رواية جداريات عنقاء في اليوم السّابع

ر

القدس: 18-7-2019 ناقشت ندوة اليوم السابع اثّقافية في المسرح الوطني الفلسطينس في القدس رواية “جداريات عنقاء” للكاتبة الفلسطينية مروى فتحي منصور، صدرت الرواية عام 2019 عن مكتبة كل شيء الحيفاوية، وتقع في 330 صفحة من الحجم المتوسط، وصمّمها ومنتجها وأخرجها شربل إلياس.
افتتحت النّقاش مديرة الندوة ديمة جمعة السمان فقالت:
جداريات العنقاء” رواية تقرع الجرس.. فهل من مجيب.
“جداريات عنقاء” رواية فلسطينية اجتماعية جندرية إنسانية سياسية وطنية شاملة للروائية الجنينية مروى فتحي منصور.
هي عبارة عن لوحات من الحياة معجونة بالمرارة والظلم والخرافات…إلخ، كل لوحة منها تشكل قضية من الواقع الصعب الذي يعيشه المواطن الفلسطيني. تم طرحها بذكاء، يربط بين اللوحات خيط رفيع يصلها مع بعضها البعض؛ لتخرج رواية كاملة تحمل كل مآسي الشعب الفلسطيني أفرادا ومؤسّسات، شعبا وحكومة.
لم تترك الكاتبة مروى فتحي منصور أمرا يعتب عليها، طرحت المضمون بفنية عالية، وبلغة أدبية جميلة وعميقة ترتقي إلى مستوى الطرح.
ضغطت على الجروح المتقيحة، آملة أن تخرج ما فيها من عفن سكنها منذ زمن، فخرجت صرخة مدوية تؤكد صعوبة اندمالها في ظل الظروف التي يعيشها الوطن.
لم تخف الكاتبة بأن روايتها مخنوقة بغصّة الرّوح.. فهي تعلم مدى صعوبة وقسوة ما طرحه قلمها.
تؤكد الكاتبة أنّ على الروائي أن يكتب بإحساس وتلقائية وعفوية.. من القلب إلى القلب، لا أن يحشد كل ما لديه من معلومات طالعها مؤخرا ويجمعها بين غلافين، وإن فعل فمن المؤكد أنّ كتابه لن يكون سوى كتاب استعراضي لمفرداته وثقافته.. ولن يكون رواية.
اذا فالكاتبة تحسّست واقع مجتمعها الفلسطيني وعكسته بشكل مجرد تلقائي من خلال عمل أدبي جريء.
تحدثت عن قهر الاحتلال للمواطن الفلسطيني، وتحدثت عن حق الضعيف المسلوب من القوي في عالم أشبه بالغاب، فالحياة للأقوى. الحياة للمتنفذين الذين يشغلون مواقع حساسة في الحكومة.
وتحدثت عن المرأة المقهورة من الرجل، كان قويا أو ضعيفا. خاصّة وأنّ المجتمع الفلسطيني هو مجتمع ذكوري.
وتحدثت عن كذبة اسمها المؤسّسات غير الحكومية الأجنبية المعروفة بال NGO,s، التي تفرض سياستها وتمرر مخططاتها مقابل الدولارات التي تدفعها، وذلك تحت عنوان ” الإنسانية”، وهي لا تمتّ للإنسانية بصلة.. فهي ليست أكثر من كلمة حق يريدون بها باطلا.
تصطحبنا الكاتبة في رحلة أشبه ما يكون طريقها مزروعا بالألغام.. تجعل القارىء متنبها حذرا. بين كلّ سطر وسطر ينتظر مفاجأة تصل به إلى درجة التوتر. فمن الصعب تقبل الظلم والاستغفال والغدر حتى ولو تكن أنت الضّحيّة.
أمّا النهاية فكانت دعوة من الكاتبة لكلّ من يريد أن يعيش مرتاح البال أن يتصالح مع نفسه ويقدر نفسه، فلا أحد يعرف ولا يقدر الظروف التي نعيشها، تقول: ” أنا صديقة نفسي.. أنا الكبيرة في عينيها والشاهد الوحيد على الظروف التي أفرزتها”.
كما قدمت نصيحة إنسان خبِر الحياة.. هي وجهة نظر تستحق نقاشا مطوّلا عميقا، تقول: ” لا تضيع عمرك لتثبت لهم أنّك ناجح، أخبرهم أنّك فاشل وسيصدقونك فورا، ثم عش حياتك على طريقتك وبأسلوبك، هذا هو النجاح الحقيقي”.
رواية تقرع الجرس.. فهل من مجيب؟
وقال محمد موسى عويسات:
هي الرواية الأولى للكاتبة، تبدأ الكاتبة بمقدمة هي عبارة عن إهداء، وتختمها بـ (إلى كلّ متجبّر طاغ ظنّ أنّه بطمس النّاطقين بالحقّ بجرّة قلم سيلغي قدرتهم على بوح الحقيقة، هي أوّل الغيث والعاصفة قادمة، ومصير فرعون آتيك، أعدك(. هذه العبارة توحي بأمرين الأول: هو مضمون هذه الرواية، فهناك صراع بين طغاة وأصحاب حقّ، وهناك حقيقة لا بدّ من البوح بها، ولن يتمكن الطغاة من طمسها. أمّا الثاني: فهو أنّها تشي بنيّة الكاتبة بكتابة رواية أو روايات في مثل هذه القضايا.
وقبل الحديث عن الرواية من الجانب الفنّي لفت انتباهي رأي للكاتبة أو تصوّر للرواية، وطبيعتها وفلسفتها، وهذا يعلّل نجاح هذه الرواية، فبدت ناضجة فنّيّا وكأنّ لها أوليّة، ويأتي رأيها على لسان كاميليا إحدى شخصياتها التي كانت تراجع الطبيب النفسيّ وليد في الجمعيّة، تقول كاميليا:” الرّواية فنّ كلما تدرّبت عليه كلّما انفلت وانساب من يديك، كفنّ التمثيل، أوّل إحساس هو الأصدق، إنه التّلقائيّة بالأداء التي يقتنع بها المتلقّي، ليس كنحت أو رسم أو غناء أو لعبة موسيقيّة، إنّه شيء إمّا أن يصدّقه لتلقائيّته وعفويّته أو لا، وهكذا الرّواية، تسكب نفسها كما هي، لا تحتمل هندسة في البناء، إنّها الرّياضة في السّاحات الشّاسعة والأفكار في فضاء رحب دونما ضوابط، وأنا كلّما قرأت الرّواية العالميّة والعربيّة كلّما انكمشت على ذاتي وتهت في أبنيتها المتعدّدة والمختلفة، حتّى وصلت إلى قناعة أنّ الرّواية التي تحشد لك المعلومات التي تمّت مطالعتها مؤخّرا هي ليست رواية، هي كتاب يستعرض فيه الرّوائي مفرداته وثقافته… ويترسّخ فينا الاهتمام بالشّكليّات والمظاهر عبر وصف مستفيض لجغرافيّة المكان أو هندسته وديكوره، وكأنّنا مضطّرّون دائما إلى الانسياق إلى أسس بنيويّة، يضعها كاتب غربيّ في بوح غير واع بعد احتساء غليون يفقده الصّلة بواقعه، فيغدو يسرد هلوسات مكانيّة ويستنطق موجودات جوفاء محيطة بها، ممّا يؤكّد خواءه العاطفيّ في اللحظات التي يلد بها وعيه قيصري…” فالرواية حالة عفويّة لا تخضع للهندسة ولا تغرق في الشكليات، وهي ليست كمّا من المعلومات، ولا توصيفًا للمكان، ولسنا ملزمين فيها بأسس بنيويّة غربيّة. وهكذا بدت رواية الكاتبة.
القضايا التي دارت عليها الأحداث:
من وجهة نظري تعدّ هذه الرواية من الأدب الواقعيّ المميّز الذي نفتقده، والذي أطلق عليه بعض النقاد اسم (أدب ما بعد أوسلو)، وكان تميّز هذه الرواية في نبش قضايا وفضح واقع قد يتغاضى عنه الكثيرون من الكتاب والأدباء لأسباب كثيرة، فهناك ظواهر تنخر في عظم هذا المجتمع، هرب من تناولها الكثيرون من الأدباء إلى الحديث عن الاحتلال والصراع معه في حدود رسمتها السياسة والسياسيون، يسترجعون فيها مرارة المأساة التي مرّت منذ ما يزيد على السبعين عاما، ولكنّ هذه الكاتبة تناولتها بجرأة وفي غير تهيّب أو خجل أو مداراة، ووضعت أمام القارئ من خلال تناول قضيّة المرأة الفلسطسينية التي تعيش في مخيم صورة لحال هذا المجتمع، وما يتهدّده من مخاطر، ويمكن إجمال هذه القضايا في الآتي:
قضية المرأة الفلسطينيّة وما تتعرض له من ظلم واضطهاد وعوز قد يؤدي بها إلى أن تأكل بثدييها، وما تتعرّض له من استغلال جنسيّ في المجتمع والجامعات ومكان العمل، وكذلك سقوطها في براثن الفاحشة والرذيلة بدعوى التحرّر، “… تذكر المبلغ جيّدا الذي تمّ تركه على الطّاولة مع ورقة طلاق من زواج مسيار، لم يكن مموّلها لحسن حظّها قادرا على المجازفة مع امرأة واحدة أكثر من مرّة، خوفا مِن تتبّع أثرها، فكلّ فتاة في مجتمعها يوجد وراءها من يرتاب لتصرّفاتها أو تغيّرها”، ومنها استضعاف قد يؤدّي إلى قتلها، وتناولت أربعة نماذج رئيسة لأربع شخصيات هي: لوليانة بطلة الرواية، وزينة التي اتهمت زورا بأنّها أجهضت في إحدى المشافي للتغطية على فضيحة لابنة أحد المسؤولين، والأسيرة سمر، التي كانت ترى السجن أفضل من حياتها في هذا المجتمع. وسيرين عوّاد التي تمثّل قصة واقعية لنيفين عواودة، التي عثرت على ملفات ووثائق تدين الفساد وأهله، فكان مصيرها الطرد من وظيفتها والطعن في عرضها فتخلّى عنها الأهل، ثمّ وجدت مقتولة في رام الله. وفي ثنايا هذه القصص تجد أحداثا كثيرة لنساء اتهمن وظلمن واستضعفن وشردن. وتجد الصراع النفسيّ عند المرأة الذي يدور حول الجنس والزواج، وحاجة المال، والعمل، والسياسة.
المحور الثاني في هذه الرواية هو وجود فئة من الوسط السياسيّ والأمنيّ، تسيطر على كلّ مناحي المجتمع، تفعل ما تريد، تظلم وتبطش وتعيث في الأرض فسادا، وهي غطاء لكلّ مفسد، ومن يقف في وجهها يسحق، ويكون مصيره الطرد من وظيفته أو الترهيب والتخويف ليكتم صوته، أو تلفيق فضيحة له، أو قتله: ” ألم تتنازل زينة عن حقّها ووضعتها في بوتقة تحقيق لا تنتهي بقوّة السّلاح؟ ألا تنزوي مرعوبة في وحدة كاوية من خوفها من سلطة السّلاح؟ ألم يتجرّأ عليها كلّ من تجرّأ لأنّ زوجها ليس من أهل السّلاح والسّلطة؟ ولأنّه هو يرتعد منهم ويخاف على ما لديه منهم؟ إنّه قانون العربدة…”، وترى من خلال هذه الفئة فساد يستشري في المشافي، والمحاكم، والقوانين، تقول: ” قطع الطّريق أمامها وأوصل لها رسالة قويّة بأنّ اسم خصمها في القضيّة قادر على حماية المستشفى من أيّ ضرر، وتغطيته أمنيّا في حالة تضليل العدالة”. حتّى إنّ هذا الفساد ليبلغ الجامعات: ” سأله بدوره مرّة عن سبب تردّده على المكان في الوقت الذي يتوجّب عليه حضور محاضرات في الجامعة، برّر ذلك بأنّه لا يستلطف الدّراسة أساسا، وأنّ لديه قريبا في رئاسة الجامعة يأخذ باله من شهادته كلّ نهاية فصل”، أمّا عن الإعلام فيقول لؤي: ” يعمل ويعدّ ويجتهد ويندمج بالشّارع وأنتم تذيعون وتزيدون شعبيّتكم، وأنا مستخدم سعيد بالألف شيكل التي ترمونها بوجهي بعد كلّ تقرير أوتحقيق أومصوّر أو بحث، شعارات عصريّة تتسلّقون فيها على هموم الشّعب: تحقيق الاستقلاليّة، تحقيق المواطنة للمواطنين، تحقيق العدالة للمغلوبين على أمرهم، وما تحت الطّاولة الله أعلم به، بوق لذلك الزّعيم أو ذاك”
المحور الثالث هو محور الجمعيات والمؤسسات التي فاض بها المجتمع الفلسطيني في أعقاب أوسلو وتشكيل السلطة الفلسطينيّة، والتي تموّل من الأجنبيّ، وتستهدف تطبيع المجتمع وخدمة المشروع الصهيوني. ” خليهم (ينفسوا هالشّباب يا لؤيّ ) هل تعلم أنّه يوجد بلاد لا يملكون ما نحن نملك، إسرائيل وهي دولة غنيّة، لِمَ لا نستقطب أموالهم وأموال الأثرياء في بناء مدن حديثة كمقصدٍ لتبادل الثّقافات والخبرات، ومكانٍ صحيّ لجميع الفلسطينيين وصرح ٍّ نظيف، ومصدرٍ للكفاءات الفلسطينيّة والعمالة الماهرة ونموذج وبيئي يحتذى به مستقبلا؟! ألا يكفينا خسائر الحروب في الاجتياحات السّابقة والآتية؟
” أخذ يقرأ من هنا وهناك عبارات رنانة قد أدرجها وقتها في مقدّمة المقالات، ” فكان لا بدّ من طريقة جديدة يتم فيها استعمار الشّعوب ونهب العقول، السّيطرة على العقول هي الخطوة الأقرب نحو احتلال الشّعوب، والتغلغل ببطء مدروس إلى ثقافات الشّعوب لمحوها والبدء بوضع ثقافة الاحتلال في عقول الشّباب وسلوك النّاس، فكانت المؤسّسات بدل الجيوش، والمشاريع بدل المعارك، فتمثّلت الحكومات الاستعماريّة بمؤسّسات لدعم الشّعوب الفقيرة وتمويل مشاريع هدفها المعلن الأخذ بيد الدّول النّامية نحو التّطوير والرقيّ، بينما هدفها الحقيقيّ وغير المعلن السّيطرة والاستغلال والتصفيق للاحتلال…. يتناول جهازه الحاسوب الشّخصيّ ويكتب في الموقع الذي يتولى إدارته على الشّبكة العنكبوية باسم مستعار: مؤسّسات USAID التي اجتاحت وطننا بحجّة دعم الشّعب الفلسطينيّ وتحسين بنيته العقليّة والتحتيّة، بالحقيقة هدفها كسر بنيته الوطنيّة وانتمائه لوطنه الجريح، بل وأكثر من ذلك ليصل هدفها إلى تبنّي ثقافة غريبة بعيدة عن الزّيتون وغريبة عن الوطن بتفاصيله الجميلة. هذا ما تعمل من أجله منظّمات الدّعم الأجنبيّ في فلسطين، وهدفها غير المعلن إنتاج جيل جديد من الشّباب الفلسطينيّ بمميزات أجنبيّة بامتياز، وقناعات غربية لبراليّة تنظر للصّراع العربيّ الإسرائيليّ نظرة غربيّة…”، ” تحوّلت برمّتها إلى صناعة عالميّة من النّدوات والمؤتمرات والأبحاث داخل الهويّة اليهوديّة، وفي العلاقة مع (إسرائيل) من أرضيّة ما يسمى بعمليّة السّلام والتّطبيع بمشاركة الأدوات الرّخيصة من العملاء العرب شيوخ وأمراء ورؤساء وملوك، ويلعب فيها الفلسطينيّ عبر السّلطة وعبر العديد من المنظّمات غير الحكوميّة Ngos دور الـ(كومبارس) الذي يغنّي حسب عزف المموّل، هي تؤدي الدّور المكتوب لها من قبل المموّل” … إنّه الدّور الذي حظي بالقبول المجتمعيّ عقب خلاف الفصائل الفلسطينيّة على الحكم وخفّ تأثيرها على الشّعب، وفي ظل تراجع قوى وأحزاب اليسار في فلسطين تروج إلى أفكار وسياسات الليبراليّة، تتبع نظام العولمة الامبرياليّ وأوهام السّلام المزعوم مع دولة العدوّ الصّهيونيّ وتمويل منظّمات NGOS في البلدان العربية للحديث عن الدّيمقراطيّة والمواطنة وحقوق الإنسان إلى جانب تقديم خدمات شكليّة غير إنتاجيّة، وتأطيرها ضمن أشكال وممارسات إداريّة وتدريبيّة وإغاثيّة، نجحت في إغراء وإغواء الآلاف من المثقّفين الفلسطينيين والعرب الذين استجابوا للمغريات الماليّة )الدّولار) عبر رواتب تتراوح بين ثلاثة آلاف دولار وسبعة آلاف دولار، عدا مصاريف السّفر والإقامة في أفخم الفنادق للمشاركة فيما يسمّى بالنّدوات والحوارات النّخبويّة، وأصبحوا أبواقا للمموّل الخارجيّ في صنع ثقافة الاستهلاك والهبوط والتّطبيع، فمن يدفع للزّمار يحدّد له نوع النّغمة أو اللحن ..”
أمّا قضية المعلمين وإضرابهم واحتجاجات في ميدان محمود درويش، فجاءت متعلّقة بشخصية نسويّة تنتمي لهذا القطاع، فلم تتناولها بتفاصيلها وحيثياتها، إلا من حيث إصرار لونة أخت لوليانة على الحراك حتى تحقيق مطالب المعلمين، والمفاجأة الصاعقة بوقف الحراك في خطاب لرئيس السلطة، فكانت سببا لانهيارها العصبيّ، وتناولتها لوليانة من حيث إنّها أرادت أن تفتح بها النار من خلال الفيسبوك على أعدائها، ولتنال بتبنّيها بعض النجوميّة، والتأييد الجماهيريّ، وربطها بقضية سيرين عواد.
في ثنايا هذه المحاور تجد التقانة الحديثة ووسائل التواصل الاجتماعي تأخذ دورها في كلّ الاتجاهات الإيجابيّة والسلبيّة، وأبرز السلبيات التي يدركها المجتمع وتفتّ في عضده، هو استخدامها في قضايا محرّمة كالتواصل الجنسيّ والخيانة الزوجية والتشهير بالأبرياء. يقول وليد للوليانة: “أنت شهوتك في الكلام وليس في الجسد؛ لأنّك تؤيّدين العلاقات الإ لكترونيّة « بدت كأنّها مزحة مناسبة للسّياق حيك نسيجها بإتقان وانسيابيّة لتبدو طبيعيّة، في نقاش عمل يتناول قضيّة بحث في مؤتمر سيتمّ عقده عن العنف الإلكترونيّ والجرائم الجنسيّة الإلكترونيّة، سيمثّل الحاضرون المؤسّسة فيه.. لكنّها فقط من يغوص ما بين السّطور، ستعاتبه عليها ليالي كاملة، ألا يرى كم تواجه صعوبة في أن تبدو طبيعيّة؟”
العنوان: جداريات عنقاء… العنقاء طير خرافيّ في الأسطورة العربيّة يرمز إلى التجدد، والجداريات هو ما يعلق على الجدار من صور ورسومات وغيرها، وربّما قصدت الكاتبة بالعنقاء تلك المرأة لوليانة، الشخصية الرئيسة في القصّة، صاحبة الصراع مع المجتمع وعاداته وتقاليده، ومع نفسها وشهوتها المنفلتة، ومع عاشقيها، ومع أولئك المتنفذين الذين يسيطيرون على البلاد وبيده زمام الأمور، والتي تحملت الإخفاق معهم جميعا، ولكنّها تواصل طريقها، إلى أن وصلت إلى طريق مسدود، ووجدت نفسها وحيدة، ومهدّدة في حياتها، فاختارت طريقا أخرى لا تصطدم فيه بأهل السلطان. تقول: “كلّ واحدة تحكي جوعا مختلفا عن الأخرى، هي كعنقاء بين رجالها، هناك من يحيلها رمادا في دائرته الرّوتينيّة المغلقة البلهاء… وهناك من يعيد تجميع ذلك الرّماد لخلقها فراشة من دودة لإعادتها عنقاء محلّقة في سماء الوطن”.
المكان: معظم الأحداث في جنين ومخيمها، حيث تنتمي له الشخصيات كلّها تقريباً، ووقعت فيه كلّ الأحداث، ويمتد إلى رام الله، وأريحا. ومن هناك يبدأ غلق الرواية، والعدّ التنازلي نحو النهاية. والمخيم وبؤس حياته في هذه الرواية هو من صنع هذه الشخصيات ونفسياتها: ” في أرجاء غرفة كئيبة بتأنق كلاسيكي في كسائها، يتغلغل في بصيلات مجسّات روحها الباحثة عن الدّفء في تلك الألوان التّرابية الدّاكنة لأثاث الغرفة الخالية من تفاصيل الصور والمناظر، وحتّى من نتوءات عليه تشوّش ناظرها، الذي انكفأ على نفسه في مغارة تذكّرها بغرفتها التي نشأت بها مع أخواتها في بيت مخنوق بتصميم الزّنازين في أحد أركان المخيّم، تآكلت أجزاء وافرة منه بسطو آلات حرب ساخطة على مظاهر الحياة، كمخلوق فضائيّ في مسلسل كرتونيّ يداهم منام طفل تعاطى بصره أثناء النهار”، أما وليد: ” لكنّ مزاجه الجيّد سرعان ما يتبدّد حين يصل إلى بوّابة المخيّم، حيث تتعدّى المحلّات على مساحة الشّوارع، والعربات المتنقّلة التي ترقد أثناء الليل على ناصية الطّريق، تزفر أنفاسه لهيب غيظه ودخان سيّارته الحالك، يزفرغيظ عاد ونفاث سخطه الباذخ… يتذكّر كم ساوى قراره بالبقاء في المخيّم في حياته من خسائر، هذه الطّرق غير المعبّدة، الضّيّقة، المباني التي تشي بأفعاله لبعضها على طريقة الغيبة، إنّها قراراته وقناعاته…”
” يفتقد إلى الاتساع … يعتقد في قرارة نفسه أنّه لو ترعرع في بيت يتحلّى بالإضاءة القويّة وبالمساحات المناسبة لكانت روحه متّزنة..”
“تحدّق عيناه طويلا وبلا هدف صوب ضوء مزرقّ ينبعث من أربع زوايا بين الواحد والآخر متران، بين دهاليز التّاريخ الذي لا تلفحه الشّمس، لا يدرك منه الفراغ الذي يعجّ بالأشياء المكتظّة في مساحة رؤية ثابتة ومعطيات شاسعة… لا يعكّر تماثيله الجاحدة للرّاحة إلّا مشواره إلى المرحاض؛ وأحيانا إلى شرفة الشّقّة، حيث يتأمّل البنيان المرصوص ويستنشق دخان الفرنيّة…”
“ترعرعت في بيت على قارعة المخيّم يتيمة بلا أب ولا أخ يهتمّ بشؤونها، في مساحة لا تتعدّى السّتّين مترا، تفتقر لكلّ معاني الخصوصيّة… النّاس بنظرها يهربون من أقدارهم إلى حتفهم، ثائرين على حدود جغرافيّة هزيلة لصناعة تاريخ أكثر هزلا وأعمق عزلة.
الزمان: زمانان، زمن الأحداث الروائية الحاضرة والتي تقع في منتصف هذا العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، وزمن ذكريات الشخصيات وأحداث صنعت هذه الشخصيات أو تعلقت بأفعالها وتعود إلى الانتفاضة الأولى وما بعدها.
الشخصيات في القصّة: الشخصيّة الرئيسة أو بطل الرواية هي لوليانة، فتاة متحرّرة، مفتونة بجمالها شهوانيّة، تحبّ الظهور والنجوميّة، مثقّفة، مظلومة في مجتمعها، تحمل جراحات عدّة، تعمل في مؤسسة أو جمعيّة لمناصرة النساء المضطهدات أو المعنّفات، صاحبة عزيمة وإصرار، تميل إلى حبّ الثأر والعنف. ” لم يكن الوحيد الذي ينصحها بترك مهنة المحاماة لأهلها والتفرّغ لمهمّة الجمعيّة التي تخصّص لها راتبا طائلا يغطّي خمسة موظّفين حكوميّين، ولكنّها لا تتقبّل من سواه هذا التّوجيه، ولا تعرف كيف تبرّر له وتقنعه، رغم أنّها لم تكسب قضيّة واحدة، كيف أنّ هذه المهنة بالذّات تتمنّى النّجاح فيها؛ لتمحي من ذاكرتها السّقوط المدوّي لها في بحر المغريات يوم باعت عذريّتها لتغطية أجرة المكتب المتراكمة عليها لمجاراتها حياتها الجديدة في شقّة بنصف البلد واقتنائها لسيّارة حديثة…” هناك شخصيات أخرى منها لؤي ذلك الشاب المناضل الذي يحمل همّ مجتمعه، وهمّ أسرته، الصحفيّ الذي أراد أن يواجه الفساد كونه صحفيّا، وتبنى مواجهة الجمعيّات المموّلة من الخارج، التي تكالبت على الشعب الفلسطيني بعيد قيام السلطة الفلسطينيّة، وعدّها جزء من المؤامرة وتدمير الشعب وتطبيعه، ولكنّه طرد من وكالة الأنباء المحليّة التي كان يعمل فيها، فيئس وهاجر إلى النرويج بعد أن أدرك انعدام القدرة على المواجهة والتغيير، وكان على علاقة عاطفيّة مع لوليانة، فقد أحبّها بصدق، وكان بينه وبينها خلاف من جهتين: كانت تعيب عليه ترك البلاد والهجرة إلى النرويج، وعدّت هذا هزيمة، وكان من جهة يعيب عليها العمل في الجمعية، وتوقيعها على وثيقة تدين أي عمل ضد المحتل، ولكنّ هذا الخلاف لم يفسد حبّهما أو عشقهما وتواصلهما العاطفي بوساطة وسائل التواصل الحديثة من الفيس وصندوق الرسائل والواتس أب وغيرها. الشخصية الثالثة هي الطبيب النفسي وليد الذي كان يتمتع بثقة النساء المراجعات للجمعية، وكان يستغلّهن عاطفيّا وجنسيّا، بشخصيته وأسلوبه الجذاب، كان على علاقة مع لوليانة، يقضي معها أوقات غراميّة لم تصل إلى حدّ الزنا، وكان فيه ضعف وخور، يتجنب القضايا الحساسة والخطيرة التي تتعلّق بنساء تعرضن للأذى من قبل الشخصيات المتنفذة أو أجهزة الأمن، وكان يحاول منع أو صدّ لوليانة من تبني مثل هذه القضايا الخطيرة، كانت لوليانة ترى فيه الرجل الذي يقدّر جمالها وأنوثتها، ولكن لم تصل إلى حدّ الحبّ الحقيقيّ. وتخلّى عنها بعد أن تعرضت بمعيتة لإطلاق النار من مجهولين. ومن الشخصيات الأخرى التي أثرت في حياة بطلة القصة زوجها كامل الرجل المعلم المثقف، البارد جنسيّا، الذي لا يأبه لها ولا يغار عليها، ويعد انشغالها بالقضايا الخطيرة جنون وهوس، يقتضى إيداعها مستشف المجانين، وهناك شخصية لونوهناك شخصيات عابرة مثل أم وليد وأخته هديل.
هناك شخصيات أخرى من النساء ضحايا العنف والاستغلال وكل واحدة تعدّ أنموذجا ومثالا للاضطهاد: زينة المرأة التي أجرت عملية مرارة في إحدى المشافي الخاصّة، وزوروا لها تقريرا بأنها أجري لها عملية إجهاض وذلك للتستر على ابنة أحد المسؤولين، وما ترتب على ذلك من عار ومعاملة سيئة من أبناء زوجها العجوز، والتي أجبرت على التنازل عن قضيتها بالتهديد، بل أرغمت على الادعاء بأنّ لوليانة هي من حرّضتها على ذلك.
شخصية سمر التي اعتقلت بوشاية من زوجها الخائن، بتهمة إخفاء السلاح للمقاومين، وطلقها زوجها فور اعتقالها، واتهموها بشرفها بعد أن خرجت من السجن، وتوجهت إلى المحاكم لتتمكن من تربية أبنائها.
أمّا الشخصية الثالثة فهي سيرين عودة وهذه التي كشفت فساد مؤسسات وشخصيات، واتهمت في شرفها، وتخلى عنها أهلها وقتلت في رام الله.
لونا أختها التي جاوزت الثلاثين ولم تتزوج، وتعمل مدرسة وكانت من نشطاء حراك المعلمين، وكانت شديدة الحماس له والانفعال به، وتحمّل عليه الكثير من الأمل، ولمّا انتهى الإضراب أصيب بانهيار عصبي، تعرّف عليها وليد في أثناء هذه الأحداث، واستطاع أن يوقعها في شباكه ربّما ليتزوج منها. وهناك شخصيات أخر ثانوية لم يتسع المجال لذكرها.
والحقّ أنّ كلَّ شخصية تمثل جزءا من المجتمع ونمطًا من التفكير، وتجتمع هذه الشخصيات، لتبرز صراعًا متعدّد الوجوه، فهو إجتماعيّ (يتعلّق بالمرأة، وثقافيّ بين موروث من العادات والتقاليد وطارئ في قضيّة تقبّل الثقافة التطبيعيّة وقبول المحتلّ، وسياسيّ متعلّق بالفئات السلطويّة ذات النفوذ، المتحكّمة في القوانين وشؤون البلاد، وتقف وراء الفساد).
من الجانب الفنّيّ :
الرواية عشرون لوحة أو جداريّة كلّ واحدة تبدأ بقول مأثور لمفكر أوفيلسوف أوأديب أو شاعر، حاولت الكاتبة أن يكون مناسبا لجو الجدارية وأحداثها. وكأنّها مقدّمة لها أثر في جذب القارئ، وفاصل ترويحيّ جميل للقارئ، ويدلّ ذلك على سعة ثقافتها. مثل: ( الحياة حرب، حرب مع نفس وحرب مع ظروف وحرب مع الحمقى ال ّذين خَلقوا هَذه الظروف فاستمر) كافكا.
وفي ثنايا النّصّ كانت الكاتبة مقتصدة في الاقتباسات، وأينما وقعت كانت جميلة ومعبّرة، منها: ” عندما لا تتكلّم عن الشّيء فأنت لا تبالي به فعلا، أو أنت غارق فيه لدرجة المرض” أحمد خالد توفيق
” يجب أن تمنع ثلاث من التّحكم في حياتك: – المال النّاس- الذّكريات السّيئة« ويليام شكسبير
“النّبع الجافّ لا يمدّ السّواقي بالماء، والفؤاد الذي يملأه الظّلام لا يضيء للسّالكين الطّريق، والقلب الذي فيه ثلج لا يبعث في قلوب السّامعين حرارة الإيمان“، علي الطنطاوي
“ما أرخص الوطنيّة إذا كانت هى التّسبيح بحمد الطّغاة، والسّير فى مواكبهم، ورفع أعلامهم، والهتاف بحياتهم.” مصطفى أمين
من جهة اللغة الروائية ابدعت الكاتب في استخدام لغة جميلة تصويريّة ملأى بالاستعارات والتشبيهات، والعبارات الموحية، وبخاصّة في مواقع الحديث عن التواصل العاطفي والعشقيّ بين شخوص القصّة، وقد وقعت منها استعارات غريبة أو صعبة على القارئ العادي، من مثل: “كثيرة هي الكلمات والأشعار والأغاني التي تقتنص ذكرياتها وتتقمّص خطرا، وتطهو تنهد زهرة مترامية كثوب حبّ يحتفظ بعد نزعه برائحة الشّهوة تلاطف أنفاسها المطوِّقة لأسرارها… ترشح عبيرها على سريرها الذي يحتضنها بشغف أم كتابوت…”
استطاعت الكاتبة أن تصف وتصوّر نفسيات وعقليات شخصيات الرواية بدقّة متناهية، من خلال الحوارات الخارجيّة، والحوارات الداخلية، التي تكشف صراعًا داخليّا بعيد الغور، وقلّ في هذا لجوؤها إلى اللغة التقريريّة.
أدخلت الكاتبة وسائل الاتصال في التقانة الحديثة من فيسبوك، وواتس أب، وتويتر، في كلّ تفاصيل القصّة، وفي العلاقات بين الشخوص والأحداث، وهذا ما أضاف للرواية بعدًا واقعيّا، ولم تكتف بهذا، بل استخدمتها في التصوير الفنيّ، تقول:
” لم تعان من مشاكل ترهّل القوام، تبدو كامرأة ناضجة في بحر الثلاثين، لكن بهيئة ابنة العشرين، كتاب ثريّ بمحتواه، جذّاب بصورة غلافه ولمعانه وعنوانه، لكنّه بقي محافظا على بصمة ناشره، لم تعتقه بصمات القارئين، لم يجد من يقرأه ويبليه، أو يحتفظ بطيّات في بعض أوراقه، ممّا اضطرّ ناشره لترويجه إلكترونيا بصيغة (بي دي أف)، لكنّه كذلك بقي بلا رائحة أو أثر على قرّائه.”
وقعت الكاتبة في أخطاء لغويّة منها النحويّة، والتركيبيّة، والدلاليّة، والإملائيّة، ولم تكن بالكثرة المفسدة، ومنها استخدام بعض الألفاظ العامّيّة، ففي مقدمة الكتاب رفعت والدين في موضع الجرّ، واستخدمت (إلي) بدل من الذي، واستخدمت كلمة (فرمت) دون أن تضعها بين قوسين: واضح “أنّه تمّت فرمتتك بشكل جيّد جدا”. واستخدمت كلمة ضجّ بدل قضّ في قوله: لتضجّ مضجعهم. واستخدمت التمختر بدل التبختر، واستخدمت كلمة (يونون) بدل كلمة يتذمّر، تقول: “يونون ويتنهد، وأكثرت من استخدام همزة القطع في مواقع همزة الوصل من مثل: (الإجتماعيّ) وغيرها. ومنها استخدام الاسم الموصول الذي بدل التي: ” للقيام بالمهمّات الذي كان يتوجّب على الاحتلال أن يقوم بها”. ومنها استخدام لفظة عاميّة في سياق فصيح: حرام عليك أنا مو ناقصة. وهناك شيوع للخطأ الشائع في استخدام (بعض) تقول: إذا فقد أفراد المجتمع وجماعاته الثّقة ببعضهم واحترامهم لتاريخهم وقيمهم على سبيل تقبّل الآخر؟”.
نهاية الرواية:
وبما أنّ الرواية تتناول قضايا مجتمعيّة قائمة لا يتوقّع أن تكون نهايتها انتصارا لأبطالها، أو أن يتخيّل حلا لها يرضي شوق القارئ ويوافق توقعاته، فانتهت الرواية بهزيمة البطلة التي تحدّت الفساد وحاولت أن تنتصر للمرأة من خلال المحاكم، فبعد الإخفاق في المحاكم، استخدمت آخر سلاح لها في هذه المعركة هو صفحة التواصل الاجتماعيّ الفيسبوك، ولمّا شعرت بالخطر المحدق، والتهديد الفعلي لحياتها، استسلمت للواقع بأن لجأت لمرأة متنفذة قريبة لأحد الأشخاص المفسدين، التجأت لها لتحميها و لتوفّر لها عملا تعتاش منه، ويحقّق لها رغبتها في الظهور، وإشباع أنوثتها. وتحوّلت من الدفاع عن سيرين عوّاد إلى مهاجمته، وتبرّر ذلك بقولها: “وبناء عليه قرّرت نشر منشور على مواقع التّواصل الاجتماعيّ سيحذّرهم من مغامرة معاودة الاتصال بها: لا تضيّع عمرك لتثبت لهم أنّك ناجح، أخبرهم أنّك فاشل وسيصدّقونك فورا، ثمّ عش حياتك على طريقتك وبأسلوبك، هذا هو النّجاح الحقيقيّ.“ ويفوح هذا بأنتن رائحة للهزيمة في المعركة والانسحاب من الميدان.
وبهذا تكون الكاتبة قد نبشت واقعًا اجتماعيّا سياسيّا وثقافيّا، وأبدعت في عرضه في تفاصيله الواقعيّة. ولكنّها لم تأت على تصوّر للخروج من هذه الحالة.
وكتب جميل السلحوت:
هذه الرّواية الأولى للكتابة مروى فتحي منصور ابنة مدينة جنين الفلسطينيّة.
تلفت انتباهنا هذه الرّواية من عنوانها على غلافها الأوّل، فالجداريّات هي اللوحات الفنّيّة التي ترسم على الجدران، أي أنّها ظاهرة للجميع، والكلّ يستطيع مشاهدتها، والعنقاء طائر وهميّ ورد في الأساطير القديمة، ويتميّز بطول العنق، وطول العنق دليل على الجمال، وورد في الأساطير حول هذه الطّائر أنّه يحترق ويتحوّل إلى رماد، ثمّ لا يلبث أن يعود حيّا من جديد، وعنوان الرّواية هذا يدعو القارئ إلى التّفكير بالذي تريد الرّوائيّة طرحه في روايتها هذه، ولم أصل إلى هدف الرّواية من عنوانها، لكنّه حرّضني على قراءتها؛ كما أنّ الرّواية نفسها بأسلوبها السّلس، وطغيان عنصر التّشويق فيها قد دفعتني لقراءتها في جلسة واحدة، لأخرج بنتيجة مفادها أنّ معاناة المرأة في مجتمعاتنا الذّكوريّة ظاهرة ومعلومة للجميع، لكنّ أحدا لم يعمل على تغيير هذا الواقع، وفي الوقت نفسه فإنّ المرأة هذه الإنسان الجميل، تدهش نصفها الآخر الذي سبب معاناتها، وتحرق نفسها من أجله، ولتخرج مرّة أخرى من بين الرّماد، لتعيد دورة الحياة.
وإذا ما وصلنا إلى صفحة “4” سنجد الإهداء دون أن تضع الكاتبة عنوانا له، فنجد أنّ الكاتبة قد بدأته بـ: “إلى والدي ووالدتي اللذان شكّلا نظرتي لنفسي من علوّ شاهق”، وبعد قراءتي للرّواية وجدت لغتها لغة أدبيّة فصيحة سليمة، فاستغربت لماذا رفعت “اللذان” في السّطر الأوّل للإهداء، مع أنّها مجرورة، والصحيح أن تكون “اللذين” لأنها بدل من المبدل منه” إلى والدي ووالدتي”. ولا يمكن تبرير هذا الخطأ إلى بالسّرعة وعدم الانتباه، وما أظنّ أنّ هكذا خطأ يمرّ على الكاتبة لو انتبهت له. لكنّ هذا السّطر الأوّل في الإهداء يشي بأنّ تربية الآباء للبنات تقوم على غرس الدّونيّة في نفوسهنّ منذ الصّغر! فالذي ينظر للآخرين من علوّ يعني أنّه يتعالى عليهم. وفي هذا نقد لاذع للثّقافة والتّربية الذّكوريّة في نظرتها للمرأة. ومن هنا فإنّ السّؤال الذي يطرح نفسه من جديد وهو: ما العمل أمام هذا الواقع المرّ؟ وبطريقة غير مباشرة تجيب الكاتبة على هذا السّؤال في إهدائها في الفقرة الأخيرة من الصّفحة الرّابعة فتقول:” إلى كلّ طاغ ظنّ أنّه يطمس النّاطقين بالحقّ بجرّة قلم سيلغي قدرتهم على بوح الحقيقة، هي أوّل الغيث والعاصفة قادمة، ومصير فرعون آتيك، أعدك”ص4. وفي محاولة لفهم ما بين السّطور سنجد أنّ الكاتبة تعتبر روايتها ثورة على الطّغيان والخلل الاجتماعيّ، المتمثّلة بالعادات والتّقاليد السّلبيّة، وأنّ المتمسّكين بهذه المفاهيم الخاطئة سيتساقطون أمام الوعي القادم لا محالة، تماما مثلما سقط من قبل طغيان الفراعنة. وهذا الطّغيان كما يظهر في تتمّة الإهداء في ص5، بأنّ القهر التي تتعرّض له النّساء بشكل خاصّ والمجتمع بشكل عامّ، ليس بعيدا عمّا يعانيه الوطن، الذي تصفه “بين جدرانه معتقل، معتقل في معتقل الرّوح، ويقضي الله إلى الخلاص منه من يشاء”، وهذا يعني أنّ حريّة الوطن مرهونة بحرّيّة أبنائه، وكأنّي بها تتساءل: كيف يمكن تحرير الوطن ما دام نصفه يضطهد نصفه الآخر؟ أو كما يقال” إنّ من يضطهد الآخرين ويسلبهم حرّيّتهم وحقوقهم لا يمكن أن يكون هو نفسه حرّا”.
قرأت هذه الرّواية مرّتين، الأولى وهي مخطوطة، والثّانية بعد أن صدرت ورقيّا، مع التّأكيد على عدم معرفتي الشّخصيّة للكاتبة. وأجزم بأنّ الرّواية غير مسبوقة في مضمونها، -على الأقلّ في الأدب الفلسطينيّ المعاصر-.
وقد فاجأتني الكاتبة بقدرتها على كتابة الرّواية وتميّزها من خلال إصدارها الأوّل، ممّا يعني أنّها موهوبة وليست دخيلة على الأدب الرّوائيّ. فالكاتبة متمكّنة من اللغة، ولديها مخزون لغويّ لافت، ولغتها بليغة فصيحة احتوت كلّ صنوف البلاغة بسلاسة دون تكلّف أو تصنّع.
وقد تعدّدت الحكايات والقصص في الرّواية، وبقيت مرتبطة ببعضها البعض بخيط شفيف، وغلب عليها الرّويّ والبناء الرّوائي بأساليب متعدّدة، التي لم ينقصها عنصر التّشويق الذي يجذب القارئ، ويفرض عليه متابعة الأحداث دون ملل، ولم يغب عن الرّواية أسلوب الاسترجاع الذي غذّى عنصر التّشويق وأضفى جماليّات على البناء الرّوائيّ.
وقد أبدعت الكاتبة في روايتها من خلال تعدّد الأحداث والقصص والحكايات التي اختلط فيها الواقع بالخيال “الواقعيّ”، وهذا دلالة واضحة على عمق الثّقافة الاجتماعيّة للكاتبة، والتي أبدعت أيضا في سبر غور شخصيّات رواياتها.
ومن مميّزات هذه الرّواية أنّها رواية نسويّة بامتياز، فالكاتبة منحازة إلى بنات جنسها اللواتي يعانين الاضطهاد في مجتمعاتنا الذّكوريّة التي لم ترحم المرأة في مراحل عمرها المختلفة، وربطت ذلك بفوقيّة الرّجل في استغلال المرأة واضطهادها بغضّ النّظر إن كانت ابنة أو زوجة أو أختا أو عشيقة. ويلاحظ أنّ الرّواية لم تجعل من شعبنا شعبا نموذجيّا كما يحلو للبعض أن يصفه، وقد عرّت هذا المجتمع من خلال العلاقات الاجتماعيّة وعلاقات الحبّ والغرام بين الرّجل والمرأة، وهذه العلاقة غير السّويّة هي التيّ أنجبت علاقات غير سويّة ومخالفة للدّين وللعادات والتّقاليد، ومن يقرأ الرّواية بحياديّة ووعي سيجد أنّ ما ورد فيها هو حقيقة مجتمعنا الذي يدّعي الفضيلة في العلن، ويعمل عكسها في الخفاء، وهذا لا يقتصر على العلاقة بين الرّجل والمرأة فقط، بل يتعدّاها إلى أمور أخرى هي السّبب في الخلل الذي يحصل، وهنا جاء دور الفساد والإفساد الذي يمارسه بعض المتنفذّين، ومن هذا الفساد عدم المساواة بين المواطنين أمام القانون، وهذا يشمل مختلف مناحي الحياة، تقول لوليانة على لسان سيرين في رسالة ألكترونيّة:” أنّ القاضي هو الجلاد يا بنيّتي” ص158، وتواصل “تذكّرني بطعم مرّ في حلقومي يرافقني منذ كنت طالبة بالمدرسة، عندما يتمّ تهميشنا وعقابنا بينما تبقى بنت المديرة وبنات المدرّسات دون عقاب، علنا ودون تفسير، ولا تجرؤ واحدة من الطالبات على السّؤال والاحتجاج” ص158، ” ولقد كبرت في داخلي الغصّة درست المحاماة، وإذ بي أجد أنّ شريحة من الشّعب فوق المساءلة وفوق القانون”. ص159.
وحتّى في العلاقة الحميمة بين الرّجل والمرأة، هناك من يضطهد شريكته، ويتعامل معها وكأنّها “مجرّد منفضة سجائر”! أي أنها وعاء لتفريغ شهواته. وهناك فرق بين هذا وبين نقيضه الذي:”إنّه يعشق التّفاصيل في المرأة، والأهمّ يعشق أن يُمتّع المرأة أكثر من يتمتّع، حيث تكمن متعته في رؤيتها مستمتعة به، …هل يستوي مع الذي يعتبر المرأة مطفأة سجائر؟” ص209.
و “زينة” إحدى بطلات الرّواية فتاة يتيمة لا إخوة لها، تشكّل نموذجا للخلل الاجتماعيّ الموجود بيننا، فقد اضطرّت للزّواج من عجوز تسعينيّ هربا من ابن عمّها المنحرف الذي كان ينوي الزّواج منها عنوة، وعند هذا الزّوج كانت مجرّد خادمة لهذا العجوز، وتلقى الاضطهاد من أبنائه. وعندما دخلت المستشفى لإجراء عملية جراحيّة لاستئصال المرارة، شاء حظّها العاثر أن تدخله ابنة أحد المتنفذين للاجهاض من جنين حملت به سفاحا، وجرى عكس الأمور في المستشفى بحيث سجّلت “زينة” بأنّها هي التي أجهضت! وهذا شكّل فضيحة لها. وعندما تولّت “لوليانة” محامية “جمعيّة حماية المرأة من العنف” عمليّة الدّفاع عن “زينة” جوبهت من إدارة المستشفى، لكنّها لم تيأس، وواصلت دفاعها عن “زينة”، وعندما وصلت إلى اثبات الحقيقة فوجئت بأنّ “زينة” نفسها قد أسقطت القضيّة تحت ضغوطات من متنفذين، لتواجه المحامية بتهمة التحريض والفساد وقلب الحقائق! وهذه إشارة ذكيّة إلى أنّ المرأة في المجتمعات الذّكوريّة تساهم في اضطهاد نفسها، حتّى وإن كانت مرغمة.
والمحامية لوليانة أيضا لها مشاكلها الخاصّة هي الأخرى، فقد فشلت في حبّها الأوّل، ولم تجد في زوجها الشّريك المناسب الذي يلبّي طموحها ورغباتها كزوجة وكإنسانة ممّا دفعها إلى تعدّد علاقاتها مع الرّجال.
وحتّى الدّكتور وليد “الطبيب النّفسي في “جمعية مقاومة العنف ضدّ المرأة” كان يستغل مريضاته جنسيّا بدلا من حمايتهنّ!
يبقى أن نقول أنّ هذه الرّواية الجريئة بحاجة إلى دراسات عميقة للوقوف على خباياها وأهدافها.
وكتبت نزهة الرملاوي:
من المعلوم أنّ الجدران في مخيماتنا وقرانا ومدننا الفلسطينية، كانت قلم الانتفاضة وروح الثّورة ومتنفّسها، والقاسم المشترك للأحزاب الثّورية والوطنية، فهي مبتغاهم لكتابة الشّعارات والإضرابات والتّهديدات، ومدوّنة التاريخ الشاهد على النضال، فكانت ذاكرة المكان، وهي المتنفّس المقاوم لعزلة الوطن وغربته. أمّا الآن فقد أضحت الجداريات مكانا للفنّ والألوان والجمال الدّال على الثبات والحقّ والتعلّم، كرسم المدن والآثار والشّخوص كي تبقى.. وتلك الرسوم التي تخلق عالما من الروائع على جدار الفصل الذي يشطر الوطن، ومواجهة اسوداد الحياة بالجمال والإصرار على البقاء وحقّ العودة. وها نحن نرى عنقاء غريبة، عادت من الرّماد، تحطّ على جداريات متنوعة، كشفت الكاتبة أبعاد خربشاتها بعد تسويات مهزومة، مهترئة، رُسمت من القسوة والتّعنيف والإباحيّة والمحسوبيات والصفقات، والأنشطة والتّطبيع والاختلاس والتّخوين، والانشغال بالجمعيات، والتّنظير لحقوق المرأة والطفل والمؤتمرات والندوات التي تشير إلى الواقع الفاسد، ولا تجد حلولا للمشكلات التي تواجهها. وقد سلطت الكاتبة الضّوء على المنظمات غير الحكومية، التي تعمل على مسح أدمغة الشّباب واغوائها، والتي تحدّ من طموحه في التّحرر، وأشارت بجرأة إلى قلب موازين الحقّ والباطل، كاتهام البريء ومعاقبته، وتبرئة الفاسدين وترقيتهم، واعتلائهم المناصب في البلاد والتحكم بمصائر العباد.
وقد أبرزت المشاكل المجتمعية من خلال الحوارات الداخلية والتأزم النفسي لأبطال روايتها، والمناقشات الخارجية بين الشخصيات الرئيسة فيها، ومن خلال الرسائل الإلكترونية التي حضرت في الرواية، وكانت ذات تأثير قوي في السرد.
من هنا ندرك أنّ اعتراف الكاتبة من خلال طرحها للمشكلات والأزمات السّياسية والاقتصادية وبأنها تجاوزت الخطوط الحمراء التي لا يمكن لأحد السّماح بتخطّيها، إنّما كان مبعثا للقوّة والجرأة فيها، وإنّ ما خطّه قلمها، كُتب من حقائق المجتمع المتأطر الحديث، فاستطاعت أن توصل لنا ما بجعبتها من أفكار واستغاثات حول وضع المرأة، ونظرة المجتمع الذكوري لها، والمشاكل التي يكون هو سببها. وأشارت إلى بسط سيادة قانون الغاب في مجتمع يلهث وراء المال والانحراف، مضيفة أن لا صوت يعلو فوق صوت السّاسة، في ظلّ العنصرية والهيمنة الأمريكية، والتي أدّت إلى الاقتتال العربي، وما نتج عنه من تنحية للقضية وإقفال ملفها. لذا حملت العنقاء على كاهلها هموم الوطن، وراحت تبخّ نيرانها أمامنا بقوة، لنقاسمها الرؤيا، رؤى وحقائق دخيلة على مجتمعنا لم نكن نراها، بل كانت بالخفاء تسري، وكنا نحسب أنّنا في زمن الفضيلة وطلائع التّحرر الآتي بعد سنيّ الاغتراب والتّهجير.
في روايتها الأولى هذه، عرّت الكاتبة المجتمع أمام أعين قرّائها، واختارت مدينتها جنين، لبدأ عملية القلع وتشريح المجتمع، وربما ينطبق ما أثارته من فساد وإجحاف بحقّ الوطن المسلوب والمواطن المغلوب، على باقي المدن الفلسطينية الخاضعة “للسلطة الفلسطينية.”
لقد أشارت الكاتبة بقوة إلى طغيان الفساد على الصّلاح، لذا قلّما شعرنا كقرّاء بأمل يلوح بأفق ما تناولته من قضايا، أو موجّه أو مرشد في ظلّ هذا التّهاون والانحلال القائم، إلا من خلال تأزم نفسيّ، كان متنفّس الشخصيات، فقد جاء على لسانها ما نبشته أفكار الكاتبة، وربما ما شاهدته أو قرأت عنه، لتقولب الأحداث وتربطها من خلال العقدة والحبكة في سردها الروائي.
انحازت الكاتبة إلى قضايا المرأة، وعرجت على أحاسيسها ومكنوناتها وأحلامها، وخلجات مشاعرها، ولكنها بالغت في سرد تأزمها في معظم صفحات الرواية..فمهد ذلك لملل باغت القارئ بعض الشّيء.
لم تكن افتتاحيات المشاهد الروائية كأقوال الأدباء والفلاسفة مناسبة لما خطّ في الصّفحات، وإن كان للكاتبة حريّة الاختيار والأسلوب فيما تطرح، إلا أنّني لا أعرف المغزى من وراء ذلك الاستهلال.
تميّزت الرواية بسلاسة السّرد، وعنصر التّشويق، وعمق المعنى والتشبيه، والوصف الدّقيق للحالة، إضافة إلى العاطفة والأحاسيس المتدفقة في صفحات الرواية، لكننا لم نلحظ عنصر الحركة في الرواية، ممّا أدّى إلى الجمود ومتابعة القراءة عند المتلقي، فقد استبدلته الكاتبة بالسرد.
شاركت الكاتبة شخصياتها الأفكار والأحداث، وتبنّت من خلالهم طرح مشاعرها الوطنية، ونداءات الاستغاثة المتكررة ومحاولاتها الجدّية، للتّحرر من سيطرة الاحتلال وهيمنته على الأراضي الفلسطينية، وانشاء المستوطنات عليها، وإخفاق عملية السلام في تسويات قائمة على العدل وحق العودة.
وتعرضت الرواية كذلك للخلافات السّياسية والحرب على غزة، وجعلت بارقة الأمل في الوصول إلى القدس، وهي الخلاص من ألم التفكك والهزيمة، وهي بوصلة النّجاة وبرّ الأمان، وهي القوة في عهد التخاذل، حينما أشارت على حبيبها أن يعقدا قرانهما في المسجد الأقصى، وكأن شرط الحبيبة هذا، سيعيق الوصول إلى القدس، لكنّه سيتحقّق بعد كسر جدران حصار المدينة وتسويتها تحت نعال المرابطين.
والسّؤال الذي يطرح نفسه لِمَ اختارت الكاتبة طائر العنقاء المتخيّل للوقوف على جداريات الحقيقة؟
هل تريد من الملأ أن يُراقب نار العنقاء وهي ترسل الضّوء؛ ليقرأ ما كتبته العتمة على الجداريات؟ أم تريد منه أن يشاهد صيدها وذبحها، وكيف ستُبعث من الرّماد وهي أكثر جرأة وتحدّيا، لتكتب ما يّستجدّ من حقائق؟
وقالت هدى عثمان أبو غوش:
تدور أحدث الرّوايّة بلسان عنقاء مخيّم جنين لوليانة، ما بين مكتب المعنّفات والبيت، روحها ثورة عشق لا تهدأ، وقلبها طير سجين يقتله جنون الوحدة ، لا تعرف أن تنام في قلب رجل نائم بلا مشاعر، لا يجعلها أنثى العشق. فتتمرد وتبحث عنه في عالم افتراضي يجعل روحها تتنفس وجسدها يشتعل.
العنوان “جداريات عنقاء” موفق وملائم ، فالعنقاء طائر خيالي يتميّز بالجمال والقوّة، وعندما يموت ويحترق يصبح رمادا،ويُخلق طائرا جديدا، وفي الرّوايّة نجد الأُنثى تحترق وتتألم في البحث عن روحها وعاطفتها ورغباتها، تحاول النّجاة عبر جدران الرّجل في عالم الخيال الإفتراضي في البحث عن سفينة الحبّ وحين تحترق كالرماد تتمرد، تثور فتُحطم الجدران المختلفة في الوطن،فتولد عنقاءً جديدة.
في هذه الرّوايّة تخرج الأُنثى عن صمتها وتبوح بأسرارها في الجانب العاطفي ومشاعر الحب والحرمانّ، وتثير عدّة قضايا ونقدا للمجتمع الفلسطيني،اجتماعيّا، سياسيّا، عاطفيا.
تطرقت الكاتبة بقلمها المبدع لقضيّة عاطفة المرأة،وبيّنت الأثر السلبي ونتائج الزواج الشكلي الجّاف على نفسية الزوجة من خلال شخصيّة البطلة المحامية لوليانة التّي تحاول سدّ جوعها العاطفي والجنسي عبر شبكات التواصل” العالم الافتراضي”،والواتس أب في علاقتها مع وليد وغيره.
كما وبرزت في الرواية عدة قصص لنساء بُحن بأسرارهنّ من الحرمان العاطفي وظلم المجتمع لهنّ، فكاميليا زوجة ضابط المخابرات تبحث عن الحبّ في علاقتها مع الطبيب النّفسي وليد، وقصص أُخرى لنساء عانين من الظلم الاجتماعي، منها قصة زينة التّي تمّ تزييف حقيقة إجراء عمليّة المرارة وتحويلها لعمليّة إجهاض، وقصة الأسيرة المحرّرة سمر، ونظرة المجتمع السّلبيّة لها. وقد تطرقت لعدّة جوانب سياسيّة تتعلّق بالوطن وصراعه مع الإحتلال من خلال تساؤلات لوليانة وحوارها مع الشخصيات مثل لؤي ووليد، ومحاولة إيجاد حلول لتطوير الوطن اقتصاديا؛ لتحث على النهوض بالمجتمع اقتصاديا من خلال مشاريع تبنيها الدولة، وليس من الخارج.
تطرقت الكاتبة للناحيّة النفسيّة، و تأثير الشعور بالوحدة سلبيّا على الأُنثى، وحاجتها إلى تفريغ عاطفي، والتّي تؤدي إلى حالة إكتئاب أحيانا. كما حدث مع لوليانة وتناولها أقراصا ضد الإكتئاب.
برزت الشخصيات النسائية بكثرة في الرواية ووصفتها كمضطهدة من قبل الذكور،
استخدمت الكاتبة السرد الحكائي، واسترجاع الحدث الماضي” فلاش باك”، جاء السّرد بضمير المتكلّم والرّاوي، أبدعت الكاتبة بجمال لغتها القويّة المشبعة بالمحسنات البديعيّة، أمّا الحوار فحينا كان بالّلغة الفصحى، وحينا آخر كتابيّا عن طريق المحادثات الإلكترونيّة في العالم الإفتراضي. استهلت الكاتبة بداية كلّ حكايّة بأقاويل لفلاسفة وشعراء وأدباء. وردت أخطاء مطبعيّة .
بعض الملاحظات حول الرّوايّة من وجهة نظري: هنالك إطالة في السّرد حول فلسفة القدر السلبي وكثرة التساؤلات، كما جاء في الصفحات ما بين 234-240 الذّي يشتت متعة القارئ في انتظاره لمتابعة أحداث الرّوايّة.
طغى السّرد الذاتي الطويل المشبع بالتساؤلات والجمل البلاغيّة على الحدث في صفحات أُخرى. غياب الرادع الدّيني والأخلاقي في الرّوايّة، لم نجد مشاعر الذنب تطارد البطلة لوليانة ولو قليلا، وهنا غيّبت الكاتبة الصراع بين رغباتها وبين خيانتها لزوجها.
أقحمت الكاتبة مشاكل الوطن بأحداث الرّوايّة، بالحدث الخاص ألا وهو مشاكل المرأة، حيث أصبحت تنقد وتقترح حلولا لمشاكل الوطن، ممّا يبعد القارئ عن فحوى الروايّة ومشكلتها.
وكتبت نزهة أبو غوش:
حملت الكاتبة الفلسطينيّة مروى منصور ريشتها وغمّستها في بحر وطنها، لتكتب لنا روايتها البكر المميّزة، خاضت بها عالم المرأة الظاهر والمخفيّ تعيش في ظلّ وطن مسيّر لطبقة أو شريحة من الشّعب، هي فوق القانون وفوق أيّة مساءلة.
في روايتها أظهرت الكاتبة نقدا واضحا وصريحا لهذه الطبقة الفوقيّة: انتقدت ظلم وتعسّف المسؤولين الكبار وخياناتهم ومحسوبيّاتهم وارتفاعهم، وبناء نفوذهم وأمجادهم مبنيّ على أكتاف الشّعب المسكين الّذي يتعب ويشفى، من أجل لقمة العيش؛ توصّل أن تصفهم بطلة الرواية بالخونة.
في روايتها عمدت الكاتبة أن تبني ثلاثة شرائح من النّساء في المجتمع. شريحة أو طبقة من النّساء اللواتي رزحن تحت سلطة الرّجل، ظلمه وتعسّفه وتسلّطه؛ مما أوصلهن إِلى الحياة على هامش المجتمع، لا مساعد ولا عائل لهنّ؛ أمّا الشّريحة الثّانية فهي النّساء اللواتي يعشن في مجتمع فضفاض، يعملن ما يحلو لهن دون مسؤوليّة تجاه عائلاتهنّ وتجاه أنفسهنّ، يركضن خلف المادّة والرّجال بعلاقات مشبوهة لا حدود لها، فهنّ نساء لعوبات، خائنات، مغريات. الشريحتان سحقتا تحت سلطة الطّبقة الفوقيّة الّتي ذكرت سابقا.
أمّا الشّريحة الثّالثة، فهي الشّريحة الجريئة المطالبة بحقوقها، الّتي استطاعت أن تقول…أخيرا: لا.. بفم مفتوح، احتجاجا على تخفيض رواتبهنّ في وزارة التربية والتعليم. هذه الشّريحة قُمعت أيضا من قبل الطبقة الفوقية.
لقد نجحت الكاتبة مروى في بنائها الفنيّ لهذه الطّبقات الثّلاث، وبالتّالي هي الدعّامة الأساسيّة لبناء الرّواية الفنّي.
اتّفق معظم النّقّاد على أنّ المرأة ترمز إِلى الوطن، وفي هذه الرّواية أرى بأنّ شخصيّاتها النّسائيّة من كافّة الطّبقات قد مثّلت وطننا العربيّ الكبير بكلّ تفاصيله الّتي تتطابق مع النّساء اللعب، والمراوغة، الاغراء، الجري خلف المادّة التّملّق والتّسلّق والانقياد لسلطة فوقيّة، تحكمها وتخطط لها مسارها وحياتها وكينونتها، وتسحقها تماما كما سُحقت نساء الرّواية. ووصلت إِلى درجة من الخنوع مسيّرات، كما حدث لبطلة الرّواية الّتي تحدّت الطّبقة التّنفيذيّة، وعاندت وقاومت، وساعدت النّساء المهمّشات وضخّت في أُسرهنّ الحياة وجعلت منهنّ نساء منتجات من خلال عملها في جمعيّة مناهضة للعنف؛ من أجل حياة محترمة كريمة.
في نهاية المطاف استنتجت البطلة لوليانا بأنّ من يمشي عكس التّيّار، وعكس رغبة أسياده، يمكن أن يسحق تحت أقدامهم وتضيع حياته، كما ضاعت شعوبنا، لكنّها أخيرا استدركت نفسها وجرت في نفس الاتّجاه الّذي يريده منهم الكبار الرّؤوس المدبّرة والمخطّطة، تماما كنهاية بطلة روايتنا – لوليانا- واستدراكها لتخليص حياتها فانقلبت كلّ موازينها رأسا على عقب، وتركت كل مبادئها وقيمها وأذعنت للقوّة العليا؛ لأنّها الوسيلة الوحيدة لاستمرارها بالحياة.
من المآخذ على الكاتبة حسب رأيي هو استخدامها نفس الخطاب من بداية الرّواية حتّى نهايتها.
اللغة في رواية ” جداريّات عنقاء” لغة جريئة قويّة ورصينة وثريّة بالمحسّنات البديعيّة والتّشبيهات، تنمّ عن تمكّن الكاتبة من اللغة وتمرّسها بها؛ لكنّي رأيت أن هناك تكرار مبالغ به في وصف الأحداث، حيث جعلت الكاتبة من الرّاوية البطلة إِمرأة كثيرة الشّكوى والتّذمّر من حياتها، وما آلت إليه ظروفها الحياتيّة، تجعل من القارئ يعتقد بأنّه عاد بالقراءة إِلى الخلف، وكأنّ الكاتبة هنا لا تثق بقدرة القارئ على الفهم السّريع والاقتناع بالفكرة.
كما أن التّشبيهات جاءت على حساب النّص وأثقلته نحو في صفحة16:
جهازها النّقال يهتزّ مرارا على المنضدة، تهمّشه كوسواس خنّاس، كتوابل تفسد نكهة الطّعام الأصليّة..”وفي صفحة88: “هي تخشى على انوثتها من الاندثار من التّطاير كمشروب غازيّ بعد فتح علبته.”
استطاعت الكاتبة منصور أن توصل فكرتها للقارئ دون أدنى شكّ؛ لكنّها لم تستطع اقناعنا كقرّاء بعلاقاتها، ولم تصل إلينا بأنّ هناك حبّا حقيقيا بين عاشقين رغم كثافة اللغة وتراصّها ومحاولة صنع الأسلوب الرومانسي والتّلاعب بالألفاظ الموحية.
وكتبت رفيقة عثمان:
تناولت الكاتبة موضوع تعنيف النساء، وظلمهن في ظل سلطة ذكوريّة، وهيمنة سلطويّة للمتنفّذين في المجتمع الفلسطيني؛ حيث نسجت الكاتبة روايتها من وحي الواقع المطعّم بالخيال؛ لترسم لنا صورة متكامة للصراعات الاجتماعيّة والسياسيّة معا.
ممكن تصنيف الرواية ضمن الجنس الأدبي، بالرواية الواقعيّة والخيالية، كذلك تتضمّن الرمزيّة.
خاضت الكاتبة في تفاصيل دقيقة، فيما يتعلّق بالعلاقات العاطفيّة بين الجنسين، وعبّرت الكاتبة عن سخطها ومضايقتها من الجنس الذكوري لعدم دعم ومساندة النساء المستضعفات؛ بواسطة تحريك الشخصيّات المحدّدة على لسان البطلة لوليانة ونساء أخريات، والتي وظّفتها لتوصيل الفكرة التي هدفت الكاتبة أيصالها للقرّاء.
استخدمت الكاتبة أصواتا مختلفة للرواة، حيث كان الراوي بصوت ضمير الأنا على لسان البطلة “لوليانة” وتدخل صوت الكاتبة تارة أخرى؛ برأيي هذا الاستعمال المتنوع في صوت الرواة فيه تقنيّة فنيّة، تُحسب لصالح الكاتبة؛ لكن تخلّل السَرد التباسا في تداخل غير واضح بين الرواة أثناء الحوار، وعدم استخدام أسلوب الحوار بوضوح؛ لمعرفة من هو المتحدّث، خاصّة في نهاية النص الروائي، لم توضح الكاتبة من المتحدثة ، هل هي “لوليانة” أم أختها “لونا” مما سبّب الغموض في معرفة مصير البطلتين.
وظّفت الكاتبة لغتها الغزيرة والرزينة والقويّة والجميلة بمحسناتها البديعيّة المختلفة، في السرد الروائي، ممّا أضاف إثارة وتشويقًا أثناء القراءة؛ بينما استطردت الكاتبة مروى بطريقة مبالغ بها أثناء سرد الأحداث، لدرجة التكرار مرارا عديدة حول نفس الفكرة.
برأيي كان من الممكن سرد الراوية بصفحات أقل بكثير لإيصال نفس الفكرة. يبدو لي أن هذا الاستطراد المبالغ به ليس لصالح الرواية. لنهج الكاتبة باستخدام أسلوب السرد المُفصّل والاستطراد المبالغ به.
لم توفّر الكاتبة جهدا من استعمال التناص المتنّوع لأدباء وفلاسفة وعلماء غربيين وشرقيين؛ فهذا دليل على غزارة المعرفة والثقافة التي تتحلّى بها كاتبتنا؛ استخدمت الكاتبة هذا التناص عند بداية كل جزء من السرد الروائي. استقت الكاتبة بعض الأفكار من بعض الكتّاب العالميين من أمثال ” وليام شكسبير” و “أرسطو” و”باولو كويلو” و “دوستويفسكي” و”سينيكا” و “إيزبيل “الليندي” و “جاك نيكلسون” ، و”إليف شفاق” و “كافكا”؛ بينما استخدمت تناصّا من كتّاب وشعراء عرب مختلفين، أمثال: رضوى عاشور، ومصطفى أمين، ونجيب محفوظ، ومحمود درويش، وتوفيق الخكيم، وميخائيل نعيمة، وغسان كنفاني، ومحمد الماغوط، ومصطفى محمود. برأيي إن استخدام التناص المبالغ به، يُضعف من قوّة السرد في النصوص السرديّة بالرواية، السرد بالرواية ليست بحاجة إلى دعم بآراء الآخرين، وتداخل التناص بالرواية يشوّش التفكير، ويؤثر على التركيز بأحداث الرواية. أجد من الأفضل الاستخدام المعتدل بالتناص أثناء السرد، وليس كعنوان لبداية سرد الأحداث.
احتوت الرواية على عنصري الزمان والمكان المهمين، حيث تمركزت الأحداث في مخيّم جنين في فلسطين، بزمن ما بعد الاجتياح والحرب من قبل الجيش الإسرائيلي على المدينة، ضمن الاجتياح على الضفة الغربيّة ما بين 1- 12 من نيسان 2002 (ويكبيديا) – الموسوعة الحرّة.
كان للمكان والزمن أهميّة كبرى في سرد الأحداث، وما خلّفته هذه الحرب من مآسٍ وفقر واحتياج اقتصادي متفشٍ؛ ومشاكل اجتماعيّة صعبة ومعقّدة خاصة عند النساء؛ اللواتي تعرضن للعنف الجسدي واللفظي، والاغتصاب، وهضم الحقوق؛ في ظل الهيمنة والاحتلال، وغياب سلطة القانون.
نجحت الكاتبة في وصف صورة ضعف النساء، واستغلالهن، وقتلهن، وحرمانهن من أبسط الحقوق، والسيطرة على حياتهن، دون أن يكون لهن قدرة الدفاع عن أنفسهن، وغياب العدالة والانصياع للقانون، بل هاجمت الكاتبة ذوي السلطة الحاكمة والمتنفّذين، وذوي المناصب العالية، ورجالات الأمن المعتدين بالضرب على النساء؛ بجرأة متناهية لدرجة تبدو أنها ناقمة عليهم وعلى كل أصناف الرجال؛ لاستغلالهم مناصبهم لتحقيق مآربهم الخاصّة.
وردت أخطاء مطبعيّة وإملائيّة عديدة في نصوص الرواية، بالإضافة لبعض الأخطاء النحويّة القليلة؛ والتي كان بالإمكان تلافيها بالمراجعة قبل النشر الأخير.
في رواية “جداريات عنقاء” استخدمت الكاتبة أسلوب المراسلة الحديثة، بواسطة وسائل الاتصال الآلكترونية خاصة أثناء نسج العلاقات الافتراضية على مواقع الاتصال الاجتماعي مثل: الفيس بوك، والواتس أب، والتويتر، وغيرها، هذا النهج يعكس صورة قدرة الكاتبة على مواكبة التطورات التكنولوجيّة الحديثة، ووظفتها في سرد الرواية. علما بأن الكاتبة سردت ونشرت الرواية حديثًا، واستخدمت أسلوب الرجوع إلى الوراء في سرد الأحداث، ولم تنتبه الكاتبة بأن تأسيس (الواتس أب) لم يدخل عالمنا حينها إلا في سنة 2009، بسنوات بعيدة عن الأحداث السالفة الذكر. من الجدير بالذكر بأنه من الواجب مراعاة الفترة الزمنية التي حدثت بها الأحداث، واستخدام التقنيات المتاحة لتلك الفترة.
طغت العاطفة الحزينة على الرواية من البداية حتى النهاية، ظهرت عاطفة الشعور بالغضب، واليأس، والدونيّة، ،والضعف، والقهر، والكراهية، والحقد.
اختارت الكاتبة عنوان الرواية “جداريات عنقاء”، تعبيرا عن المعيقات والحواجز التي واجهتها البطلة “لوليانا” المحاميّة عند الدفاع عن النساء المعنّفات، وتحقيق العدالة، في كل مرّة حاولت الوصول للحقيقة؛ لكن موانع كثيرة أهمها السيطرة الذكوريّة، والسلطويّة، حالت دون تحقيق الهدف والحماية لها ولجميع النساء المظلومات وبحاجة للدفاع عنهن. كما ورد صفحة 202، ” كلكم حبيسو دوائر تطوّقوننا بها؛ لتصنعوا حولنا وفينا الجدران. صنعتوني بأنفسكم، خنقتموني داخها، أكره القيود يا دكتور.. أكرهها.” أحيانا وردت كلمة “جدار” بالمعنى المجازي كالحدود داخل النفس أو الجسد، كما ورد صفحة 222، ” استغرب علو الجدران التي وضعتها لوليانة في الآونة الأخيرة بينهما حتى تاه خلفها دون أن تترك له طاقة للدخول إليها منها.”. كذلك ورد صفحة 226، “جميعكم تريدونني أن أبني قمما أن أحيط نفسي بجدران تحميني من فساد وظلم الآخرين”. لكن الكاتبة عبرت أيضا عن “الجدار” بالحماية كما ورد صفحة 230، ” إن الرجل جسر، جدار تتكئ عليه المرأة، وكلما أحاطت نفسها بالرجال كلما استطاعت فيء نفسها من لهيب الشمس ولهيب الرصاص، رصاص كلام الناس، مع الرجل تستمد المرأة حريتها”. كما ظهر في الرواية من علاقات لوليانة البطلة مع عدد من الأشخاص اعتقادا منها بأنهم سيكونون سندا وحماية لها.
لا شك بأن الجدار الحقيقي هو الحصار على مدينة جنين حتى الإختناق، في هذه الرواية تعدّدت الجدران بكل أشكالها، من جدران الذات حتى الجدران الخارجيّة المنيعة والحصينة البعيدة عن الحريّة والإنطلاق وتحقيق العدالة والمساواة.
بالنسبة لكلمة “عنقاء” أو “الفينيق” معناها: “طائر خيالي، يمتاز بالجمال والقوّة ، وفي معظم القصص أنه عندما يموت ويحترق ويصبح رمادّا ويخرج من الرماد عنقاء جديدة” وفق موسوعة ويكبيديا.
جمعت الكاتبة ما بين الجداريات والعنقاء، نسبة لتغلّب البطلة لوليانة على الحواجز والمعيقات التي كانت تحول بينها وبين تحقيق أهدافها، وتؤدي إلى إحباطها، وإثنائها عن عزمها، لكنها تقرر في كل مرّة القيام من جديد ولا تنصاع للمحيطين بها محاولين إقناعها بالتخلي عن قرارها في الدفاع عن النساء المستضعفات والمعنّفات، كانت تخلق طاقة نفسية متجدّدة، ولا تستسلم. كما ذكرت الكاتبة صفحة 268، ” لكنك ستجد عنقاءك تصير رماد نارك ونيرانهم إلى عنقاء جديدة تخلق نفسها، كاسرة كل التابوهات ومتجاوزة لخطوطهم الحمر.. “.
من جهة أخرى، من المحتمل أن الكاتبة اعتبرت نصوصها السرديّة جداريّة لكل حالة امرأة مستضعفة، كلوحة فنيّة أو نصيّة مكتوبة على الجدران، مممكن النظر إليها وعدم لمسها، والعنقاء هي بطلة الرواية المحامية “لوليانا”؛ التي حاولت الدفاع عنهن بكل قوة، دون أن يحبطها أحد عن عزيمتها؛ ولكنها في النهاية استسلمت للواقع.
برأيي الشخصي قصدت الكاتبة بروايتها كصورة رمزيّة، بعيدا عن المعنى المجرّد للنصوص، ربّما قصدت بالعنقاء الوطن، والجدار العنصري الذي تم بناؤه، بين الضفة الغربية والقدس وغيرها. صوّرت الكاتبة معظم الانتهاكات التي تعرّضن لهن النساء، من قتل وتعنيف، واغتصاب، وغير ذلك؛ كصورة رمزيّة للإنتهاكات التي تعرّضت لها كافة المدن الفلسطينيّة جراء الحصار والاجتياح بعد الانتفاضة الثانية، وشبهتها بالعنقاء، أو الفينيق الذي لو احترق يتحوّل من جديد يتجدّد ولا يفنى؛ هكذا سيظل الوطن صامدا مقاوما مهما مرّ عليه من صعوبات وأزمات.
نهاية الرواية كانت غامضة، ولم توضح الكاتبة لغة الحوار؛ لتظهر من المقصودة من الأختين “لوليانة أم أختها “لونا”. ربّما قصدت الكاتبة أن تكون النهاية مفتوحة؛ ليستنتج القارئ بنفسه. برأيي هنالك تمويه في التركيب الفني لعدم استخدام أسلوب الحوار المنظّم بين شخصين.
هنالك احتمال لنهاية الرواية، بأن البطلة تخلّت عن أسلوبها بالدفاع عن النساء المعنفات، واعتزالها بالتواصل مع كافة الأصدقاء الذكور؛ لعدم ثقتها بهم، لقلة الإخلاص والصدق، والعمل بما يمليه عليها ضميرها بصمت دون الإستعانة بأحد.
في مقدمة الرواية ظهر صوت الكاتبة، بعدم استسلامها ببوح الحقيقة فيه التهديد الصريح قائلة: ” على كل مجتر طاغٍ ظن أنه بطمس الناطقين بالحق بجرّة قلم سيلغي قدرتهم على بوح الحقيقة، هي أول الغيث والعاصفة قادمة، ومصير فرعون آتيك، أعدك.”
خلاصة القول: تحتوي هذه الرواية على فكر ونقد اجتماعي وسياسي، فيه جرأة الطرح، بلغة بليغة وجميلة، ذات مستوى عالٍ، استطردت الكاتبة في كتابة النص بصورة مبالغ بها؛ حول الأحداث المأساوية التي واجهتها مدينة جنين إثر الاجتياح، وما خلّفته من مآسٍ عديدة للعائلات الفلسطينيّة، وخاصة النساء منهن.
تعتبر الرواية رواية ذات مستوى جيد، تؤرخ مرحلة تاريخية شهدها العالم، وتستحق القراءة.
وقالت رائدة أبو الصوي:
الرواية فيها زخم بالافكار والرسائل الموجهة . فيها كشف عن المستور ، وجدت عمقا وجرأة بالطرح واسترسالا بالخيال وجمالا بالحروف، الجداريات كالمعلقات. نشرت قضايا اجتماعية، تحدثت عن الفساد في المجتمع على مختلف الاصعدة .
احسنت انتقاء عنوان الرواية ،المستحيلات ثلاث الغول والعنقاء والخل الوفي .
الرمزية واضحة في الرواية ،كيف ترسم المشهد المؤلم ثم تبعث الأمل . العنقاء التي إذا أصبحت رمادا تحيا من جديد كالشعب الفلسطيني ،جداريات عنقاء جرعة تفاؤل رغم الألم رغم الفساد الذي يخيم على مختلف نواحي الحياة الاجتماعية والاقتصادية والنفسية والسياسية .
وكتب عمر عبدالرحمن نمر:
قرأت القراءة الثانية لرواية (جداريات عنقاء)، ووجدت أنها حققت درجة عالية في حقل الرواية، وخصوصاً الفلسطينية من حيث تجليات الحياة الفلسطينية في الزمان المؤطر بعد أوسلو، وفي ذاك المحيط الجنيني.
الرواية رائعة تنبض بشخوصها وأحداثها، وتبدو الأنثى المحور الرئيس فيها، حيث تكشف عن الحدث، وتدير الحوار، وتقص، وتعنى بالمقارنة، ورصد النتائج.
ينثال في الرواية تيارات مختلفة كتيار الوعي الذي يبعث الحنين، وتيار الانبثاق للمضي بالتجربة، وتيار المثالية والتنظير. ومن خلال الأحداث والبؤرة التيارية تتكشف التناقضات من زيف وجودة، وتبزغ الشمس حيناً… وحيناً آخر يتغطى المحيط كله ويدلهم…
مهما قامت الرواية بالاتهام والتمرد والهجوم أحياناً، إلا أنها بقيت في إطارها الروائي موظفة التوظيف الرائع في تراص العناصر الحكائية لخلق النظام الروائي. فقد استطاعت الكاتبة وبقدرة عجيبة أن تأتي على أذرع الفساد بأنواعه السياسية والاقتصادية والاجتماعية، فتحدثت عن العمالة مع العدو، وعن سارقي الوطن، والهروب، والواسطة، والسرقات، والعلاقات السلبية بين اثنين، وزواج المصلحة، والعلاقات العشائرية، وقوة راس المال، وتشيؤ القيم التي صنعت من أبي العبد خطّابة عرائس… كما أتت متوازيات هذه الممارسات السلبية، كالتضحية، والعمل خدمة للناس ضمن نظام مؤسسي، والتعاون، ومساعدة الآخرين… والحب الأفلاطوني الذي لا يموت… وبذا تكاملت زوايا البيت الروائي، وكل زاوية خدمت الأخرى، حتى نهض معمارا ناضجا حيا قويا، يشير إلى تاريخ شعب وجغرافيته وقيمه.
تمتلك الكاتبة مروى جرار قوة سرد عجيبة، فتتولد الجمل من رحم الجمل… والتشابيه، والعلاقات الاستعارية المقنعة التي تتقاطع فعلا مع العلاقات بمختلف أنواعها؛ السياسية والاجتماعية والاقتصادية… لتخلق ثقافة جديدة عجيبة مشوهة كوليد مشوه، علاوة على توظيف التناصات المختلفة وأقوال الفلاسفة خصوصاً في بدايات المقاطع النصية، وهنا يتكون المعمار السردي الروائي، بأحداثه المثيرة، في أزمنة وأمكنة قد تكون واقعية، ولكن طاقة الحدث المتدحرجة تجعل من هذا المعمار التخيلي، فضاءات واقعية/ عجائبية، يحلق المتلقي فيها في مستويات قرائية متنوعة، وهنا كان عنوان الرواية (جداريات عنقاء) يمزج بين الواقع (جداريات) والخيال (عنقاء)، ويفتح النص على احتمالات متعددة، يستطيع كل منها أن يحمل الرسالة، ويوجه المعنى إلى المستهدف… ويولد قراءة جديدة.
الساردة البطلة المشاركة كلية المعرفة، المنحازة لفعلها ولقضيتها في الدفاع عن الإنسان وخصوصا الأنثى، هي من يمسك زمام السرد، ويدير الحوار مع الأبطال الآخرين الذين يمتلكون رؤى مختلفة، ورسائل مختلفة تبعا لحيواتهم ومناصبهم ومصالحهم… جرت الحوارات بشكل وجاهي حيناً، وعن طريق رسائل التواصل الإلكتروني في أحيان كثيرة، ومن هذه الحوارات تشكلت الدهشة والغرابة في مجمل تحولات المجتمع. وتجد السرد في الحاضر، يرجع للماضي عند مقارنة حالين، كما تمتلك الكاتبة قدرة هائلة في التصوير، وتوظيف استراتيجيات السرد المختلفة، بما فيها الاسترجاع، والتصوير السينمائي، لذا كان أثر القراءة يبدو كسلك ساخن مستمر يؤثر في المتلقي… وجاءت اللغة بسيطة ملائمة للأحداث والشخوص فيها نسغ من شاعرية، ونكهة من تعاليم فلسفية، حيث انطلقت الأحداث من مكتب المعنفات، أو البيوت الشعبية، أو المقاهي، أو أمكنة العمل… والأحداث طارت بنا وحلقنا مع شخصياتها، إلا أن العجيب في معظم الشخصيات أنها لم تتطور بشكل كبير، سوى مع يسرى صاحبة الحضانة، وسمر المزينة، حيث وفرت الجمعية فرصتين لهما، وكانتا قصتي نجاح، لكن حتى هاتين الشخصيتين أتت بهما الساردة مثالين على تطور الشخصيات، لكنها لم تتوقف كثيراً عندهما.
الجذب والشد والتشويق، متوفر في المشاهد الحكائية كلها، نتيجة للصراعات هنا وهناك، فلا تخلو صفحة من الصفحات من حالة متأزمة، يعيش المتلقي تأزمها، ويحملها معه إلى نهاية التأزم… حيث تحترق العنقاء الثائرة، وتبعث رمادا… (كل واحدة تحكي جوعا مختلفة عن الأخرى، هي كعنقاء بين رجالها، هناك من يحيلها رماداً في دائرته الروتينية، وهناك من يقتلها، وهناك من يعيد الرماد ليكون فراشة)، يكشف هذا البوح عن تشكل علاقات متأزمة، ناهيك عن التأزم الواقعي على شخصيات نسائية معنفة… وبتكامل هذه العلاقات تكون ممارسات الإنسان على هذه الأرض ومعاناته.
الرواية صدرت عن مكتبة كل شيء عام 2019 وهي مجموعة من الجداريات الجميلة… أنصح بقراءتها بطريقة واعية، وهي تشكل محطة رائعة من المحطات الكتابية، تنبعث من ثنائية الحب واللاحب… ثنائية الوطن والمهجر… ثنائية البحر والرمال… ثنائية الموت والبعث (عنقاء) تظهر صورة العنقاء لتكثف المعنى على غلاف الكتاب الملون بالأسود… وترسم الأحداث بكل مأساويتها لتصلح أن تكون جداريات على حوائط التاريخ… في لحظات زمن مريع.
مبارك للكاتبة الشابة مروى فتحي قدرتها السردية القوية… والسير بها نحو تصميم معمارية الرواية الفلسطينية بأبعادها كافة… وقد أنجزت هذا النص، فأنت منذ الآن أمام مسؤولية أدبية كبيرة… ألف مبارك وإلى الأمام… إلى تجربة نصية أخرى.
وكتبت إسراء عبوشي:
استخدمت الكاتبة أسطورة العنقاء رمز لبطلة الرواية ” لوليانة” التي تلقي بنفسها للموت مرات ومرات، وعندما تحيا من الرماد يعلق بروحها ما دنّس الرماد من أوحال السقوط، تعود للحياة وفي روحها شروخات لا تلتأم بل تزداد تصدعاً بكل جديد.
وجع مخاض العنقاء لا ينتهي بالولادة، فالأنثى التي تاهت في تكوينها لم تولد بعد وإن ولدت آلآف المرات، الأنثى احترقت وتطايرت كالدخان في فضاء شديد السواد، تلك الأنثى التي تحاول الأسطورة أن تجلبها من الرماد لا تكون ولن تكون أبدا دخان روحها لن يتشكل من جديد وإن تشكل جسدها من الرماد .
ومع ذلك بقيت مهووسة بإشباع رغبتها في الحياة وبقيت تمارس لعبة العنقاء، كما يفعل تجار الاوطان.
قُتلت الروح في أول مقايضة على الجسد، بقي الجسد وماتت الروح. لتعيش العنقاء رحلة شهوانية في دائرة مغلقة بلهاء، يمرون على جسدها كما يمر الاستيطان على الوطن. العنقاء ” لوليانة” ضحية منّ؟ هل هي ضحية الرجال الذين يحيلونها رمادا؟ أم ضحية نفسها لأنها لم تُسلم بموت روحها حين تزوجت زواجا سريا مشروطا سريعا، باعت جسدها بخمسة آلآف دينار والمسمى زواج مسيار، ومنذ ذلك الحين وهي تتاجر بجسد فقد روح الأنوثة يحاول تعويض الأنوثة التي تطايرت مع دخان روحها، بعشق عبثي تراه حقها لأنها انثى، وتصبح حطام إمرأة كما قال لها أحد رجالها: دكتور وليد، لتعترف في النهاية لا أحد لم يخذلها مثلها، أم هي ضحية وطن تراه للصفوة – كما قال لها د. وليد- بعد أن طردت من أرض فيها رائحة أصلها، هي ليست في وطنها هي تسكن أرض تصلب أبناءها ولا تعرف رائحة دماء الشهداء ” صفحة 132″

التعليقات

جميل السلحوت

جميل حسين ابراهيم السلحوت
مولود في جبل المكبر – القدس بتاريخ 5 حزيران1949 ويقيم فيه.
حاصل على ليسانس أدب عربي من جامعة بيروت العربية.
عمل مدرسا للغة العربية في المدرسة الرشيدية الثانوية في القدس من 1-9-1977 وحتى 28-2-1990

أحدث المقالات

التصنيفات