّ طفل نموذجا يحوي أيّام الشّهر كاملة، مطلوب من الأهل أن يعبّئ كلّ واحد منهم يوميّا مع توقيعه، اسم الكتاب الذي قرأ فيه لابنه وعدد الصّفحات، وفي المدرسة يجري نقاش مع التّلاميذ عمّا قرأوه أو قُرئ لهم.
وبعد الصّفّ الثّالث الابتدائيّ تخصّص للتّلاميذ مجموعات قصصيّة أو روايات، عليهم قراءتها وتقديم امتحانات بها، ولكي لا ينقطع التّلاميذ عن المطالعة، فإنّه تخصّص لكلّ تلميذ روايتان في العطلة الصّيفيّة تناسبان عمره، ويقدّم فيهما امتحان في أواخر شهر تمّوز-يوليو- أو عند بداية العام الدّراسيّ –حسب رغبته.
ومن الصّفّ الابتدائيّ الأولّ يطلب من التّلاميذ أن يكتب كلّ منهم قصّة أو قصيدة، أو أن يرسم لوحة، والهدف من ذلك هو اكتشاف المواهب في سنّ مبكّرة، لتنميتها والأخذ بيد أصحابها في مدارس متخصّصة، والذي يشعر المعلم بقدراته الكتابيّة أو في الرّسم، يرفع ذلك إلى الدّائرة التّعليميّة المسؤولة عن مدرسته، حيث هناك مختصّون يقيّمون ذلك، وإذا ما رأوا شيئا جيّدا، فإنّهم يطبعونه في كتاب، على ورق مصقول، ورسومات مفروزة الألوان، وغلاف مقوّى، ويوزّعونه، ويعطى الطّفل المبدع مكافأة ماليّة مجزية، وهذا ما حصل مع علاء ابن شقيقي داود، حيث صدرت له قصّتان الأولى وهو في الثّالث والثّانية وهو في الرّابع الابتدائيّ. وهذا ما حصل أيضا مع شقيقته هناء التي تبدو عليها بوادر النّبوغ العلميّ، وحصلت على جائزة ماليّة ٣٥٠٠ دولار وهي في الصّف الثّامن.
سألت معلّمة فلسطينيّة في مدرسة “جمعيّة الأقصى”عن مدى محافظة الطلبة على الكتب في حصّة المكتبة، وهل يطالعون فيها أم يقضون وقتا؟ فلم تفهم سؤالي، وبعد تكرار وتوضيح، استغربت السّؤال؛ لأنّ الحفاظ على الكتاب ثقافة مغروسة في عقليّة التّلاميذ، فلا يمكن أن يقوم تلميذ بالخربشة على كتاب، أو محاولة تمزيق صفحة منه.
محترفون في صناعة كتاب الطّفل
من الأمور اللافتة بخصوص المطالعة كما شاهدتها في شيكاغو، الكتب النّاطقة الموجّهة والمخصّصة للأطفال في مرحلة الطفولة المبكّرة، والتي ترافقها رسومات مفروزة الألوان تناسب المضمون وتجذب الطفل، قام برسمها مختصّون محترفون، لكنّ ما أدهشني هو ما رأيته للمرّة الأولى في حياتي، وهو وجود كتب أطفال، لها غلاف مقوّى، على طرف غلافه الدّاخلي من الجهة اليسرى، وجود فهرس أو ما يشبه الفهرس إذا كان الكتاب يحوي أكثر من قصّة، وهو عبارة عن دائرة أكترونيّة ظاهرة تشبه الزّر، وفي وسطها مطبوع بخطّ واضح اسم القصّة مع رسمتها الرّئيسة، وعندما يصل الطفل المطالع الذي لا يجيد قراءة الأبجديّة، كأن يكون ابن سنتين أو ثلاثة، بامكانه أن يضغط على ” زرّ العنوان في الفهرس” فيصدر صوت امرأة أو رجل، يقرأ القصّة بصوت جميل، وبطريقة فنّيّة رائعة، ولم أتأكّد إن كان الصّوت المسجّل للقصّة هو صوت فنّان محترف، أو صوت قارئ عاديّ، لكنّه في الأحوال كلّها صوت جميل لافت يجذب الصّغار والكبار، ولا يحتاج الطّفل كثيرا من الوقت ليتعلّم كيفيّة استعماله، وهذا ما شاهدته مع حفيدتي “لنّوش” على الأقل.
تربية المطالعة
تساءلت كما تساءل كثيرون غيري حول كيفيّة تربية أبنائنا على المطالعة وحبّ واحترام الكتاب، وقد كتبت في العام الماضي 2015، بعد أن ولدت حفيدتي لينا بنت ابني قيس في 21-5-2015، عندما أحضرت لها زميل لأمّها هديّة عبارة عن كرتونة تحوي عشرين كتابا، مكتوب عليها “من سنّ يوم إلى عام.” فذهلت من ذلك لأنّني للمرّة الأولى أرى وأعلم عن وجود كتب لمثل هذا العمر.
وهذا العام رأيت في حضانة الأطفال المتخصّصة لجيل ما بين ثلاثة أشهر إلى ثلاث سنوات، كيف توجد مكتبة لهؤلاء الأطفال المقسّمين حسب أعمارهم، حيث الفارق بين أعمار كلّ صفّ لا يزيد عن ستّة أشهر، فمثلا حفيدتي موجودة في صفّ عمر أقرانها فيه بين سنة وسنة ونصف وهكذا. ورأيت كيف تقرأ المشرفات لكلّ صفّ، وفي نفس الوقت كيف يقرأ الأطفال، وكيف يحافظون على الكتاب، فحفيدتي “لنّوش” مثلا تعرف كتبها في البيت، تفتحها وتحاول القراءة فيها، وتقرأ بصوت مسموع بلغتها الخاصّة، وكأنّها تجيد القراءة! ويقرأ لها والداها أيضا وهي في غاية الانتباه. ثمّ تعيد كتبها إلى مكانها المخصّص لها، لكنّها لم تحاول يوما أن تمزّق أحد كتبها أو أيّ كتاب أو مطبوعة في البيت، ومن يراها وهي “تطالع” ويسمع صوتها يعتقد أنّها تطالع بلغة لا يعرفها هو.
الحفاظ على البيئة
من اللافت في أمريكا هو اهتمامهم بالبيئة وجماليّاتها، لذا فإنّ من الملاحظ بشكل كبير هو وجود امتداد للغابات داخل المدن والبلدات الأمريكيّة، فيجد المرء أشجارا باسقة في محيط البيوت والمؤسّسات والفنادق، تماما مثلما يجد ذلك في الحدائق العامّة المنتشرة، والتي تمتدّ في كثير من الأحيان على مئات الدّونمات، تتوسّطها بحيرات صغيرة؛ ليتمتّع بها روّاد هذه الحدائق، حيث يرون الإوزّ والبطّ، وقد بنى أعشاشه بين الورود وأشجار الزّينة، دون أن يفكّر أيّ انسان بمن فيهم الأطفال في المسّ بها.
وهناك حدائق من آلاف الدّونمات، فيها ملاعب غير رسميّة لكرة القدم والبيسبول وغيرها، وتتداخل فيها الغابات، وهذه الحدائق تتخلّلها الشّوارع، وفيها مواقف للسّيّارات، وتتوفّر فيها الخدمات العامّة بأنواعها، وفي هذه الحدائق تتواجد مجموعات من الغزلان، الإوزّ، البط، الأرانب، وبعض الحيوانات الأخرى بين الأشجار مثل “الراكون، الظّربان، الثّعالب.” الغزلان والإوزّ تجوب الحدائق بأمان تام، تقف في الشّوارع، لا أحد يعكّر صفو مزاجها، ويمنع على سائقي السّيّارات استعمال الزّامور لابعادها عن الشّوارع. الرّاكون والظّربان والثّعالب تقترب من الزّائرين طامعة بأن يلقوا لها بعض الأطعمة، وهناك من الزّائرين من يحضر لها أطعمة كي ينعم بقربها منه. والرّاكون حيوان ثديي آكل للحوم، يعيش في مناطق مختلفة في الولايات المتّحدة الأمريكيّة، وجنوب كندا، وتعني الرّاكون في لغة الأمريكيّين الأصليّين”الهنود الحمر” الحيوان الذي يدلك بيديه.
أمّا الظّربان فهو حيوان ينتشر في القارّة الأمريكيّة، أندونيسيا والفلبين، ويتكوّن من عائلة تضمّ اثني عشر نوعا مختلفا، وما يميّز هذا الحيوان هو الرّائحة الكريهة التي تخرج من غدّة عند مؤخّرته.
ولا يقتصر وجود هذه الحيوانات في الحدائق العامّة فقط، بل يتعدّاها إلى الحارات والمدن، فالرّاكون والثّعالب تصل البيوت لتبحث عن طعامها في حاويات القمامة، والأرانب والإوزّ تتجول بين البيوت وفي حدائقها، وقد تتكاثر في حدائق البيوت؛ لأنّ لا أحد يستطيع المسّ بها، ومن يحاول المسّ بواحد منها فإنّه يتعرّض لغرامات كبيرة. والبطّ الذي يتواجد بين البحيرات الصّغيرة وسط الأحياء السّكنيّة، لا أحد يمسّه، وقد شاهدت رفوفا من آلاف طائر البطّ، تحطّ رحالها مساء في ملاعب المدارس أو غيرها، وتنام ليلتها دون أن يعكّر أحد صفو هدوئها.
استغلال الموارد
تعدّ أمريكا الدّولة الأغنى في العالم، وهذه الثّروة لم تأت من لا شيء، بل بالتّخطيط العلميّ لاستغلال الموارد، والعمل الدّؤوب، فأمريكا البلد الأوّل صناعيّا وزراعيّا، وهي تدعم مزارعيها كي يواصلوا استغلال أراضيهم، وثقافة العمل مترسّخة لديهم، ومهاجرونا العرب لو أنّهم يعملون في بلدانهم عدد السّاعات التي يعملونها في أمريكا، لربّما ربحوا أكثر ممّا يربحون في المهجر.
واللافت للانتباه أنّ التّخطيط الأمريكيّ موجّه لاستغلال كلّ شيء، فهذا البلد الثّريّ يعيد تدوير النّفايات ويستغلّها مرّة أخرى، ففي البيوت شاهدت حاويتي نفايات لكلّ بيت وكلّ محل تجاريّ، واحدة بنّية اللون مخصّصة للنّفايات التي يمكن اعادة تدويرها، كالنّايلون، الورق، الكرتون، الزّجاج، المعادن كعلب المشروبات وغيرها، والثّانية سوداء اللون للنّفايات الأخرى، مثل بقايا الطّعام وغيرها. وقد شاهدت أنّ هناك سيّارات مخصّصة لكلّ نوع، تأتي السّيارة، فيمدّ سائقها “ذراعا” متحرّكة، لها يدان طويلتان، تحمل الحاوية وتلقي ما فيها في مخزن سيّارته من الجهة العليا، ثمّ يعيد الحاوية إلى مكانها، ورغم كثرة المياه ومصادرها إلا أنّهم يعيدون تكرير مياه المجاري؛ لإعادة استعمالها في الزّراعة، أو لتصبّ في الأنهار والبحيرات والبحار، كما أنّهم يعيدون تكرير واستعمال “الحصمة” المكشوطة من الشّوارع عند ترميمها.
وإعادة التّدوير والتّكرير يصيدون بها أكثر من عصفور بحجر واحد، فهي مفيدة اقتصاديّا، وموفّرة للموادّ الخامّ المستعملة في مختلف الصّناعات، والأهمّ من ذلك هو الحفاظ على نظافة البيئة والحرص على عدم تلويثها، ومن هذا الجانب فإنّهم وبوازع فرديّ مغروس فيهم كسلوك، فإنّهم لا يلقون أيّ فضلات في الطّرقات أو في الطّبيعة بما في ذلك البراري التي لا يراهم فيها أحد. ولديهم مقولة سمعتها من أكثر من شخص مفادها” أنّ من لا يحافظ على نظافة وطنه فإنّه لا يستحق العيش فيه.”
عندما يغضب أطفال أمريكا
لفت انتباهي منظر بيت في إحدى ضواحي شيكاغو حديقته من ناحية المدخل الرّئيس تضجّ بحبال من لفّافات ورق التواليت، تمتدّ بين الورود وتتداخل بين أغصانها؛ لتصل بعض النّوافذ، ولمّا استفسرت عن سبب ذلك، ضحكت من الجواب الغريب عليّ، والمألوف أمريكيّا، وهو غضب أطفال الحارة من صاحب البيت، فيحضر بعضهم لفّافات من ورق التواليت، وينشرونها على الورود وأغصانها، وبالتّأكيد فإنّ لكل بيت حديقة خاصّة، ونتيجة هذا العمل الصّبياني هو ازعاج صاحب البيت الذي سيقضي وقتا وهو يجمع تلك الأوراق.
أمّا الأسباب التي تثير غضب الأطفال، ممّا يدعوهم للقيام بهكذا ردّات فعل غاضبة، فهو عدم استجابة صاحب البيت لهم عندما يطرقون باب بيته في “عيد الهلوين” على سبيل المثال لطلب الحلوى، كما جرت العادة في هكذا مناسبات، من هنا فإنّ الأمريكيّ يحتاط في هكذا مناسبات بأن يضع صحنا مليئا بالسّكاكر والشّوكلاتة عند عتبة بيته الخارجيّ، إن كان غير متواجد في البيت في هكذا مناسبات، أو كان موجودا ولا يرغب بفتح الباب، فيأخذ كلّ طفل حبّة حلوى واحدة، ويغادرون فرحين إلى بيت آخر وهكذا.
وإذا ما انتبه صاحب البيت “المغضوب عليه” من الأطفال لهم وهم ينشرون ورق التواليت عند باب بيته، فإنّهم يهربون ضاحكين، في حين يمنع عليه مطاردتهم حسب العادة والقانون.
فريق الدّياسم وماعز بيلي
في شيكاغو ناد رياضيّ اسمه الدّياسم، والدّيسم هو ابن الدّب، والحديث هنا ليس عن النّادي ولا عن فريقه، ولا عن الدّبّ وأبنائه، لكنّها عن فريق الدّياسم الذي خرج من نحسه، حيث لم يفز بمباراة منذ عشرات السّنين، إلا يوم 22 اكتوبر 2016، حيث فاز بمباراة في الكرة الأمريكيّة، وتأهّل للمرحلة النّهائية، وحظي على تغطية من وسائل الاعلام، ومن جمهوره الواسع حرمنا من وجبة عشاء في أحد المطاعم، لاكتظاظه بالجمهور الذي كان يراقب المباراة.
وآخر مرّة فاز فيها هذا الفريق في الدّوري الأمريكيّ كانت عام 1907، وتأهّل للمرحلة النّهائية عام 1948.
والطّريف في الأمر أنّ الخيال الشّعبيّ الأمريكيّ اختلق حكاية لا يزالون يردّدونها حتّى الآن، وهي التي تسبّبت بخسارات الدّياسم المتلاحقة. وهذه الحكاية هي حكاية “ماعز بيلي” وتقول الحكاية التي استندت على حادثة حقيقيّة هي: أنّ بيلي شخص عاديّ يقتني ماعزا، ذهب لحضور مباراة لفريق الدّياسم بصحبة ماعزه، فتضايق مجاوروه من رائحته التي تحمل رائحة حظائر الغنم فطردوه، بينما تقول رواية أخرى” أنّهم لم يسمحوا له بالدّخول بصحبة الماعز، وفي كلتا الرّوايتين، فإنّ بيلي دعا الله أن لا يربح ذلك الفريق الذي حرم ماعزه من مشاهدة المباراة!
ومن الطريف أنّ إحدى الجمعيّات الخيرية المتخصّصة بمساعدة الجياع في إفريقيا، قد استغلّت تلك الحكاية لجمع التّبرّعات لصالح مشروعها الخيري، فوضعت إعلانات في التلفزة والصّحافة والشّوارع تقول” تبرّع بماعز للمحتاجين في افريقيا، كي يستطيع فريق الدّياسم أن يتغلّب على نحس ماعز بيلي ويفوز بالمباراة”، وقد صدقت نبوءة الجمعية وفاز فريق الدّياسم هذه المرّة، وتأهّل للمرحلة الأخيرة.
في المزرعة التّراثيّة الأمريكيّة
يوم ٢٢ أكتوبر 2016 ذهبنا لزيارة مزرعة “فولكنج” التّراثيّة في بلدة “شامبيرج” إحدى ضواحي مدينة شيكاغو في ولاية إلينوي الأمريكيّة، ولهذه المزرعة التي كانت مزرعة لتربية الأبقار، ومساحتها مئات الدّونمات تاريخ عريق، فقد تأسّست عام 1840،وبقيت حتّى أغلقها أصحابها في بدايات خمسينات القرن العشرين. في بداية سبعينات القرن نفسه اشترتها بلديّة “شامبيرج” لتكون مفتوحة للزّائرين، كشاهد على مرحلة تاريخيّة من حياة الشّعب الأمريكيّ، وقد أعادت البلديّة بناء البيوت و”البراكسات” كما كانت، بما في ذلك بيت مؤسّس المزرعة الذي بني عام 1852، ووضعت فيه نفس الأثاث والأواني التي كانت مستعملة في حينه، كما بنت مرحاضا خارج البيت، على نفس النّمط القديم، وحوله “معرش عنب” وحوض سلق. والذي يشاهد أثاث هذا البيت سيجد أنّه لا يختلف عن أثاث الأسر الميسورة في بلادنا في بدايات خمسينات القرن العشرين، وهذا يعني أنّنا نعيش بفارق زمنيّ وحضاريّ بيننا وبينهم يزيد على المائة عام.
المزرعة مقسّمة إلى حظائر للحيوانات المختلفة، ترتبط بطرقات للمشاة، فهناك حظائر للخيول، الأبقار، الخنازير، أمّا الدّجاج فهو ينتشر طليقا، يرعى الأعشاب ويعود إلى أكواخ مخصّصة له متى أراد.
في المزرعة نماذج للأدوات الزّراعيّة التي كانت مستعملة في منتصف القرن التّاسع عشر، فهناك المحراث البلديّ الذي تجرّه بقرتان، وهناك محراث له أربع سكك، بجانبيه دولابان حديديان، يتوسّطهما مقعد للحرّاث، وهذا المحراث تجرّه الخيول، وتوجد بعض الأدوات التقليديّة مثل “الشّاعوب، المذراة، الكريك”.
وهناك أكواخ تستعمل كمخازن للحبوب وللأعلاف.
في طرف المزرعة هناك جدول ماء عرضه حوالي خمسة أمتار، وهذا كان ضروريّا للمزرعة لسقاية الحيوانات، في حين أنّ مياه الشّرب تسحب بمضّخة من بئر أمام البيت، ويلاحظ أنّ الطّرقات في المزرعة تحفّ بها أشجار الغابات الأمريكيّة، والحفاظ على أشجار الغابات يبدو أنّه تراث أمريكيّ لتجميل البلد.
زرنا المزرعة أنا وزوجتي وابني قيس، وحفيدتي”لينا” لنّوش التي كانت نجمة الزّوار بلا مبالغة، فقد كانت تدرج في الطّرقات كطائر الشّنّار، تضحك وتردّ الابتسامات لمن يبتسمون لها، لم تتردّد في الإمساك بأذن الحصان الذي وقف والدها بجانبه، حاولت الإمساك بعدد من الدّجاجات.
عندما تعبتُ وجلست على الأعشاب الخضراء لأستريح، لم تتركني لنّوش، فكانت تعود لي، تجلس بحضني، تتكلّم معي وكأنّها تدعوني لمواصلة المسير.
لينا في الحضانة
نظرا لكون والدي لينا يعملان، فإنّهما يضعانها في حضانة، والحضانة في بلاد “الكفّار” تختلف جدّا عن حضانات بلادنا –إن وجدت-. ويبدو أنّ دور الحضانة مؤسّسات ربحيّة، لها فروع ممتدّة في مختلف مناطق الولايات المتّحدة، كما يبدو أيضا أنّها “طبقيّة” أيضا.
والحضانة التي تذهب إليها حفيدتي لينا، تتقاضى 1460 دولارا في الشّهر، عن خمسة أيّام في الأسبوع، ومقرّها مجهّز بكلّ احتياجات الطّفل –حسب عمره- ويوضع مع أطفال من جيله، فلينا مثلا في غرفة واسعة مع خمسة أطفال أعمارهم بين سنة وسنة ونصف. ومشرفات الحضانة جامعيّات متخصّصات بتربية الأطفال في مرحلة ما قبل المدرسة، ويقدّمون للأطفال وجبات طعام منتظمة، وينظّفون عليه باستمرار، كما يضعون لهم برامج تعليميّة تتناسب وأعمارهم.
ومساحة غرفة الحضانة تبلغ حوالي ثمانين مترا مربّعا، ملحق بها ساحة خاصّة لكل صفّ حسب عمره، ومجهزّة بألعاب ومراجيح تناسب أعمارهم.
وتستقبل الحضانة حيث توجد لينا الأطفال من سنّ ستّة أسابيع حتّى ثلاث سنوات.
ومن اللافت أنّهم يرسلون لوالدي الطفل رسالة إلكترونيّة يوميّة، تتضمّن ما تلقّاه الطّفل في الحضانة، وماذا أكل وشرب؟ وكيف يتعامل مع الأطفال الآخرين. كما تحوي الرّسالة صورة يوميّة للطفل يبدو أنّ من تلتقطها محترفة وتغتنم فرصة وضعيّة الطفل المناسبة لتلتقط له صورة لافتة.
ومن شدّة اهتمامهم بالأطفال في هذه الحضانات، فإنّ أيّ بوادر مرضيّة على الطفل سبب كاف للاتّصال بوالدية؛ ليأخذوه إلى الطّبيب، ولا يسمح له بالعودة للحضانة إلا بتقرير طبّيّ يثبت شفاءه، أو أنّ حالته المرضيّة غير معدية، كأن ترتفع حرارته بسبب التهاب “اللوَز” مثلا.
عيد ويوم التسوّق
احتفل الأمريكيّون في 24 نوفمبر 2016 بعيد الشكر Thanks giving ، وهو يوم عطلة رسميّة، ” ويحتفل الأميركيون بعيد الشكر الذي يطبخون فيه الدّيك الرّوميّ ويحضرون فيه أيضا أطباق القرع المعسل، ومختلف أنواع الحلوى بالجبن التي لا تحضّر سوى في هذه المناسبة وعيد الكريسماس.”
والمطاعم الأمريكيّة تحرص في ذلك اليوم على وجود لحم الحبش في مطابخها، وقد تناولت طعام الغداء في ذلك اليوم في مطعم فندق فاخر في شيكاغو، وقد حرص الأمريكيّون على أن يكون طبق من لحم الحبش على موائدهم، حتّى أنّ نادلا حثّني على ضرورة تذوّق لحم الحبش بمناسبة العيد، لكنّني لم أستجب لدعوته.
وفي هذا اليوم تخرج العائلات الأمريكيّة في رحلات إلى أماكن يمكنهم التّمتّع برؤية جمال الطّبيعة فيها، ويرتادون الحدائق العامّة للتّرويح عن أطفالهم من خلال استعمال المراجيح وغيرها ممّا يهمّ الأطفال.
ومن عاداتهم أنّهم يعتبرون أوّل يوم جمعة بعد عيد الشّكر يوما للتسّوق يسمّونه “الجمعة السّوداء” Black Fridayوهو أكبر يوم للتسوّق في العام. وحدّثتني امرأة من أصول عربيّة تعمل في مجال “دراسة السّوق” في شركة أمريكيّة عملاقة، أنّها تعلم من خلال عملها أنّ المحلات الضّخمة والتي تتبع شركات ضخمة، تقوم برفع أسعار منتوجاتها قبل هذا اليوم بأسبوعين أو أكثر قليلا بنسبة محدّدة، لتقوم بتخفيض لأسعارها بنفس النّسبة كتنزيلات في يوم الجمعة السّوداء، ليقينها أنّ بضاعتها ستجد من يشتريها في ذلك اليوم، لأنّ المواطن الأمريكيّ على يقين تامّ بأنّه هو الرّابح بشراء احتياجاته في ذلك اليوم.
.”
تاريخ عيد الشكر
يعود الاحتفال بعيد الشّكر إلى أوائل القرن الـ17 عندما بدأت هجرة الأوروبيّين إلى القارة الأميركيّة هربا من اضطهاد الكنيسة الإنكليزيّة لهم.
وتقول مراجع تاريخيّة إنّ عددا كبيرا من المهاجرين البريطانيّين هربوا إلى هولندا، ومن هناك إلى السّاحل الأميركيّ مستعملين قاربا خشبيّا اسمه Mayflower، وكانت رحلة طويلة وشاقّة مات فيها الكثير منهم بسبب التّعب والجوع والمرض.
ووصلت الرّحلة في النّهاية إلى الشّاطئ الشّرقيّ لولاية ماساشوستس، وكان ذلك في شهر نوفمبر/تشرين الثاني من عام 1621. غير أن وصولهم تزامن مع دخول فصل الشتاء الذي يتميّز بالبرد القارس والأمطار الغزيرة، علاوة على الثّلوج التي أهلكت معظمهم بسبب جهلهم بطرق الصّيد والزّراعة، وقد تمّ إنقاذهم على يد اثنين من الهنود الحمر هما “ساموسيت” و “سكوانتو”، اللذان شرعا في تعليم المهاجرين الجدد كيفيّة صيد الطيور والحيوانات والأسماك وزراعة الذّرة.
وبعد فترة قرّر المهاجرون الذين تحولوا إلى مواطنين أميركيين بعدما استوطنوا العالم الجديد الاحتفال بالنعمة التي منّ بها الله عليهم في بلادهم الجديدة، ووجّهوا الدّعوة إلى الهنود والقبائل التي ينتميان إليها للاحتفال بما أسموه حينذاك عيد الشّكر، وتناولوا فيه الدّيك الرّوميّ في مأدبة مهيبة، استغرقت الليل كلّه، تبادلوا خلالها الأنخاب مع السّكان الأصليين من الهنود.
وهكذا تحوّل عيد الشكر إلى مناسبة سنويّة للاحتفال بالنّعم التي يتمتع بها الأميركيون.

أنا والزّواج
في 6 ديسمبر 1974 تزوّجت بطريقة تقليديّة من فتاة قريبة، أنجبت منها فراس بعد عام، وتوفّي بعد أسبوع من ولادته؛ لأنّها أنجبته بفترة حمل ثمانية أشهر، وبعده بعام أنجبت محمّدا وعاش يوما واحدا وتوفّي أيضا لعدم اكتمال فترة الحمل، وفي 20 نيسان-ابريل- 1978م أنجبت “قيس” الذي سعادتي به كانت كبيرة، فقرّرت أن أكتفي به، وألّا أنجب غيره، لكنّه أورثني حزنا دائما عندما خسرته هو ووالدته بطريقة مأساوية في 25 ابريل 1981.
كانت صدمتي كبيرة بفقدان قيس، وتظاهرت بأنّني أقوى من المأساة، لكنّني في داخلي كنت محطّما بائسا، ومع ذلك وجدت نفسي بين خيارين هما، أن أعيش أحزاني وأدمّر نفسي، أو أن أبدأ حياتي من جديد، فاخترت الخيار الثّاني رغم المعاناة التي عشتها بسبب فقدان فلذة كبدي قيس، وفي 10 حزيران-يونيو- 1981، تزوّجت حليمة حسين جوهر، وكانت طالبة لغة عربيّة سنة أولى في جامعة بيت لحم.
في بداية تموز -يوليو- أي بعد زواجي بعشرين يوما، عادت زوجتي حليمة بتشجيع منّي إلى الجامعة لدراسة الفصل الدّراسيّ الصّيفيّ، وسط معارضة والدينا أنا وهي، ومعارضة كبيرة جدّا من أخيها الأكبر المرحوم أحمد، ووسط استغراب عائلتينا والبيئة التي نعيش فيها، وهذه قضيّة ليست سهلة وسط مجتمع تحكمه العادات والأعراف العشائريّة. لكنّني حميت قراري الصّائب بضرورة أن تواصل زوجتي تعليمها الجامعيّ، وقد أنجبت حليمة ابننا البكر قيس في 20-7-1984 وهي طالبة جامعيّة. والتحاق حليمة بالجامعة وهي زوجة وأمّ شكّل سابقة إيجابيّة وسط هذه البيئة الاجتماعيّة التي تحكمها الأعراف القبليّة، حيث فتحت الأبواب أمام عشرات بل مئات من الفتيات المتزوّجات والعازبات من بنات القرية، اللواتي وذويهنّ اتّخذونا قدوة لهم للدّراسة الجامعيّة، ساعد في ذلك قرب الجامعات مثل جامعتي القدس وبيت لحم من قريتنا، ممّا يسمح لهنّ بالذّهاب إلى الجامعة والعودة منها إلى البيت يوميّا ودون عناء يذكر.
وفي 24 حزيران 1988 أنجبنا ابنتنا أمينة، وبعدها لمى في 16 سبتمبر 1991.
حصلت زوجتي حليمة على ليسانس آداب –لغة عربيّة- ودبلوم تربية، وعملت مدرّسة في مدارس القرية، كما مارست هي الأخرى الكتابة وصدر لها عام 1992 مجموعة قصصيّة عن دار الكاتب في القدس، بعنوان “رحلة عذاب”، وفي عام 1994 صدرت لها عن منشورات دار القدس رواية بعنوان “الجذور”.
ولا بدّ هنا من ذِكْر الدّور العظيم للمرحومة والدتي، التي اعتنت بأطفالي عناية فائقة أثناء غياب والدتهم في الجامعة أو العمل.
أسماء أبنائي:
لم نختر أسماء أبنائنا بشكل عفويّ، فعندما كنا نعرف جنس الجنين وهو في رحم والدته، كنت أجمع عشرات الأسماء العربيّة القديمة للولد أو للبنت، وأتشاور وزوجتي حول من سنختار منها، كنت أدقّق في كلّ منها مرّات ومرّات، وأعود إلى المعجم لمعرفة معانيها، إلى أن يستقرّ الرّأي على واحد منها، مع الحرص أن لا يكون للاسم شبيه في القرية، وهذا ما كان، مع التّأكيد أنّنا لم نفكّر ولو للحظة واحدة باختيار اسم من الأسماء الحديثة، فالجمال والأصالة يكمن في الأسماء العربيّة القديمة، علما أنّ اسم ابنتي أمينة هو على اسم والدتي.
تعليم الأبناء
منذ بداياتي وأنا على قناعة تامّة بأهمّيّة التّعليم، والتّعليم بالنّسبة لي هدف سام، لذا فقد حرصت أنا وزوجتي على تعليم أبنائنا حتّى نهاية المرحلة الجامعيّة الأولى على الأقلّ، مع التّأكيد على أنّ تعليم البنات له أولويّة وأهمّيّة لا تقلّ في أهمّيّتها عن تعليم الأبناء، وهذا ما فعلناه وطبّقناه. مع التّاكيد على أنّنا حرصنا على تربية أبنائنا تربية حضاريّة، ووفّرنا لهم كلّ احتياجاتهم، وغرسنا في أذهانهم أهمّيّة التّعليم في مختلف مراحله. كما أتعامل معهم كأصدقاء، وهذا انعكس إيجابا على سلوكهم لاحقا عندما شبّوا ودخلوا مجال العمل، فعلى سبيل المثال عندما نزور قيس فإنّه يعطينا الرّعاية والاهتمام الزّائد، حتّى بتّ أشعر أنّه الأب وأنا الإبن.
قيس
عندما أنهى ابني قيس المرحلة الثّانويّة صيف العام 2001م، وكان في السّابعة عشرة من عمره، اصطحبته معي إلى شيكاغو حيث يعمل شقيقاي داود وراتب، والتحق هناك بجامعة “دومينكان” حيث أنهى مرحلته الجامعيّة الأولى بدرجة شرف، وبشهادتين الأولى اقتصاد والثّانية تجارة دوليّة. وعمل بعدها ولا يزال مديرا في شركة برمجة أمريكيّة. وفي 17 آب-أغسطس- 2013 تزوّج من فتاة تونسيّة اسمها مروة محجوب، وأنجب منها ابنتين هما لينا المولودة في 21 مايو 2015، وميرا في الفاتح من ديسمبر 2018.
أمينة
التحقت ابنتي أمينة بجامعة بيت لحم ودرست تربية ابتدائيّة، وتخرّجت أيضا بمرتبة شرف، وتزوّجت من عصام بن أخي ابراهيم، وأنجبت منه ثلاثة أبناء هم كنان المولود في 15-8-2011، بنان المولودة في 16-9-2014م وسنان المولود 25-10-2018م. وهي تعمل مدرّسة.
لمى:
درست ابنتي لمى في جامعة بيت لحم أحياء ومختبرات، وحصلت على بكالوريوس بمرتبة شرف هي الأخرى، كما حصلت لاحقا على دبلوم إدارة مشاريع. وتزوّجت من معتصم علي محمد عطا علاءالدين وأنجبت منه في 22-1-2016 طفلا اسمه باسل.
الموقف الفكري
شرع بعض الآباء في قريتي منذ ثلاثينيّات القرن العشرين بإرسال أبنائهم الذّكور إلى المدارس مثل كلّيّة النّهضة في حيّ البقعة المجاور، وكلّيّة صهيون قرب باب الخليل عند الجانب الغربيّ لسور القدس التّاريخيّ، وسبق ذلك في أواخر القرن التّاسع عشر وبدايات القرن العشرين افتتاح الشّيخ عطا السّرخي كتّابا في منطقة “الحرذان”، كان يعلّم فيه الأطفال الأبجديّة والقرآن الكريم. وفي أواخر ثلاثينيّات القرن العشرين افتتح الشّيخ أحمد علي منصور كتّابا في زاوية العلويّين في جبل المكبّر.
أمّا أوّل مدرسة فقد كانت مدرسة ابتدائيّة للذّكور افتتحت عام 1944 في جبل المكبّر، وفي العام 1946م ونظرا لاتّساع القرية النّاشئة افتتحت مدرسة أخرى في الجزء الشّرقي من البلدة، ولتمييز المدرستين عن بعضهما البعض فقد أطلق على الأولى اسم “مدرسة السّواحرة الغربيّة للبنين، وأطلق على الثّانية “مدرسة السّواحرة الشّرقيّة للبنين”.
وبمبادرة من د. داود عطيّة حسن عبده، ومحمد حسين مسلم جوهر وداود علي احمد عبده افتتحت في العام الدّراسيّ 1954-1955 أوّل مدرسة للبنات.
تمّ تزويد البلدة بالكهرباء في العام 1971م.
وقد سمعت بالرّوايات الشّفويّة أنّ هناك من أبناء البلدة من انضمّوا لحزب البعث في بدايات خمسينات القرن العشرين، والذي بدوره أرسل بعضا منهم في بعثات دراسيّة إلى الجامعة الأمريكيّة في بيروت. وعندما كنت في الصّفّ الابتدائيّ الأوّل في العام الدّراسيّ 1955-1956م قاد أحدهم وكان طالبا في المرحلة الثّانويّة مظاهرة لطلاب المدرسة الابتدائيّة، شاركت فيها بعفويّة وبراءة تامّة، وكان يهتف أمام الطّلاب بحياة الرّئيس المصريّ جمال عبد النّاصر، ويطالب بتحرير فلسطين، رفع الطلبة ومن ضمنهم أنا صورة زعيم الأمّة جمال عبد النّاصر التي وزّعها عليهم وهتفنا خلفه، وقام شرطيّان بتفريق المظاهرة واعتقال قائدها، الذي أمضى ستّة أشهر في السّجن. وفي العام التّالي شاركت ببراءة بمظاهرة ضدّ حلف بغداد وضدّ العدوان الثّلاثي على مصر.
لم أنتبه لأيّ حدث سياسيّ، ولم أكن أعلم بوجود أحزاب في الأردنّ الذي كانت الضّفّة الغربيّة جزءا منه، حتّى اقتادتني المخابرات الأردنيّة إلى عمّان للتّحقيق وأنا طالب في الصّفّ الأوّل الثّانويّ، بعد أن فزت قبل عام بجائزة مسابقة في كتابة القصّة للفتيان العرب في برنامج “صندوق البريد” في إذاعة موسكو باللغة العربيّة. وحقّق أحدهم معي حول الحزب الشّيوعيّ الأردنيّ، وحتّى ذلك اليوم لم أكن أعلم بوجود أحزاب شيوعيّة سوى في الاتّحاد السّوفييتي والصّين الشّعبيّة. وكنت وقتها طالبا في معهد دينيّ هو المعهد العلميّ الإسلاميّ في القدس، والذي تحوّل بعد احتلال عام 1967م إلى ثانويّة الأقصى الشّرعيّة، وفي ذلك العام أنهيت المرحلة الثّانويّة. وفي المدرسة الشّرعيّة نشأت نشأة دينيّة غير “مؤدلجة.”
وبسبب حبّي وشغفي للمطالعة في سنّ مبكرة، فقد واصلت مطالعتي بشكل مكثّف في مجالات مختلفة، وذلك في محاولة منّي للوقوف على أسباب الهزيمة التي شكّلت صدمة لي ولأبناء جيلي، خصوصا وأنّنا كنّا نتهيّأ ونستعد لدخول الجامعات. وتأثّرت بالفكر اليساريّ، بعد أن طالعت “أصل العائلة” لإنجلز، و”رأس المال” لماركس، ومؤلّفات لينين، وكتاب “الأمّ” لمكسيم غوركي، وعشرات الرّوايات الرّوسيّة المترجمة إلى العربيّة. لكنّ الفكر اليساريّ المتطرّف والمغامر لم يستهوني يوما في حياتي. وأعجبت بطروحات الحزب الشّيوعيّ السّياسيّة العقلانيّة. لكنّي لم أتّخذ موقفا عدائيّا من أيّ جماعة فلسطينيّة، بل كنت أقارعهم الحجّة بالحجّة، وكنت ولا أزال حتّى يومنا هذا أكتب رأيي وقناعاتي السّياسيّة على صفحات الصّحف الورقيّة والمواقع الألكترونيّة، دون تأثير من أيّ جهة سياسيّة، فانتمائي الصّادق لقضايا شعبي وأمتي ووطني هو بوصلتي التي أهتدي بها.
زواج الأخوات والبنات والمهور
منذ أن وعيت الحياة، أدركت مشكلة غلاء المهور، مع أنّ والدي –رحمه الله- لم يطلب مهرا مرتفعا لأيّ من أخواتي التّسعة، وكان يشتري لكلّ واحدة منهنّ مصاغا ذهبيّا بمهرها. وقبل أن أبلغ الثّلاثين من عمري أقنعت والدي بأن يكون مهر البنت المقدّم دينارا أردنيّا واحدا، ومثله مهرا مؤجّلا، ونشترط على العريس بأن يشتري مصاغا أقلّ من المتعارف عليه في قريتنا.
عندما تزوّجت ابنتاي عملت الشّيء نفسه، مع التّنازل عمّا يسمّى “كسوة العروس”. وهذا ما تصرّفناه أيضا عند زواج بنات إخوتي.
ذكرياتي مع الكبار
التقيت منذ بداياتي عددا من الشّعراء والأدباء والقيادات السّياسيّة والاجتماعيّة المرموقة، ولي ذكريات جميلة معهم، سأذكر بعضا منها وممّن التقيتهم:
فدوى طوقان زيتونة فلسطين الشّامخة
كان لي شرف التّعرّف على الشّاعرة الكبيرة عن قرب، حيث اعتادت حضور جلسات ندوة اليوم السّابع الثقافيّة الأسبوعيّة الدّوريّة، في المسرح الوطنيّ الفلسطينيّ – الحكواتي- سابقا، منذ بدايات النّدوة في آذار –مارس- 1991. مع التّأكيد على أنّني التقيتها أكثر من مرّة في سنوات سابقة، في أمسيّات شعريّة لها، وفي معارض للكتب، وصافحتها، لكنّ تلك اللقاءات لم تكن كافية للتّعارف.
وقد لمست أنا وزميلاتي وزملائي من روّاد النّدوة مدى إنسانيّة الشّاعرة ورقّتها، ومشاعرها المرهفة. وكان حضورها أمسيّات النّدوة لافتا، بحيث أنّ كثيرين من أبناء القدس كانوا يحضرون النّدوة؛ للتّعرّف على الشّاعرة الإنسانة، وسماعها وهي تلقي بعضا من قصائدها، أو تتحدّث أحاديث عاديّة.
كانت الشّاعرة فدوى طوقان تعشق القدس، وقد اعتادت أن تمضي ليلة الخميس بعد انتهاء النّدوة في بيت الشّاعر الرّاحل عبد القادر العزّة “أبو خلود” في بير نبالا بين القدس ورام الله، وقد سهرنا معها ليالي عديدة في بيت صديقنا الشّاعر الراحل “أبو خلود”، ومن وفاء شاعرتنا الكبيرة لأصدقائها أنّها كانت تواظب على زيارة “أبو خلود” في بيته عندما أصيب بمرض عضال، وكانت تبيت ليالي في بيته تواسيه وتستمع لأشعاره، وتسمعه من شعرها، وكان في ذلك تسلية له؛ لينسى المرض وما تصاحبه من آلام.
ذات أمسيّة معها وبحضور عدد من الأصدقاء تجرّأتُ وقلت لها:
كنت أظنّك شاعرة متكبّرة، واكتشفت أنّك إنسانة شعبيّة تحبّ النّاس.
فتنهّدت شاعرتنا وقالت بأسى: لا أحد يحبّ الاختلاط بالنّاس أكثر منّي، لكنّني أعاني من مشكلة، حيث أنّ الغالبيّة العظمى من أصدقائي ومن هم في جيلي إمّا اختطفهم الموت، أو أجبروا على مغادرة الوطن في حرب حزيران 1967م. وأنا مع الأسف لا أعرف الجيل الجديد، وأضافت بأنّها تتعمّد الجلوس في حديقة بلديّة نابلس؛ لتتعرّف على النّاس، لكنّ الشّباب يمرّون من أمامها ويتهامسون مشيرين إليها بأن هذه المرأة هي فدوى طوقان، لكنّ أيّا منهم لا يطرح التّحيّة عليّ، أو يحاول الاقتراب منّي! وتساءلت بأسى:
فهل أناديهم وأقول لهم: أنا فدوى طوقان التي تحبّكم يا أبناء شعبي، اقتربوا منّي كي أحادثكم وأتعرّف عليكم؟ وفي تلك الجلسة استذكرت بعض الشّعراء أمثال الشّهيد كمال ناصر والمرحوم عبد الرحيم عمر. كما تحدّثت عن لقاءاتها وذكرياتها مع شعراء عرب مثل: الرّاحلين صلاح عبد الصّبور وعبد المعطي حجازي.
حدّثتنا الشّاعرة الرّاحلة عن لقائها بزعيم الأمّة الرّئيس جمال عبد الناصر، وكيف استقبلها وتناول طعام الغداء الذي أعدّته زوجته معها، وحدّثها بأن الأمريكان عرضوا عليه استعادة سيناء مقابل انهاء حالة الحرب مع اسرائيل، فأجابهم أنّ معاناة الشّعب الفلسطينيّ من ويلات الاحتلال أكثر أهمّيّة عنده من رمال صحراء سيناء.
وحدّثتنا أيضا عندما اصطحبها الحاكم العسكريّ الاسرائيليّ لنابلس هي والمرحوم حمدي كنعان رئيس بلديّة نابلس للقاء وزير الدّفاع الاسرائيلي آنذاك موشيه ديّان، الذي عاتبها على قصائدها التي تدعو لمقاومة الاحتلال.
واكتشفنا في أمسيات ندوتنا التي كنّا نختتمها بالاستماع لبعض الأغاني والعزف على العود من الفنّان مصطفى الكرد، ومن آخرين أيضا، واكتشفنا أنّ شاعرتنا العظيمة تجيد العزف على العود، وتغنّي بعض الأغاني، لكنّها عزفت عن الموسيقى والغناء بعد حرب حزيران 1967م، فما عاد مكان للطّرب-حسب رأيها-، وتحت اصرارنا عزفت وغنّت أغنية ” يا وابور قل لي رايح على فين” للفنّان الرّاحل محمّد عبد الوهّاب.
وذات أمسية جاء الشّاعر الرّاحل عبداللطيف عقل، وانحنى على يد الشّاعرة الكبيرة يقبّلها، ويعتذر عن سوء فهم أغضب الشّاعرة منه، فترقرت عيناها بالدّموع ولم تتكلّم سوى “الله يسامحك”.
حدّثتنا مرّات ومرّات والحزن يغمرها عن علاقتها بشقيقها ابراهيم الذي كان يراجع قصائدها ويوجّهها، وحدّثتنا عن لقاءاتها مع الشّاعرين عبد الكريم الكرمي “أبو سلمى” وعن الشّاعر الشّهيد عبد الرّحيم محمود.
وحدّثتنا أيضا عن بدايات نشرها في مجلّة “الرّسالة” التي كان يرأس تحريرها الأديب عبد القادر المازني، وكانت توقّع قصائدها بـ “الحمامة المطوّقة” خوفا من القيود التي كانت تفرض عليها، وعلى بنات جيلها في تلك الأيّام. وحدّثتنا عن سفرها إلى لندن حيث كان يدرس أحد أشقّائها؛ لتتعلّم اللغة الانجليزية.
حدّثتنا كيف جاءها الشّاعران محمود درويش وسميح القاسم بعد حرب حزيران عام 1967 مباشرة، وكيف استقبلتهما في بيتها في نابلس، وكيف أشادا بها وبأشعارها.
كانت الرّاحلة الكبيرة تعشق الأطفال، وتحتضنهم وتقبّلهم، وهذا ما كانت تفعله في أمسيات ندوة اليوم السّابع، مع ابني قيس ومع إيّاس ابن الأديب ابراهيم جوهر، ومع يارا خليل جلاجل وآخرين، حتّى بات هؤلاء الأطفال يعتبرونها صديقة لهم، ومن الطّريف أن نذكر هنا، أنّ ابني قيس المولود عام 1984م، وبينما كان تلميذا في الصّف الرّابع الابتدائيّ، في مدرسة جمعيّة جبل المكبّر التّابعة لمدارس رياض الأقصى في القدس، وكان مقرّرا في المنهاج الأردنيّ المعدّل، الذي كان معمولا به يومئذ قصيدة للشّاعرة فدوى طوقان، ومكتوب في آخر القصيدة أنّ فدوى طوقان شاعرة أردنيّة ولدت في مدينة نابلس، فاعتبر قيس ذلك خطأ، وقال للمعلّمة أنّ فدوى طوقان شاعرة فلسطينيّة، وأنها صديقته، فضحكت المعلّمة من كلامه، واعتبرته خيال أطفال! غير أنّ قيس عاد في الفرصة الصّباحيّة إلى بيتنا القريب من المدرسة، وأخذ صورة لفدوى طوقان وهي تحتضنه، وقدّمها لمعلمته كبرهان على معرفته وصداقته للشّاعرة الكبيرة! وكانت المفاجأة أنّ المعلّمة نفسها لا تعرف صورة الشّاعرة الكبيرة! ولاحقا حدّثتني ضاحكة عن خيال قيس الواسع حيث يزعم أنّه يعرف الشّاعرة فدوى طوقان! ولمّا أكّدت لها صحّة ما قاله قيس، فغرت فاها مندهشة، وتساءلت باستغراب:
وهل فدوى طوقان تحتضن الأطفال وتتصوّر معهم؟
لقد تعلّمنا الكثير من شاعرتنا الكبيرة، وقد أبدع الكاتب ابراهيم جوهر عندما كتب في حينه بأنّ من يعتقد أن نابلس تقوم على جبلين هما جرزيم وعيبال فهو مخطئ، فهناك جبل ثالث هو فدوى طوقان.
فلروح شاعرتنا التي توفّاها الله وتوفّيت في 12 كانون أوّل-ديسمبر 2003م
الرّحمة ولذكراها الخلود، وكما قال الشّاعر الكبير الرّاحل سميح القاسم بعد وفاة الشّاعر الكونيّ محمود درويش: “إذا كان الشّعراء يموتون، فإنّ الشّعر لا يموت” ويعني بذلك أنّ الشّعر يخلّد اسم شاعره.
الأديب محمود شقير
أعرف الأديب محمود شقير منذ ولادتي بحكم القرابة، فهو ابن عمّ والدتي، وابن قريتي، وشقير يكبرني بثماني سنوات، وتعرّفت عليه عن قرب عندما جمعتنا غرفة واحدة، وسرير واحد من طابقين في سجن الدّامون، هو في طابقه الأوّل وأنا في طابقه الثّاني، عرفت فيه الخصال الحميدة التي يتحلّى بها، فهو مثقّف ومناضل كبير، قليل الكلام، يستمع أكثر ممّا يتكلّم، يختار كلماته بعناية ملحوظة، تماما مثلما يختارها في كتاباته، لا يغتاب أحدا، ولا يشارك في أحاديث الغيبة والنّميمة. عندما تمّ توقيفه إداريا بعد تحقيق قاس عند اعتقاله في تمّوز-يوليو-1969م، التحق بنا في قسم المعتقلين الإداريّين في سجن الدّامون على قمّة جبل الكرمل في حيفا، كان نحيل الجسم وقتذاك وزنه -49 كلغم- وبسبب التّعذيب القاسي انخفض وزنه إلى 45 كلغم، وصلنا منهكا من التّعذيب وانتفاخ بارز على صحن عينه اليسرى جرّاء التعذيب، وكنّا في اليوم الثّالث لإضراب عن الطّعام فشاركنا الاضراب رغم معارضة قيادات القسم لمعرفتهم وتجربتهم بأنّ من يخرج من التّحقيق يكون منهكا وفي جوع دائم، لكنّه بقي على إصراره بالمشاركة وهو يردّد: يستحيل عليّ أن لا أشارك في هذا الإضراب. وقد انتهى الإضراب مساء اليوم الرّابع.
ومن الأشياء الطّريفة التي حصلت في السّجن، أنّه كان في كلّ غرفة تسعة أسرّة معدنيّة، كلّ سرير منها من طابقين، ويوجد خزائن مقسّمة لأبواب بمساحة 90×60 سم، يضع كل أسير في واحدة منها أغراضه التي تتمثّل بملابسه، حيث كان يسمح للموقوفين إداريّا بإدخال ملابسهم من الخارج، وكانت لي خزانة مستقلّة –ليست جزءا من الخزانة الكبيرة-بنفس الحجم، وضعتها بين سريرنا والسّرير المجاور، ومحمود شقير يضع حقيبته التي تحوي ملابسه فوقها، وهي واحدة من ثلاث خزانات كانت موجودة في القسم، وذات يوم تشاجر أسيران على خزانة منفصلة كخزانتي، فاجتمع “حكماء” القسم، ووجدوا حلّا بأن يطلبوا من محمود شقير أن يقنعني بالتّخلي عن خزانتي لأحد المتخاصمين، وتحدّثوا معي في الموضوع، فقلت لهم بلهجة طريفة:
لا يوجد عندي مشكلة، لكنّني لن أتخلى عن الخزانة؛ لأنّ حقيبة خالي فوقها، فانفرطوا ضاحكين، وبقيت مصرّا على موقفي.
قرأت مؤلّفات محمود شقير والتي تزيد عن 60 كتابا جميعها، وهو لا يزال في أوج عطائه، وعلاقتي به متينة جدّا، فهو قدوة تقتدى.
الرّوائيّة ديمة جمعة السّمّان:
في العام 1990م لفت انتباهي موضوع بعنوان(لماذا يا آدم بقلم: ديمة جمعة السمان)نشر في حلقات على صفحات مجلة الأسبوع الجديد” الأسبوعية التي كانت تصدر في القدس، فالموضوع يحمل نفسا روائيا، وينبئ بميلاد أديبة جديدة، مع أن اسم الكاتبة لم يعن لي شيئا يومئذ، لأنه لم يكن معروفا آنذاك، فهاتفت مكتب المجلة المذكورة وسألت زميلا أعرفه عمّن تكون الكاتبة؟ فأجابني بأنّها شابّة مقدسيّة تعمل في المجلة، فطلبت منه أن يحوّل الهاتف إليها كي أكلمها، ولما ردّت عليّ، عرّفتها على نفسي، وأخبرتها أنّها تكتب بأسلوب روائيّ.
فقالت: شكرا وأغلقت الهاتف.
هذه بداية معرفتي بأديبتنا الرّوائيّة ديمة جمعة السمان، وتوالت الأيّام، وكانت رابطة الكتّاب الفلسطينيين في الأراضي المحتلة –والتي كنت عضوا في هيئتها الاداريّة – قد اتّخذت عيادة الدّكتور أنيس القاق في شارع صلاح الدين مقرّا مؤقتا لها في بداية العام 1990، وكنت أداوم في المقرّ وحدي، واذا بشابّة هيفاء حسناء تدخل المقرّ، وتسأل عن زميلنا الأديب جمال بنورة، -ولم يكن موجودا في حينه- فأخبرتها أنّه ربّما سيتواجد في اليوم التّالي، وسألتها إن كنت أستطيع مساعدتها؟ فشكرتني وخرجت دون أن تجلس، وفي اليوم التّالي حضرت، وسألت عن زميلنا جمال بنورة مرّة أخرى-ولم يكن موجودا أيضا-، فعرضت عليها المساعدة أيضا، فأعلمتني باسمها، وأنّها قد وضعت في رابطة الكتّاب رواية باسم”المرج الأخضر” كي ينشرها، فاستغربت ذلك لأنّني عضو في لجنة القراءة في الرّابطة، ولم أسمع بتلك الرّواية. استفسرت منها عن اسم الشخص الذي استلم منها الرّواية، وكان رئيس الاتّحاد آنذاك، فطلبت منها أن تعطيني فرصة لأيّام عدّة؛ كي أبحث عنها، ولمّا خرجت هاتفت رئيس الاتّحاد مستفسرا عن الموضوع وعن مكان وجود الرّواية؟ وعرفت منه مكان حفظ الرواية إذ كانت في إحدى خزائن الاتّحاد في المكتب، فبحثت عنها ووجدت الغبار يغطيها واصطحبت المخطوطة معي إلى البيت، جذبتني الرّواية بأسلوبها ومضمونها وعنصر التّشويق الذي يطغى عليها، فقرأتها في جلسة واحدة في نفس الليلة، كانت رواية متأثّرة بالمسلسلات التّلفزيونية المصريّة، حتّى أن الكاتبة استعملت أسماء مصرية غير دارجة في فلسطين مثل حسنين، وعندما قابلت المؤلفة، أخبرتها أنّ روايتها بعيدة عن المحليّة، ومتأثّرة كثيرا بالمسلسلات والأفلام المصريّة، واقترحت عليها أن تكتب رواية محليّة، ويفضّل أن تكتب عن الحياة في مدينة القدس تحديدا كونها تنحدر من عائلة مقدسيّة، فتقبّلت اقتراحاتي بصدر رحب، وافترقنا إلى أن جمعنا العمل في مجلة “مع النّاس” التي صدر منها عشرة أعداد في العام 1991وأغلقتها سلطات الاحتلال، وهناك تعرّفت جيّدا على أديبتنا، ووجدت فيها المرأة المحصنة، وأنّها على خلق عظيم، تعرف حدودها جيدا، ولا تسمح للآخرين بأن يتعدّوا حدودهم ليس في العلاقة معها فحسب، بل وأثناء وجودها، كانت تقوم بعملها باتقان، وتسمع الاقتراحات الإيجابيّة من الآخرين، وتقدّم اقتراحاتها، وللأمانة كان وجودها مميّزا.
في”مع الناس” واصلت ديمة السمان كتابة موضوعها “لماذا يا آدم” وكنت أردّ عليها في نفس العدد تحت عنوان “سنحك يا حواء”، وفي هذه الأثناء كتبت روايتها “الضلع المفقود” وقدمتها لرابطة الكتّاب، غير أنّها لم تنشر لأنّ أستاذا جامعيّا أوصى بعدم نشرها، وتبيّن لاحقا بعد نشرها أنّه لم يقرأ منها إلا ستّ صفحات، وامتدح الرّواية بعد نشرها. وذات يوم من بدايات العم 1992 أعطتني أديبتنا ديمة السمان رواية” القافلة” فقرأتها وأعجبت بها، وبينما أنا في مقرّ مجلّة “مع الناس” واذا بشاعرنا الكبير سميح القاسم يدخل مقرّ الاتّحاد ومعه شخص آخر عرّفني عليه بأنّه صاحب دار الهدى للنّشر والتّوزيع في كفر قرع، الذي يطبع الأعمال الكاملة لشاعرنا الكبير في مطبعة في منطقة “عطروت” قرب مطار القدس، وأنّهما جاءا لمشاهدة “البروفات” الأخيرة قبل الطباعة، تداولنا الحديث، وسألت صاحب دار الهدى إن كان ينشر لأدباء آخرين غير شاعرنا الكبير؟ فقال بأنّه لا ينشر سوى الأعمال الجيّدة، فأعطيته رواية القافلة لديمة السّمّان، واشترط موافقة واقرار الشاعر سميح القاسم بأنّ الرّواية تستحق النّشر، وسلّم الرواية لشاعرنا الكبير، وبعد أسبوع هاتفني صاحب دار النشر بأنّ الرّواية قد طبعت بعد موافقة شاعرنا الكبير، وأنّها جاهزة في مطبعة تقع في شعفاط، وبإمكاني استلام مائتي نسخة منها للمؤلفة، دهشت من المفاجأة الجميلة، تماما مثلما اندهشت المؤلفة أيضا، وكانت هذه أوّل الأعمال الرّوائية لأديبتنا التي تنشر في كتاب، وبعدها وفي أوّل جلسة للهيئة الإداريّة لرابطة الكتاب قبلت عضوا في الهيئة العامّة، وأعيدت قراءة “الضلع المفقود” ونشرتها رابطة الكتاب، وهكذا صدرت بعد رواية ” القافلة” مع أنّها كتبت قبلها، وفي أوّل انتخابات للهيئة الإداريّة بعد ذلك انتخبت السّمّان عضوا في الهيئة الاداريّة. وفي العام نفسه 1992 صدرت روايتها الثالثة “الأصابع الخفيّة” عن منشورات رابطة الكتاب الفلسطينيين أيضا، وفي ذلك العام عملت وديمة السمان في صحيفة “الصدى” المقدسية وهي صحيفة أسبوعية، كنت رئيس تحريرها وكانت ديمة السّمّان مديرة التّحرير، لم يكن معنا محرّرون آخرون، وأصدرنا الصّحيفة بحلة جديدة، وتميّزنا عن بقيّة الصّحف، ممّا أدّى إلى مضاعفة توزيع الصّحيفة إلى عشرات المرّات. وفي العام 1995 صدرت روايتها ” جناح…ضاقت به السّماء” عن منشورات ابداع في أمّ الفحم. وفي العام 2005 صدرت روايتها “برج اللقلق” في القاهرة عن الهيئة المصريّة العامّة للكتاب في جزئين…وتعتبر هذه الرّواية افتتاحا للرّواية العربية عن مدينة القدس. وفي العام 2011 صدرت روايتها “رحلة ضياع” عن منشورات دار الجندي في القدس، كما صدرت ثنائيّتها الرّوائيّة “وجه من زمن آخر” و”بنت الأصول” عن الهيئة المصريّة العامّة للكتاب في القاهرة. ومنذ قيام السّلطة الفلسطينيّة عملت مدير العلاقات العامّة والإعلام التّربويّ في وزارة التّربيّة والتّعليم، وترأست تحرير صحيفة “مسيرة التربية”التي كانت تصدر عن الوزارة، ثم ترقّت إلى مدير عامّ.
الشاعر سميح القاسم
التقيته عشرات المرّات، خصوصا أنّه كان يتردّد كثيرا على مكتب منشورات صلاح الدّين التي أسّسها الصّديق الياس نصر الله من شفاعمرو، وصدر عنها الكثير من الإصدارات المحليّة والتّقدّميّة، وكان يبيت كثيرا عندهم. كما التقيته في أمسيات شعريّة في المسرح الوطنيّ الفلسطينيّ “الحكواتي” في القدس، وقدّمته أكثر من مرّة للجمهور، كما شاركنا سويّة في السّلسة البشريّة حول سور مدينة القدس، التي أقيمت احتجاجا على استمرار الاحتلال في الانتفاضة الفلسطينية الأولى عام 1989 أو 1990م، وتعرضنا للضّرب من شرطة الاحتلال ونحن نقف في الشارع قبالة باب العمود.
وفي 30 آذار -مارس-1981م شاركنا في احتفال خطابيّ في نادي الموظفين في القدس بمناسبة يوم الأرض، وكان الخطيب الرّئيس في الحفل سميح القاسم الذي ارتجل كلمة طويلة زادت عن السّاعة ونصف، وبعدها اقتحمت الحفل الشّرطة الإسرائيليّة، واعتقلت ثلاثة وثلاثين شخصا كنت والكاتب إبراهيم جوهر منهم، وقد حاول سميح القاسم منعهم من اعتقالي، لأنّني كنت واقفا بجانبه.
وسميح القاسم الذي كان ينشد قصائده بطريقة لافتة على عادة الشّعراء القدامى الفحول، ألقى قصيدته التي عنوانها “السّيّد من” في الحكواتي ولاقت قبولا واسعا من الجمهور المقدسيّ، وذاع صيتها قبل ذلك بأسابيع عندما ألقاها في العاصمة البريطانيّة لندن، وفي الحكواتي قال مازحا، سألقي عليكم قصيدة قصيرة مكونة من اثنتي عشرة صفحة، فأضحك الجمهور، وبعد الأمسيّة الشّعريّة اصطحبناه لتناول طعام العشاء في مطعم “الرّوف” في الفندق الوطنيّ في شارع الزّهراء في القدس، وممّن حضروا العشاء: أسعد الأسعد، ومحمد البطرواي، وفوزي البكري. وعلى مائدة العشاء قلت لسميح: رغم إنشادك الشّعر بطريقة رائعة، ورغم تصفيق الجمهور الحادّ لك وأنت تلقي القصيدة، ورغم أنّني قرأت قصيدتك “السّيّد من” أكثر من مرّة، إلا أنّني لم أفهم منها شيئا، فماذا تقصد بهذه القصيدة؟
فأجابني: فهمتَ أم لم تفهم هذا شأنك، والقصيدة أمامك أعد قراءتها حتّى تفهمها، أمّا أنا فلن أفسّر قصيدتي! وردّه على سؤالي أعاد إلى ذهني المقولة النّقديّة المعروفة بأنّ الكاتب غير ملزم بتفسير نصوصه، وإن فسّرها فإنّه يقتل عنصر الدّهشة عند القارئ.
ذات احتفال نسويّ في شفاعمرو بيوم التّراث العالميّ، تحدّث فيه الشّاعر علي الخليلي، الشاعر سميح القاسم، الأديب محمد علي طه الذي هاجم في كلمته موقف سميح القاسم، وكنت آخر المتحدّثين فدافعت بقوّة عن موقف سميح القاسم، وعندما أنهيت كلمتي وسط تصفيق حادّ من الحضور قال لي سميح:” أشهد أنّك شيخ!”
وعندما شغل سميح القاسم رئاسة تحرير مجلّة الجديد التي كانت تصدر في حيفا، كتبت بحثا عن “الجنس في الدّين الاسلامي” من 22 صفحة، واستشهدت فيه بآيات قرآنية وأحاديث نبويّة وأبيات شعريّة من قصائد قيلت في العصور الإسلاميّة القديمة، فاختصره لأربعة صفحات في المجلة وهاتفني قائلا:”اختصرت موضوعك؛ لأنّني لا أريد أن أفتح جبهة مع رجال الدّين المسلمين” ولم يقتنع بأنّني طرحت في الموضوع وجهة النّظر الدّينيّة.
في العام 2009م استضافت ندوة اليوم السّابع الثّقافيّة في المسرح الوطنيّ الفلسطينيّ في القدس الشّاعر سميح القاسم وناقشت مجموعة قصائد له بعنوان القدس إصدار بيت الشعر، رام الله، 2009م.
في بداية مرض سميح القاسم الأخير، قمنا في ندوة اليوم السّابع المقدسيّة وبحضور خمسة وثلاثين شخصا منهم الأديب الكبير محمود شقير بزيارته في نوفمبر 2011 في بيته في الرّامة الجليليّة، واستقبلونا في بيت ابن عمّه وجاره الدّكتور الأديب نبيه القاسم، وألقى الأديب ابراهيم جوهر كلمة نيابة عنّا، وممّا قال في كلمته:” وفي هذا اليوم الجميل…..” فقاطعه سميح القاسم الذي كان مرهقا بعد جلسة علاج كيماويّ قائلا: حقّا إنّه يوم جميل بوجود الشّيخ جميل السلحوت”.
وممّن قابلتهم مرّات عديدة وتأثّرت بهم الأديب الكبير إميل حبيبي، الذي تعلّمت منه الكثير، ومن بعض ذكرياتي معه عندما صدرت رائعته الرّوائيّة “الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النّحس المتشائل” عام 1974م، عدت من بيروت حيث كنت منتسبا لدراسة اللغة العربيّة في جامعة بيروت العربيّة، ومعي التّرجمة العربيّة لرواية “كنديد” لفولتير، وعقدت ندوة في مجمّع النّقابات المهنيّة في بيت حنينا-القدس حول رواية إميل حبيبي، التي أثارت ضجّة إيجابيّة فور صدورها، وأدار النّدوة الأديب محمّد البطراوي والدّكتورة حنان عشرواي، وبعد نقاشات مطوّلة وقبل اختتام اللقاء رفعت يدي وسألت الأديب إميل حبيبي:
ما مدى تأثّرك برواية “كنديد لفولتير” عندما كتبت المتشائل؟
فاستدعاني إميل حبيبي لأقف بجانبه، وسألني عن اسمي وعمري، -علما أنّني التقيته في أواخر العام 1967م عندما زرت صحيفة الاتّحاد صحبة صديق، لكن يبدو أنّه نسيني- فقال لي وهو يضع يده اليمنى على كتفي:
يبدو أنّك تفهم ما تقرأ.
وبعدها التقينا كثيرا خصوصا في مكتب منشورات صلاح الدّين، وفي لقاءات وندوات ثقافيّة، وكان يهديني إصداراته مع عبارة “على أمل أن أسمع منك شيئا”، وكتبت عن تلك الإصدارات.
لفت انتباهي أنّ إميل حبيبي كان يردّد دائما بأنّ الأحزاب الصّهيونيّة التي تحكم إسرائيل غير معنيّة بالسّلام، وما حديثهم عن السّلام إلا من باب العلاقات العامّة، ولرفض منظّمة التحرير الفلسطينيّة والدّول العربيّة للمفاوضات مع إسرائيل، وكان يتمنّى على منظّمة التّحرير أن تعترف بقرارات الأمم المتّحدة حول القضيّة الفلسطينيّة، وأن تقبل التّفاوض مع إسرائيل؛ لتقف على حقيقة السّياسة الإسرائيليّة القائمة على التّوسّع والمعادية للسّلام العادل، وقد أثبتت الأيّام والسّنون صحّة رأيه.
في العام 1982م زرت دمشق في طريقي إلى الاتّحاد السّوفييتي، وزوّدني الأديب يحيى يخلف ببطاقة شرف لحضور افتتاح مسرحيّة “لكع بن لكع” التي كتبها إميل حبيبي، وأخرجها فنّان سوريّ من عائلة الأتاسيّ، وهناك تعرّفت على الأديب حنّا مينا، وتناولنا طعام العشاء أنا والصّديق الشّاعر خليل توما معه في أحد مطاعم دمشق، بحضور د. حكمت العطار وزيرة الثّقافة السّوريّة وقتذاك.
كما التقيت المخرج والممثّلين، واتّفقنا على لقاء في اليوم التّالي، حيث أجريت مقابلة معهم حول المسرحيّة بحضور الأديب محمود شاهين، وأخذت منهم مجموعة صور للقطات من المسرحيّة التي منعت السّلطات السّوريّة عرضها بعد العرض الافتتاحيّ، وسلّمتها بعد عودتي للأديب اميل حبيبي، فأبدى اعجابه بها وبالمقابلة، ونُشرت في حينه على صفحات مجلّة الجديد الحيفاويّة دون ذكر اسم من أجرى المقابلة.
وفي تسعينيّات القرن الماضي كتبت مقالة اتّهمت فيها إميل حبيبي بأنّه يسعى لاسترضاء الإسرائيليّين من أجل أن يصل إلى جائزة نوبل في الآداب، فردّ عليّ ردّا قاسيا، ولامني بعض الأصدقاء على مقالتي التي تجنّيت فيها على أديبنا الكبير، فاتّصلت به معتذرا وقبل اعتذاري.
وإميل حبيبي القائد السّياسيّ والشعبيّ المعروف بسطوة لسانه أديب خفيف الظّلّ مرح، ومن ذكرياتي معه:
ذات يوم في تسعينيّات القرن الفارط، سافرت بصحبته وصحبة المحامي فريد غانم الذي كان يقود السّيّارة إلى البحر الميّت، وعندما وصلنا منطقة الفشخة، وقبل نزولنا من السّيارة وبسبب ارتفاع درجة الحرارة، طلب حبيبي فجأة من فريد غانم أن نعود إلى القدس فعدنا، وعندما وصلنا القدس قال أنّه يسكن في فندق “هولي لاند” فأرشدت فريد غانم حتّى وصلنا الفندق الكائن في شارع الرّشيد، وعندما دخلنا ساحة الفندق قال حبيبي:
هذا ليس الفندق الذي أسكنه! وتبيّن أنّه يسكن في فندق الأميركان كولوني، وهناك سألني: لماذا قدتنا إلى فندق “الهولي لاند”؟
فأجبته: بناء على طلبك.
وعاد يسأل ضاحكا: ولماذا نفّذتم طلبي؟
فأجبته: لأنّك لا تسمع للآخرين!
فضحك قهقة، وتناولنا طعام العشاء سويّة وسط أحاديث ذات شجون اختلطت فيها السّياسة بالأدب وبالفكاهة.
عندما تحوّلت في مايو 2984 صحيفة الاتّحاد التي كان يرأس تحريرها إميل حبيبي إلى صحيفة يوميّة، ذهبنا بصحبة بشير البرغوثي وأسعد الأسعد وآخرين إلى مكاتبها في حيفا للتّهنئة، واستقبلنا إميل حبيبي فرحا، وجال بنا في مكاتب الصّحيفة، وعندما وصلنا مكتب رئيس التّحرير قال:
هذا مكتب رئيس التّحرير.
فأشار بشير البرغوثي إلى “فاترينا” في المكتب وسأل:
وما هذا؟
فأجاب حبيبي ضاحكا: هذا “بار” رئيس التّحرير.
تناولنا طعام الغداء معا، ثمّ ذهبنا لزيارة القائد توفيق طوبي في بيته.
وفي أواخر العام 1989م، زارني الأديب إميل حبيبي بصحبة الشّاعرة سهام داود في بيتي، حيث كان يكتب”سيناريو” لفلم وثائقيّ عن الانتفاضة الفلسطينيّة الأولى ستنتجه شركة إيطاليّة، واختارني مستشارا للهجات الفلسطينيّة المحليّة- لم يُنتج الفلم لأسباب لا أعرفها-، وصل ضيفانا بيتي في التّاسعة والنّصف مساء، وجلسا قبالتي في الصّالون، وكان أديبنا الكبير يتكلم ويلوّح بيديه كما هي عادته، فصحا ابني قيس الذي كان في الرّابعة والنّصف من عمره من نومه، وجاء يجلس بجانبي وهو يفرك عينيه، وسألني عن اسم الضّيفين فأخبرته.
تمعّن الطفل قليلا بالضّيف المتحدّث وسألني هامسا:
هل “حبيبك احبل”حامل”؟ وكان متأثرا بانتفاخ بطن والدته التي كانت حاملا بشقيقته أمينة، فطلبت منه أن يسكت.
فسألني حبيبي: ماذا قال الولد؟
فأجبته: لا شيء. لكنّه وهو المعروف بنباهته قال:
اسمع أنت وابنك، يقال أنّ مريضا يعاني من السّمنة الزّائدة ذهب لعيادة طبيب من أجل تخفيف وزنه، فوصف الطّبيب له “ريجيما” وقال له:
اذا تقيّدت بهذا الرّيجيم فسينقص وزنك كيلو غرام أسبوعيّا.
فقال المريض: هذا لا يكفي، فأعطاه الطّبيب “شربة” وقال له:
خذ هذه “الشّربة” وسينقص نصف وزنك.
فقال المريض: وهل نصف وزني خراء؟
فضحكنا قهقهة على تلك الفكاهة.
ومن الشّعراء والقادة الكبار الذي تشرّفت بمعرفته والتقيته مرّات عديدة توفيق زياد.
توفيق زيّاد
التقيته أوّل مرّة في صحيفة الفجر التي كانت تصدر في القدس وعملت محرّرا فيها منذ عام 1974 وحتى نوفمبر 1977م بينما بشير البرغوثي رئيس تحريرها، كان أبو الأمين يدور على طاولات العاملين ويصافحهم فردا فردا، والتقيته في النّاصرة أثناء الدّعاية الانتخابيّة عندما ترشّح لرئاسة البلدية، والتقيته مهنّئا عندما فاز بها، والتقيته في مخيّمات العمل التّطوّعي التي كانت تقيمها بلديّة الناصرة برئاسته ومبادرته.
كان توفيق زيّاد شاعرا ثوريّا منحازا لهموم شعبه ووطنه، ومن رآه وسط الجماهير الذي أحبّها وأحبّته قد يظنّ أنّه صديق لكلّ فرد من أبناء شعبه. وبرؤيته الثاقبة قاد في 30-3-1976م الجماهير مع نخبة من رفاقة مظاهرة يوم الأرض التي أصبحت تقليدا سنويا.
كان توفيق زيّاد خطيبا مفوّها جريئا، ذات مساء ألقى خطابا في بيت الصّداقة في النّاصرة، وسط آلاف الحضور الذين عجّت بهم القاعة وساحتها والشّارع، فهاجم أحد المرشّحين العرب في قائمة حزب “مبام”، وقال: هذا الرّجل يكذب على النّاس، ولدينا معلومات موثوقة من مخدعه من غرفة نومه!
لفت انتباهي توفيق زيّاد بأنّه كان مدخّنا شرها، لا تكاد سيجارته تنطفئ، ومن الغريب أنّ جيوبه كانت ملأى بأكثر من علبة سجائر، وكلّ علبة من نوع مختلف، يمدّ يده إلى جيبه ويخرج العلبة التي تلتطم بها، ويدخّن منها.
آخر مرّة التقيت فيها توفيق زيّاد كانت قبل وفاته في 5 يوليو 1994 بأسبوع، كنت وابن العمّ المرحوم إبراهيم موسى السلحوت، والصديق فهد شقير بصحبته نتناول طعام العشاء ونتسامر في مطعم في بيت لحم، وعندما قارب الليل على الانتصاف، همّ أبو الأمين بالمغادرة، فألححنا على بقائه، وممّا قاله له ابن العمّ :
“الضّيف أسير المعزّب”
فقال أبو الأمين ضاحكا: هذا المثل يعبّر عن ثقافة التّخلّف، وأنا أرفض أن أكون أسيرا حتّى لو كنت ضيفا معزّزا مكرّما، وافترقنا، وفي اليوم الثاني سافرت إلى أمريكا، وقبل مرور أسبوع على وجودي في أمريكا صعقني الخبر الصّادم برحيل أبي الأمين.
******
ذكريات طريفة
شاعر متزوّج وعنده أبناء
أثناء مهرجان القدس الثقافي الذي أقامته مجلة العودة التي كان يرأس تحريرها الشاعر لإبراهيم القراعين عام 1991، أدرت أمسيّة شعريّة ابتدأت بالشاعر الكبير الراحل سميح القاسم، وجاء بعده الشاعر جمال قعوار من النّاصرة، وقبل الدّخول إلى الأمسية بحثت عن معلومات حول الشاعر قعوار وسألت بعض الكتب الموجودين عنه، فقال لي أحد الروائيين:” أعلم أنّه شاعر متزوّج وعنده أبناء”! ولا يعرف شيئا آخر، وفي الأمسية وقفت لتقديمه فقلت باسما: سألت البعض عن معلومات عن الشاعر جمال قعوار، فقال لي أحدهم: أنّه شاعر متزوّج وعنده أولاد” وبناء عليه نرحّب بالشّاعر المتزوّج وعنده أولاد” فانفرط الحضور ضاحكين” وهمس لي الشاعر سميح القاسم الذي كان يجلس بجانبي وهو يضحك:” هذا أقوى تقديم شاهدته وسمعته في حياتي.”
رمضانيات
عام 1975 وأثناء عملي في صحيفة الفجر المقدسية، وعندما حلّ شهر رمضان ذلك العام، قمت بتحرير صفحة أسميناها “رمضانيات يحرّرها الشّيخ جميل السلحوت”، كتبت فيها عن جوانب مضيئة في التاريخ الإسلامي وبطريقة مغايرة لكلّ ما كان يكتب في الصحافة، وذات يوم اتّصل بي أحد رجال الدّين المرموقين، وسبق أن علّمني في المرحلة الثّانوية، وقال لي:
“الشّيوخ الحقيقيّون يتهرّبون من كتابة لقب”الشّيخ” أمام أسمائهم، فلماذا تكتب أنت هذا اللقب أمام اسمك؟”
فسألته: وما يمنع ذلك؟ وهل أكتب شيئا مخالفا للدّين؟
فقال لي: لا…لكنك تطرق مواضيع لا يتطرّق لها آخرون.
نعي الأحياء
ذات يوم من العام 1975 جاء رجلان من إحدى عائلات القدس يرتدي كل منهما بدلة وربطة عنق، ويتظاهران بالحزن، ووضعا على الصفحة الأولى إعلان نعي لقريب لهم، وظهر اليوم التالي جاء “الفقيد حاملا بلطة، وهجم على مكاتب الصّحيفة، وتبيّن أنّ الرّجل المسنّ يعاني مشاكل نفسيّة، وأمضى حياته عازبا، ونعاه أبناء عموته للاستيلاء على ميراثه في الأردن، وقامت الجريدة بنشر إعلان اعتذار وتؤكّد أنّ الرجل على قيد الحياة لمدّة ثلاثة أيّام.
هيبة رئيس التّحرير
في العام 1991 عملت رئيس تحرير لصحيفة “الصدى” المقدسيّة، والتي كان مقرّها في مدخل بلدة الرّام، وكنت أترك باب مكتبي مفتوحا، وذات يوم طرقت الباب فتاة، فقلت لها تفضّلي.
نظرت إليّ وقالت: أريد رئيس التّحرير.
فقلت لها: أهلا بك، ماذا تأمرين؟
فاستدارت خارجة ولم تقل شيئا، وعادت تسأل على ما أذكر الأخت ديمة السّمان -التي كنت وإيّاها نصدر الصّحيفة- عن رئيس التّحرير، فأشارت لها إلى مكتبي. فعادت الفتاة ودخلت تسأل دون أن تطرح السلام:
هل أنت رئيس التّحرير؟
فأجبتها: نعم. ماذا تريدين؟
فقالت: لا يبدو عليك أنّك رئيس تحرير لصحيفة؟
فابتسمت لها وسألتها: وكيف يبدو رئيس التّحرير؟
فأجابت: يكون له سكرتيرة في غرفة أمام مكتبه المغلق، وعلى من يريد مقابلته أن ينتظر لفترة معيّنة حتّى يسمح له بالدّخول، ورئيس التّحرير يتكلمّ من “مناخيره”.
وعدت أسألها: ماذا تريدين؟
فأخرجت من حقيبتها اليدويّة رسالة من كليّة الصحافة في جامعة بير زيت، تطلب استيعابها للتّدريب في الصّحيفة لمدّة ثلاثة أشهر حتّى تتخرّج.
فرحّبت بها، وكانت في غاية السّعادة بتدريبها عندنا.
أسلوبه ضعيف
عملت محرّرا في مجلّة الكاتب لصاحبها ورئيس تحريرها الأديب أسعد الأسعد منذ العام 1978 وحتى توقّفها عن الصّدور بداية تسعينات القرن الفارط، وكنت وقتئذ مدرّسا للغة العربيّة في المدرسة الرّشيديّة، واكتشفت أنّ أحد طلابي يجيد كتابة القصّة القصيرة، وكان الاتّفاق في هيئة التّحرير أن يقرّ كلّ مادة تنشر ثلاثة من هيئة التّحرير، وبعد عودتي من رحلة إلى الخارج، أخذت قصّة للطالب وقلت لهيئة التّحرير هذه قصة من مجموعة قصص لكاتب فلسطينيّ يقيم في سوريّا أحضرتها معي، فقرأ زميلاي القصّة وأعجبا بها ووافقا على نشرها، وبعد أن نشرنا له ثلاث قصص قلت لهيئة التّحرير:
الكاتب طالب في الرشيديّة وعمره 16 سنة، فقال أحدهم:
هذا واضح فأسلوبه فيه ضعف. فرددت ضاحكا على زميلي بشتيمة لاذعة.
غيبة ونميمة
عندما تخرجت من الجامعة عام 1974م بليسانس لغة عربيّة، أعلنت إحدى مدارس البنات الخاصّة الثّانويّة عن حاجتها لمدرس لغة عربيّة، فقدّمت طلبا للوظيفة، وبعد أيّام وبينما كنت أجلس بجانب سائق سيّارة أجرة في طريقي لزيارة مريض في مستشفى المقاصد القائم على قمّة جبل الزّيتون، جلس خلفي شيخ معمّم كان –رحمه الله- من خطباء المسجد الأقصى، وجلست بجانبه سيّدة، فطلبت السّيّدة من الشّيخ أن يتدخّل لدى إدارة المدرسة لمنع تعيين معلم جديد وذكرت اسمي، وقالت فيّ أكثر ممّا قال مالك في الخمر وأنا أستمع، وبعد أن انتهت من حديثها سألتها:
هل تعرفين ذلك الرّجل؟
فأجابت: نعم أعرفه.
وعدت أسألها: هل سبق وأن تحرّش بك؟
فأجابت: نعم. تحرّش بي وبغيري.
فعدت أسألها: هل تعرفينه إذا ما رأيته؟
فأجابت: نعم.
بعد ذلك قلت لها بحدّة: أنا المقصود؟ من أين تعرفينني؟ وشتمتها، وتدخلّ الرّكاب الآخرون لإسكاتي. فطلبتْ من السّائق أن يتوقف ونزلتْ خائبة. وتبيّن لاحقا أنّها معلّمة في تلك المدرسة وأنّها تريد الوظيفة لزوجها، رغم أنّ القانون لا يسمح بعمل زوجين في مؤسّسة واحدة.
التّعليم مرّة أخرى:
ذات يوم في العام 1975 وأثناء عملي في صحيفة الفجر، جاءنا إعلان في منتصف الأسبوع عن وظيفة معلم لغة عربيّة في إحدى المدارس الخاصّة التابعة للأوقاف، وطلب منّا أن ننشر الإعلان يوم السّبت القادم، فذهبت في اليوم التّالي لتقديم طلب في مكتب التّربية الذي كان يتّخذ من دار الأيتام الإسلاميّة مقرّا له.
فقال لي المدير المسؤول: جئت متأخرا يا ابني، فقد تمّ ملء الشّاغر!
خرجت من عنده مذهولا، ويوم السّبت ظهر الإعلان في أسفل الصّفحة، وفوقه مقالة لي شرحت فيها ما جرى معي، ووضعت سهما عريضا باللون الأحمر يشير إلى الإعلان. وتبيّن أنّ الإعلان جاء بناء على القانون.
التّعليم مرّة ثالثة
أثناء عملي كمدرّس في المدرسة الرشيديّة الثّانوية في القدس، عملت اختبارا للطلبة، وكان نصّ أحد الاسئلة:
اجمع ما يجوز جمعه من الأسماء التّالية جمع مذكّر سالما، وإذا كان لا يجوز جمعه اذكر سبب ذلك؟ ووضعت لهم عشرة أسماء سبعة منها لا يجوز جمعها جمع مذكّر سالما؟ وبعد تصحيح الأوراق جاء أحد الآباء يسأل عنّي دون سابق معرفة، وانتحى بي جانبا وقال لي:
أنا لا أريد أن أؤذيك، فأنت وضعت علامة الخطأ على إجابات ابني الصّحيحة! فقلت له: جلّ من لا يسهو والخطأ يتمّ التّراجع عنه، وأرسلتُ “الفرّاش” ليحضر ابنه، جاء الابن وطلبت منه ورقة الامتحان، فوجدته قد جمع الأسماء جمع تكسير وليس جمع مذكّر سالم، وبيّنت ذلك لوالد الطفل فلم يقتنع، وقال لي:
اسمع…لا تظنّني جاهلا، أنا تعلّمت حتّى الصّفّ السّادس وأعرف كلّ شيء.
فقلت له: أنا أحمل شهادة جامعيّة ولا لأعلم كلّ شيء، لكنّني أعرف ما أقول.
غضب الرّجل وذهب إلى المدير راتب الرّابي يشكوني، ولم يستطع المدير إقناعه فتركه وطلب منه الخروج.
مع الأديب محمود شاهين:
عام 1982 مررت بدمشق في طريقي إلى موسكو للعلاج، والتقيت بالأديب يحيى يخلف رئيس اتّحاد الكتّاب الفلسطينيّين وقتئذ، فذهبنا لزيارة ابن بلدتنا الأديب محمود شاهين، الذي عرفته منذ طفولتنا، عندما كنّا نرعى الأغنام في براري قريتنا السّواحرة، ووقتها كان يكثر من العزف على “الشّبّابة والمجوز”، وافترقنا في حرب عام 1967 حيث نزح محمود إلى الأردن، ولمّا رأيته في مكتبه لم أعرفه ولم يعرفني، وتصافحنا باليد، فسأله الأديب يحيى يخلف عنّي وإذا ما كان يعرفني؟ فأجاب:
طبعا أعرفه جيّدا. وأخذ يستفسر عنّي.
عندها عرّفته على نفسي فقام من جديد وعانقني.
في موسكو
في صيف العام 1984 زرت موسكو للعلاج، ومكثت فيها شهرا ونصف الشّهر، وقبل انتهاء زيارتي بيوم واحد، سألني المترجم فيكتور الذي يرافقني، والذي يعرف اللهجات العربيّة جيّدا، ويفاخر بأنّه ترجم كتاب “خريف الغضب للصّحفي محمّد حسنين هيكل، وأنّه علّم الشّاعر محمود درويش في المدرسة الحزبيّة:
ما الفرق بين الاتّحاد السّوفييتي ودول أوروبا الغربيّة أو أمريكا؟ وأضاف: قبل أن تجيب: هل زرت دولا أوروبّيّة؟
فأجبته: نعم زرت اليونان.
فقال لي: اليونان شبيهة بدول الشّرق الأوسط ولا تعطي انطباعا عن حياة الأوروبّيّين.
فقلت له: احمدوا ربّكم أنّكم تعيشون في دولة اشتراكيّة توفّر لكم كلّ شيء.
فقال لي: سأروي لك هذه الحكاية وهي:
يحكى أنّ صديقين ماتا، فذهب أحدهما إلى الجنّة والثّاني إلى النّار، وبقي من في الجنّة يصلي ويصوم ويعبد الله، وذات يوم خرج من الجنّة ليستطلع أحوال أهل النّار، فرأى صديقه وأمامه موقد شواء وزجاجة ويسكي وبجانبه فتاتان حسناوتان، فقرّر أن ينتقل إلى النّار، لكنّ خازنها طلب منه أن يحضر شهادة انتقال من خازن الجنّة، فذهب إلى خازن الجنّة يطلب الانتقال إلى النّار، فقال له:
إذا خرجت من هنا فلن تعود ثانية.
فقال: لن أعود.
وعندما سلّم شهادة الانتقال لخازن النّار، أمسكه من رقبته ودفعه بعنف جعله يتدحرج مرّات كثيرة، فسأله غاضبا:
ماذا تفعل؟ هذا لم أره عندما أطللت عليكم زائرا.
فقال له خازن النّار: السّياحة ليست كالإقامة!
أمّا فقد سألت فيكتور عمّا يقصده من هذه الحكاية؟
فأجابني: افهمها كيفما تشاء!
انتهى
جميل السلحوت:
– جميل حسين ابراهيم السلحوت
– مولود في جبل المكبر – القدس بتاريخ 5 حزيران1949 ويقيم فيه.
– حاصل على ليسانس أدب عربي من جامعة بيروت العربية.
– عمل مدرسا للغة العربية في المدرسة الرشيدية الثانوية في القدس من 1-9-1977 وحتى 28-2-1990.
– اعتقل من 19-3-1969 وحتى 20-4-1970وخضع بعدها للأقامة الجبرية لمدة ستة شهور.
– عمل محرّرا في الصّحافة من عام 1974-1998في صحف ومجلات الفجر، الكاتب، الشراع، العودة، مع الناس، ورئيس تحرير لصحيفة الصدى الأسبوعية. ورئيس تحرير لمجلة”مع الناس”
– عضو مؤسس لإتحاد الكتاب الفلسطينيين، وعضو هيئته الادارية المنتخب لأكثر من دورة.
– عضو مؤسس لاتّحاد الصّحفيين الفلسطينيين، وعضو هيئته الاداريّة المنتخب لأكثر من دورة.
– عمل مديرا للعلاقات العامّة في محافظة القدس في السّلطة الفلسطينية من شباط 1998 وحتى بداية حزيران 2009.
– عضو مجلس أمناء لأكثر من مؤسسة ثقافية منها: المسرح الوطني الفلسطيني.
– فاز بجائزة القدس للثّقافة والابداع للعام 2018.
– منحته وزارة الثقافة الفلسطينية لقب”شخصية القدس الثقافية للعام 2012″.
– أحد المؤسّسين الرّئيسيّين لندوة اليوم السّابع الثّقافيّة الأسبوعيّة الدّوريّة في المسرح الوطنيّ الفلسطينيّ في القدس والمستمرّة منذ آذار العام 1991وحتّى الآن.
– جرى تكريمه من عشرات المؤسّسات منها: وزارة الثّقافة، محافظة القدس، جامعة القدس، بلديّة طولكرم ومكتبتها، المسرح الوطنيّ الفلسطينيّ، ندوة اليوم السّابع، جمعيّة الصّداقة والأخوّة الفلسطينيّة الجزائريّة، نادي جبل المكبر، دار الجندي للنّشر والتّوزيع، مبادرة الشباب في جبل المكبر، ملتقى المثقفين المقدسي، جمعية يوم القدس-عمّان، جامعة عبد القادر الجزائريّ، في مدينة قسنطينة الجزائريّة، المجلس الملّي الأرثوذكسي في حيفا.

شارك في عدّة مؤتمرات ولقاءات منها:
– مؤتمر “مخاطر هجرة اليهود السوفييت إلى فلسطين”- حزيران 1990 – عمّان.
– أسبوع فلسطين الثّقافي في احتفاليّة “الرياض عاصمة الثقافة العربية للعام 2009.”
– أسبوع الثّقافة الفلسطينيّ في احتفاليّة الجزائر “قسنطينة عاصمة الثّقافة العربيّة للعام 2015″.
– ملتقى الرّواية العربيّة، رام الله-فلسطين، أيّار-مايو-2017؟

اصدارات جميل السلحوت
الأعمال الرّوائيّة
– ظلام النّهار-رواية، دار الجندي للطباعة والنشر- القدس –ايلول 2010.
– جنّة الجحيم-رواية – دار الجندي للطباعة والنشر- القدس-حزيران 2011.
– هوان النّعيم. رواية- دار الجندي للنشر والتوزيع-القدس-كانون ثاني-يناير-2012.
– برد الصّيف-رواية- دار الجندي للنشر والتوزيع-القدس- آذار-مارس- 2013.
– العسف-رواية-دار الجندي للنشر والتوزيع-القدس 2014
– أميرة- رواية- دار الجندي للنشر والتوزيع- القدس 2014.
– زمن وضحة- رواية- مكتبة كل شيء- حيفا 2015.
– رولا-رواية- دار الجندي للنّشر والتّوزيع- القدس 2016.
– عذارى في وجه العاصفة-رواية- مكتبة كل شيء-حيفا 2017
– نسيم الشّوق-رواية-مكتبة كل شيء، حيفا 2018.
– عند بوابة القدس-رواية-مكتبة كل شيء-حيفا 2019.
روايات اليافعين
– عشّ الدّبابير-رواية للفتيات والفتيان-منشورات دار الهدى-كفر قرع، تمّوز-يوليو-2007.
– الحصاد-رواية لليافعين، منشورات الزيزفونة لثقافة الطفل، 2014، بيتونيا-فلسطين.
– البلاد العجيبة-رواية لليافعين، منشورات مكتبة كل شيء-حيفا، 2015.
بيتونيا-فلسطين.
– لنّوش”-رواية لليافعين. دار الجندي للنّشر والتوزيع،القدس،2016.
– “اللفتاوية” رواية لليافعين. دار الجندي للنشر والتوزيع، القدس 2017.

قصص للأطفال
– المخاض، مجموعة قصصيّة للأطفال، منشورات اتحاد الكتاب الفلسطينيّين- القدس،1989.
– الغول، قصّة للأطفال، منشورات ثقافة الطفل الفلسطيني-رام الله 2007.
– كلب البراري، مجموعة قصصيّة للأطفال، منشورات غدير،القدس2009.
– الأحفاد الطّيّبون، قصّة للأطفال، منشورات الزّيزفونة لثقافة الطفل، بيتونيا-فلسطين 2016.
– باسل يتعلم الكتابة، قصّة للأطفال، منشورات الزّيزفونة لتنمية ثقافة الطفل، بيتونيا، فلسطين، 2017.
– ميرا تحبّ الطيور-قصة أطفال-دار الياحور للطباعة والنشر-القدس 2019.
– كنان وبنان يحبّان القطط-قصةأطفال-دار الياحور للطباعة والنشر-القدس 2019.
– النمل والبقرة-قصةأطفال-دار الياحور للطباعة والنشر-القدس 2019.
أدب السّيرة:
– أشواك البراري-طفولتي، سيرة ذاتيّة، مكتبة كل شيء-حيفا 2018.
أبحاث في التّراث.
– شيء من الصّراع الطبقي في الحكاية الفلسطينيّة .منشورات صلاح الدّين – القدس 1978.
– صور من الأدب الشّعبي الفلسطينيّ – مشترك مع د. محمد شحادة .منشورات الرّواد- القدس 1982.
– مضامين اجتماعيّة في الحكاية الفلسطينيّة .منشورات دار الكاتب – القدس-1983.
– القضاء العشائري. منشورات دار الاسوار – عكا 1988.

بحث:
– معاناة الأطفال المقدسيّيين تحت الاحتلال، مشترك مع ايمان مصاروة. منشورات مركز القدس للحقوق الاجتماعيّة والاقتصاديّة، القدس 2002

– ثقافة الهبل وتقديس الجهل، منشورات مكتبة كل شيء- جيفا،2017.
أدب ساخر:

– حمار الشيخ.منشورات اتّحاد الشّباب الفلسطيني -رام الله2000.
– أنا وحماري .منشورات دار التّنوير للنّشر والتّرجمة والتّوزيع – القدس2003.

أدب الرّحلات
– كنت هناك، من أدب الرّحلات، منشورات وزارة الثّقافة، رام الله-فلسطين، تشرين أوّل-اكتوبر-2012.
– في بلاد العمّ سام، من أدب الرّحلات، منشورات مكتبة كل شيء-حيفا2016.
يوميّات
– يوميّات الحزن الدّامي، يوميات،منشورات مكتبة كل شيء الحيفاويّة-حيفا-2016.

أعدّ وحرّر الكتب التّسجيليّة لندوة اليوم السّابع في المسرح الوطنيّ الفلسطينيّ – الحكواتي سابقا – في القدس وهي :

– يبوس. منشورات المسرح الوطني الفلسطيني – القدس 1997.
– إيلياء. منشورات المسرح الوطني الفلسطيني – القدس تموز 1998.
– قراءات لنماذج من أدب الأطفال. منشورات المسرح الوطني الفلسطيني – القدس كانون اول 2004.
– في أدب الأطفال .منشورات المسرح الوطني الفلسطيني – القدس تموز 2006.
– الحصاد الماتع لندوة اليوم السابع. دار الجندي للنشر والتوزيع-القدس كانون ثاني-يناير- 2012.
– أدب السجون. دار الجندي للنشر والتوزيع-القدس-شباط-فبراير-2012.
– نصف الحاضر وكلّ المستقبل.دار الجندي للنشر والتوزيع-القدس-آذار-مارس-2012.
– أبو الفنون. دار الجندي للنشر والتوزيع-القدس نيسان 2012.
– حارسة نارنا المقدسة- دار الجندي للنشر والتوزيع- القدس. أيار 2012
– بيارق الكلام لمدينة السلام- دار الجندي للنشر والتوزيع- القدس- ايار 2012.
– نور الغسق- دار الجندي للنشر والتوزيع-القدس 2013.
– من نوافذ الابداع- دار الجندي للنشر والتوزيع- القدس 2013.
– مدينة الوديان-دار الجندي للنشر والتوزيع-القدس 2014.

التعليقات

جميل السلحوت

جميل حسين ابراهيم السلحوت
مولود في جبل المكبر – القدس بتاريخ 5 حزيران1949 ويقيم فيه.
حاصل على ليسانس أدب عربي من جامعة بيروت العربية.
عمل مدرسا للغة العربية في المدرسة الرشيدية الثانوية في القدس من 1-9-1977 وحتى 28-2-1990

أحدث المقالات

التصنيفات