ثقافة الهبل وتقديس الجهل

ث

لوحة الغلاف: “بقايا عربيّ” للفنان الفلسطينيّ الكونيّ جمال بدوان

منشورات مكتبة كل شيء-حيفا 2017.

تقديم
بقلم الدّكتور: خضر محجز
يريد منّي المؤلّف الجميل جميل أن أقدّم لكتابه. والحقّ أن كتابه لا يحتاج منّي إلى تقديم، فالمؤلّف يطرق أبوابا، ويعرض صورا، ويقدّم أرقاما وووثائق، تغنيه عن كلّ تقديم. إضافة إلى لغة جزلة ميسّرة سهلة التّناول، لأنّ هدفها الوصول.
هذا كتاب يهتم برصد مظاهر الهبل في المجتمع الفلسطينيّ، مجتمع شعب الجبّارين الذي لا يرى أحدا يفقه شيئا باستثنائه.
وإنّها لحقيقة مؤلمة أن يكون الأمر على هذه الشّاكلة. وقد تنبّه المؤلف إلى العديد من مظاهر هذه الشّوفينيّة الثّقافيّة ــ إن صح التّعبير ــ التي ترى في نفسها منتجة للمعرفة، فيما هي لا تنتج أيّ شيء سلبيّا كان أم إيجابيّا.
يترفّق جميل السلحوت بشعبه ــ ولا أوافقه على هذا ــ إذ يعتبر الكثير من مظاهر الشّوفينية مجرّد هبل. وهو في الحقيقة هبل مركّب؛ لأنّه يرى نفسه أعقل العقلاء، ويرجو من الآخرين أن يحذوا حذوه؛ مع أنّ علاج الأمراض لا يكون إلا بمواجهة المرض، والاعتراف به، لمعرفة نوع الدّواء.
أمّا عن الثّقافة التي يطوف المؤلّف في المعاجم لرصد وصفها، فأغلبها لا تقدّم له الدّليل المطلوب، لأنّ هذه المعاجم جزء من الهبل العربيّ العامّ، إذ تدور في فلك كل ما هو قديم، مع أن مفردة الثّقافة تحيل إلى واقع جديد. فالثّقافة باختصار هي المفاهيم القارّة في الوعي وما وراءه، وتشكّل شخصيّة الأمّة، أو هي ــ بتعبير آخر ــ ما تراه مجموعةٌ بشريّة ما يمثّلها، وما تستحقّه. وعلى هذا فثقافة أمّة إنّما هي صورة الأمّة في عينها، بعيدا عن إن كان ذلك حقيقيّا أم غير ذلك. بل يمكن القول إنّها في الغالب غير ذلك.
وما يراه الشّعب الفلسطينيّ في ذاته أنّه أعظم شعب، نشأ قبل التّاريخ وقبل الحضارة، وأنّه هو الذي علّم آدم الأسماء كلّها. بل إنّه ليظنّ أنّه عصيّ على الاندثار، مردّدا في ذلك مقولات أثبت الواقع زيفها، من مثل: الشّعوب لا تبيد. والحقيقة أنّ التاريخ يحدّثنا مرارا عن شعوب بادت ولم يعد لها أثر.
إنّ هذا الحجم من الادّعاء يميّز شعوبا عديدة، لكنّه يوشك أن يكون الخِصّيصة الأوضح لدى شعب لا يملك الكثير.
هل هذا هو الهبل الفلسطينيّ، وهذه هي ثقافة الهبل لدى شعب الجبّارين.
ورغم أنّ المؤلف يطوف بالعديد من مظاهر الهبل العربيّ، إلا أنّه في غالب الأمثلة يقدّم لنا صورة منتزعة من واقع فلسطين:
فمن حمق خطباء المساجد الذين يهدّدون المصلّين الذين هم في الغالب أعلم منهم؛ فيعدونهم بالجحيم؛ لكي يكونوا مثلهم جهلا وتواكليّة، مركّزا في ذلك على بعض أسباب هذا (الحمق الدّينيّ) فيورد أهمّها: حيازة الكلّيّات الشّرعيّة على القسم الأكبر من راسبي الثّانوية العامّة أو النّاجحين بالكاد، ولا تقبلهم الكلّيّات الأخرى؛ حتى باتوا يعلنون من على منابرهم (التي سمّاها حمقهم: منابر رسول الله، وما هي منابر رسول الله) الجهاد ضدّ شعبهم، حتى تحوّل مفهوم الجهاد في سبيل الله، ليغدو مرادفا للجهل الذي هو ــ بلغة المؤلّف ــ أساس كلّ المصائب.
إلى التناقض بين قولهم وفعلهم في التّعامل مع المرأة، إذ يحتفلون بعيد الأمّ، ثمّ يعتبرونها ناقصة عقل ودين، يجب منعها من الخروج حتى لا تأتي للأمّة بالمصائب، ثم يعاقبونها بما لا يعاقبون به الرّجل، حتى لو كانت الجريمة واحدة ومشتركة.
إلى الدّعاء في المساجد على شركاء الوطن والجيران، المختلفين دينيّا.
ثم يسلّط الضّوء على أكذوبة التّنوير الدّينيّ التي يروّج لها متشدّدون دينيّون يخيّروننا بين داعش والإخوان المسلمين. وكأنّهم يخيّروننا بين السّيّء والأسوأ.
إلى “فضائيّات الهبل العربيّ” التي تحوّلت إلى منابع لبثّ الحمق والجهل في المجتمع على نطاق واسع، مدفوع الثّمن.
إلى هبل الفيسبوك الذي أقلّ ما يقال فيه أنّه يسمح لجاهل دعيّ أن يهدّد النّاس بأن يشطبهم من قائمة الأصدقاء، كأنّه يقدّم لهم ماء الحياة على صفحته، فيما هم يزورُّون عن ورودها! دع عنك القبيحات اللاتي يتخفّين وراء صور ليست صورهنّ، ليصطدن من الحمقى ذكور النّحل؛ وصور موائد الطّعام الباذخة تعرض على الجائعين.
إلى الاستغلال الجنسيّ باسم الدّين، إلى هذه الأزياء الغريبة الفجّة التي يرتديها أناس يعتقدون أنّ رسول الله جاء بها من السّماء! إلى استهبال الحكّام للشّعوب بغطاء دينيّ، يؤمّن لهم نهب المال والاستعانة بالكفّار لنهب ثروات الأمّة، إلى استهبال شركات توظيف الأموال للفقراء لنهب مدّخراتهم؛ إلى الاستهبال الطّبّيّ للنّاس بإغرائهم أنّ الدّين فيه علاج كلّ الأمراض الخطيرة، شرط دفع الثّمن… إلخ.
كلّ ذلك ــ وأكثر منه ــ يعرض المؤلّف نماذج له، لعلّ أشدّها فسادا فساد المؤسّسات التي يقال لها مؤسّسات ثقافيّة، وما هي بثقافيّة، بل مرود نهب لفئة من المنتفعين لكلّ أموال المساعدات، التي تصل بكثرة، كان يمكن لها أن تفعل الكثير من الأمور الجيّدة، لو أُحسن توظيفها، أو لو لم تتمّ سرقتها استهبالا لأصحابها المستحقّين.
لا يكتفي المؤلّف بعرض المثال، بل يرفد ذلك ويغنيه بالعديد من الأرقام والحقائق والمصادر المعلوماتيّة، التي لا غنى عنها لمعرفة كيف يستهبلنا المستهبلون.
وبعد، فهذا كتاب لا يغني عرضه أو تقديمه، عن قراءته. فإلى الأمام أيّها الجميل السلحوت.
غزة في 27 مارس 2017

مدخل
يحتار البعض في تفسير ما يجري في العالم العربيّ من اقتتال داخليّ، وتدمير للأوطان، وما يصاحب ذلك من هزائم على مستوى مختلف الأصعدة، وإذا ما استعملنا العقل في تفسير ما يجري؛ من أجل الخروج منه، فإنّنا سنجد أنّ هذا الواقع ليس وليد السّاعة، بل هو تراكمات من السّلبيّات التي توارثناها عبر عصور، حتّى بات البعض يخاف الخروج منها، ظنّا منه أنّها إيجابيّات أو عبادات ستدخله الجنّة، ومن يقرأ مقدّمة ابن خلدون مؤسّس علم الاجتماع، سيجد أنّ ما كتبه عن حال العربان قبل 800 عام، ينطبق على عربان القرن الحادي والعشرين، فلم يتبدّلوا ولم يواكبوا تطوّر العلوم، وقد اتّهم ابن خلدون في حينه أنّه كتب من منطلقات عدائه للعرب، كونه “أمازيجيّ”، تماما مثلما يحصل الآن، فالذي يطالب بالاصلاح، ومواكبة الحياة المعاصرة فإنّ تهمة التّكفير والتّخوين جاهزة لقذفه بها.
من هنا يأتي هذا الكتاب للفت الانتباه “لثقافة الهبل” التي تعشّش في رؤوس كثيرين ممّن استمرأوا الهزائم والجهل، وأساؤوا فهم الدّين والدّنيا. فلا الدّين ولا العلم ولا العقل السّليم يقبل الموبقات التي تسود في حياتنا الجمعيّة، من هنا فإنّني أطرح في هذه الصّفحات ما آمل أن يحرّك العقول السّليمة، وليكون فاتحة خير لتجفيف المستنقعات الفكريّة الآسنة، مع التّأكيد على أنّ ذلك لن يتحقّق إلا بثورة علميّة تشمل مراحل التّعليم جميعها.
ونحن أيضا بحاجة لثورة ثقافيّة، تقضي على العادات والتّقاليد البالية، و”تقديس الجهل” الذي يروّج له مثقّفون ورجال دين وسياسيّون باعوا أنفسهم للشّيطان.
فمن حقّ شعوبنا العربيّة أن تنعم بحياة آمنة مثل بقيّة شعوب الأرض.

ثقافة الهبل
معنى ثقف في لسان العرب ثَقِفَ الشّيءَ ثَقْفا وثِقافا وثُقُوفةً حَذَقَه ورجل ثَقْفٌ “* قوله « رجل ثقف » كضخم كما في الصّحاح وضبط في القاموس بالكسر كحبر” وثَقِفٌ وثَقُفٌ حاذِقٌ فَهِم وأَتبعوه فقالوا ثَقْفٌ لَقْفٌ، وقال أَبو زيادٍ رجل ثَقْفٌ لَقفٌ رامٍ راوٍ اللحياني رجل ثَقْفٌ لَقْفٌ وثَقِفٌ لَقِفٌ وثَقِيفٌ لَقِيف بَيِّنُ الثَّقافةِ واللَّقافة، ابن السّكّيت رجل ثَقْفٌ لَقْفٌ إذا كان ضابِطا لما يَحْوِيه قائما به، ويقال ثَقِفَ الشّيءَ وهو سُرعةُ التّعلم، ابن دريد ثَقِفْتُ الشّيءَ حَذَقْتُه وثَقِفْتُه إذا ظَفِرْتَ به قال اللّه تعالى:” فإِمَّا تَثْقَفَنَّهم في الحرب” وثَقُفَ الرّجلُ ثَقافةً أي صار حاذِقا خفيفا، مثل ضَخُم فهو ضَخْمٌ ومنه المُثاقَفةُ، وثَقِفَ أَيضا ثَقَفا مثل تَعِبَ تَعَبا أَي صار حاذِقا فَطِنا فهو ثَقِفٌ وثَقُفٌ، مثل حَذِرٍ وحَذُرٍ ونَدِسٍ ونَدُسٍ، ففي حديث الهِجْرةِ وهو غلام لَقِنٌ ثَقِفٌ أَي ذو فِطْنةٍ وذَكاء، والمراد أَنه ثابت المعرفة بما يُحتاجُ إليه، وفي حديث أُمّ حَكِيم بنت عبد المطلب:” إنّي حَصانٌ فما أُكَلَّم، وثَقافٌ فما أُعَلَّم”، وثَقُفَ الخَلُّ ثَقافةً وثَقِفَ فهو ثَقِيفٌ وثِقِّيفٌ بالتّشديد الأَخيرة على النّسب حَذَقَ وحَمُضَ جِدًّا، مثل بَصَلٍ حِرِّيفِ قال وليس بحَسَنٍ، وثَقِف الرّجلَ ظَفِرَ به، وثَقِفْتُه ثَقْفاً مِثالُ بلِعْتُه بَلْعاً أَي صادَفْتُه، وقال فإمّا تَثْقَفُوني فاقْتُلُوني فإن أَثْقَفْ فَسَوْفَ تَرَوْنَ بالي، وثَقِفْنا فلانا في موضع كذا أَي أَخَذْناه ومصدره الثِّقْفُ وفي التنزيل العزيز:”واقْتُلوهم حيثُ ثَقِفْتُموهم” والثَّقاف والثِّقافةُ العمل بالسّيف، قال: وكأَنَّ لَمْعَ بُرُوقِها في الجَوِّ أَسْيافُ المُثاقِفْ
وفي الحديث إذا مَلَكَ اثْنا عَشَرَ من بني عمرو ابن كعب كان الثَّقَف ( * قوله “كان الثقف” ضبط في الأصل بفتح القاف وفي النهاية بكسرها ) والثِّقافُ إلى أَن تقوم السّاعة، يعني الخِصامَ والجِلادَ، والثِّقافُ حديدة تكون مع القَوَّاسِ والرَّمّاحِ يُقَوِّمُ بها الشيءَ المُعْوَجَّ. وقال أَبو حنيفة: الثِّقافُ خشبة قَويّة قدر الذِّراع في طرَفها خَرق يتسع للقَوْسِ، وتُدْخَلُ فيه على شُحُوبتها، ويُغْمَزُ منها حيث يُبْتَغَى أَن يُغْمَزَ حتى تصير إلى ما يراد منها، ولا يُفعل ذلك بالقِسِيّ ولا بالرّماح إلا مَدهُونةً ممْلُولةً أَو مَضْهوبةً على النّار مُلوّحة، والعَدَدُ أَثْقِفةٌ والجمع ثُقُفٌ، والثِّقافُ ما تُسَوَّى به الرِّماحُ ومنه قول عمرو بن كلثوم: إذا عَضَّ الثِّقافُ بها اشْمَأَزَّتْ تَشُجُّ قَفا المُثَقِّفِ والجَبِينا
وتَثْقِيفُها تَسْوِيَتُها، وفي المثل دَرْدَبَ لمَّا عَضَّه الثِّقافُ، قال الثِّقاف خشبة تسوَّى بها الرّماح، وفي حديث عائشة تَصِفُ أَباها رضي اللّه عنهما وأَقامَ أَوَدَه بِثِقافِه الثِّقافُ ما تُقَوَّمُ به الرِّماحُ، تريد أَنّه سَوَّى عَوَج المسلمين، وثَقِيفٌ حَيٌّ من قَيْس وقيل أَبو حَيٍّ من هَوازِنَ، واسمه قَسِيٌّ، قال وقد يكون ثقيف اسما للقبيلة والأَول أَكثر.
معنى ثقف في الصّحاح في اللغة ثَقُفَ الرّجل ثَقْفا وثَقافَةً، أي صار حاذقا خفيفا فهو ثَقْفٌ. ومنه المُثاقَفَةُ. والثِّقافُ: ما تُسَوَّى به الرّماحُ. وتَثْقيفُها: تسويتها. وَثَقِفْتُهُ ثَقْفا، أي صادفتُهُ. قال الشّاعر:
فإمَّا تَثْقَفوني فاقْـتُـلـونـي فإنْ أُثْقَفْ فسوف تَرَوْنَ بالي
وَثَقِفَ أيضا ثَقَفا، مثال تَعِبَ تَعَبا: لغةٌ في ثَقُفَ، أي صار حاذقا فطنا، فهو ثَقفٌ وثَقُفٌ. ابن الأعرابي: خَلٌّ ثِقِّيفٌ بالتشديد أي حامضٌ جدا، مثال: قولك بصلٌ حِرِّيف.
مكوّنات الثقافة
تتكوّن الثّقافة وتتبلور من خلال مكوّنات عدّة، أبرزها
•الأفكار: هي مجموعة النّتائج التي يتوصل لها العقل بعد التّفكير والتّمحيص الطّويل للمعلومات التي تلقاها.
•العادات والتّقاليد: وهي الأسلوب المتّبع لدى أيّ أمة أو شعب في الحياة الاجتماعيّة وقوانينها.
•اللغة: وهي مجموعة الحروف والرّموز التي يتمكّن أفراد المجتمع من خلالها من التّواصل فيما بينهم، وتنقل كلّ ما يتعلّق بهم لمن بعدهم.
•القانون: وهي مجموعة الأحكام التي تضبط المجتمع وتحميه من الدّاخل والخارج.
•الأعراف: هي مجموعة الأحكام والضّوابط التي تعارف عليها مجتمع ما؛ فأصبحت بمثابة القانون يلتزمون بها التزاما كاملا؛ بحيث تكون هذه الأعراف عونا للقانون في منع الجريمة والانحراف والمساعدة على نشر الفضيلة والخير.
الثّقافة الشّعبيّة:
تعريف الثقافة الشّعبيّة حسبما ورد في الموسوعة الحرّة”وكيبيديا”:
“هي كلّ الأشكال التّعبيريّة المنطوقة التي تختزنها الذّاكرة الشّعبيّة. وتشمل هذه الثّقافة الشّعبيّة: الموروث السّرديّ (الحكايات، والخرافات…) ، والحكم والأمثال الشّعبيّة وغيرها من فنون التّعبير الأخرى. وهي مجموع العناصر التي تشكّل ثقافة المجتمع المسيطرة في أيّ بلد أو منطقة جغرافيّة محدودة، غالبا باستخدام طرق إعلام شعبيّة. تنتج هذه الثّقافة من التّفاعلات اليوميّة بين عناصر المجتمع، إضافة لحاجاته ورغباته التي تشكّل الحياة اليوميّة للقطاع الغالب من المجتمع. هذه الثّقافة تتضمّن الممارسات وعادات الطّبخ والمأكولات والثّياب والإعلام ونواحي التّسلية المستخدمة، إضافة للرّياضة والأدب. وغالبا ما يستخدم مصطلح ثقافة شعبيّة كمصطلح مضادّ ومخالف للثّقافة العليا أو النّخبويّة.”
معنى الهبل:
جاء في معجم المعاني الجامع: هبل الشّاب: أي فقد عقله وتمييزه، واستهبل: تظاهر بالجنون، أو تظاهر بالحمق والغفلة.
وقياسا عليه، استهبل فلان فلانا: أي اعتبره أحمقَ غافلا.
منابع الثّقافة العربيّة:
يقول الدّكتور عبد العزيز بن عثمان التويجري:(تتّسم الثّقافة العربيّة الاسلاميّة أساسا بسمتين اثنتين، سمة الثّبوت فيما يتعلّق بالمصادر القطعيّة، بما جاءت به من تشريعات وقيم ومناهج، وسمة التّغيير فيما يتعلق باجتهادات المسلمين القابلة للصّواب والخطأ). -الثّقافة العربيّة والثّقافات الأخرى، منشورات المنظمة الاسلاميّة للتّربية والعلوم والثّقافة-ايسيسكو-الطبعة الثّانية، 1436هجرية\2015م.-
ومن أهمّ خصائص الثّقافة العربيّة في عهود الاسلام الأولى (أنّها امتزجت بالثّقافات الأخرى التي كانت سائدة في عهود الاسلام الأولى، وتفتّحت لعطاء الأجناس والأقوام وأهل الدّيانات والعقائد التي تعايشت مع المجتمع العربيّ الاسلاميّ، فصارت بذلك ثقافة غنيّة المحتوى، متعدّدة الرّوافد، متنوّعة المصادر، لكنّها ذات روح واحدة، وهويّة متميّزة متفرّدة.)-المصدر السّابق-.
ويلاحظ هنا أنّ الثّقافة العربيّة في عهودها الأولى ارتكزت على الثّابت في العقيدة الاسلاميّة التي مصدرها القرآن الكريم والسّنة النّبويّة الشّريفة، وتزاوجت مع ثقافات الشّعوب الأخرى، وقد استفادت من الحضارات الأخرى كالاغريقيّة، والفارسيّة، والبابليّة، والهنديّة، والفرعونيّة. ومعروف أنّ التّزاوج الثّقافيّ يثري أيّ ثقافة، ويرفدها بخبرات وتجارب وثقافات شعوب أخرى، ممّا يقود إلى العلوم والاختراعات وغيرها، وفي عصرنا هذا لعلّ الولايات المتّحدة الأمريكيّة التي يشكّل شعبها مزيجا من مختلف الأجناس البشريّة التي هاجرت إلى العالم الجديد، وما صاحب ذلك من تطوّر لافت على مختلف الأصعدة، الذي وضع أمريكا في قيادة العالم جميعه، تشكلّ نموذجا لمعنى تزاوج الثّقافات، مع التّأكيد على أهمّيّة الدّستور الأمريكيّ الذي ضمن المساواة والحرّيّات لمواطني أمريكا جميعهم.
ويجدر التّنويه هنا إلى أنّ الدّولة العربيّة الاسلاميّة لم تكن دولة دينيّة، وقد ضمنت حقّ المواطنة لرعاياها جميعهم، بغضّ النّظر عن أصولهم العرقيّة أو معتقداتهم الدّينيّة، قال عليه الصّلاة والسّلام: ” لا فضل لعربيّ على أعجميّ إلا بالتّقوى”، وأعطت لمواطنيها من المسيحيّين واليهود حرّيّة العبادة كما يعتقدونها، قال تعالى :” لا إكراه في الدّين”، كما أباح للمسيحيّين في مصر على سبيل المثال صناعة الخمور واحتسائها في أماكن تواجدهم، شريطة أن لا يبيعوها في مناطق المسلمين.
ولا يمكن للباحث والدّارس للتّاريخ العربيّ الاسلاميّ أن يغفل الثّقافة العربيّة قبل الاسلام، والتي تمتدّ جذورها حتّى يومنا هذا، وترتكز على استقلاليّة العشيرة والقبيلة، وعلى الغزو والنّهب، والولاء الأعمى لشيخ القبيلة، حتّى إنّ مفهوم الدّولة في أيّامنا هذه لا يزال غير راسخ في عقول الكثيرين، بل إنّ غالبيّة دولنا العربيّة تقوم على أساس تحالفات قبليّة، فالدّولة المدنيّة التي يخضع مواطنوها للقانون، لا فرق بين حاكم ومحكوم لا تزال بعيدة المنال، وهناك علامات سؤال كبيرة حول استقلاليّة القضاء ونزاهته، ومدى حماية السّلطة التنفيذيّة للقانون، وتطبيق أحكام القضاء، ومن يحاول الهروب من هذه الحقائق نطلب منه أن يفسّر لنا بعض الظّواهر التي تؤكد استمراريّة إرث ما قبل الإسلام مثل: النّعرات العشائريّة وسيادة العرف العشائريّ، عادات الأخذ بالثّأر، قتل النّساء تحت ذريعة ما يسمّى “شرف العائلة”، وتساهل القضاء مع القتلة وغير ذلك، أليست كلّها أعرافا وقيما وثقافة موروثة من الجاهليّة، وما تمثّله من “وحشيّة عقليّة الصّحراء” كما وصفها ابن خلدون في مقدّمته؟
لكنّ الثّقافة العربيّة الإسلاميّة التي انفتحت على الثّقافات الأخرى، وأنتجت علوما وبنت حضارة كان لها انعكاساتها الإيجابيّة على أوروبا وغيرها، توقّفت – مع الأسف- عن التّطوّر والازدهار والتّأثير والتّأثّر منذ القرن الخامس عشر الميلاديّ، وسلّمت الرّاية للأوروبّيين الذين استفادوا من العلوم والحضارة العربيّة وبنوا عليها، حتّى وصلوا إلى ما وصلوا إليه الآن، فهل ينتبه العرب والمسلمون أنّهم لم ينتجوا ثقافة بعد ابن خلدون 1332 – 1406م؟ ونستثني هنا المفكّر ادوارد سعيد – نوفمبر 1935 القدس – 25 سبتمبر 2003- الذي أمضى حياته في أمريكا. وهل يسألون أنفسهم عن مدى مساهمتهم في الثّورة العلميّة والتّكنولوجيّة التي شهدها العالم في القرن العشرين، ولا تزال في ازدهار وتطوّر مذهل؟
وفي القرن العشرين أتت سنوات السّبات العقليّ والفكريّ أكلها وبالا على الأمّة، فتجمّدت العقول، ولم تواكب الأمّة عصرها، فانقسم العرب إلى أقاليم ودويلات، لم تخلُ من الخلافات التي كانت تصل درجة الاحتراب، وتشتّتت الأمّة، وأصبحت نهبا للطّامعين والغزاة. ودخلنا القرن الحادي والعشرين متخلّين عن الأصالة، تتحكّم بنا الخرافات والبِدَع. وإمعانا في الخراب على مختلف المستويات، لم يتطوّر التّعليم في مختلف مراحله، ولم يواكب الثّورة العلميّة والتّكنولوجيّة التي يعيشها العالم، ولا نزال منغلقين على ثقافات وحضارات الشّعوب والأمم الأخرى، ومن المحزن ما نشرته منظمة الأمم المتّحدة للتّربية والعلوم والثّقافة “اليونسكو” قبل سنوات قليلة حول المطالعة في العالم، حيث قالت أنّ الفرنسيّ يطالع بمعدّل 280 ساعة في السّنة، والأمريكيّ 260 ساعة و….العربيّ ستّ دقائق في السّنة، وأنّ ما ترجم إلى اللغة الاسبانيّة من لغات أخرى في عام، يعادل ما ترجم إلى العربيّة من عصر المأمون -171-218 هجري- حتّى يومنا هذا! وتشير الإحصائيّات أيضا أنّ حوالي 100 مليون عربي يعانون من الأمّيّة، وهذا الجهل يشكّل مرتعا خصبا للجهل والخرافة، وهو أيضا سبب في ترسيخ العشائريّة والقبليّة وثقافة الصّحراء المعاديّة للحضارة.
واللافت وفي مرحلة التّردي التي يعيشها العالم العربيّ، أنّه جرى تعطيل العقول، وإغلاق باب الاجتهاد، وتحويل المتغيّر إلى ثابت، والتّعامل مع النّصوص القديمة التي كتبها بشر عاديّون وكأنّها مقدّسة، مع التّأكيد أنّ الثّابت في العقيدة دينيّا هو القرآن الكريم والسّنّة النبويّة، ولا شيء غيرهما، وصاحَبَ هذا الجمود العقليّ والفكريّ انتشار الخرافات، التي بات البعض – نتيجة للجهل- يعتبرها وكأنّها من أمور الدّين، وبدلا من مواكبة العلوم والمستجدّات الحياتيّة، يجري تكريس الجهل والخرافة، وما صاحب ذلك من انغلاق على الثّقافات الأخرى، حتّى خرجت الأمّة من التّاريخ، وأصبحت على الهامش، لا تأثير لها، بل أصبحت هي وأوطانها نهبا للطّامعين، وتوالت الهزائم على مختلف الأصعدة، وعمّ الضّلال وتغيّرت المفاهيم، حتّى إنّ ملايين من البشر صاروا يهربون من الحياة وتكاليفها، ولم يعد لهم همّ سوى الاستعداد للموت، والاقتصار على العمل لحياة ما بعد الموت.
وإمعانا في الجهل فإنّ خطباء المساجد على سبيل المثال في غالبيّتهم العظمى، يقفون على المنابر ويخطبون بلهجة تهديديّة، وكأنّهم في معركة مع المصلّين، وغالبيّة الخطب تكون مكرّسة لترهيب المصلّين من نار جهنّم، حتّى إنّ المرء الذي ينتبه لهذه الخطب بات يظنّ أنّ نار جهنّم لم تخلق إلا لتعذيب المسلمين وحرقهم، وقلّة قليلة من الخطباء من تتكلّم عن الثّواب مثلا.
أمّا كيفيّة التّعامل مع الحياة الدّنيا التي يعيشها المرء، فتكاد تكون معدومة، وهذا ليس غريبا في هذا العصر الذي يعيشه العرب والمسلمون، والذي يسود فيه الجهل في أمور الدّين والدّنيا، فخطباء المساجد هم أيضا ضحايا للجهل السّائد، وعلينا الانتباه أنّ غالبيّة من يلتحقون بكلّيّات الشّريعة هم من أصحاب المعدّلات المتدنّية في الثّانويّة العامّة”التّوجيهي”. كما علينا الانتباه أيضا أنّ جزءا من خطباء المساجد ليسوا مؤهلّين للقيام بهذه المهمّة، لكنّ الثّقافة الشّعبيّة تتعامل معهم كعلماء! وهذا استهبال لهم ولجمهور العامّة.
وعندما ظهرت حركات وأحزاب “الاسلام السّياسيّ” زادت الطّين بلّة، فعدا عن الصّراعات بينها والتي تصل إلى درجة الاستهزاء، وأحيانا تصل درجة التّكفير، إلا أنّها أخذت تجنّد أئمّة المساجد وجمهور المواطنين؛ لخدمة الهدف السّياسيّ لهذه الحركة أو ذلك الحزب الدّينيّ، ظنّا منهم أنّهم يجنّدون النّاس لنصرة الدّين، أو ما باتوا يسمّونه منذ الرّبع الأخير في القرن العشرين “بالصّحوة الاسلاميّة”! وطمعا من حركات وأحزاب الاسلام السّياسيّ في الوصول إلى الحكم في أكثر من بلد عربيّ فقد استغلّوا العاطفة الدّينيّة الفطريّة للعامّة، وأعلنوا “الجهاد” على شعوبهم! وكانت البداية في الجزائر، حيث تمّ قتل ما يزيد على مائتي ألف مواطن جزائريّ، منهم أطفال ونساء، وجرح مئات الألوف، واغتصاب آلاف النّساء ما بين 1992-2002 فيما يسمّيه الجزائريّون العشريّة السّوداء، عدا عن الخسائر المادّيّة الهائلة التي لحقت بمؤسّسات الدّولة الجزائريّة والتي هي مؤسّسات الشّعب نفسه.
ثمّ توالت “الصّحوة الاسلاميّة”! حتّى وصلت وبقرار من القيادة العالميّة لحركة الإخوان المسلمين إلى مرحلة انقلاب حركة حماس في قطاع غزّة، عام 2007 لإقامة “إمارة اسلاميّة”، ولم يأخذوا بعين الاعتبار أنّ قطاع غزّة محاصر برّا وبحرا وجوّا مثله مثل بقيّة أراضي الدّولة الفلسطينيّة العتيدة، كما لم يحسبوا أيّ حساب لحوالي مليوني شخص يعيشون في مساحة تقلّ عن 400 كيلومتر، ويشكّلون أعلى نسبة اكتظاظ سكّانيّ في العالم، يعيشون في غالبيّتهم العظمى تحت خطّ الفقر، ولم يكترثوا بالنّتائج الكارثيّة على مجمل النّضال الفلسطينيّ للتّحرّر والاستقلال، وكأنّ الاستيلاء على سلطة تحت الاحتلال أهمّ من تحرير الأراضي المحتلّة، ومن حقّ تقرير المصير للشّعب الفلسطينيّ، والمحزن أن يحظى هذا الانقلاب بغطاء دينيّ ممّن لا يخافون الله، ويستهبلون الشّعوب.
واستهبال النّاس بغطاء دينيّ ليس جديدا على السّاحة الدّوليّة، فالدّول الغربيّة التي كانت تناصب الاتّحاد السّوفييتي العداء، استطاعت تجنيد المسلمين للوقوف معها فيما كان يعرف “بالحرب الباردة”، وأطلقت على المسلمين لقب” السّور الواقي من خطر الشّيوعيّة”! فاهتزّت لحى وعمائم كثيرة طربا بهذا اللقب، وتحالفت مع القوى الامبرياليّة التي تحتلّ أوطانهم وتنهب خيرات بلدانهم، وناصبوا السّوفييت العداء، ومع أنّ الدّول العربيّة على سبيل المثال التي حاربت إسرائيل كان سلاحها من الاتّحاد السّوفييتي، بينما إسرائيل حاربت العرب واحتلّت أراضيهم بسلاح غربيّ، ومع ذلك فإنّ الشّتائم انهالت ولا تزال على الاتحاد السّوفييتي “الكافر”، وفي المقابل تنهال المدائح على حلفاء اسرائيل “أصحاب الكتاب” المؤمنين!
عندما أرادت أمريكا وحلف النّاتو محاربة الاحتلال السّوفييتي في أفغانستان ” من 25 ديسمبر 1979. وانسحبت القوات السوفييتية من البلاد بين 15 مايو 1988 و2 فبراير 1989. وأعلن الاتحاد السوفييتي انسحاب كافّة قواته بشكل رسميّ من أفغانستان في 15 فبراير 1989.” جنّدت المسلمين لهذه الحرب، وكان غالبيّة “المتطوّعين” من العرب، وتمّ تأسيس منظّمة “القاعدة” من قبل أسامة بن لادن، وجرى تسليح وتدريب وتمويل “المجاهدين” من قبل دول عربيّة وبأوامر أمريكيّة، وبعد الانسحاب السّوفييتي عاد “المجاهدون” للقيام بأعمال ارهابيّة في بلدانهم وضدّ مواطنيهم، عدا عن قيامهم بتفجيرات في عواصم عربيّة وأوروبّيّة وتدمير برجي التّجارة الدّوليّة في نيويورك بتاريخ 11 سبتمبر 2001، ممّا دفع العالم أن يتجنّد لمحاربة الاسلام والمسلمين.
ولم ينتبه الإسلام السّياسيّ كيف انقلب العالم الغربيّ على المسلمين، فبدلا من “كونهم الجدار الواقي من خطر الشّيوعيّة”، أصبحوا وبعد انهيار الاتّحاد السّوفييتي ومجموعة الدّول الاشتراكيّة في بداية تسعينات القرن العشرين، العدوّ رقم واحد للعالم الغربيّ و”للدّيموقراطيّات الغربيّة”! فهل اتّعظ العرب والمسلمون من ذلك؟ والجواب بالطّبع لا كبيرة، فعندما بنت أمريكا وحلفاؤها وفي مقدّمتهم بريطانيا أكاذيبها لاحتلال العراق وتدميرة وتمزيقه، رفعت شعار “تحرير العراق من الدّيكتاتوريّة”، وتجنّدت أنظمة عربيّة لفتح أراضيها لقوّات الغزو الأمريكيّ، التي انطلقت في شهر آذار – مارس- 2003 من أراض عربيّة، وبنفط وتمويل عربيّ، فاحتلّت العراق، ودمّرته، وهدمت الدّولة العراقيّة، وقتلت وجرحت وشرّدت الملايين من أبناء الشّعب العراقيّ، وسلّمت العراق لأحزاب طائفيّة، يقودها مجموعة من اللصوص والسّراق؛ ليبقى العراق في احتراب طائفيّ تمهيدا لتقسيمه إلى دويلات طائفيّة متناحرة، حسب المشروع الأمريكي “مشروع الشّرق الأوسط الجديد” لإعادة تقسيم المنطقة، ووجدنا مشايخ يفتون ويهلّلون للغزو الأمريكيّ، ولا يزالون يفتون لتغذية الاحتراب الطائفيّ بين أتباع المذهبين السّني والشّيعيّ، ويتقاتل الطّرفان بتمويل وتسليح مسلم، وبإرادة وأوامر أمريكيّة، وبفتاوي من مشايخ لا يخافون الله.
وفي العام 2011 وفي ظلّ ما يسمّى زورا “الرّبيع العربيّ” جرى تجنيد الاسلام السّياسيّ لإسقاط نظام الرّئيس معمّر القذّافي في ليبيا، وتدخّلت مخابرات دول عربيّة بإيعاز من أمريكا، كما تدخّل حلف النّاتو، واستطاعوا إسقاط نظام القذّافي الذي تمّ قتله في 20 اكتوبر 2011، ولتبقى ليبيا حتّى يومنا هذا في صراع دمويّ دمّر البلاد وفتك بالعباد، تقوده تنظيمات إسلاميّة ومنها داعش. وفي استهبال واضح أجاب مصطفى عبد الجليل وزير العدل الليبيّ الأسبق في مقابلة تلفزيونيّة على سؤال:
هل جرى تنسيق مسبق بينكم وبين فرنسا وحلف النّاتو تمهيدا للقصف الجوّيّ للجيش الليبيّ الموالي للقذافي؟
أجاب عبد الجليل: لا أبدا لم يحصل ذلك.
سؤال: إذن كيف تمّ ذلك القصف؟
عبدالجليل: لقد سخّرهم الله لنا!
وفي العام 2012 انتقل الصّراع إلى سوريّا، وهناك مئات التّنظيمات “الإسلاميّة” ومنها داعش، وجرى تجنيد عشرات آلاف “المتطوّعين” من أكثر من تسعين دولة، لتدمير سوريّا وقتل وتشريد شعبها، واستنزاف جيشها، ومع أنّ الرّئيس الأمريكي الحالي دونالد ترامب قال في أكثر من تصريح أنّ إدارة الرّئيس السّابق باراك أوباما، والمخابرات الأمريكيّة هي التي أسّست داعش، وأكدّت ذلك أيضا هيلاري كلينتون وزيرة الخارجيّة الأمريكيّة السّابقة، وأوعزت إلى وكلائها في دول البترول العربيّ، وإلى تركيّا أردوغان “المسلمة” والعضو الفاعل في حلف “النّاتو” لتدريب وتمويل داعش وأخواتها، إلا أنّ هذه المنظّمات الإرهابيّة استطاعت استهبال آلاف الرّعاع وتجنيدهم من مختلف الدّول العربيّة والإسلاميّة، وحتّى من مسلمي أوروبا وأمريكا، تحت غطاء عباءة الدّين، وفتاوي “علماء السّلاطين” لقتال من يسمّونهم ” الخوارج والشّيعة والعلويّين…إلخ.” لتدمير سوريا وقتل وتشريد شعبها، واستنزاف جيشها.
ورغم ظهور بعض قادة المعارضة السّورية في وسائل الاعلام الإسرائيليّة، أثناء زياراتهم لاسرائيل للتّنسيق معها، وإعلانهم الولاء لها، واستقبال إسرائيل لجرحى المعارضة من “جبهة النّصرة” وغيرها، إلا أنّ ذلك لم يلفت انتباه جهلاء وقود هذه الحرب القذرة، والذين يَقتلون ويُدمّرون ويمنّون النّفس بالحور العين، ويُقتلون أيضا، ولم يفكّر أو يتساءل واحد من هؤلاء عن أسباب عدم مشاركة أيّ من محرّضيهم، ومن يصدرون لهم الفتاوى أو من أبنائهم للمشاركة في هذا “الجهاد”! تماما مثلما لم ينتبهوا أنّ أيًّا من الأنظمة المموّلة والمدرّبة لهم، ويزعم أنّه يريد نشر “الدّيموقراطيّة” في سوريّا، في حين يحكم شعبه بالحديد والنّار، فهل فاقد الشّيء يعطيه؟ وإلى متى ستبقى الشّعوب قانعة باستهبالها؟
الجهل سبب كلّ المصائب
عندما قامت داعش وأخواتها، أخرجت نصوصا دينيّة عن سياقها التّاريخيّ، وقامت بأعمال إجراميّة بحجّة تطبيق الشّريعة، منها: إعادة الرّق، استعباد غير المسلمين، واستباحة أموالهم وأعراضهم وهدم دور عبادتهم، وهذا ما فعلته مع الأزيديّين في العراق، وهم مواطنون عراقيّون يعيشون في بلادهم عبر التّاريخ، وتحت الحكم الاسلاميّ، وكذلك جرى الشّيء نفسه مع المواطنين المسيحيّين في العراق وسوريّا، فهدموا الكنائس، وتعدّوها إلى المقامات الإسلاميّة التّاريخيّة، وخيّروا المسيحيّين على “دخول الإسلام، أو دفع الجزية أو القتل”! ممّا أجبر مئات الآلاف منهم على ترك ديارهم واللجوء إلى أوروبّا وأمريكا طلبا للنّجاة.
وتعدّت الجرائم ذلك إلى هدم حضارة شعوبهم، من خلال إحراق المكتبات، وهدم الآثار التّاريخيّة كآثار بابل، وقلعة النّمرود، ومدينة تدمر وغيرها، علما أنّ المقامات الدّينيّة الاسلاميّة أقيمت زمن دولة الخلافة، والتي بدورها أقرّت وحمت الآثار القديمة، وأبقتها كشاهد على حضارة الشّعوب، فهل دواعش هذا العصر أكثر حرصا على الإسلام من دولة الخلافة؟ وهل قرأ هؤلاء الجهلاء بأمور دينهم ودنياهم تاريخ أمّتهم؟ وإن قرأوه هل فهموه؟ وإن فهموه هل اتّعظوا منه؟
إنّ هكذا أعمال تسيء للإسلام والمسلمين قبل غيرهم، وقد تمّ تشويههم أمام الرّأي العامّ العالميّ، الذي تجنّد لمعاداتهم.

الاستهبال الطائفيّ:
للتّذكير فقط عندما انقلب الجيش العراقيّ في 14 تمّوز – يوليو-1958 على النّظام الملكي في العراق، قاد الانقلاب ضابطان، هما عبد الكريم قاسم، وعبد السّلام عارف، الأوّل سنّي والثّاني شيعيّ، وكلاهما شغل منصب رئيس الدّولة، ولم ينشر عن مذهبيهما، إلا بعد احتلال العراق وتدميرة في العام 2003، وهذا يعني أنّ الطّائفيّة بين “سنّيّ وشيعي” لم تكن معروفة في العراق الحديث، لكن أمريكا التي احتلّت العراق، وهدمت دولته، وضعت له دستورا طائفيّا، وجرى تغذية الطّائفيّة إعلاميّا وعمليّا في مؤسّسات الدّولة، فظهرت على السّاحة أحزاب دينيّة طائفيّة، وجرت تغذيتها من جهات أجنبيّة لتمزيق العراق الوطن، وتمزيق وحدة شعبه، وتبيّن أنّ المرجعيّات الدّينيّة تقدّم وتفضّل وتوالي المذهب الدّيني أكثر من ولائها للوطن! فالمرجعيّات الدّينيّة الشّيعيّة ومعتقداتها خصوصا ما يتعلّق “بولاية الفقيه” تخلّت هي والأحزاب التي تأتمر بإمرتها عن انتمائها القوميّ والوطنيّ، وسلّمت العراق ومقدّراته لإيران الشّيعيّة، فأصبح العراق مرتعا للحرس الثّوريّ الإيرانيّ، حتّى إنّ قائد الحرس الثّوريّ الإيرانيّ أعلن مفاخرا ومن قلب بغداد ” أنّ أربع عواصم عربيّة تخضع لإيران الآن”! وكان يقصد “بغداد، دمشق، بيروت وصنعاء”، وعملت حكومة نور الدّين المالكي على تشكيل ما يسمّى مليشيات “الحشد الشّعبيّ”، وجرى تسليحها لمحاربة مواطنيهم العراقيّين السّنّة.
وفي المقابل تسابق “علماء” السّنّة على تكفير الشّيعة، وإخراجهم من الاسلام، ودعوا إلى محاربتهم، وجرى تمويل أحزاب وتنظيمات وجماعات سنّيّة، لمحاربة مواطنيهم الشّيعة في العراق، والعلويّين في سوريّا، ووصل العداء السّنّي للشّيعة إلى “شيطنة” حزب الله اللبنانيّ، والوقوف ضدّه حتّى أثناء تصدّيه للغزو الاسرائيليّ للبنان في صيف العام 2006، ووجدنا سياسيّين وإعلاميّين ورجال دين يشنّعون في وصف زعيم حزب الله السّيّد حسن نصر الله، وينكرون عليه حتّى اسمه، فيذكرونه بحسن “نصر اللات”! ومعروف أنّ اللات هو أحد أصنام قريش قبل الإسلام.
لكن في الحالات كلّها جرى استهبال الشّعوب من قبل المرجعيّات الشّيعيّة و”علماء” السّنّة، كي يتقاتل أبناء الشّعب الواحد، ويدمّروا أوطانهم، بدلا من محاربة المحتلّين.
وحزب الله اللبنانيّ أيضا، وهو حزب مقاوم انخرط في الطّائفيّة، وبرّر تدخّله العسكريّ في سوريا بأنّه جاء “لحماية المقامات الدّينيّة الشّيعيّة” وفي مقدّمتها مقام السّيدة زينب في دمشق. وهو لا يتناقض مع الحكومات العراقيّة بعد احتلال العراق عام 2003؛ لأنّها شيعيّة، وهو يدعم الحوثيّين في اليمن وتمرّد الشّيعة في البحرين من منطلقات طائفيّة أيضا! وخدمة للأجندات الإيرانيّة.
وتوالت تغذية الطّائفيّة بين “سنّي وشيعيّ” في الزّحف الحوثيّ على العاصمة اليمنيّة صنعاء، وإسقاط الحكومة اليمنيّة، وما تبع ذلك من حرب ما يسمّى “التّحالف العربيّ الإسلاميّ” بقيادة السّعودية على اليمن. علما أنّ الرّئيس اليمنيّ السّابق علي عبد الله صالح حكم اليمن منذ عام 1979 وحتّى 25 شباط- فبراير- 2012م، هو أيضا من الحوثيّين، وكان وحكومته أصدقاء لمن يشنّون الحرب على اليمن منذ 25 آذار 2015، فلماذا لم تثر قضيّة الحوثيّين وهم من الشّيعة الجعفريّة، في ذلك الوقت؟ ولماذا أثيرت لاحقا؟ ألا تقف خلف ذلك أجندات سياسيّة تتماشى وتغذية النّعرات بين “السّنّة والشّيعة” بعد طرح المشروع الأمريكي “مشروع الشّرق الأوسط الجديد” لإعادة تقسيم منطقة الشّرق الأوسط إلى دويلات طائفيّة متناحرة؟ وهل تنتبه التّيّارات الدّينيّة التي تشارك في إشعال نار الفتنة الطّائفية أنّها تنفذّ بدماء أتباعها وأنصارها مشروع التّقسيم الجديد؟ أم أنّ قياداتها تعلم ذلك جيّدا وتستهبل أتباعها؛ ليكونوا وقودا لهذا الاقتتال خدمة لأجندات أجنبيّة معاديّة؟
ولتستمرّ الفتنة الطائفيّة في المنطقة العربيّة، جيء بالرّئيس التّركيّ الطّيّب أردوغان، وحزبه الدّينيّ – حزب العدالة- ليقف “كمسلم سنّيّ” بشكل وآخر في وجه التمدّد الشّيعي الإيرانيّ! فإيران التي تسعى كي تكون الدّولة الاقليميّة الأولى في المنطقة، خصوصا بعد تحييد دور مصر بوفاة زعيم الأمّة الرّئيس جمال عبد النّاصر في أيلول-سبتمبر- 1970، وتدمير العراق واحتلاله وإسقاط نظام الرّئيس صدّام حسين في آذار – مارس- 2003، ومع أنّ تركيّا عضو في حلف شمال الأطلسيّ – النّاتو- وحليف استراتيجيّ لإسرائيل. – وتركيّا كما هو معروف دولة علمانيّة منذ هدم الخلافة العثمانيّة عام 1924-، وينصّ دستورها العلمانيّ على أنّ الجيش هو من يحمي الدّستور، إلا أنّ الدّور المرسوم لأردوغان وأركان حكمه، سمح باجراء تعديلات على الدّستور؛ ليبقى الحكم للإسلام السّياسيّ الذي يمثّله أردوغان وحزبه، وليبدأ أردوغان باستهبال شعبه والشّعوب الإسلاميّة ومنهم العرب طبعا، ولقي ويلقى الدّعم من القيادة الدّوليّة لحركة الإخوان المسلمين، التي تنتظر منه “إعادة إقامة دولة الخلافة”، وحتّى حركة حماس الفلسطينيّة التي كانت تلقى الدّعم والتّأييد والتّسليح من النّظام السّوريّ وحليفته إيران، وكانت دمشق حاضنة لقيادة حماس في الخارج، انضمّت هي الأخرى لجوقة معاداة النّظام السّوريّ، وانتقلت قياداتها السّياسيّة في الخارج من دمشق إلى قطر. كما انطلى دور أردوغان المشبوه على حزب التّحرير الاسلاميّ، الذي شارك في الحرب “الكونيّة” على سوريا، واستهبل واستغلّ المسلمين؛ ليكونوا وقودا لها، ويبدو أنّ قيادة الحزب لها شكوكها بدور أردوغان، فأمسكت العصا القذرة من منتصفها، بأن سمحت لأعضاء الحزب “بالتّطوّع” للحرب في سوريا، فإن انتصرت “المعارضة” فإنّ الحزب سيعلن مشاركته الذّكيّة في تلك الحرب، وإن تمّ القضاء عليها، فستتفاخر قيادة حزب التّحرير أنّ الحزب لم يشارك في هذه الحرب! وبدأ دور أردوغان المرسوم له من “النّاتو” بالتّدخّل في الحرب على سوريّا، من خلال احتضان عناصر الإرهاب، وتدريبها وتسليحها وتمويلها، وتسهيل عبورها للأراضي السّوريّة والعراقيّة، بل إنّ تركيّا أردوغان كانت تشتري النّفط الذي تسرقه “داعش” وأخواتها من منابع النّفط العراقي والسّوري التي سيطرت عليها، وتسهّل مروره أيضا للتّصدير من موانئها.
ويلاحظ أنّ الاستهبال الدّيني للرّعاع الذين خدعوا من قيادات الإسلام السّياسيّ، جرى تسويقه أيضا لتسهيل مهمّة أردوغان في القيام بدوره المرسوم له في تنفيذ مشروع “الشّرق الأوسط الجديد”، على اعتبار أنّ أردوغان “خليفة الإسلام السّنّي المنتظر”. وجرى ويجري الدّفاع عنه وتسويق سياساته على منابر مئات آلاف المساجد المنتشرة في العالمين العربيّ والاسلاميّ.
وإمعانا في الفتنة الطّائفيّة، فإنّ دولا عربيّة يزعم قادتها أنّهم حماة الإسلام والمسلمين، تقوم بالتّنسيق والتّعاون الأمني مع إسرائيل التي تحتلّ أراضي عربيّة ومنها أراضي دولة فلسطين العتيدة، وقد يتطوّر هذا التّنسيق إلى تحالفات عسكريّة مع إسرائيل “الجارة المؤمنة” لمحاربة إيران “الشّيعيّة الكافرة”!
الاستهبال القوميّ:
جاء في معجم المعاني الجامع
قوميّة:اسم مؤنَّث منسوب إلى قَوْم.
– صلة اجتماعيّة عاطفيّة تنْشأ من الاشتراك في الوطن واللغة ووحدة التّاريخ والأهداف.
– السّياسة: مبدأ سياسيّ اجتماعيّ يُفضِّل معه صاحبه كلّ ما يتعلّق بأمّته على سواه ممّا يتعلّق بغيرها، أو هي الاعتقادُ السَّائد لدى الشَّعب في أنّه يشكّل جماعة متميِّزة ذات سمات خاصَّة تميِّزه عن الآخرين، مع توفّر الرَّغبة في حماية هذا التَّميُّز والارتقاء به ضمن حكومة ذاتيّة.
– الثَّروة القوميَّة: ( الاقتصاد ) مجموعة القوى المنتجة في الدّولة.
– القَوْميّة : صلة اجتماعيّة عاطفيّة تنشأ من الاشتراك في الوطن والجنس واللُّغة والمنافع، وقد تنتهي بالتّضامن والتّعاون إلى الوحدة.
قَوميّ: (اسم) اسم منسوب إلى قَوْم.
– القوْمِيّ: من يؤْمن بوجوب معاونته لقومه ومساعدتهم على جلب المنفعة ودفع المضَرَّة.
– القوْمِيّ: الوطنيّ.
– فِكْرٌ قَوْمِيٌّ: فِكْرٌ يُمَجِّدُ القَوْمِيَّةَ وَيُدَافِعُ عَنْها.
– الدَّخْلُ القَوْميّ: ( الاقتصاد ) جملةُ الأُجور والأرباح والفوائد والقيم لجميع السِّلع المنتجَة، والخدمات المقدّمة في سنة معيّنة لدولة ما، أو هو مجموع دخول الأفراد والهيئات في خلال مدَّة معيّنة تقدّر عادة بسنةٍ
وجاء في الموسوعة العربيّة حول مفهوم القوميّة:
“القوميّة nationalism مذهب سياسيّ قوامه إيثار المصالح القوميّة على كلّ شيء، ويظهر هذا الإيثار في منازع الأفراد، أو في منهج حزب سياسيّ، يناضل في سبيل قومه، ويدافع عنهم، ويعتزّ بهم، والقوميّة قوميّتان: ضيّقة وواسعة. الأولى تضع نفسها فوق كلّ شيء، وتتعصّب لجنسها أو دينها أو لغتها أو ثقافتها أو تاريخها تعصّبا أعمى؛ والثّانية تمدّ بصرها إلى العالم؛ للاقتباس منه أو للإسهام في تقدّمه الحضاريّ. وبين هذه القوميّة الواسعة والإنسانيّة الكاملة وحدة عميقة، إذ لايمكن للفرد أن ينمّي ذاته إلا داخل الإطار القوميّ، كما أنّه لايستطيع أن يكون مخلصا لقوميّته بحقّ إلا إذا عمل على توكيد إنسانيّته الكاملة .
وبهذا يعبّر مفهوم القوميّة عن حالة عقليّة لجماعة من البشر تؤلّف بينهم صلة اجتماعيّة عاطفيّة، تتولّد من الاشتراك في الوطن والجنس واللغة والثقافة والتاريخ والحضارة والآمال والمصالح المشتركة، ويكون فيها ولاء الفرد للدّولة القوميّة واجبا أسمى.
ويرادف هذا المفهوم للقوميّة مفهوم “الأمّة” nation بوصفها تمثّل مجموع الخصائص المميّزة لوجود أمّة ما، وحركتها السّياسيّة والثّقافيّة، التي تجعلها مختلفة عن الأمم الأخرى، فلكلّ أمّة كيان متفرّد، يختلف عن سواه، لاختلاف اللغات والتّجارب التّاريخية. ولا تكتسب القوميّة إلا بالانتماء التّاريخي إلى أمّة معيّنة.
وقد ترادف الجنسيّة ” nationality” مفهوم القوميّة أيضا، حين تتّخذ صفة حقوقيّة تنشأ من الاشتراك في الوطن الواحد، أي الجنسيّة الأصليّة التي تكتسب بالانتساب إلى أمّة، أو إلى أقليّة قوميّة ملحقة بدولة قوميّة، وتقع ضمن حدودها الرّسميّة، كالقول: الجنسيّة الألمانيّة، والجنسيّة الفرنسيّة؛ أو حسب حقوق اكتساب الجنسيّة التي ينصّ عليها القانون في كلّ بلد، كالجنسيّة الأمريكيّة. وتغلب الجنسيّة في هذه الحالة على القوميّة، على الرّغم من تباين الأصول الإثنيّة للسّكان.
ويؤخذ بمبدأ القوميّات أو الجنسيّات principle of nationalities للدّلالة على وجوب اعتبار كلّ أمّة شخصا معنويّا، له الحقّ في الوجود والتّقدّم وفقا لطبيعته. ومن مستتبعات ذلك إقامة دولته الخاصّة. ليس هناك اتّفاق تامّ على الرّوابط والمقوّمات الأساسيّة لتكوين القوميّة، فساطع الحصري (1880ـ 1968)، ممثّل القوميّة العلمانيّة يرى أنّ الأساس في تكوين الأمّة وبناء القوميّة هو وحدة اللغة والتّاريخ (لا وحدة الأصل). لأنّ الوحدة في هذين الميدانين هي التي تؤدّي إلى وحدة المشاعر والمنازع ووحدة الآلام والآمال ووحدة الثّقافة، وبذلك تجعل النّاس يشعرون بأنّهم أمّة واحدة متميّزة عن الأمم الأخرى”. في حين يركز مفكّرون آخرون على العامل الاقتصاديّ المشترك، ويعطي بعضهم الآخر الأهمّيّة الأولى للعامل الدّينيّ، والأصل المشترك “الوحدة العرقيّة.”والإرادة المشتركة، وهذه العوامل ذاتها هي التي يعدّها الحصريّ عوامل ثانويّة، ليس لها تأثير مباشر في القومية.”
“فالدّين لايكوّن عاملا من عوامل الوجود القوميّ، فالقوميّة العربيّة مثلا لم تنتشر انتشار الإسلام، كما لم تقتصر اليهوديّة والنّصرانيّة على قوميّة واحدة. ولم يجعل قيام باكستان وإسرائيل الدّين عاملا أساسيّا في القوميّة، فما هو إلا استثناء للقاعدة له ما يبرّره. وهذا حسب قول الحصريّ “يفوّت على الأجانب سلاح اللعب بالطائفيّة، وعلى الصّهاينة اعتماد اليهوديّة أساسا للقوميّة”.
بين الدّولة القوميّة والدّينيّة
هناك جدل كبير حول ما تسعى إليه وتنشده ثورات الرّبيع العربيّ، فهل هي تريد دولة قوميّة أم دولة دينيّة؟ ولكي نكون موضوعيّين في الإجابة على هذا السّؤال علينا أن نعود إلى الشّعوب نفسها بدون تنظير وبدون فلسفة الأمور، فالثّورات التي قامت بشكل عفويّ منطلقة في تونس في 17 كانون أوّل – ديسمبر- 2010 بعد إحراق الشّاب التّونسيّ محمّد بوعزيزي نفسه احتجاجا على صفعه من قبل امرأة شرطيّة، تؤكّد أنّ الشّعوب العربيّة متقدّمة على النّخب السّياسيّة والثّقافيّة، وأنّ هذه الشّعوب لم تعد تحتمل حكم الطّغاة الذي أخرج الأمّة من التّاريخ، وحصد هزائم ما عاد السّكوت عليها مقبولا، فثارت باحثة عن مكان يليق بها، تريد أن تحسّن أوضاعها في مختلف المجالات، وتريد الحرّيّة لأبنائها والمجد لأمّتها، ويبدو أنّ جماعات الإسلام السّياسيّ كانت أكثر تنظيما من غيرها من الأحزاب والقوى السّياسيّة الأخرى، فركبت موجة غضب الشّعوب الثّائرة، واعتلت سدّة الحكم، بانتخابات ديموقراطيّة، مستغلّة ضعف وانقسام القوى المنافسة، وخوف الشّعوب من عودة الأنظمة البائدة، فرفعت شعارات برّاقة مغلّفة بالدّين، وشرعت في سنّ قوانين لتأبيد تجيير السّلطة لها بشكل لا يقبل النّقض أو النّقد، غير عابئة بحقوق الأقليّات الدّينيّة والعرقيّة، ووجدتْ قوى عظمى – الولايات المتحدة الأمريكية كنموذج- تتفاهم معها وتحاول احتواءها.
العرب كأمّة:
لو استعرضنا القوميّات التي لا تزال بدون دولة واحدة موحّدة في العالم، لوجدنا أنّها: العرب، الأكراد، الكوريّون، والأمازيغ، والشّيشان، ولكلّ قوميّة من هذه القوميّات ظروفها الخاصّة التي تحول دون قيام دولتها الواحدة الموحّدة، ولو حصلت كلّ قوميّة منها على دولة واحدة حرّة مستقلّة، لساهم ذلك في استقرار العالم وبناء السّلم العالميّ. ودعونا هنا نأخذ العرب كنموذج، فتقسيم المشرق العربيّ “الهلال الخصيب” إلى دويلات جاء كنتاج للحرب العالميّة الأولى بناء على اتّفاقيّة سايكس بيكو عام 1916،” التي كانت اتفاقا وتفاهما سرّيّا بين فرنسا وبريطانيا، بمصادقة من الإمبراطوريّة الرّوسيّة على اقتسام منطقة الهلال الخصيب بين فرنسا وبريطانيا؛ لتحديد مناطق النّفوذ في غرب آسيا، بعد تهاوي الدّولة العثمانيّة، المسيطرة على هذه المنطقة، في الحرب العالميّة الأولى.
وتمّ الوصول إلى هذه الاتّفاقيّة بين نوفمبر من عام 1915 ومايو من عام 1916 بمفاوضات سرّيّة بين الدّبلوماسيّ الفرنسيّ فرانسوا جورج بيكو والبريطانيّ مارك سايكس، وكانت على صورة تبادل وثائق تفاهم بين وزارات خارجيّة فرنسا وبريطانيا وروسيا القيصريّة آنذاك. وقد تمّ الكشف عن الاتّفاق بوصول الشّيوعيين إلى سدّة الحكم في روسيا عام 1917، مما أثار الشّعوب التي تمسّها الاتفاقية وأحرج فرنسا وبريطانيا.”
وسعي الدّول الاستعماريّة إلى تقاسم العالم العربيّ؛ لنهب ثرواته وخيراته، ولموقعه الاستراتيجيّ أيضا، ولترسيخ هذا التّقسيم جرت تغذية الاقليميّة بشكل واضح، حتّى أنّ جزءا كبيرا من الشّعوب لم يعد يدري أنّه جزء من الأمّة، وإمعانا في تأكيد هذا الفهم وجدنا بعض المروّجين له يتكلّم عن شعبه كأمّة يجب الحفاظ على خصوصيّتها! وما الحديث عن وحدة الأمّة العربيّة إلا نوع من التّرف الفكريّ والإعلاميّ! ووجدنا من يدعو إلى وحدة الأمّة بحقّ وحقيقة يُحارَب وكأنّه يعادي الشّعوب، بل وجدنا جماعات دينيّة تدعو في أدبيّاتها إلى اتّهام من يدعو إلى العروبة أو إلى الدّيموقراطيّة بالكفر والخروج عن تعاليم الدّين، وبالتّالي يجب محاربته بل وقتله، ووجدنا بعض الجماعات تدعو إلى بناء الدّولة الاسلاميّة وليس الدّينية، في محاولة منه لاسترضاء أو لإسكات الأقليّات الدّينية غير المسلمة، في حين أعلنت داعش دولتها الدّينيّة بقيادة أبي بكر البغداديّ. فهل هناك تناقض بين القومية والدّين؟ وهل مخاوف الأعداء من الدّولة الاسلاميّة أم من الدّولة القوميّة؟ ولماذا؟
الدّولة القوميّة والدّولة الاسلاميّة:
لم يعد خافيا على أحد تلك التّفاهمات بين الاسلام السّياسيّ وأمريكا ومن دار في فلكها، لا حبّا في تلك الجماعات، ولا حبّا في الإسلام، ولا تبعيّة من الاسلام السّياسيّ لأمريكا أيضا، وإنّما هي المصالح المشتركة وإن اختلفت في منطلقاتها وأهدافها، فالعالم الغربيّ بقيادة أمريكا كان يرى في الشّعوب الإسلاميّة “الدّرع الواقي من خطر الشّيوعيّة” قبل انهيار الاتّحاد السّوفييتي ومجموعة الدّول الاشتراكية في عام 1990، وبعد ذلك خرج علينا صموئيل هنينجتون رئيس مركز الدّراسات الاستراتيجيّة الأمريكية بـ”صراع الحضارات” الذي يرى فيه أن الخطر القادم على “الدّيموقراطيات الغربيّة” يتمثّل في الإسلام والمسلمين، وها هم يتفاهمون مع الإسلام السّياسيّ، بعد انهيار بعض الأنظمة الموالية لهم في ثورات الرّبيع العربيّ، كما حصل في تونس ومصر، فهل في هذا تناقض؟ وهل هي رغبة من أمريكا وحلفائها في بناء دولة إسلاميّة وإعادة دولة الخلافة؟ أم هي المصالح والنّظرة الاستراتيجيّة بعيدة النّظر؟ ولماذا لم توافق أمريكا وغيرها على بناء الدّولة القوميّة العربيّة؟ ولماذا تسعى إلى إعادة تقسيم العالم العربيّ إلى دويلات طائفيّة متناحرة؟ وللتّذكير فقد ذكر المفكّر الكبير محمد حسنين هيكل في مقابلة أجرتها معه الصحفيّة لميس الحديدي عام 2012 على فضائيّة الحياة المصريّة، أنّ دين راسك وزير خارجيّة أمريكا الأسبق تحدّث معه عام 1952 بعد ثورة 23 يوليو المصريّة عن رغبة أمريكا في وجود دولة اسلاميّة، ترتكز على الباكستان وتركيّا ومصر؛ لتكون مقابل حلف النّاتو في المنطقة، ولتقف في وجه خطر المدّ الشّيوعي!
وللإجابة على هذه الأسئلة علينا أن نعي أنّ بناء إمبراطوريّة إسلاميّة تجمع الشّعوب الاسلاميّة كافّة هو خيال أكثر منه واقعا، وأنّه من المستحيل أن تلتقي مصالح شعوب ودول العالم الاسلاميّ على قاعدة دينيّة، لسبب بسيط هو أن الدّولة الدّينيّة لا تعترف بالقوميّات، بل تتناقض معها، وقد أجمع الباحثون والدّارسون العرب على أنّ أحد أسباب انهيار دولة الخلافة هو وصول غير العرب إلى سدّة الخلافة، وهذا ما أكّدوه سابقا على أسباب انهيار دولة الخلافة العبّاسيّة، كما أنّ أحد أسباب انهيار امبراطورية الاتّحاد السّوفييتي وتجزئته هو الظّلم اللاحق بالقوميّات الأخرى التي كانت جزءا منه.
في حين أنّ امكانيّة توحيد العالم العربيّ أكثر منطقيّا وعقليّا ولأكثر من سبب يجمع الشّعوب العربيّة، يضاف إلى ذلك أنّ الفكر القوميّ لا يتناقض مع الدّين، فإحدى شعارات القوميّة العربيّة ” أمّة عربيّة واحدة ذات رسالة خالدة” والمقصود هنا هو الدّين الإسلاميّ، والدّولة القوميّة قادرة على استيعاب الأقليّات القوميّة والدّينيّة فيها، من منطلقات أنّ “الدّين لله والوطن للجميع” وأنّ الثّقافة الإسلاميّة العربيّة هي ثقافة الشّعوب العربيّة بمسلميها ومسيحيّيها، والأقليّات القوميّة فيها، وأن الثّقافة القوميّة قادرة على استيعاب الثّقافات القوميّة الأخرى التي تعيش بين ظهرانيها، وقادرة على إعطائها حقوقها القوميّة، وإذا ما قامت الدّولة العربيّة الواحدة بمساحتها الهائلة “14 مليون كيلومتر مربّع”، وبثرواتها المختلفة، وبتعداد سكّانها، فإنّها ستصبح إمبراطوريّة كبيرة وقويّة، تستطيع الوقوف أمام أطماع الآخرين، وتستطيع إقامة تحالفات مع الدّول والشّعوب الإسلاميّة والصّديقة الأخرى، على أسس عدّة منها الدّين واللغة والتّاريخ المشترك، وستكون قادرة على ذلك كون اللغة العربيّة لغة القرآن، ومن هنا تنبع خطورة الدّولة العربيّة الواحدة على القوى الطّامعة في المنطقة، لذا فهي تبذل قصارى جهدها في منع تحقيقها، وخروجها الى أرض الواقع.
الأقلّيّات القوميّة في العالم العربيّ:
الأكراد: تشير الإحصاءات العالميّة العامّة أنّ عدد الأكراد في مناطق انتشارهم أكثر من 28 مليون نسمة، وغالبية الأكراد يعيشون في تركيا بنسبة 57%، وبعد ذلك تأتي إيران، والعراق في نسبٍ متقاربة من عدد الأكراد، والتي تصل إلى ما يُقارب 16%، أمّا النّسبة المتبقيّة من الأكراد، فتقسم ما بين سوريا، وباقي دول العالم. ويشكّل الأكراد نسبة ما بين 12-18% من سكان العراق البالغ حوالي 38 مليون نسمة. ويبلغ عدد الأكراد في سوريّا حوالي مليوني نسمة.
الأمازيج: يبلغ عدد الأمازيغ حول العالم 55 مليون نسمة، منهم 20 مليون في العالم العربيّ، موزّعين ما بين الجزائر والمغرب وتونس وليبيا، حيث يمثلون حوالي 80% من سكان الجزائر والمغرب، و 60% من سكان تونس وليبيا.
التّركمان: وصل عددهم في العراق حوالي 350 ألفا، وفي سوريا قرابة الـ 150 ألفا، أمّا في الأردنّ فأعدادهم قليلة جدّا قد لا تتجاوز الـ 10 آلاف.
وهناك أقلّيات عرقيّة أخرى من أرمن وشركس وغيرهم، لكنّهم لا يشكّلون نسبة مئويّة.
ونحن نسوق الأقلّيات العرقيّة والدّينيّة هنا لنتساءل: هل استغلّت الأنظمة والشّعوب العربيّة هذا التّنوّع العرقي والدّيني لمصلحة الشّعب والوطن؟
في الهند والصّين واليابان مثلا مئات القوميّات واللغات، ومئات الدّيانات، وهم يعيشون في وئام وتآخ. والولايات المتّحدة الأمريكيّة الدّولة العظمى الأولى، شعبها مجموعات من المهاجرين من مختلف الأعراق والأجناس والألوان، ومن مختلف الدّيانات السّماويّة والوضعيّة والوثنيّة، ومنهم الملاحدة، لكنّهم يعيشون بوئام، يتحدّثون لغاتهم الأمّ، وغالبيّتهم يتحدّث الانجليزيّة أيضا، ويستطيعون بناء دور عبادتهم وممارسة طقوسهم الدّينيّة، وفتح مدارس خاصّة لهم يعلّمون فيها ويتعلّمون لغاتهم الأمّ، ومبادئ دياناتهم، وهذا حقّ يضمنه لهم الدّستور الأمريكيّ، ويحميه القضاء والسّلطة التّنفيذيّة، واستطاعوا أن يبنوا أقوى اقتصاد في العالم، وأقوى امبراطوريّة في أقلّ من 300 سنة.
في حين غالبيّة الشّعوب العربيّة من عرق واحد، وديانة واحدة ويعيشون تناحرات واقتتال لا يمكن قبوله، أو السّكوت عليه.
ومع ذلك فإنّ الأقلّيّات القوميّة والدّينيّة في العالم العربيّ، تعرّضت ولا تزال تتعرّض لاعتداءات غير مبرّرة من الأنظمة القوميّة، ومن أتباع الدّيانة الاسلاميّة المتشدّدين.
فماذا كان يضير العراق وسوريّا مثلا لو سمحوا عبر تاريخ دولهم للأكراد أن يتعلّموا في مدارسهم بلغتهم الأمّ، وأن يحتفلوا بأعيادهم القوميّة كيفما يشاؤون، وأن يكونوا مواطنين متساوين في الحقوق والواجبات؟ وكذلك الأمر بالنّسبة للأمازيج في ليبيا، والجزائر، وتونس، والمغرب، وموريتانيا؟ بالتّأكيد لو أنّهم فعلوا ذلك لما حصلت تمرّدات على أساس عرقيّ، كما حصل مع أكراد العراق، الذين تمّ تدمير المئات من قراهم، وقتل الآلاف منهم.
أليس في ذلك استهبال للشّعوب، وعواقبه وخيمة على الوطن والشّعب؟
المسيحيّون: هناك ملايين من أتباع الدّيانة المسيحيّة، يعيشون في الوطن العربيّ، وغالبيّتهم في مصر حيث يبلغ عدد الأقباط حوالي عشرة ملايين شخص، وقد تعرّضت الكنائس أكثر من مرّة إلى تفجيرات، أزهقت أرواح وجرحت الآلاف منهم على أيدي مسلمين متشدّدين في أكثر من دولة عربيّة كمصر، والعراق، وسوريّا وغيرها. وهناك قيود على بناء كنائس جديدة لهم أيضا.
فهل استطاعت الدّولة القوميّة الوطنيّة وأد الفتن الطّائفيّة؟ وهل تساءلنا عن الأسباب التي دعت ملايين المسيحيّين العرب إلى الهجرة من بلدانهم؟ وهل نعي عواقب ذلك؟ ولماذا يجري حجب وظائف في مؤسّسات الدّولة عن المسيحيّين؟
أليس في ذلك استهبال للشّعوب، وعواقبه وخيمة على الوطن والشّعب؟
والمسيحيّون المواطنون في الدّول العربيّة جزء من النّسيج الاجتماعيّ، لهم ما لاخوانهم المسلمين، وعليهم ما عليهم.

استهبال الشّعوب في الفكر القوميّ:
علينا الانتباه أنّه لا توجد حتّى الآن دولة عربيّة إسلاميّة، وإن ادّعت بعض الأنظمة أنّها اسلاميّة، وكذلك الحال بالنّسبة للدّولة القوميّة. ولم يحصل حتّى الآن أن اتّحدت هذه الدّول على أساس دينيّ أو قوميّ.
ومع استهبال الشّعوب بشعارات الوطنيّة والقوميّة والاسلاميّة الرّنانة، إلا أنّ الجهل هو السّائد في المنطقة العربيّة، وبدلا من أن تتطوّر المنطقة العربيّة وتواكب العصر إلا أنّها مع الأسف تتراجع على مختلف الأصعدة بطريقة لافتة للأعمى وللبصير.
وللوقوف على مستوى التّراجع كبديل للتّطوّر في عالمنا العربيّ، دعونا ننتبه إلى ما وصلت إليه دول مثل اليابان، ألمانيا، وإيطاليا، التي خرجت من الحرب العالميّة الثانية مهزومة ومدمّرة، وغنيمة حرب للدّول التي انتصرت في تلك الحرب، ولا تزال مرتبطة باتّفاقات الاستسلام في تلك الحرب، وبعد انتهاء الحرب بأقلّ من عشرين عاما، أصبحت هذه الدّول من الدّول الصّناعيّة والمتطوّرة في مختلف المجالات، وهي من الدّول الثّريّة ذات المخزون الماليّ الهائل.
في حين بدأ استقلال الدّول العربيّة بعد تلك الحرب، وأصبحت دولا مستقلّة لها علمها الوطنيّ وحدودها المعروفة، وبعضها لم يخضع للاستعمار كالسّعوديّة وشمال اليمن، ورغم ثروة البترول الهائلة في بعض الدّول العربيّة، إلا أنّ غالبيّة الدّول العربيّة لا تزال مدينة بمليارات الدّولارات، ولا تصنيع يذكر في هذه البلدان، ولا تطوير للزّراعة أيضا، ولا في استخراج الثّروات الطّبيعيّة، ولكم أن تتصوّروا دولة أوروبّيّة مثل بلجيكا، عدد سكّانها ستّة ملايين نسمة، ويعيش سكّانها على صيد السّمك وتصنيع الأخشاب، يساوي دخلها القوميّ في السّنة دخل السّعوديّة أكبر منتج للبترول في العالم. ومن مظاهر استهبال الشّعوب بعدم التطوّر هو إرجاع أسباب ذلك إلى قوى خارجيّة! وهذا يحمل في طيّاته اعفاء للأنظمة وللشّعوب من مجرّد التّفكير بأسباب المشاكل، أو العمل على تحسين الأوضاع.

الوحدة العربيّة:
القواسم المشتركة بين الأقطار العربيّة وشعوبها كثيرة جدّا، لكن بدلا من تثقيف الشّعوب على أهمّيّة الوحدة العربيّة، جرى ولا يزال تكريس الاقليميّة، ولم تجر محاولات للوحدة على أساس قوميّ إلا زمن الرّئيس المصريّ جمال عبد النّاصر، حيث اتفق على توحيد مصر وسوريا في العام 1958، وجرى الانفصال بعد مرور حوالي أربع سنوات على الوحدة، ومّمن وقّعوا على الانفصال حزب البعث العربيّ الاشتراكيّ، الذي يرفع شعار”أمّة عربيّة واحدة، ذات رسالة خالدة” وهذا الحزب الذي حكم سوريّا والعراق لعقود، لم يستطع توحيد القطرين الشّقيقين والجارين، بل كان نظاما البعث الحاكمان في هذين البلدين على خلافات واسعة وصلت حدّ القطيعة وتبادل الاتّهامات بينهما.
حاول الرّئيس الليبيّ الرّاحل معمر القذّافي طرح مبادرات وحدويّة، لكنّها كانت فقاقيع هواء ليس أكثر.
صحيح أنّه جرت وحدة بين اليمن الجنوبيّ والشّماليّ في العام 1990، إلا أنّ محاولات الانفصال لم تتوقّف بينهما. وبدلا من الوحدة جرت حروب بين الدّول العربيّة، وهذا ما حصل بين مصر وليبيا في عهد السّادات، وبين المغرب والجزائر، وبين العراق والكويت، حيث احتلّ العراق الكويت عام 1990، وحاليّا بين السّعوديّة واليمن، وقد شاهد العالم جميعه اصطفاف عدد من الدّول العربيّة مع أمريكا وحلف النّاتو في الحرب على العراق عام 1991، واحتلاله وتدميره عام 2003. وكذلك اصطفاف دول عربيّة مع قوى أجنبيّة معادية لتدمير وقتل وتشريد شعوب العراق، سوريّا، ليبيا، واليمن من خلال تمويل وتسليح وتدريب الجماعات التّكفيريّة التي تمارس أبشع أنواع الارهاب ضدّ شعوبها وأمّتها.

تحويل الهزائم إلى انتصارات:
المتابع لما يجري في العالم العربيّ سيجد أنّه يتراجع في المجالات كافّة، بدلا من أن يتقدّم كبقيّة الدّول والشّعوب، والسّبب الرّئيس في ذلك هو الجهل السّائد، فحوالي ربع المواطنين يعانون من الأمّيّة الأبجدية، ونصف المواطنين أشباه أمّيّين، والتّعليم بما فيه الجامعيّ ليس كما يجب، ولا يواكب التطّور الحاصل عند الشّعوب الأخرى، ومراكز البحث العلميّ ليست كما يجب أيضا، ولا توفّر لها الامكانيّات للقيام بدورها، وهل ننتبه أنّ عدد العاملين في مجال البحث العلميّ في اسرائيل يزيد على عدد العاملين فيه في الدّول العربيّة جميعها؟
وحتّى في المجال العسكريّ، فإنّ دولة صغيرة مثل اسرائيل، تتفوّق عسكريّا على الدّول العربيّة مجتمعة. ولا تزال تحتفظ بالأراضي العربيّة التي احتلّتها في حرب حزيران 1967، ” الضّفّة الغربيّة وجوهرتها القدس، وهضبة الجولان السّوريّة، وتحاصر قطاع غزّة برّا وبحرا وجوّا” وتقوم بتهويد القدس وباقي الضّفّة الغربيّة بسرعة ملحوظة، ووقّعت اتّفاقات “صلح” مع مصر والأردنّ، في حين تقيم علاقات تجاريّة وأمنيّة مع دول عربيّة أخرى دون الإعلان في كثير من الحالات عنها.
واللافت أنّ أيّا من الأنظمة لم يعترف بمسؤوليّته عن تلك الهزيمة، باستثناء الرّئيس المصريّ الرّاحل جمال عبد النّاصر، بل اعتبرتها “نكسة” وليست هزيمة.
وحتّى الأحزاب والقوى السّياسيّة العاملة على السّاحة العربيّة، وتعتبر نفسها طلائعيّة! اعتبرت نتائج تلك الحرب الكارثيّة نصرا! لأنّ”اسرائيل لم تستطع اسقاط النّظامين التّقدّميّين في مصر وسوريا، ولم تستطع هدم الكيان الأردنيّ”! أليس في هذا الفهم استهبال للشّعوب؟
ثقافة الهبل في التّعامل مع نصف المجتمع:
لا يحتاج المرء إلى كثير من الذّكاء ليعرف أنّ المرأة نصف المجتمع، وأنّ لها حقوقها التي أعطاها الله لها حسب الدّيانات السّماويّة، لكنّ المجتمعات الذّكوريّة، ومنها المجتمعات العربيّة تنكر عليها هذه الحقوق، وتضطّهدها وتحرمها إنسانيّتها وحتّى حقّها في الحياة، ويشارك في ذلك متديّنون مسلمون يعظون النّاس باعطاء المرأة حقوقها، ورغم النّصوص الدّينيّة الدّاعية إلى إعطاء المرأة حقوقها، وحتّى يومنا هذا فإنّ الغالبيّة العظمى لا يريدون إنجاب البنات، يقول تعالى: “وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِالْأُنثَىٰ ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ. يَتَوَارَىٰ مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَىٰ هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ، أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ.” وقد تتعرّض الزّوجة التي تنجب الأنثى إلى الاضطهاد والأذى من قبل زوجها ومن أقاربه أيضا، وقد تتعرّض للطّلاق أو الزّواج عليها بسبب ذلك، علما أنّ العلم أثبت أنّ الرّجل هو المسؤول بيولوجيّا عن إنجاب الأنثى، “مثلما تزرع تحصد”.
وثقافة الهبل الاجتماعيّ حسب العادات والتّقاليد والمفاهيم الاجتماعيّة تتعامل مع المرأة وكأنّها إنسان لا يستحق الحياة، وأنّها سبب الشّرور والمصائب، ويظهر ذلك جليّا في المأثور الشّعبيّ من حكايات وأمثال شعبيّة مثل: “اللي بتموت وليته من حُسّن نيته”، “دلّل ابنك بغنيك، ودلّل بنتك بتخزيك”، “ابنك لك وبنتك لغيرك”، “همّ البنات للممات”، “ولد أهبل ولا بنت عاقلة”، “الولد وين ما راح لا تخاف عليه، والبنت دير بالك منها حتّى وهي في البيت”، “الولد وين ما رميته بظل رجل، والبنت دايما عورة”، “شاوروهن واخلفوا شورهن”….إلخ. في حين غالبيّة الحكايات الشّعبيّة تركّز على المرأة كسبب لكلّ الشّرور والمصائب!
ومن التّناقضات غير العجيبة في ثقافتنا هي احترام الأمّ، والحثّ على برّها وعدم عقوقها، علما أنّ النّساء جميعهنّ أمّهات أو مشروع أمّهات، فالواحد منّا يحب ويحترم ويبرّ ويخدم ويرعى والدته، ويرى فيها “ستّ الحبايب” و”ستّ الدّنيا”، وهذا أمر جيّد يقول تعالى: ” وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا، وحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا، حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَالِدَيَّ، وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ.”
وبهذا فإنّ الإحسان إلى الأمّ فرض دينيّ، وتقرّه الأعراف والعادات، لكنّ هذه الأمّ لا تلقى الإحسان والمعروف من زوجها، مع أنّ الرّسول صلّى الله وعليه وسلم يقول: “خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي.” والأهل هنا هم الزّوجة والعيال، ولا من شقيقها، ويقول صلى الله عليه وسلم: “من كان له ابنتان أو أختان فأحسن إليهما ما صحبتاه، كنت أنا وهو في الجنّة كهاتين يعني السّبابة والوسطى.”
ولا تلقى الاحترام من مجتمعها أيضا، وكأنّ كلّ واحد من مجتمعنا يعيش هو ووالدته في عالم خاصّ، ولا يحترم أمّهات الآخرين مثلما يحترم أمّه! أو لا ينظر لأمّهات الآخرين كنساء فاضلات كأمّه.
والأنثى “ناقصة العقل والدّين” بالفهم الجاهليّ والجاهل لهذه المقولة، تواجه صعوبات في مختلف مناحي حياتها، ولا تحصل على حقوقها، فمثلا لا تمنح الفرصة للتّعلم كشقيقها، ولا تحصل على نصيبها في الميراث، أو حقّها في اختيار الزّوج….إلخ، وهذا ليس من الدّين في شيء، فقد كان من النّساء راويات للحديث مثل أمّ المؤمنين عائشة، وشاركت النّساء في عهد النّبوّة في الحروب، يعددن الطعام للمقاتلين ويمرّضن الجرحى، ويرفعن المعنويات، وقادت أمّ المؤمنين عائشة معركة الجمل ضد عليّ بن أبي طالب، وغير ذلك.
وفي العهد العثمانيّ عرف ما يسمّى بعصر الحريم، الذي تفاوت فيه التّعامل مع المرأة بين جماعات وأخرى، إلى أن وصلنا الى العصر الحديث، حيث نجد فضائيّات مخصّصة لمشايخ يطلقون اللحى، ويضعون العمائم غالبية “فتاويهم ومواعظهم ومعالجاتهم لقضايا الأمّة” ترتكز على جسد المرأة وما بين فخذيها، وكأنّ الأنثى مسؤولة عن مصائب الأمّة كلّها، مع أنها ليست شريكا في صنعها، وهناك من يعتبرون “الأنثى” “حرمة” اسمها حرام، وسماع صوتها حرام، وكل ما يتعلق فيها حرام في حرام، وينسون أنّهم يقرأون –إن كانوا يقرأون- اسم والدة الرسول، وأسماء بناته وزوجاته، وبعضا من سيرتهنّ الذّاتيّة، فلماذا لا يقتدون بالرّسول وهو قدوة حسنة؟ وهناك من يدعو إلى زواج البنات الأطفال درءا للرّذيلة، وكأن الشّهوة موجودة في الأطفال الإناث! وهناك من يفتي بزواج المؤانسة، والمتعة والمسيار و”جهاد المناكحة”….إلخ. وهناك من ينسب الغواية والضّلالة للأنثى دون الذّكر، وإمعانا في اضطهاد الأنثى فإنّ التمييز يلاحقها في كلّ شيء، وفي الوقت الذي شاركت فيه بعض النّساء غير المسلمات في غزو الفضاء الخارجيّ، وساهمن في الاكتشافات العلميّة، إلا أنّ هناك من يحرّم على المرأة قيادة السّيّارة حتّى لو كانت ذاهبة للصّلاة في المسجد، أو لاصطحاب طفلها المريض إلى الطبيب، لكن لا ضير من أن يقود سيارتها أجنبيّ وهي بصحبته! ويلاحظ أنّ الأتراك قد تخلّوا عن عصر “الحريم” لكنّ العرب تلقّفوه منهم وتمسّكوا به.
والأنكى أنّ هناك من يعتبر المرأة ضعيفة لا تقوى عقليّا على عمل شيء، وهؤلاء طبعا يعتمدون على الفوارق العضليّة بين الذّكر والأنثى، وينسون أنّ هناك نساء قدن أمما وشعوبا بقدرة واقتدار، ومنهنّ نساء عربيّات مثل بلقيس ملكة سبأ، وزنّوبيا ملكة تدمر، ومسلمات كشجرة الدّر في مصر، وبنازير بوتو في باكستان الحديثة، وغير مسلمات وغير عربيّات مثل: مارغريت تاتشر، أنديرا غاندي، جولدة مائير، أنجيل ماركل وغيرهن.
ومن ثقافة الهبل والاستهبال في تحميل المسؤوليّة وما يتبعها من عقاب للمرأة وحدها، فأيّ تصرّف خاطئ يرتكبه الرّجل والمرأة معا هو مسؤوليّة المرأة.
ثقافة القتل دفاعا عن الشّرف
تزهق أرواح نساء كثيرات كلّ عام في مختلف أرجاء المعمورة لأسباب ثقافيّة لا علاقة للحروب والنّزاعات المسلّحة بها، واذا كانت بعض النّساء تقتل عند شعوب أخرى لأسباب جنسيّة كأن يجد رجل زوجته أوعشيقته في علاقة حميمة مع رجل آخر، فإنّ دافع “تملّك” الرّجل للمرأة قد يكون الدّافع وراء مثل هذه الجريمة، أو قد يكون واقعا تحت تأثير المخدّرات.
وما يهمّنا نحن هو القتل بذريعة ما يسمى “الدّفاع عن الشّرف” في بلداننا العربيّة والاسلاميّة، فمن أين جاءتنا هذه العادة الجريمة التي تضعنا أمام تساؤلات كثيرة وكبيرة منها:
هل الشّرف صفة للنّساء فقط؟ وإذا ما افترضنا وجود علاقة جنسيّة “غير مشروعة” بين رجل وامرأة، فهل يمسّ شرف الرّجل كما يمسّ شرف المرأة؟ ولماذا توقع العقوبة على المرأة فقط؟ ولماذا يتمّ التّستر على الرّجال خصوصا الذين يمارسون سفاح القربى مع محرّمات، مثل البنت أو بنت الأخ أو بنت الأخت، مع أن غالبيّة المرتكبين لهذه الجرائم يكونون رجالا بالغين ويمارسون فعلتهم الشّنيعة مع بنات أطفال؟ بل لماذا يتمّ قتل البنات عندما يجري استغلالهنّ جنسيّا من قبل محرّمين كالأب أو الأخ أو العمّ أو الخال…إلخ؟ ولماذا يبقى المجرم طليقا؟
وكم عدد النّساء اللواتي قتلن ظلما وجورا لمجرد إشاعات كاذبة اختلقها رجال منحرفون؟ وكم عدد العذارى اللواتي قتلن وأثبت الطبّ الشّرعيّ أنّهنّ عذراوات؟ وهل الدّين الاسلاميّ- وهو دين الغالبيّة في مجتمعاتنا- يبيح القتل في مثل هكذا حالات؟
وما هو مفهوم الشّرف؟
فهل اللصوص وتجّار المخدّرات ومتعاطوها والجواسيس والخائنون… وغيرهم شرفاء؟
في ثقافتنا الشّعبيّة مقولة تقول: بأنّ الأرض والعرض – بكسر العين وتسكين الرّاء – لا يفرّط بهما، وأنّ الرّجل يقدّم روحه رخيصة دفاعا عنهما؟ لكنّنا فرّطنا بالأرض وهربنا بالعرض؛ ليجري انتهاكه على أيدي من لجأنا إليهم لحمايته، لنقع في المحظور الشّعبيّ القائل “بأنّ من لا وطن له لا عرض له.”
من المحزن أن يتمحور شرف الرّجل العربيّ في بضعة سنتيمترات ما بين فخذي المرأة، ومن المحزن أكثر هو ارتكاب جريمة القتل تحت اسم “الشّرف” وتحت اسم “محو العار”، فهل القتل يجلب الشّرف ويمحو العار؟
إن القتلّ يشكّل فضيحة كبرى ليس على مرتكب الجريمة فقط، وإنّما على شعبه وأمّته، فوسائل الاعلام المرئيّة والمسموعة والمكتوبة في مختلف أرجاء المعمورة، وفي مختلف اللغات تنشر عن الجريمة وأسبابها وبالأسماء، في حين لو تمّ التّستّر على الموضوع لبقي سرّا محصورا في بضعة أشخاص، ولو علم مرتكبو جرائم القتل هذه أنّهم يكتبون عارهم بالدّم لما لجأوا لمثل هذه الجرائم، ومن المعروف أيضا أنّ مرتكبي جرائم القتل هذه قد يدخلون السّجن لسنوات طويلة قد تأخذ عمرهم بكامله، ليصبح القاتل قتيلا أيضا وراء القضبان.
ومن الجهل السّائد أنّ بعض الفئات الاجتماعيّة تعطي القتل بعدا دينيّا؛ فيحلّلون ما حرّم الله وهم لا يعلمون، لأنّ الدّين الإسلاميّ وضع عقوبة الجلد للزّاني الأعزب، ووضع شروطا تعجيزيّة لإثبات عمليّة الزّنا، وهي وجود أربعة شهود عدول رأوا العمليّة الجنسيّة كاملة دون شبهات، وإذا ما كانوا أقلّ من أربعة فإنّهم يجلدون لطعنهم بالمحصنين والمحصنات، وعليه فإنّ الضمّ والتّقبيل والمفاخذة والمداعبة لا تصل إلى درجة الزّنا- ولا يفهم من هذا أنّها محلّلة ومسموح بها- أمّا الذي أباح الاسلام قتله فهو الثّيب الزّاني، والذي يقتله هو الحاكم المسلم الذي يحكم بشرع الله وليس أيّ شخص آخر، لأنّ الاسلام رسّخ دولة القانون الشّرعيّ، وهو الذي احترم حياة الإنسان، حتى إنّ الرّسول صلوات الله وسلامه عليه اعتبر أنّ هدم الكعبة حجرا حجرا أهون من قتل إنسان، وحتى الزّوجين اللذين يضبط أحدهما الآخر متلبسا “بالزّنا” فإنّه تجري بينهما الملاعنة ويفرق بينهما.
يبقى أن نقول أنّ ثقافة القتل في هذا المجال إرث جاهليّ ابتدعه المجتمع الذّكوريّ، وأنّ الدّين الاسلاميّ يحرّم هذه الجريمة، مع التّأكيد أنه لم يفرّق بين الرّجل والمرأة في العقوبة وفي التّعامل مع هذه القضيّة. والتّأكيد أنّ القتل لم يكن ولن يكون يوما مقياسا للرّجولة والمروءة والشّهامة، بل أثبتت الدّراسات أنّ القتلة جبناء، ويعانون من عقدة النّقص.
فهل تتجنّد وسائل الإعلام والمثّقفون ورجال الدّين لاعادة تثقيف عامّة النّاس حول هذا الموضوع؟ وهل توضع قوانين رادعة للقتلة؟
ثقافة الطائفية الدّينيّة “مسلم مسيحي”
بما أنّ الجهل مرتع خصب للفتن، فإنّ القوى الإمبرياليّة الطّامعة في منطقتنا العربيّة، تعرف ذلك وتستغلّه جيّدا، ولأكثر من سبب اندلعت حرب طائفيّة في لبنان ما بين ” 13 أبريل 1975 – 13 أكتوبر 1990″ شاركت فيه مختلف الطّوائف الدّينيّة، وأدّت إلى مقتل ما يزيد عن 150 ألف شخص، وتشريد 40 ألف مهجّر و17 ألف مفقود. ومعروف أنّ لبنان خليط من المسلمين والمسيحيّين بمختلف ديانتهم وطوائفهم، ولتكريس الطّائفيّة في هذا البلد وضعت فرنسا التي استعمرت لبنان دستورا طائفيّا، قسّمت فيه مراكز الدّولة الأساسيّة بين الطّوائف الدّينيّة، فرئيس الدّولة مسيحيّ مارونيّ، ورئيس الوزراء مسلم سنّي، ورئيس مجلس النّوّاب مسلم شيعيّ وهكذا.
واشتعلت الحرب الأهليّة بناء على هذه التّقسيمات الطّائفيّة، التي لم تلتزم بطائفيّتها الأحزاب العلمانيّة كالحزب القوميّ السّوريّ، الحزب الشّيوعي اللبنانيّ، وغيرها، كما شاركت فصائل منظّمة التّحرير الفلسطينيّة بهذه الحرب إلى جانب القوّات الوطنيّة اللبنانيّة.
وقد رافقت هذه الحرب جرائم حرب مثل مذبحة مخيّمي صبرا وشاتيلا للاجئين الفلسطينيّين في 16 أيلول –سبتمبر- 1982 أثناء الغزو الاسرائيليّ للبنان، واحتلاله للعاصمة بيروت، وقاد هذه المجزرة سمير جعجع* وإيلي حبيقة** وبمباركة بشير الجميّل***، وتحت غطاء اسرائيليّ. وقد وصلت الحرب إلى ارتكاب بعض الأحزاب اللبنانيّة كحزب الكتائب، وحرّاس الأرز خيانة وطنهم، بتحالفهم مع إسرائيل التي زوّدتهم بالسّلاح، وتعاونوا معها على اجتياح لبنان واحتلال عاصمته بيروت، بحجّة الخلاص من الوجود الفلسطينيّ المسلّح على الأراضي اللبنانيّة.
وانتهت هذه الحرب الأهليّة، والتي استغلّت فيها القوى اللبنانيّة العاطفة الدّينيّة الفطريّة لأتباعها، ليكونوا وقودا لهذه الحرب، التي كان يتمّ القتل والخطف والتّدمير فيها على الهويّة الدّينيّة. انتهت الحرب دون أن تحقّق أيّ طائفة ما تريده، وبقي التّقسيم الطّائفيّ كما هو عليه قبل الحرب، ومعروف أنّ الطائفة الشّيعيّة هي التي خرجت رابحة من هذه الحرب، حيث قام الإمام موسى الصّدر بتأسيس أفواج المقاومة اللبنانية المعروفة بحركة أمل في العام 1974م، وقد صادفت بداية الاحتلال الإسرائيليّ لجنوب لبنان بشقّيه: محافظة الجنوب ومحافظة النّبطيّة، فكان لحركته من أجل المحرومين السّبب الرّئيسيّ في إزالة ذلك العدوان، ودحر فلول المحتلّ الإسرائيليّ. ومع ذلك فقد نأى بنفسه عن التّدخل في حرب لبنان الأهليّة. وفي العام 1982، وكنتيجة للغزو الاسرائيليّ للبنان، واحتلال العاصمة بيروت، وما تبع ذلك من انسحاب مع احتفاظ اسرائيل باحتلالها للجنوب اللبنانيّ، تمّ تأسيس حزب الله اللبنانيّ لمقاومة الاحتلال، واستطاع بمقاومته اجبار إسرائيل على الانسحاب من الأراضي اللبنانيّة المحتلّة في أيار عام 2000.
“لا توجد مصادر مستقلّة تتحدّث بالتّفصيل عن طرق إدارة حزب الله قبل العام 1989، إلا أن المعلومة المتداولة تفيد أنّ القيادة كانت جماعيّة، إلى أن انتخب الأمين العام الأوّل لحزب الله وهو صبحي الطفيلي، الذي تولى هذا المنصب في الفترة من عام 1989 حتى عام 1991، ثم أجبر على الاستقالة بعد إعلانه من جانب واحد العصيان المدنيّ على الحكومة اللبنانيّة، الأمر الذي رفضه الحزب، وتولّى منصب الأمين العام عباس الموسوي خلفا له، لكنّه لم يستمر أكثر من تسعة أشهر، فقد اغتالته إسرائيل في عام 1992، ليقود الحزب من بعده حسن نصر الله، الذي لا يزال يشغل هذا المنصب حتى الآن.”
وما يهمّنا هنا هو الاحتراب الطّائفيّ الذي استمرّ خمسة عشر عاما، والذي أدّى إلى تدخّل قوّات أمريكيّة وفرنسيّة في لبنان، غير أنّها اضطرّت للانسحاب بعد أن قام حزب الله في أوّل عمليّة عسكريّة له بنسف مقر القوّات الأمريكيّة والفرنسيّة في أكتوبر/ تشرين الأوّل عام 1983، وقد أسفرت تلك العمليّة عن مقتل 300 جنديّ أمريكيّ وفرنسيّ.
_____________
* سمير جعجع (25 أكتوبر 1952 -)، “سياسيّ لبنانيّ، يعتبر من أبرز المشاركين في الحرب الأهليّة اللبنانيّة. يلقب بالحكيم أيّ الطبيب في اللهجة اللبنانيّة لدراسته الطبّ على الرّغم من أنّه لم يكملها في السّنة السّادسة بسبب إصابته بالحرب الأهليّة اللبنانيّة، هو رئيس الهيئة التّنفيذية لحزب القوّات اللبنانيّة إحدى الميليشيات المسيحيّة، في عام 1994 سجن بسبب اتهامه بتفجير كنيسة سيّدة النّجاة في كسروان، وقد حصل على البراءة من هذه التّهمة، إلا أنّه حوكم بتهمة اغتيال رئيس الحكومة الأسبق رشيد كرامي، ورئيس حزب الوطنيين الأحرار داني شمعون، كما اتّهم باغتيال النّائب طوني فرنجيّة ابن الرّئيس سليمان فرنجيّة وعائلته في إهدن، وهو ما سمّي لاحقا بمجزرة إهدن. وحكمت المحكمة عليه بالإعدام، إلا أنّ الحكم خُفّف من قبل رئيس الجمهورية إلياس الهراوي إلى السّجن مدى الحياة، كما تمّ الحكم بحلّ القوّات اللبنانيّة. بينما اعتبر أنصاره أنّ محاكماته وقرار الأحكام سياسيّة بحتة فقط؛ لأنّه ضدّ الوجود السّوريّ في لبنان،أطلق سراحه عبر عفو نيابيّ من قبل المجلس النّيابيّ، الذي انبثق بعد خروج الجيش السّوريّ من لبنان عام 2005، وعاد بعد ذلك إلى نشاطه السّياسيّ، وترشّح سنة 2014 للانتخابات الرّئاسيّة.
** إلياس جوزيف حُبيقة: ولد في بلدة قليات في الكسروان عام 1956. يقترن اسم إيلي حبيقة الوزير اللبناني السّابق وزعيم ميليشا القوّات اللبنانية التي كانت متحالفة مع إسرائيل، بمجزرة صبرا وشاتيلا.
وقد راح مئات الفلسطينيّين ضحيّة للمجزرة التي وقعت في أيلول-سبتمبر-عام 1982 إبّان الغزو الإسرائيلي للبنان.
وكان حبيقة مسؤولا لجهاز الأمن في القوّات اللبنانيّة اليمينيّة أثناء وقوع الهجوم على مخيمي صبرا وشاتيلا، في أعقاب اغتيال رئيس الجمهوريّة السّابق بشير الجميّل الذي كان زعيما للقوّات.
وفي عام 1990 بعد أن انتهت الحرب الأهليّة اللبنانيّة التي دامت خمس عشرة سنة، عيّن حبيقة وزيرا للمهجّرين في الحكومة اللبنانيّة.
قتل الوزير اللبناني السّابق إيلي حبيقة صباح الخميس في 24/1/2002 في انفجار سيّارة ملغومة في ضاحية الحازميّة في بيروت الشّرقيّة، وقتل معه في الانفجار ثلاثة من مرافقيه.
*** بشير الجميّل: (10 نوفمبر 1947 – 14 سبتمبر 1982)، سياسيّ وقائد عسكريّ لبنانيّ، انتخب لرئاسة لبنان ولكنّه اغتيل قبل تسلّمه المنصب.
هو الابن الأصغر للزّعيم المسيحيّ بيار الجميّل مؤسّس ورئيس حزب الكتائب اللبنانيّة، وأخ الرّئيس السّابق أمين الجميل. تلقى دروسه الجامعيّة بكليّة الحقوق في جامعة القدّيس يوسف، ونال في عام 1971 شهادتين في الحقوق والعلوم السّياسيّة. وفي عام 1972 سافر إلى الولايات المتّحدة لمتابعة دراسته، إلا أنّه قطعها وعاد في سبتمبر من العام نفسه، وفتح مكتبا للمحاماة. وأقفل المكتب مع بداية الحرب الأهليّة، وتفرغ للعمل العسكريّ. وتدرّج في حزب الكتائب حتى أصبح قائده العسكريّ، ومن ثمّ أسّس القوات اللبنانية وتولى قيادتها والتي كانت طرفا أساسيّا في الحرب الأهليّة اللبنانيّة.

الدّعاء في الخطابات الدّينيّة
ويتعالى “بارومتر” الهبل عندما نسمع في خطب صلاة الجمعة، وخطب العيدين “الفطر والأضحى” الدّعاء على اليهود والنّصارى، والشّيعة والعلمانيين، والحداثيّين، وكلّ من يخالف أو يختلف مع الخطيب الامام، وغالبيّة المصلّين إن لم يكونوا جميعهم يؤمّنون عليه بقولهم “آمين”،
وممّا يقال في الدّعاء:
“اللهمّ احصهم عددا، واقتلهم بددا، ولا تغادر منهم أحدا، اللهم اجعلهم عبرة للمعتبرين،وحصيدا خامدين،وشماتة للشّامتين، اللهم جمّد الدّم في عروقهم، ويبّس أطفالهم، وأوصالهم، ويتّم أطفالهم، ورمّل نساءهم، اللهم أرنا فيهم عجائب قدرتك، وهيب سلطانك، وعظيم قوّتك، وأنزل بهم عاجل نقمتك، فإنّهم لا يعجزونك يا ربّ العالمين.”
وقد يزيد أو ينقص هذا الدّعاء حسب انفعال خطيب المسجد. علما أنّنا كعرب وكمسلمين لا نعادي اليهود لأنّهم يهود من أتباع الدّيانة اليهوديّة، بل نعادي الصّهاينة الذين استوطنوا بلادنا فلسطين، وقتلوا وشرّدوا شعبنا الفلسطيني.
ولا عداء بين الاسلام والمسيحيّة كديانة، وقد أقرّ الاسلام الدّيانتين السّماويّتين اليهوديّة والمسيحيّة، وعاش أتباعهما في الدّولة الاسلامية كمواطنين، مع التّنويه أنّ مسيحيّي الشّرق مواطنون كاملو المواطنة، لهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم، واليهود العرب أيضا، فلا خلاف مع اليهود الفلسطينيّين العرب، الذين عاشوا في فلسطين قبل الغزو الصّهيونيّ، وإنّما الخلاف مع الحركة الصّهيونيّة وأتباعها ومؤيّديها ومناصريها، كونها حركة كولونياليّة استعماريّة.
والخلاف أيضا ليس مع المسيحيّة كديانة سماويّة، ولا مع أتباعها، وإنّما الخلاف مع القوى الامبرياليّة التي تطمع في بلداننا، وتنهب خيراتنا، وتعتبر بلداننا سوقا رائجا لمنتوجاتها الزّراعيّة والصّناعية. إذن فصراعنا مع الدّول الامبرياليّة ليس دينيّا، وإنّما صراع اقتصاديّ.
وبالتّأكيد فإنّ المسيحيّ العربيّ يشعر بغصّة وصوت خطيب المسجد يخترق بيته داعيا الله بموته وموت أبنائه وأقاربه. خصوصا وأنّه ابن هذا الشّعب وشريك للمسلم في الوطن، ويقاتل مع من يقاتلون الامبرياليّة من شعوبنا.
أمّا في بلاد الغرب الامبرياليّ وغالبيّة مواطنيهم العظمى من أتباع الدّيانة المسيحيّة، فهم دول علمانيّة، تفصل الدّين عن الدّولة، وتعطي حرّية المعتقد لمواطنيها، ولمن يزورونها، وقد شاهدت مساجد في أمريكا وبعض الدّول الأوروبّيّة التي أتيحت لي زيارتها. بل إنّني شاهدت الشّرطة تنظّم السّير أيّام الجمعة في حيّ “بردج فيو”في شيكاغو، وتسمح بوقوف سيّارت المصلّين في الأماكن التي يمنع فيها الوقوف في الأيّام الأخرى، كي تتيح للمسلمين تأدية صلاة الجمعة في مسجد جمعيّة الأقصى في الحيّ، كما أنّ المسلمين يستطيعون بناء مسجد في أيّ حيّ يريدونه. ولا قيود على المسلمين ولا على غيرهم بسبب معتقدهم.
ولا يمكنني تصوّر ردود فعل المتأسلمين الجدد، لو كانت هناك كنائس تدعو في الصّلوات لإبادة المسلمين، كما يحصل العكس في بلداننا.
لن يصلح العطّار
من يتابع خطابات أو كتابات “المتأسلمين الجدد” ومن يهتفون لهم ممّن تمّت تعبئتهم جيّدا دون أن تتاح لهم فرصة استعمال العقل، أو العودة إلى النّصوص القرآنيّة والسّنّة الصّحيحة واستنباط ما فيها، سواء كان ذلك عن جهل منهم، أو لثقتهم العمياء بمّن يلقّنونهم، سيجد نفسه أمام خيارات صعبة، ولذلك أسبابه الكثيرة التي تنطوي في غالبيّتها تحت عباءة الجهل، فعلى سبيل المثال لا الحصر إذا ما حاول بعض المتنوّرين الدّفاع عن الدّين الحنيف بوعي بعيد عن الخرافة والتّضليل، نجد من يهاجمه ويتّهمه بالكفر والالحاد، وكأنّ القوم يعلمون ما في الصّدور، والسّبب أنّهم ارتضوا سياسة القطيع، ومن يخرج عن قطيعهم فإنّ البعض منهم يتّهمونه بالرّدة والكفر، ومثال على ذلك المفكر الاسلاميّ عثمان صالحية صاحب كتاب “الدّراية- الفريضة المصيريّة الغائبة في التّراث- الشّفاعة أنموذجا مفصّلا”
الذي صدر نهاية العام 2014، وابتدأه بقوله:”ما يتعارض مع القرآن والسّنّة الصّحيحة فهو باطل”.وبدأ يدحض الاسرائيليّات والخرافات الموجودة في بعض الكتب الاسلاميّة.
ومثال آخر هو الموقف من مسيحيّي الشّرق تحديدا، وهم مواطنون أصيلون وأصليّون، وتوارثوا المسيحيّة عن آبائهم وأجدادهم معتنقي هذه الدّيانة قبل الرّسالة السّماوية المحمّدية-الاسلام-، وهم حريصون على العروبة وعلى الوطن، وثقافتهم في غالبيّتها ثقافة مسيحيّة، اسلاميّة عربيّة، كونها ثقافة شعبهم وأمّتهم، وهو يتحمّلون السّراء والضّراء مع شعوبهم وأمّتهم، واذا ما أوضح مسلم ذلك دفاعا عن دينه الاسلاميّ، وعن شعبه ووطنه، ودرءا للفتن الطائفيّة التي يحاول الأعداء تغذيتها، فإنّنا نجد من يتطوّع مهاجما ومكفّرا ومذكّرا بالحروب الصّليبيّة والحملات الاستعماريّة، ولا يكلّف نفسه مثلا أن يقرأ التّاريخ الذي كتبه المؤرّخون المسلمون، الذين عاصروا تلك المرحلة، وهو أنّ مسيحيّي الشّرق تصدّوا لغزو الفرنجة مع اخوانهم المسلمين، وكانت البداية من انطاكية، وأنّ مسلمي القرن الحادي عشر الميلادي أدركوا أبعاد تلك الغزوات الأوروبيّة، وسمّوها حروب الفرنجة، وأنّ تسميتها بالحروب الصّليبيّة كانت من أمراء وملوك أوروبا الطامعين في كنوز الشّرق؛ لتعبئة فقراء الأوروبيّين واستغلالهم للمشاركة في تلك الحروب.
وفي الحروب مع الاستعمار والامبرياليّة الحديثة، فإنّ للمسيحيّين العرب دورا في التّصدي لهذه الغزوات لا ينكره إلا كافر، وقد سقط منهم ضحايا كثيرون، وتعرّض البعض ولا يزال للقتل والأسر والتّعذيب. فهل سمع “المتأسلمون الجدد” ومن لا يكلّفون أنفسهم معاناة متابعة الأحداث بأسماء مثل: جورج حبش، نايف حواتمة، طارق عزيز وبمن سبقوهم مثل جول جمّال وغيرهم؟ وهل يعلمون أنّ مهندس اقتحام خط بارليف المنيع الذي اجتاحته ودمّرته جحافل الجيش المصريّ في حرب اكتوبر 1973 هو المصريّ القبطيّ اللواء المهندس باقي زكي؟
ومع الأسف فقد استطاعت الامبرياليّة تجنيد “المتأسلمين الجدد” ليخوضوا حروبها معها، بعد الحرب العالميّة الأولى التي تمخّضت عن هدم الامبراطوريّة العثمانية، ووضعت المسلمين في مجابهة الاتّحاد السّوفييتي وحلفائه، واصفة المسلمين “بالسّور الواقي من خطر الشّيوعيّة”، وهكذا.
وحتّى أنّنا نجد من يهاجمون من يدافع عن الاسلام من المستشرقين الذين درسوا الاسلام وتأثّروا به، فمثلا هناك مستشرقة ألمانية تدعى “انجليكا نويفرت” وصفت من يهاجمون الاسلام في العالم الغربي بدراسة طويلة” وممّا قالته: “كلّ من يقول أنّ الاسلام لا يواكب العصر، فهو ذو عقل محدود.” فوجدنا من المتأسلمين الجدد من يهاجمها لأسباب يصعب تفسيرها إلا بالجهل وعدم فهم المقروء.
وصلى الله وسلم على خاتم النّبيّين الذي امتدحه الخالق بقوله: “وإنّك لعلى خلق عظيم.” وقوله:” وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ.”
وقد عاصرنا جميعنا كيفيّة استيعاب الدّول الأوروبّيّة للاجئين الهاربين من بلدانهم “المسلمة”! فيما بات يعرف “بالرّبيع العربيّ”؛ لينجوا بحياتهم من سيوف “مجاهدي” آخر الزّمان، الذين ضلّوا طريق الجهاد، ولم يروها إلا في قتل شعوبهم وتدمير أوطانهم. والويل لمن يخالفهم الرّأي. فهل حاول “مجاهدو آخر الزّمان” استعمال عقولهم؟ وهل فكّروا بالفهم الصّحيح للدّين؟
وفي تقديري أنّه لو اجتمعت كلّ قوى “الكفر” في العالم لمحاربة الاسلام، لما نجحت في ذلك كما نجح المتأسلمون الجدد من الدّواعش وقوى التّكفير الأخرى في ذلك.
ومع تفجير كنائس في العراق وسوريا وقتل وتهجير مواطنين مسيحيّين، إلا أنّه يبدو أنّ القوى الأجنبيّة المعاديّة وفي مقدّمتها الولايات المتّحدة الأمريكيّة، قد ارتأت أنّ الطائفيّة بين “مسلم ومسيحيّ” غير قادرة على تحقيق أهدافها في إعادة تقسيم المنطقة إلى دويلات طائفيّة، خصوصا وأنّ المسيحيّين العرب يشكّلون أقليّة دينيّة، لا يمكن أن تكون كافية لاستمراريّة الصّراع حتّى التّقسيم، وقد شاهد الجميع عمليّات تفجير كنائس قبطيّة، واعتداءات وصلت حدّ قتل بعض المواطنين الأقباط في مصر، من قبل جماعات دينيّة إسلاميّة، ومع بشاعة هذه الجرائم وخطورتها إلا أنّها لم تكن كافية لزعزعة أمن مصر، ولم تنسحب على دول أخرى.
ومن هنا جاءت تغذية الخلافات إلى حدّ الاقتتال بين المسلمين” السّنّة والشّيعة” كما يجري الآن في العراق، سوريّا، لبنان، اليمن والبحرين، وليمتدّ العنف المسلّح للتكفيريّين الاسلاميّين إلى بلدان لا شيعة فيها مثل ليبيا وصحراء سيناء المصريّة.

فضائيّات الهبل العربيّ
لا أعرف عدد الفضائيّات المتخصّصة ببثّ “ثقافة الهبل” -إن جازت التّسمية- باللغة العربيّة، لكنّها بالعشرات إن لم تكن بالمئات، ولم أسمع عن دولة واحدة منعت هذه الفضائيّات من أراضيها، أو حجبتها بتشفيرها كي لا يراها مواطنوها، تماما مثلما لم أسمع أنّ أقمارا فضائيّة عربيّة مثل “أراب سات أو نايل سات”قد رفضت السّماح لواحدة من هذه الفضائيّات بالبثّ عبرها، وغالبيّة هذه الفضائيّات المتخصّصة ببثّ الجهل والهبل تتّخذ من الدّين عباءة لها، دون أن نسمع عن جهة دينيّة مرموقة كالأزهر وهيئة علماء المسلمين، ومن يسمّونهم بـ “العلماء” من إصدار فتاوي ترفع الغطاء الدّينيّ عن هكذا فضائيّات، مع أنّها سبق وأصدرت ولا تزال فتاوي “للمتأسلمين الجدد” بقتل شعوبهم وتدمير أوطانهم، وفتاوي عجيبة غريبة مثل “جهاد النّكاح” و”إرضاع الكبير” و”إعادة الرّق” وتدمير الأثار ودور العبادة لغير المسلمين، والمقامات الإسلاميّة وغيرها.
واللافت أنّ فضائيّات “الجهل والهبل” يتصدّر الرّدود فيها رجال في غالبيّتهم يرتدون الجبّة والعمامة، ويطلقون اللحى ويحلقون الشّوارب- زيادة في التّقوى والورع-! ويحملون ألقابا كبيرة مثل:”الدّكتور العلامة” –زيادة في خداع بسطاء العامّة-. فيفسّرون الأحلام بطريقة مضحكة ومحزنة حتّى البكاء على حالنا، ويصفون “أدوية” لمختلف الأمراض بما فيها المستعصية كالسّرطان مثلا، وسأعطي عددا من الأمثلة ممّا شاهدته متعمّدا على فضائيّات “الهبل وتكريس الجهل”:
ذات يوم اتّصلت سيّدة تسأل أحد المشيخ من “مفسّري الأحلام” وقالت:”رأيت أبي المتوفّى في المنام –أستغفر الله العظيم- يعاشرني كما يعاشرني زوجي، فارتعبت من ذلك الحلم، فما تفسير ذلك جزاك الله خيرا؟” فأجابها الشّيخ وبسمة تعلو وجهه:” أبشري يا أختاه، وهنيئا لك، فهذا الحلم دليل على أنّك بارّة بوالدك، وهو راض تماما عنك، لأنّ الوصال في الحلم يعني الرّضا!”
واتّصلت إحداهنّ على الدّكتور العالم العلّامة تسأله عن علاج لسقوط الشّبكيّة في عينيها، فأجابها بأنّ العلاج سهل، لكنّ الأطباء لا يعرفونه لبعدهم عن الدّين، ووصف لها العلاج بأن تحضر اثني عشر لتر ماء في وعاء، وأن تقرأ عليها ثلاث سور من القرآن ذكرها، وأن تشرب كأسا من الماء المقروء عليه ثلاث مرّات في اليوم، وبإذن الله ستشفى! والحديث يطول في هكذا أمور، وبإمكان أيّ إنسان أن يشاهد “هذا الهبل” على مدار 24 ساعة يوميّا.
فما تفسير ذلك؟
من المعلوم أن الجهل يقود إلى سلسلة من الحلقات المفرغة تشكل كلّ واحدة منها كارثة، مثل التّخلف العلميّ والاقتصاديّ والاجتماعيّ والصّحّيّ وغيرها، ومن البدهيّات أنّ الشّعوب الفقيرة في غالبيتها ليست فقيرة في مواردها، وإنّما هي فقيرة أو معدمة بعلمها وفي استغلال هذه الموارد، ولكم أن تتصوّروا أنّ مناطق واسعة وخصبة يعاني سكّانها من الجوع؛ لأنّ القبائل التي تسكنها تعتبر الزّراعة عيبا! وهذه موجود منها في السّودان وجيبوتي على سبيل المثال، وهذا الجهل هو مسؤوليّة الحكومات التي يجب أن تعلّم شعوبها، وتثقّفهم لتمحو من رؤوسهم هذا المعتقد، وكمثال معاكس فإنّ دولة مثل لوكسمبورغ عدد سكّانها نصف مليون نسمة، ومداخيلها عالية جدا، لأنّها تستغلّ ثرواتها.
والجهل يقود إلى جهل في فهم ما يحيط بالانسان من ظواهر يصعب عليه تفسيرها، فتتولّد لديه قناعات بوجود ظواهر خارقة تسيطر عليه، ويتماشى معها كحالة مرضيّة يصعب عليه الخروج منها. أو بالأحرى لا يجد من يخرجه منها، بل يجد من يستغلّها ويطوّرها لديه؛ ليستغلّه ماليّا وربّما جنسيّا، ويتمثّل ذلك في “العرّافين” و”الفتّاحين” ومدّعي العلم بالغيب! والذين يزعمون بأنّ لهم علاقات مع الجنّ والشّياطين وغير ذلك، ويتمترس هؤلاء المحتالون وضحاياهم حول فهم خاطئ للدّين، فحسب الدّين الجنّ موجود، “وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ” وقال العالمون بأمور الدّين: “أنّ الجنّ لهم عالمهم الخاص، وهم كائنات ضعيفة لا علاقة لها بعالم الانسان”، لكنّ الجهلاء لا يفهمون ذلك، ويعتقدون أنّهم واقعون تحت سيطرة “الكفرة” من الجنّ! ويجدون من يحتال عليهم؛ ليسلبهم فلوسهم القليلة، وقد يتلذّذون بضربهم وربّما حتّى الموت بحجّة إخراج الجنّ منهم، أو باستغلالهم ماليّا وجنسيّا لنفس السّبب، وهذه مسلكيّات موجودة في بلداننا العربيّة – مع الأسف-، بل الأدهى والأمرّ أنّ هناك فضائيّات تبثّ 24 ساعة، وفيها أشخاص يعطونها صبغة دينيّة؛ ليخدعوا المتّصلين بهم عبر مكالمات دوليّة باهظة التّكلفة، يتقاسمونها مع شركات الاتّصالات، ومن المحزن هو وجود قطاعات واسعة تؤمن بصحّة ذلك، وذات برنامج تلفزيونيّ جرت مناظرة في إحدى الجامعات العربيّة بين ممثّل خليجيّ شديد الذّكاء، تقمّص شخصيّة مشعوذ يعالج الأمراض بضرب المريض وكيّه بالنّار، مع طبيب متخصّص لم يكن يعلم الدّور الذي يقوم به الممثّل، وتمّ بثّ المقابلة، واقتنع جمهور المشاهدين وهم طلبة وأساتذة جامعيون بحجّة وقدرات المشعوذ أكثر مما اقتنعوا بقدرات الطّبيب المتخصّص، وفي آخر الحوار كشف الممثّل عن شخصيّته، فضحك بعض الحضور واستاء البعض الآخر، لكن غالبيّتهم لم يغيّروا قناعاتهم. ومن اللافت أيضا أنّ هناك من يدّعي العلاج بالقرآن الكريم، معتمدين على قوله تعالى:” وننزّل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا” وهذا الشّفاء كما أورده بعض المفسرين مثل الدّكتور محمود عكّام: “وهذا الأثر للقرآن – الشّفاء – أثر ذاتي، يتعلق بالإنسان ذاته، إذ يصحّحه من الأمراض التي ألمت بعقله كالشّكّ والرّيبة، وتلك التي ألمّت بقلبه كالحزن والقلق والاضطراب. فالقرآن يشفيني إذ يهيء منّي إنسانا سليما وصالحا في ذاته” ويفهم من هذا أنّ القرآن دعوة للتّوحيد والشّفاء من الشّرك والحيرة في خلق السّماوات والأرض. ويؤكّد ذلك ما ورد في الحديث الشّريف: ” ما خلق الله من داء إلا وخلق له الدّواء، تداووا عباد الله”.
وممّا ورد في الأثر من أنّ الخليفة الثّاني عمر بن الخطاب مرّ بأعرابيّ يقرأ القرآن على ناقته الجرباء، فقال له عمر: لو أضفت لقراءتك قليلا من القطران لشفيت ناقتك.” وهذا دعوة من الخليفة تفيد بأنّ علاج الأمراض يكون بالدّواء وليس بقراءة القرآن. ومن ضحايا المحتالين والمشعوذين مَن يصابون بأمراض نفسيّة وعقليّة، وهي أمراض عضويّة ناتجة عن خلل في الجهاز العصبيّ، واستطاع الطّبّ الحديث المبني على العلم الصّحيح أن يجد لها العلاج المناسب، وتعيس ذلك المريض منهم الذي يصطحبه الأقرباء التّعساء إلى المشعوذين؛ ليزيدوه مرضا على مرض، إن لم يقتلوه ضربا بحجّة إخراج الجنّ الكافر الذي يتلبّسه.
وثقافة الجهل والتّخلف هي سلوك ومعتقد عند الجهلاء، وقد شاهدنا في الأراضي الفلسطينيّة المحتلّة في شهر نيسان 2014 حادثة تقشعّر لها الأبدان، تمثّلت بخنق شاب عشرينيّ لابن شقيقه ابن الثلاثة أشهر، وليعترف للمحقّقين بأنّه قام بخنق جدّته الثّمانينية، قبل ثلاثة شهور، وأنه قام بحرق منزل الأسرة ونشر إشاعة أنّ الأرواح الشّريرة هي من قامت بذلك، وأنّها ستنتقل من بيت إلى بيت؛ لتصل إلى القرى المجاورة، وتصل المأساة ذروتها عندما أتى والد الطفل الضّحيّة؛ ليخبر المحقّقين أنّ شقيقه بريء، وأنّ من قام بهذه الأفعال هي الأرواح الشّريرة التي تسكن جسد شقيقه! وهذا يعني أنّ المصابين بأمراض نفسيّة هم أكثر من شخص واحد، وإن لم يكونوا مرضى فهذا يعني أنّنا غارقون في بحر من الجهل، وهذا من أكثر الأمراض فتكا. ورحم الله المتنبي وهو القائل:
لكلّ داء دواء يُستطبّ به .. إلا الحماقة أعيت من يداويها.
هبل الفيبسبوك Face Book
من ينتبه لظواهر الهبل في وطننا الذي كان عربيّا، سيجد أنّ للهبل وجوها مختلفة تحتاج إلى دراسات علميّة للوقوف على أسبابها ونتائجها، ويبدو أنّ صفحات التّواصل الاجتماعي Face Book قد أصبحت مرتعا خصبا لصنوف من الهبل! فمثلا تضع إحداهنّ صورة إحدى الممثّلات أو عارضات الأزياء، أو….إلخ على أنّها صورتها الشّخصيّة، فتنهال عليها إشارات الإعجاب وتعليقات التّغنّي بجمالها! فتنفتح قريحتها بآيات الشّكر والعرفان للمعجبين الوهميّين! وتستمرّ حالة الهبل والاستهبال لتكتب إحداهنّ – وهنّ كثيرات- كلمة لا طعم ولا ولون ولا رائحة لها مثلا تكتب”زهقانة” فتنهال عليها صنوف الإعجاب وتعليقات الأمنيات لها بالخروج من حالة “الزّهق” هذه، وكأنّ زهقها هذا يقلق البشريّة جميعها.
وتتلاحق صنوف الهبل بنشر صور لموائد طعام عاديّة جدّا مثل طبخة” رؤوس الماشية وكروشها(معداتها) وأمعائها” وتتواصل إشارات الإعجاب والتعليقات الدّاعية لسلامة أيدي الطّبّاخين وكرم الضّيافة!، وكأنّ هذه الطّبخة تشكّل اكتشافا علميّا عجزت عن مثله وكالة “ناسا” الأمريكيّة لعلوم الفضاء! وهذا ليس استهزاء بهذه “الطّبخة” الشّعبيّة التي يعرفها ويستطيبها الأثرياء والفقراء وما بينهما، بمقدار السّؤال الذي يطرح نفسه وهو: ما الهدف أو الجدوى من نشر هكذا أمور حتّى لو كانت مائدة فاخرة؟
ويتطوّر الهبل ليصبح حالة انفصام عندما يهدّد البعض بشطب صداقته مع من لا يتفاعلون مع “منشوراته العظيمة”! علما أنّه لا ينشر شيئا لافتا إيجابا أو ذا قيمة، لكنّه يعتقد بأنّه ينشر أشياء لم يلتفت لها الأوّلون ولا المعاصرون.
ويصل الهبل أوجه عندما يعمل أحدهم أو إحداهنّ صفحة باسم مستعار مثل:”الأسد الجسور” أو “قمر الزّمان” أو “القلب الحنون” …إلخ، ويطلب صداقة البعض، ويعتب على بعض البعض لأنّهم لم يقبلوا صداقته- ها! ولا يجد عذرا لمن لا يستجيب لطلبه-ها، تماما مثلما ليس له عذر بالتّخفي وراء صفات ليست له-ها.
لكنّ الأدهى في أمور الهبل والاستهبال عندما يقوم أحدهم بعمل صفحة تحمل اسما “أدبيّا أو ثقافيّا” تعجز عن مجاراته وزارات الثّقافة واتّحادات الكتّاب! أو يعمل صفحة عن السّلم والحرب وحقوق الانسان وغيرها، تعجز عن مجاراتها الأمم المتّحدة أو منظّمات حقوق الانسان العالميّة، ويقومون بتوزيع الألقاب والأوسمة وشهادات التّقدير والتّكريم الإلكترونيّة على أناس يختارونهم بعناية، فيقوم هؤلاء بنشرها مفاخرين بهذا! شاكرين صاحب الفضل الكبير الذي منحهم هذه الألقاب، ويتقبّلون التّهاني والتبريكات بهذه المناسبة العظيمة! دون أن يدركوا أنّهم وقعوا ضحايا لنصّابين ومحتالين ألكترونيّين! وأنّ الألقاب التي حصلوا عليها ينطبق عليها مقولة: “من لا يملك يعطي من لا يستحق”. والويل والثّبور وعواقب الأمور لمن ينصح ضحايا عمليّات النّصب هذه، فإنّهم يعتبرون النّصيحة في هذا المجال طعنا في مقاماتهم السّامية!
فهل تنطبق علينا مقولة المتنبّي:” يا أمّة ضحكت من جهلها الأمم”؟ وهل نقبل هذا الوصف ونعتبره مفخرة لنا؟

الهبل والاستهبال باسم الدّين
من حقّ كلّ إنسان أن تكون له معتقداته وإيمانه ودينه الذي يرى نجاته فيه، لكن ليس من حقّه أن يحرم الآخرين من حرّيّتهم في معتقداتهم. ونحن في البلدان العربيّة وغالبيّتنا من أتباع الدّيانة الاسلاميّة، التي لا مقدّس فيها لفهم الدّين بطريقة صحيحة غير القرآن والسّنّة الصّحيحة، يرفض الغالبيّة العظمى منّا الفهم المتجدّد للدّين، مع أنّ الجميع يؤمنون بأنّ هذا الدّين يصلح لكلّ زمان ومكان، والسّبب هو تقديس كلّ ما هو قديم دون تفكير، علما أنّ هذا القديم هو من أفعال أو أقوال بشر يخطئون ويصيبون مثلنا تماما، وهذا بسبب ثقافة القبيلة الصّحراوية الوحشيّة كما وصفها ابن خلدون في مقدّمته الشّهيرة، فمثلا هناك من يرفضون إعادة تفسير القرآن الكريم بناء على العلوم التي استجدّت بعد المفسّرين القدامى. وتهمة الكفر جاهزة لمن يحاول التّجديد والاصلاح من منطلقات إيمانيّة خالصة.
وخير مثال على ذلك ما جرى للمفكّرين الاسلاميّين عثمان صالحية واسلام بحيري، كما ذكرنا سابقا.
ومن الأمور اللافتة هو اعتبار الدّين علما، فنجد هناك “علوم القرآن”، “علوم الحديث” علوم الفقه” إلخ، وهناك من يعتبرون “هذه العلوم أساسا للعلوم كافّة”، في حين يعتبر العالم جميعه الرّياضيّات أساسا لكلّ العلوم، ، حتّى بات من يرتدي الجبّة والعمامة ويطلق لحيته “عالما” ولو كان أمّيّا أو شبه أمّيّ، علما أنّ الدّين عقيدة وليس علما، والعقيدة ثابتة لا يمكن خرقها، في حين العلوم تخضع للتّجريب، لكنّ المتعصّبين يكفّرون من يقول بهذا؛ لأنّ الأقدمين هم من أطلقوا “العلم” على الدّين.
وقد استغلّ ذلك بعض المحتالين والنّصّابين جيّدا، فتلفّعوا بعباءة الدّين، فضلّوا وأضلّوا واحتالوا على ملايين البشر من عامّة المسلمين.
ومن المؤسف أنّ هناك من أخرج نصوصا دينيّة عن سياقها التّاريخي والزّمني، فأساؤوا للاسلام والمسلمين، فمثلا الدّين الاسلاميّ أقرّ الرّق؛ لأنّه كان معمولا به فترة نزول الرّسالة عند البشر جميعهم، لكنّه أوّل من دعا إلى تحرير الرّق، وجعل “تحرير رقبة” واحدة من التّكفير عن مخالفات وأخطاء وخطايا كثيرة، لكنّ “الدّواعش” عادوا إلى الرّقّ، فاسترقّوا نساء غير مسلمات في العراق وسوريا في أيّامنا هذه، معتمدين على نصوص من زمن الرّقّ، واستهبلوا ملايين ممّن يعانون من الكبت الجنسيّ يؤيّدونهم، ويقاتل الآلاف منهم معهم طمعا في الحصول على أّمّة لتفريغ شهواتهم الجنسيّة. والأدهى أنّهم أباحوا قتل المسلم للمسلم وغير المسلم من أبناء شعوبهم وأمّتهم، متّكئين على “معركتي “الجمل وصفّين.” فالمسلم” إذا قاتل معتقدا أنّه على حقّ فلا إثم عليه إذا قَتَل، وهو شهيد إذا قُتِل!”
وكذلك بالنّسبة للآثار ومعظمها موجودة قبل الاسلام، وأقرّتها الدّولة الاسلاميّة عبر عصورها، لأنّها تمثّل حضارة شعوبها، وجاء الدّواعش فهدموها معتمدين على نصوص وردت في كتب الأقدمين، وهي تتمحور حول هدم الرّسول –عليه الصّلاة والسّلام للأصنام التي كان العرب يعبدونها، فهل كان أحد يعبد مثلا آثار تدمر أو بابل حتّى يهدمها الدّواعش، كما هدموا غيرها كالمقامات الاسلاميّة التي بنيت في عصور الخلافة الاسلاميّة المختلفة، وهل كان المسلمون لا يفهمون دينهم وجاء الدّواعش لنشر الفهم الصّحيح للدّين؟
ووصل استهبال بعض “المشايخ” ومنهم دعاة يشار إليهم بالبنان للمسلمين، بأن يوردوا إحصائيّات لعدد الحوريّات التي سينعم بهنّ المسلم المؤمن في الجنّة، حتّى زادت أعداد المخصّصات للرّجل الواحد عن تسعة عشر ألف حوريّة! أليس هذا “الاستهبال” يعبّر عن عقليّة الذّكورة المكبوتة لهؤلاء”العلماء”؟ ولماذا لم يفّكروا بحقوق المرأة المسلمة في الجنّة، وهل من العدالة أن تكون ضرّة لهذا العدد الهائل من الحوريّات؟ ومن أين أتوا بهذه الاحصائيّة العجيبة الغريبة؟
يقول ابن خلدون في “المقدّمة”: “أنّ العرب لا يحصل لهم الملك إلا بصبغة دينيّة من نبوّة أو ولاية، أو أثر عظيم من الدّين على الجملة” وما يهمّنا هنا هو أنّ العرب يخضعون باسم الدّين، ولذلك نجد من تلفّعوا بعباءة الدّين، ونصبوا واحتالوا على الآخرين مستغلّين الإيمان الدّينيّ الفطريّ عند العامّة، فيحرّفون الفهم الصّحيح للدّين، تحت شعارات دينيّة يبتدعونها، مستغلّين الجهل السّائد عند البعض في الدّين والدّنيا، فينصبون ويحتالون وينشرون خرافات ما أنزل الله بها من سلطان، فمثلا: في بدايات تسعينات القرن العشرين أشاع أحد المشايخ الذي ينحدر من أصول فلسطينيّة، ويعيش في عمّان، أنّ القيامة ستقوم في شهر حدّده لهم، وأنّ الأرض ستغرق بطوفان عظيم لن ينجو منه إلا من يسكنون إحدى ضواحي عمّان الجنوبيّة، والويل والثّبور وعظائم الأمور سيكون مصير من يمتلكون مالا أو أثاثا فاخرا، ولم يتخلّصوا منه قبل اليوم الموعود، والذي يريد النّجاة بنفسه وعياله ما عليه سوى أن يتبرّع بأمواله في صندوق وضعه لهم في المسجد، الذي يؤمّ النّاس للصّلاة فيه، وأن يضعوا أثاثهم الفاخر في مكان حدّده لهم، ولمّا مرّ الشّهر المحدّد ولم تقم القيامة! وفقد من استهبلهم أملاكهم، تبيّن أنّ “الشّيخ” قد بنى إسكانا بمالهم في المنطقة التي قال أنّ الطوفان لن يصلها، وفرشه بأثاثهم، وتركهم نهبا للفقر والحاجة التي أوصلت البعض إلى درجة المجاعة؛ لأنّه فقد كلّ شيء، وقد برّأ القضاء الشّيخ من التّهم الموجّهة إليه، لعدم ثبوت الأدلّة؛ لأنه لم يستلم منهم مالا بطريقة مباشرة، وأنّ الذي يطالبون به مجرّد “تبرّعات” قدّموها لصندوق المسجد، أو أثاث ألقوا به في العراء! وقد وصل الهبل مداه عند أحدهم عندما هدّد بطلاق زوجته التي رفضت تسليمه مصاغها الذّهبيّ والأوراق النّقديّة التي يملكها، بناء على نصيحة من أخيها الحاذق الذي حذّر من ألاعيب الشّيخ! لكنّها أصبحت ذات حظوة عند زوجها بعد انكشاف الخديعة.
والسّؤال الذي يطرح نفسه هو: هل كان باستطاعة ذلك المحتال أن يستهبل ضحاياه، لو لم يتدثّر بعباءة الدّين؟ ولا يفهمنّ أحد أنّ الدّين يدعو إلى هكذا جرائم، بل العكس هو الصّحيح، فالدين يحارب هكذا أمور، والويل والثّبور وعظائم الأمور في انتظار مرتكبيها.
واستهبال النّاس باسم الدّين ليس حكرا على المسلمين وحدهم، بل هو عند أتباع الدّيانات الأخرى أيضا، فهناك من يزعمون أنّ تماثيل حجريّة ومعدنيّة للعذراء تدمع زيتا! وفي تسعينات القرن العشرين أيضا ظهرت إشاعات تفيد بأنّ النّاس يرون العذراء على جدار بئر خَرِب في بيت ساحور قرب بيت لحم، وتوافد الآلاف من المسيحيّين والمسلمين لرؤية “المعجزة”إ وأغلقت السّيّارات التي تقلّهم شوارع المدينة، وشوارع في المناطق المجاورة، واستمرّ الوضع أسابيع إلى أن نزل شابّ في البئر، فوجد أحدهم قد حفر رسما لرجل وامرأة متحابّين وبدون رؤوس على جدار البئر الكلسيّ الذي تساقطت القصارة عنه.
وفي الدّيانة اليهوديّة أيضا هناك حاخامات زعموا أنّ المسيح المنتظر قادم “لإقامة مملكة يهودا”! وحدّدوا تواريخ لذلك، وجمعوا تبرّعات ماليّة، والتفّ حولهم أتباع، وأخذوا طابع القداسة، فانتشرت صورهم على لوحات الإعلانات وغيرها، وعاشوا وماتوا وأتباعهم يقدّسونهم. وقد ألقت الشّرطة الاسرائيليّة القبض على أكثر من حاخام ممّن يتلفّعون بعباءة الدّين، وصدرت بحقّهم أحكام بتهمة استغلال أطفال جنسيّا!
وبهذا فإنّ الجهل في أمور الدّين والدّنيا يقود بعض “المحتالين” إلى التّظاهر بالورع والتّقوى، فيستهبلون البعض لمآرب تصل حدّ الجريمة، وليس عجيبا أن ينقاد الضّحايا إلى حتفهم ظنّا منهم أنّهم يعبدون الله.
أمّا المحتالون والنّصابون المتدثّرون بعباءة الدّين، فهم كثيرون ومن مختلف الشّعوب والدّيانات، فيستهبلون ضحاياهم ويستغلّونهم، ويسلبونهم أموالهم القليلة، ويجدون من يسوّقهم حتى في وسائل إعلام رسميّة، فقبل انتشار فضائيّات الهبل والشّعوذة في بلاد العربان، وأثناء دراستي في جامعة بيروت العربيّة في النّصف الأوّل من سبعينات القرن العشرين، كان التّلفزيون اللبنانيّ ينشر إعلانا للحجز عند “البصّارة أمّ محمد” التي تعرف الطالع ويرتاد “عيادتها” رجال السّياسة! ومساء 18-1-2019 شاهدت على إحدى فضائيّات الهبل العربيّة “الدّكتور …” يصف علاجا لامرأة اتصلت به تشكو من مرض الانزلاق الغضروفي “الدّيسك” فوصف لها أن تقرأ على اثني عشر لتر ماء ثلاث سور قرآنيّة، وتشرب منها كأسا ثلاث مرّات يوميّا، أمّا سداد الدّين فيتوجّب على زوجها قراءة ثلاث سور قرآنيّة ذكرها لها، مرّة واحدة لمدّة خمسة عشر يوما، وانتهت المكالمة بدعواتها “للدّكتور” لمساعدته المجّانيّة للمرضى والمحتاجين، دون أن تدري أنّها ستدفع لشركة الاتّصالات التي تتقاسمها مع “الدّكتور” أضعاف أجرة أيّ طبيب مختصّ.
وعلى إحدى الفضائيّات أجاب”عالم” على سؤال لامرأة: “هل يجوز للمرء أن يتوضّأ عاريا في الحمّام؟” فأجاب بلغة الواثق: “يستحسن أن يغطّي الانسان عورته في هكذا أمور، لأنّ الجنّ يتواجد عادة في هكذا أماكن، وممكن أن يدخل جسم الانسان من عورته!” بينما أجاب شيخ أكثر وعيا واقناعا في مرحلة سابقة على سؤال آخر لأمرأة سألته عن إمكانيّة صلاتها حاسرة الرأس وهي وحيدة في بيتها؟ فقال: “ما دمنا نستحي من العباد فالله سبحانه وتعالى أولى أن نستحي منه.”
وأجاب شيخ عاقل على فضائيّة أخرى:”الجنّ كائنات ضعيفة لهم عالمهم الخاصّ ولا علاقة لهم بالانسان.”
و”مشايخ” المتأسلمين الجدد الذين يوزّعون مفاتيح الجنّة على من يستهبلونهم ويدفعونهم للانتحار وتدمير سوريّا وقتل شعبها، ويوزّع قائد القتلة “فيديوهات” يقول فيها قائدهم ضاحكا للمنتحر الذي يحمل حزاما ناسفا:
“الله معك فالحوريّات في انتظارك”!
ولا يعلم ذلك الأهبل أنّ قائده ينفّذ أجندات معادية تستهدف وطنه وشعبه وأمّته. ولم يتساءل أحد من الذين يقتدون بهكذا “مشايخ” أنّ أحدا منهم لم يشارك أو دفع ابنه للمشاركة في هكذا جرائم كي يفوز بالجنّة.
وقد سبقت الكنيسةُ المتأسلمين الجدد في هذا المجال، ففي أوروبا كانت توزّع صكوك الغفران على أتباعها من العامّة في القرون الوسطى، وجنّدوهم للحرب مع ملوك الفرنجة الطامعين في كنوز الشّرق تحت شعار الصّليب، فيما سمّاه المؤرّخون العرب والمسلمون “حروب الفرنجة” وسمّاه المؤرّخون الأوروبّيّون “الحروب الصّليبيّة”.
وقد شاهدت أواخر العام 2016 في شيكاغو أمريكيّين يشتري الواحد منهم حمامة من مزرعة دواجن يملكها أخي راتب، فيكسر رقبة الحمامة ويضعها في كيس بلاستيكيّ، ويذهب بها إلى مشعوذة؛ لترى طالعه وتحلّ له المشاكل التي يعانيها! والمشعوذون في تلك البلاد يفتحون”عيادات” مرخّصة، ويضعون لافتات عليها، ويدفعون ضرائب.
كما شاهدت يهودا اسرائيليّين يرتادون إحدى القرى العربيّة ويدفعون مئات وآلاف الشّواقل لأحد الدّجّالين؛ كي يعرف لهم طالعهم ويحميهم “ببركاته” العجيبة.
فهل يعود البشر لفهم دينهم الذي يحرّم هذه الخزعبلات، أم أنّ الجهل سيبقى معشّشًا في رؤوس البعض؟
ثقافة تنمية الجهل وتسويقه
ومن الأمور اللافتة في مجتمعاتنا من يسمّون أنفسهم “أصحاب الدّعوة”! ومهمّة هؤلاء-حسب زعمهم – نشر الدّعوة الاسلاميّة، ويلاحظ أنّهم في غالبيّتهم جهلاء في أمور دينهم ودنياهم، ومؤهّلاتهم هي:”اطلاق اللحى وارتداء “الدّشاديش””، وهم يقسّمون عامهم بين المساجد، فينامون في كلّ مسجد ما بين ثلاثة أيّام وأسبوع، ومن اللافت أنّهم يطرقون بيوت النّاس دون استئذان أو ترتيب موعد مسبق مع ربّ البيت، ويدعون النّاس للتّواجد في المسجد حيث يتواجدون؛ لحضور “حلقات الذّكر”، ولمّا سألت مجموعة منهم:
لماذا تدعون المسلمين للإسلام؟ هل تعتقدون أنّ المسلمين الآخرين كفّار باستثنائكم؟
فأجاب أحدهم: لا معاذ الله، ولكن لتذكير النّاس بدينهم!
والعجيب في أمر هؤلاء “الدّعاة” أنّهم يعتبرون أنفسهم “علماء”! مع أنّهم في غالبيّتهم جهلاء، وانتسابهم للعلم والعلماء يحمل في طيّاته أنّ غيرهم “جهلاء”!
ذات يوم من أيّام وسنين قليلة مضت، ألحّوا عليّ لحضور إحدى جلساتهم في أحد مساجد قريتي، فاستجبت لهم، وفي المسجد سألني أحدهم” والعصر إنّ الانسان لفي خسر” عُطفت العصر على ماذا؟
فقلت له الواو هنا واو القسم وليست واو العطف.
فعاد يسأل: من المقسِم؟
فأجبته: الله.
وعاد يقول: اتّق الله يا رجل، وهل يقسم الله بالعصر؟
فأجبته: نعم وأقسم بالضّحى والتّين والزّيتون وغيرها؟
وعاد يسأل: لماذا؟
فأجبته: لا يُسأل عمّا يفعل.
فعاد يدعوني إلى تقوى الله، فقلت له:
سأتّقي الله وأترك مجلسكم، وغادرت.
ومن المحزن أنّ الباب مفتوح عند هؤلاء الجماعات لمن يريد الانضمام إليهم، وإذا ما انضمّ يصبح “عالما” بطريقة “أوتوماتيكيّة”! والأدهى والأمرّ أنّهم يرسلون “دعاتهم” إلى دول وشعوب إسلاميّة أخرى، وبعضها لا يعرف العربيّة، فكيف سيدعو غير العالم بلغته العربيّة ودينه إلى الإسلام شعوبا لا تنطق العربيّة؟
الاستهبال والاستغلال الجنسي
ويستمرّ الجهل في استغلال ضحاياه، ويأتي النّصّابون والمحتالون لقطف”ثمار الجهل” فيستغلّون ضحاياهم بطرق شتّى، ولا يكتفون بالاستغلال الماليّ بل يتعدّونه إلى ما هو أبعد من ذلك بكثير، مثل نشر الفتنة بين الجهلاء، ليعودوا جميعهم إلى المشعوذين؛ ليخلّصوهم من العداوات التي استجدّت عليهم، وبما أنّ السّيادة للجهل، الذي يسيّر من يعشّش في رؤوسهم إلى المشعوذين في مشاكلهم المختلفة -مهما كانت صغيرة أو كبيرة- وهناك يظهر المشعوذ وكأنّه عليم بالغيب! فيعطي “علاجا” لكلّ حالة تأتيه، حسب الزّبون الذي يرتاده، وغالبا ما يقول لضحاياه أنّ المريض يعاني من عَمَلٍ عُمِلَ له، ويقصد هنا السّحر، وهذا العمل يجعل “جنّيّا” كافرا يتلبّس المريض، وهذا يحتاج إلى “مندل” وبخّور وقراءات ومزيد من جلسات “العلاج” ومن المال، كي يأتي المشعوذ بأتباعه من “الجنّ” المؤمنين، لطرد الجنّيّ الكافر من جسد المريض. ولا يتوقّف الأمر عند هذه الحدود، بل يتعدّاها إلى ما هو أبعد من ذلك بكثير، منها “الفتنة” التي تتشابك مع أناس آخرين، فتثير اتّهامات وعداوات لا آخر لها، كأن يقول المشعوذ المحتال:” أنّ هذا المريض” معمول له عمل شيطانيّ مثلا من امرأة وجهها مستدير، متوسّطة القامة، تكرهكم وتحسدكم، وتتظاهر بأنّها محبّة وصديقة لكم” أو غيرها من الأوصاف التي تنطبق على كثيرين من البشر، ويبدأ أهل المريض بالتّخمين حول من تكون هذه المرأة، ثمّ لا يلبثون أن يستقرّوا على واحدة قد تكون من أقرب الأقربين لهم، فيعادونها ويسيئون لها دون ذنب اقترفته.
لكن الأسوأ هو استغلال المشعوذين من يرتدن أماكنهم طلبا لحل المشاكل جنسيّا، فيوهمون “الزّبونة” بأنّ الجنّيّ الكافر الذي يتلبّسها لا يخرج إلا بالممارسة الجنسيّة من رجل مبارك كالمشعوذ نفسه! فترضخ له راضية مرضيّة! وقد يكون مرافقها أو مرافقتها ينتظر في غرفة الانتظار، كشاهد الزّور، دون أن يدري ما يجري بجواره، وهناك نساء يرتدن هؤلاء المحتالين طلبا للحمل، أو لتأخّر زواجهنّ، وهذا يتطلّب الانكشاف أمام رجل ليخرج “الجنّيّ الكافر” الذي “يتلبّس” هكذا نسوة! ومنهن نساء متديّنات ومحجّبات، وبعضهنّ من أتباع ديانات أخرى! فيقبلن ذلك طائعات! بعد استغفالهنّ لما ينعمن به من هبل وجهل.
وثقافتنا الشّعبيّة تشجّع على الاستغفال “الغريق يتشبّث بحبال الهوا”، فالتي يتأخّر حملها لسبب ما، قد يكون منها أو من زوجها، وراجعت طبيبا ولم تحمل بالعلاج، أو لم تواصل العلاج حتّى النّهاية، قد تحمل بعد “مراجعة المشعوذ!” لتبدأ الدّعاية للمشعوذ وقدراته العجيبة دون أن يفكّر أو يتساءل أحد عن كيفيّة حملها!
الاستهبال وتعطيل العقل
يسهل على المرء أن يرى بعض “المتأسلمين الجدد” وقد ارتدوا الثّياب “الدّشاديش” وانتعلوا الأحذية البيتيّة “الشّباشب”، في أجواء باردة جدّا، ويطلقون لحاهم كيفما تيسّر، وعندما تسألهم عن لباسهم هذا، وعدم ارتداء “البناطيل” وانتعال الأحذية طلبا للدّفء، يجيبونك بخشوع بأنّهم يقتدون بخاتم الأنبياء عليه الصّلاة والسّلام، ويقرأون أمامك عددا من الآيات القرآنيّة الكريمة منها:” لقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا.” وإذا ما قلت لهم أنّ التّأسّي والاقتداء بالرّسول يكون من خلال:” الاستقامة والسموَّ والإباء، والحقّ والقوة، والورع والعدالة، والعقل والحكمة، والخلق الحسن والتواضع، والزهد والإيثار، والشجاعة والبلاغة والبيان، والصبر والإحسان..إلخ من القيم والأفعال الحميدة” وليس بالملابس، وأنّ ملابس وأحذية هذا العصر لو كانت موجودة في عصر الرّسول والصّحابة لارتدوها؛ وأنّ البنطال نوع مطوّر عن السّراويل التي كان العرب يرتدونها للفروسيّة، وارتداء البنطال وانتعال الأحذية لا مخالفة شرعيّة فيها؛ بدلالة أنّ كبار “العلماء” يرتدونه وينتعلونها، فإنّ المهذّبين منهم يدعون الله لهدايتك، وكأنّك ضالّ عن الطريق المستقيم، أمّا البعض الآخر منهم فقد تسمع منهم كلاما جارحا وغير لائق! أليسَ في هكذا تصرّفات تعطيل للعقل، وإلحاق الأذى بالنّفس والجسد من خلال الفهم الخاطئ لمعنى القدوة والاقتداء؟ كما أنّ فيه عدم استيعاب لمواكبة تطوّر الحياة؟ وأنّ هكذا فهم خاطئ للقدوة ينفّر الأجيال المعاصرة من الدّين والتّديّن؟
وهل تحتاج هكذا أمور إلى تفكير كبير وعميق حتّى يدركها البشر؟ ألا يوجد عاقل من “شيوخهم” يرشدهم لحماية أنفسهم من البرد الشّديد؟
ومواكبة العصر تعني أيضا الارتقاء وتطوير الخطاب الدّيني بما يواكب العصر المعاش، أعرف رجلا مغتربا في أمريكا من قرية قرب رام الله في فلسطين، كان يعود بأبنائه صيفا إلى قريته؛ كي يحسّنوا لغتهم العربيّة ويتعلّموا مبادئ دينهم، وعادات شعبهم وأمّتهم، وذات يوم جمعة كنت في ضيافته، فطلب من أبنائه مرافقتنا لصلاة الجمعة، فرفض ابنه البكر، -وكان في الخامسة عشرة من عمره- طلب أبيه قائلا: ما سيقوله الشّيخ في خطبة الجمعة حفظته جيّدا، فهو يكرّره كلّ عام، فلماذا لا يحدّثنا عن حياتنا الرّاهنة ويبيّن لنا موقف الدّين منها كما يفعل الكاهن في أمريكا؟ وفي النّهاية رافقنا الفتى دون أن يقتنع بأيّ مبرّر لموقف إمام المسجد ومضمون خطبه الدّينيّة، فهل من يرفضون عَيْش حاضرهم وواقعهم يصلحون للدّعوة إلى الدّين، ويستطيعون غرسه في أذهان النّاشئة؟
الاستهبال الدّينيّ والحروب
يبدو واضحا أنّ الطّغاة يتستّرون خلف الدّين فيبطشون ويقتلون ويدمّرون، ويخدعون الشّعوب التي تصدّقهم ظنّا منها أنّها ستفوز بالآخرة.
فالرّئيس الأمريكيّ الأسبق جورج دبليو بوش احتلّ أفغانستان عام 2001 والعراق عام 2003ودمّرهما، وقتل وشرّد الملايين فيهما، وهو يصرّح دون أن يرفّ له جفن بأنّه يتلقّى تعليماته من الرّبّ يوميّا! وإذا ما استطاع خداع شعبه بهذا الإيمان الزّائف، فإنّ المحزن أنّ “كنوزه الاستراتيجيّة في منطقتنا” لم يكتفوا بالمشاركة معه، بل قاموا بتمويل هذه الحرب الكارثيّة التي لا تزال تستبيح دماء الشّعب العراقيّ، وتدمّر هذا البلد العظيم، كما تبرّع أصحاب العمائم واللحى بإصدار الفتاوي والتّحريض لمواصلة القتل والتّدمير حتّى يومنا هذا، برغم اعتراف الأمريكيّين بأنّ حربهم على العراق بنيت على أكاذيب، واعتبرها بعضهم خطأ كبيرا. أمّا أصحاب العمائم السّوداء فقد وجدوها ولا يزالون فرصتهم للثّأر من وطنهم وشعبهم لحرب نظام الرّئيس صدّام حسين مع إيران “أيلول-سبتمبر- 1980- أب –أغسطس- 1988″، فتركوا العراق نهبا لإيران، ويطلقون مليشياتهم تنهب وتدمّر وتقتل وهم يهتفون: “لبّيك يا حسين”! وكأنّ آل البيت لهم وحدهم دون غيرهم من المسلمين، وتوّلت أمور العراق بعد ذلك حكومات من الطّائفيّين والسّرّاق، فنهبوا ثروات البلاد، وزادوا عذابات شعبهم عذابات أخرى لا يبشّر المستقبل المنظور بنهاية قريبة لها.
والوضع لا يختلف كثيرا في سوريا، ليبيا، اليمن، سيناء المصريّة. “فمشايخ السّلاطين” فتاويهم جاهزة لإباحة القتل والتّدمير، وتتوقّف بعيدا عن حدود الأعداء الحقيقيّين للأمّة، بينما “مشايخ المتأسلمين الجدد” يواصلون الفتاوي بتحليل “جهاد النّكاح” و”الجهاد” لتدمير بلدانهم، وقتل شعوبهم، واستنزاف جيوش وتحطيم اقتصاد بلدانهم، ويبدو أنّها لن تتوقّف قبل تنفيذ مشروع “الشّرق الأوسط الجديد” الأمريكيّ، والذي يهدف إلى إعادة تقسيم المنطقة إلى دويلات طائفيّة متناحرة.
ولاستمرار الجريمة فإنّ تغذية الطّائفيّة بين سنّيّ وشيعيّ، والتّحريض على أبناء شعوبهم من غير المسلمين تتصاعد يوميّا، ويغذّي هذه الجرائم فتاوي وتحريض من “مشايخ” لا يخافون الله في استهبال واضح لعقليّة الرّعاع، واستغلال محكم للجهل السّائد في أمور الدّين والدّنيا، وتتعالى الجرائم بالتّحريض على غير المسلمين في بلدانهم، ومنهم مسيحيّو الأقطار العربيّة، وهم مواطنون أصيلون لهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم.
ومن جانب آخر فإنّ قادة الحركة الصّهيونيّة أوّل ما فكّروا “بجمع شتات وإقامة وطن قومي لليهود” رشّحوا أوغندة في افريقيا، والأرجنتين في أمريكا الجنوبيّة، فخافوا أن لا يستجيب اليهود لدعواتهم، فرفعوا شعارا توراتيّا دينيّا “العودة إلى أرض الميعاد” ونجحوا في دعوتهم بدعم من قوى الامبرياليّة العالميّة؛ لتقوم اسرائيل بقوّة السّلاح كقاعدة عسكريّة متقدّمة في منطقة الشّرق الأوسط؛ لحماية مصالح الدّول الدّاعمة، على حساب الشّعب الفلسطينيّ بشكل خاصّ، وشعوب المنطقة بشكل عامّ.
وبعد حرب حزيران عام 1967، واصلت الحكومات الاسرائيليّة المتعاقبة الاستيطان في الأراضي المحتلّة، لتصل ذروتها في عهد حكومة بنيامين نتنياهو، التي تفضّل الاستيطان والتّوسّع على السّلام العادل، ومن منطلقات دينيّة تحت شعار “أرض اسرائيل الكاملة” تطلق على المستوطنات أسماء توراتيّة، مستهبلة شعبها وشعوب المنطقة، ومستهبلة الرّأي العام العالميّ بدعاية مضلّلة، تساندها في ذلك المسيحيّة المتصهينة في أمريكا وأوروبا، وليس بعيدا ذلك اليوم الذي سيجري فيه تقسيم المسجد الأقصى، كما جرى للمسجد الابراهيمي في الخليل، إن لم يهدم كاملا، ومن منطلقات دينيّة يهوديّة لبناء الهيكل اليهوديّ على أنقاضه، وسيجد العرب والمسلمون من يفتي لهم بأنّ ما جرى قضاء وقدر الله! وهذا قمّة استهبال الشّعوب.
واستهبال الشّعوب دينيّا، واستغلال جهلهم بدينهم ودنياهم معروف تاريخيّا، وقد حذّر منه المفكّر الاسلامي ابن خلدون (1332 – 1406م) في “المقدّمة”، ولعلّ في إعادة قراءة حملة “الشّيخ” نابليون على مصر، وهولاكو على بغداد ما يفيد بهذا الخصوص لمن يتّعظون من التّاريخ.

استهبال الحكام للشّعوب والغطاء الدّينيّ
يقول المتنبي:
لكلّ داء دواء يُستطبّ به… إلا الحماقة أعيت من يداويها
وعلى رأي الشّاعر التّونسيّ الحبيب الأسود: “والحماقة لها أخوات وبنات عمّات وخالات كالجهالة والسّذاجة والبلاهة والغباوة والسّماجة والتّفاهة والحقارة والسّفاهة، ولها إخوة وأقارب وأبناء عمومة …وهي بنت الضّلالة، ويقال إنّ والدها الجهل”
وما يهمنّا هنا هو ليس من ولدوا مصابين بالهبل، فهؤلاء لهم المحبّة والرّعاية وكان الله في عونهم، وعون ذويهم، لكنّ المصيبة في الذين ولدوا أصحّاء سليمين معافين، وارتضوا الجهل، أو فرض عليهم لأسباب لا إرادة لهم فيها كالفقر والتّخلف الاجتماعي، وعدم رعاية دولهم لهم، ووجدوا من يضلّهم ويسيّرهم حسبما يهوى ويريد، ومع الأسف فإنّ الهبل والاستهبال منتشر في وطننا العربيّ بشكل واسع، والأدهى والأمرّ أنّ البعض يتغنّى به وكأنّه نعمة يحسد عليها، ويتمّ استغفال هذه الفئات الواسعة باقناعها أنّهم “خير أمّة أخرجت للنّاس”، فينطبق عليهم قول المتنبي:
ذو العقل يشقى في النّعيم بعقله…وأخو الجهالة في الشّقاوة ينعم
ويستغلّ الحكّام الطّغاة “نعيم الجهل” هذا، بالبطش فيمن يتمرّد على ذلك الواقع المؤلم والمحزن، ويجدون من يطبّل لهم من فئات المثقّفين الذين يتغنّون في وسائل الاعلام، بالإنجازات “العظيمة” و”الانتصارات” التي تحقّقت في عهد الحاكم الطّاغية! ويأتي دور “علماء السّلاطين” ليعطوا للطّغيان والفساد غطاء دينيّا، فوجدنا جماعات دينيّة، تفتي وتؤمن بأنّ “الخروج على الحاكم الظّالم حرام!” ومن يشاهد محطّات التّلفزة، ويقرأ صحفا عربيّة، سيجد أنّ حاكم ذلك البلد هو ظلّ الله في أرضه! حتّى أنّ البعض يحمل لقب”أمير المؤمنين” في وسائل الإعلام، وهذا اللقب يحمل في طيّاته “تكفير” من ينتقد ذلك الحاكم، وما يترتّب على ذلك من عقوبات قد تصل حدّ القتل؛ لأنّه “خارج عن الأمّة مفارق للجماعة”ّ! أو ما يسمّى في المصطلحات الحديثة متّهم “بالخيانة العظمى”!، أمّا فقراء الشّعب فهذا قضاء الله وقدره لهم، ورزقهم مكتوب لهم وهم أجنّة في بطون أمّهاتهم، وما عليهم إلا الصّبر والصّلاة حتّى يفوزوا بالجنّة والحور العين!
ومن هذه المنطلقات في استهبال الشّعوب، فإنّ بعض الطّغاة ينهبون أموال بلدانهم وشعوبهم، ويعتبرونها حقّا “شرعيّا” لهم، يورّثونه لأبنائهم من بعدهم، وفي إحدى المقابلات على فضائيّة عربيّة، قال وزير الماليّة في ذلك البلد الثّريّ بأنّه لا يعرف مقدار مداخيل بلاده، لأنّ ذلك من اختصاص “وليّ الأمر”! ولهذا لا غرابة أن نجد العديد من الحكّام وحاشياتهم من مليارديرات العالم.
ومن منطلقات هذا الاستهبال فإنّ الهزائم واحتلال الأوطان يعتبر نصرا مبينا، لأنّ الأعداء لم يستطيعوا إسقاط النّظام الحاكم! وكأنّ النظام الحاكم باق إلى ما لا نهاية، في حين أنّ الوطن زائل! وهذا من عجائب ثقافتنا في تقديس الحاكم، وعدم فهمنا لمفهوم الوطن! وهذا الفهم ليس حكرا على عامّة الشّعب، بل تشارك فيه أحزاب وتنظيمات تعتبر نفسها طلائعيّة.
وبلغ استهبال الشّعوب العربيّة ذروته عندما قال الشّيخ محمد متولي شعراوي لأتباعه وسط التّكبير والتّهليل بأنّه: “صلى لله ركعتي شكر لله لهزيمة الجيوش العربيّة في حرب حزيران 1967! مع أنّه اعتذر عن ذلك لاحقا عندما استلم وزارة الأوقاف المصريّة في عهد السّادات عام 1977، واعتبر اتفاقات “كامب ديفيد”شبيهة بصلح الحديبية! وذلك في إجابته على سؤال لصحفيّ حول تعيينه وزيرا في دولة صلّى ركعتي شكر لله على هزيمة جيشها.

الاستهبال تحت غطاء دينيّ
نظرا لجهل كثيرين بأمور دينهم ودنياهم، فإنّ سوق الخرافة والدّجل والنّصب والاحتيال يلقى رواجا بين العامّة، فيستغلّ البعض تلك الأمور متدثّرين بعباءة الدّين، مستغلّين الإيمان الفطريّ للنّاس، والغريب أنّهم يجدون أتباعا يدافعون عنهم، ويسلّمونهم لحاهم وما يملكون، ولعلّ شركة استثمار “اسلامية”! في مصر خير مثال على ذلك، عندما طرحت استثمار أموال المسلمين –حسب الشّريعة- فنهبوا مليارات الجنيهات وهربوا بها خارج البلاد، ورغم أنّ القائمين على الشّركة مطلوبون للقضاء إلا أنّ بعض ضحاياهم لا يزالون يدافعون عمّن أطلقوا لحاهم، وحملوا المسابح وارتادوا المساجد متظاهرين بالتّقوى.
ومن “المعجزات” التي تروى عن أحد المشايخ الذي كان يعتبر زاهدا تقيّا ورعا و”صاحب طريقة دينيّة”! واقتدى به عشرات الآلاف أن هذا “التّقيّ الورع” ادّعى في أربعينات القرن العشرين بعلم الغيب وبمعجزات لم يحظ بها الأنبياء! منها زعمه أنّ رجلا اغتابه سوءا في كابول عاصمة أفغانستان، فقذف حذاءه على الرّجل من مدينة الخليل في فلسطين، وبقي الحذاء طائرا حتى اصطدم بوجه الرّجل في العاصمة الأفغانية كابول، وعاد إلى قدم صاحبه، فهلّل مريدوه وكبّروا لقدرات الرّجل الخارقة!
ومن الأمثلة التي يجري استهبال واستغفال النّاس بها ما حصل قبل سنوات قليلة من منحرف لصّ، يطلق ذقنه في الأربعينات من عمره، متزوّج وعنده أبناء تركهم عالة على اخوانه، وكان مع اثنين من أقرانه اللصوص في إحدى قرى نابلس للسّرقة، فقصدوا بيتا عند ساعات العصر، طلبا للغداء بعد أن أنهكهم الجوع، ولمّا اقتربوا من البيت نادت ربّة البيت على ابنتها، التي كانت تملأ وعاء ماء من البئر المجاور، والبنت طفلة حسناء في الرّابعة عشرة من عمرها، فرآها اللص المحتال، واستحسن جمالها وحفظ اسمها، ولمّا دخلوا البيت كان ربّ البيت يصلّي، فاستقبلهم وأحسن ضيافتهم، فاستند المحتال على الحائط وتظاهر بالنّوم، وعندما حضر الطّعام، هزّ صاحب البيت كتف المحتال؛ ليوقظه كي يتناول الطّعام معهم، فجفل الرّجل وأخذ يهلّل ويكبّر، ويسبّح بحمد الله، فسألوه عمّا به، فقال:
أثناء غفوتي هذه، جاءني رسول الله صلى الله عليه وسلّم وقال لي:
“في بيت هذا الرّجل الطّيب فتاة اسمها (…) وهي مكتوبة كزوجة لك في اللوح المحفوظ”. فهلّل صاحباه وكبّرا، وهما يثنيان على تقواه وكراماته التي لا تنتهي! فقال له والد البنت، ما دامت الكرامة قد أتتك في بيتي، فالبنت لك بقراءة الفاتحة، وسنزوّجك إيّاها بعد أسبوعين بعد أن ننتهي من موسم قطف الزّيتون، وفي اليوم التّالي أخبر والد الفتاة أخاه بالذي جرى، فأخذ الأخ اسم المحتال وذهب إلى بلدته ليسأل عنه، وبالصّدفة التقى بشقيق المحتال، وهو رجل طيّب مستقيم، فأخبره بحقيقة شقيقه، وقام بشتم وتوبيخ أخيه الذي كان متواجدا أمام عمّ الفتاة، ممّا حال دون الزّواج.
الاستهبال في فهم الحياة
قبل ربع قرن وكنت في الثّانية والأربعين من عمري، مرّ بي أحد أبناء قريتي، رجل ذو لحية طويلة كثّة يرتدي ثوبا “دشداشا” محدودب الكتفين، يغطي رأسه بكوفيّة وعقال، وفي يده مسبحة 99 خرزة، صافحني بلهجة واهنة كرجل زاد عمره على المئة عام، فهدّته السّنون، انتبه الرّجل أنّني لم أعرفه، فقال لي عاتبا:
يبدو أنّك لم تعرفني… أنا فلان.
تذكّرت الرّجل فهو يصغرني بأربع سنوات، أي كان عمره يومئذ 38 عاما. فسألته عن عمله؟ فأجاب:
” الله يخليلك أولادك، أولادي بشتغلوا، وبصرفوا عالبيت، وحنا بألف نعمة، والحمد لله أنا مرتاح من الدّار للمسجد، ومن المسجد للبيت”.
فسألته:هل أفهم أنّك متقاعد وأنت في هذا العمر؟ هل تعاني من أمراض تقعدك؟ ولماذا كتفاك محدودبان؟
فأجاب: أنا والحمد لله بألف خير، صحّتي جيّدة، وأنا متفرّغ للعبادة.
فسألته مرّة أخرى: هل أفهم من كلامك أنّك زهدت بالدّنيا وتنتظر عزرائيل ليخطف روحك؟
فأجاب: الدّنيا غير مأسوف عليها. ودعا الرّجل لي بالهداية، وكأنّني إنسان ضالّ!
هذا الرّجل-ومثله كثيرون- لفت انتباهي، فأشفقت عليه، وعلى فهمه الخاطئ للحياة، وعدت إلى نصوص دينيّة، لأرى موقف الدّين من الحياة الدّنيا والحياة الآخرة، يقول تعالى:
“هو الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ”أي أنّ الله خلق لكم الأرض لتسعوا فيها طلبا للرزّق، من زراعة وتجارة وصناعة وغيرها من أبواب الرّزق.
ويقول الحديث النبويّ الشّريف:” إِن قَامَت السَّاعَةُ وَفي ِيَدِ أَحَدِكُم فَسِيلَةٌ، فَإِن استَطَاعَ أَنْ لَا يَقُومَ حَتَّى يَغرِسَهَا؛ فَليَغرِسها”، وفي هذا دعوة وحثّ على العمل والانتاج حتّى آخر لحظة في حياة الانسان. ومما جاء في الحديث:” جاء نفر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا:إن فلانا يصوم النّهار ويقوم الليل .فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:أيّكم يكفيه طعامه وشرابه؟ قالوا كلّنا، قال كلّكم خير منه”، وفي قول آخر لعبدالله بن عمرو بن العاص وبعض الرّواة يعتبره حديثًا نبويّا جاء فيه:” “اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا”، أي هناك توفيق بين عمل الدّنيا والآخرة. ووردت أحاديث كثيرة بهذا الخصوص منها:”
“كَانَ دَاوُدُ عليهِ السَّلامُ لا يَأْكُل إِلاَّ مِن عَملِ يَدِهِ” وحديث “كَانَ زَكَرِيَا عليه السَّلامُ نجَارا” وحديث “مَا أَكَلَ أَحَدٌ طَعَاما خَيْرا مِن أَنَ يَأْكُلَ مِن عمَلِ يَدِهِ”.
فما بال بعض “المسلمين” يبيعون الدّنيا، ولا يفهمون معنى الحياة؟ مع أنّ الدّين لا يدعو لذلك، طبعا والفهم الخاطئ للدّين هو واحد من أسباب عزوف البعض جهلا عن الحياة، ويساهم في ذلك أئمّة المساجد الذين في غالبيّتهم لا يتحدّثون في مواعظهم وخطبهم إلا عن النّار والعذاب، وكأنّ النّار خلقت لتعذيب المسلمين، وأن لا ثواب للمحسنين منهم.

الهبل في علاج المرضى
علينا أن نعترف بأنّ الجهل المستفحل بين أبناء أمّتنا هو سبب معاناتنا على مختلف الأصعدة، وتتصاعد النتائج الكارثيّة للجهل لتصل إلى الاحتراب الدّاخليّ، وقتل مئات الآلاف، وتدمير الأوطان، بل وتصل إلى درجات تضييع الأوطان، وخدمة الأعداء لترسيخ هذا الضّياع، وعلينا الاعتراف بأنّنا ورثة عادات وتقاليد هي وليد شرعيّ للجهل، وجزء من عاداتنا تتناقض والدّين الذي نؤمن به، وجهلنا يدخلنا في حلقات مفرغة من المصائب لا نهاية لها، فما أن يخرج المرء من حلقة حتّى يدخل في أكثر من حلقة أكثر صعوبة من الأولى، وإذا لم ترعَ الحكومات تطوير التّعليم في مراحله المختلفة، وتضمنه كحقّ لمواطنيها، فإنّ هزائمنا ومصائبنا ستتواصل إلى ما لا نهاية، وستهدّد وجودنا على هذه الأرض.
وسأطرح هنا قضيّة المرض، وما يصاحب التّعامل معه عند كثيرين من هبل واستهبال: يقول الرسول عليه الصلاة والسلام: “لكل داءٍ دواءٌ، فإذا أُصِيبَ دواءُ الدّاء، بَرَأَ بإذن الله عزَّ وجلّ”
وهذا الحديث يؤكّد على وجود الدّواء، وأنّ المريض سيشفى إذا ما أعطي الدّواء المناسب لدائه، وفي هذا الحديث أيضا دعوة إلى العلم والبحث عن أسباب الأمراض وتشخيصها وتقديم الدّواء المناسب لها. أمّا الاعتماد على عادات الجهل والتّخلف من شعوذة وغيرها في التّعامل مع المرضى، فهذه هي الكارثة بعينها. ولعلّ المصابين بالأمراض النّفسيّة أو العصبيّة أو العقليّة هم الأسوأ حظّا في مجتمعات التّخلف، حيث يتمّ علاجهم بالشّعوذة والاعتقاد بأنّ “الجنّ يتلبّسهم”، وعلاج ذلك بالضّرب المبرح الذي قد يودي بحياة المريض، وما ينتج عن ذلك من تبرئة للقاتل، وردّ الأسباب -في فهم خاطئ- إلى “القضاء والقدر”. وإذا ما قُدّر للمريض أن يبقى على قيد الحياة فإنّ مرضه سيزداد بالضّرب. مع التّأكيد على التّقدم العلمي في مجال الطّبّ، ولا بديل عن الطّبّ لعلاج الأمراض كافّة.
ومن الحالات التي شاهدتها هي أحد الزّملاء الذي كان –رحمه الله- من المواظبين على حضور ندوة اليوم السّابع الثّقافيّة المقدسيّة، انتقل إلى رحمة الله تعالى عام 2016، ولصديقنا هذا قصّة حقيقيّة مؤثّرة، فهو من مواليد العام 1958، سقط وهو في الخامسة من عمره عن ظهر حمار، فتهشّم ساعد يده اليمنى، وأصيب بجراح وخدوش، في حين انتفخ ساعد يده اليسرى وصاحبته آلام حادّة. أحضر له ذووه “معالجا شعبيّا” كان يقوم بتجبير الأغنام التي تكسر إحدى قوائمها، فقام بفحص الطّفل، وقرّر أنّ يده اليمنى مكسورة وبحاجة إلى تجبير شعبيّ، وقام بتجبيره والطّفل يصرخ ألما، بعد ذلك ازدادت آلامه وكان “القيح يخرج من تحت الجبيرة، وهم يردّدون “الشّرّ بطلع” إلى أن أصبح ساعده تحت الجبيرة أسودا، فاصطحبوه إلى المستشفى الفرنسيّ عند باب الزّقاق في بيت لحم، وبعد الفحص والأشعّة تبيّن أنّ اليد اليمنى لم تكن مكسورة، لكن الجراح تعفّنت تحت الجبيرة وأصيبت اليد “بالغرغرينا” فقطعها الأطبّاء حتى الكوع لحماية البقيّة، في حين كانت اليد اليسرى مكسورة وشفيت وحدها دون علاج.
ومن النّوادر على العلاج بالضّرب للأمراض النّفسيّة، ما ورد في حكاية شعبيّة تقول: “يروى أنّ أحد شيوخ القبائل كان ثريّا وكريما، ويملك مخازن كبيرة للحبوب، وأصيبت بلاده بالمحل وانحباس الأمطار، فأخذ يوزّع الحبوب على أبناء عشيرته؛ ليحميهم من جوع محقّق، ولمّا تكرّرت سنوات المحل، نفذت مخازنه من الحبوب، ولشدّة كرمه وتعاطفه مع الجوعى والمحتاجين، تمنّى لو أنّه يتحوّل إلى جبل من القمح، كي يغرف الجياع والمحتاجون حاجتهم منه، فأصيب بانفصام واعتقد أنّه تحوّل إلى جبل من قمح، فقام أتباعه وأوثقوا قيوده وبدأوا يعالجونه بالضّرب المبرح، فقال لهم:
لقد شفيت الآن ففكّوا قيدي، وتوقّفوا عن ضربي.
فسأله أحدهم: هل أنت مقتنع الآن بأنّك الشّيخ فلان، ولست قمحا؟
فأجاب: نعم أنا مقتنع، لكن من يقنع ذلك الدّيك بذلك كي لا يأتي ويبتلعني؟
ويبقى السّؤال هو: من يقنع من يحملون عقل ديك أنّ علاج الأمراض عند الأطبّاء والمستشفيات، وليس عند الجهلاء والمشعوذين.
مؤسّساتنا الثّقافيّة وكبار السّنّ
لم تعد مشاكل مؤسّساتنا الثقافية محصورة في قضيّة ذلك البعض الذي يتربّع على عرش مؤسّسات ثقافيّة كبيرة، مع أنّ علاقته بالثّقافة كعلاقة “مصلّح بابور الكاز” بالتّكنولوجيا كالحاسوب وغيره، مع أن مصلّح البابور –وهي مهنة شريفة- لم يدّع يوما أنه يستطيع اصلاح عطب جهاز الحاسوب”الكمبيوتر”، وبالتّالي فإنّ من يرتكب الخطأ في هذه المقارنة هو صاحب الحاسوب المعطوب، الذي أخطأ عنوان من يستطيع اصلاح حاسوبه، لكنّ الهابطين على قمم مؤسّسات ثقافيّة بمظلات وراثيّة أو عائليّة أو سياسيّة في بلادنا عامّة، وفي قدسنا خاصّة، ولا علاقة لهم بالثّقافة، يزعمون وباستهبال واضح للمواطنين أنّهم على دراية بالثّقافة وفنونها ودروبها وكيفيّة رعايتها، تماما مثلما هو حال مؤسّسات أخرى، ذات تخصّصات مختلفة، وتأخذ المأساة أبعادا أكبر عندما نجد أشخاصا يقفون على رأس مؤسّسات تعليميّة وثقافيّة منذ سنوات طويلة، مع أنّهم بلغوا من العمر عتيّا، بل إنّ بعضهم في أرذل العمر، ورغم كونهم غير مؤهلّين أصلا لهكذا مناصب، إلا أنّهم لا يفتحون المجال لغيرهم، ويبقون الآمر النّاهي حتى يغيّبهم الموت، مع أنّهم يميتون المؤسّسة قبل موتهم، ولا أحد يقرع الجرس أمامهم؛ لأنّ السّيطرة على بعض المؤسّسات محكمة عائليّا وعشائريّا وربّما سياسيّا، مع أنّها مؤسّسات عامّة.
وللتّذكير فقط فإنّ الدّراسات التي بحثت عن أسباب انهيار امبراطورية الاتّحاد السّوفييتي، وجدت من ضمن ما وجدت أنه لم تتح فرصة للأجيال الشّابّة للمساهمة في رفعة الدّولة، فمثلا كان عمر وزير الرّياضة والشباب السّوفييتي 83 سنة. لذلك فإنّ أحدا من الرّياضيين السّوفييت لم يحصل على ميداليّة ذهبيّة في الألومبياد في عصر ذلك الوزير.
وبما أنّنا لا نتعلّم من أخطائنا ولا من أخطاء غيرنا، فإنّ أحدا من مسؤولينا لم يفكر بالاستفادة من قدرات المبدعين من بناتنا وأبنائنا الشّباب، فمثلا في المجال الثّقافي مبادرة شباب جبل المكبر الشّبابية، والتي أسّسها بداية العام 2013 الشّهيد بهاء عليان مع نخبة من الشّابّات والشّباب من أبناء جبل المكبر، أبدعت ونفّذت حدثا ثقافيّا غير مسبوق عالميّا، وهو “السّلسلة القارئة حول سور القدس التّاريخيّ” التي تمّت في 16 آذار –مارس- 2014. وما نتج عنها من تأسيس ثلاث مكتبات في أحياء هامّة وحسّاسة في القدس، إضافة الى المكتبة الرّئيسة التي تحوي آلاف الكتب في مقر المبادرة في جبل المكبر، وإضافة إلى اللقاءات الثّقافيّة والتّعليميّة والتّربويّة الأخرى التي تنفّذها المبادرة، فهل ستترك هذه القدرات الخلاقة والمبدعة محاصرة حتى يموت سابقوهم من الأبوات المتسلّطين؟ ومع احترامنا للدّور الذي قام به الآباء الرّواد والمؤسّسون، فإنّ للعمر أحكامه، فجهودهم مشكورة وقيمتهم محفوظة، لكن عليهم وعلى غيرهم أن يدركوا أنّ المؤسّسات يجب أنّ تستمرّ، وأنّ هناك كفاءات عالية ومؤهّله ومتخصّصة وفاعلة ممّن هم أصغر منهم عمرا، وهم الأولى والأجدر باستلام المهمّات؛ لتفعيل المؤسّسات والنّهوض بها والحفاظ على استمراريتها. أم أنّ هناك من “الأبوات” من لا يزال غير مدرك لدور الثّقافة! أو أنّنا مصرّون على استمرار الهزائم في مختلف الأصعدة؟
الهبل يقود الثّقافة من دمار إلى خراب
وللالتفاف على مقدّرات شعبنا، وتجييرها إلى أشخاص معيّنين، فقد انتشرت المنظّمات غير الحكوميّة التي تخدم أجندة مموّليها، وهي في غالبيتها إن لم تكن كلّها تنسق وبناء على طلب المموّلين مع منظّمات مشابهة في الجانب الاسرائيليّ، وتركّز في غالبيّتها على حقوق الانسان، وحقوق الطّفل وحقوق المرأة، والتّثقيف الدّيموقراطيّ، حتّى وصلت إلى الحياة الثّقافيّة. كما أنّها في غالبيّتها لا تخدم الشّعب في شيء، بل تثير البلبلة وتمارس الفساد، وتعيق عمل المؤسّسات الرّسميّة. وإذا كانت المؤسّسات الثّقافيّة غير مطلوب منها انتاج ثقافة، فإنّ وظيفتها هي احتضان النّشاطات الثّقافية ودعمها، وهذا مغيب في بلادنا إلى درجة كبيرة. ولمّا كانت الانتقادات كبيرة على الفساد الوظيفيّ في العديد من المؤسّسات الرّسميّة، فإنّ الوضع كارثيّ في المنظّمات غير الحكوميّة، بما فيها المؤسّسات الثقافية، فهي مجيّرة لأشخاص معيّنين، ولكلّ منهم وظيفته ومهمّاته الملقاة على عاتقه، فعدا عن الثّراء الفاحش الذي وصلوا إليه على ظهر الشّعب والوطن، فإنّه يجري إعداد بعضهم ليكونوا قيادات مستقبليّة ستقرّر يوما مصير هذا الشّعب وهذا الوطن، ويجري تسخير وسائل إعلام لهم بما في ذلك فضائيّات موجودة في كلّ بيت، لتلميعهم من خلال التّصريحات النّاريّة التي يطلقونها، ويبلغ الهبل والاستهبال المجتمعيّ مداه بوقوف أحزاب وتنظيمات وطنيّة خلف هذه المنظّمات غير الحكوميّة.
ولا يختلف الوضع في المؤسّسات الثّقافيّة عن غيرها من المؤسّسات الأخرى، بل هو أكثر صعوبة، نظرا لأنّ من يقومون على بعضها لا علاقة لهم بالثّقافة، وبالتّالي فإنّ الضّرر النّاتج منهم يكون مضاعفا، لكنّهم خالدون مخلدون في هذه المؤسّسات حتى يغيّبهم الموت، وبعد موتهم فإنّ البدائل الشّبيهة لهم جاهزة للحلول مكانهم. فبعض مؤسّساتنا الثّقافيّة لا تحمل من الثّقافة إلا اسما مكتوبا على لافتة تزيّن الجدار الخارجيّ لمقرّ تلك المؤسّسة، فلا نشاطات ولا رعاية للثّقافة، بل إنّهم يتخوّفون من أيّ نشاط ثقافيّ، ويرفضونه، ومع ذلك فهم لا يتورّعون من طلب الدّعم الماليّ والمعنويّ لهذه المؤسّسات بذرائع شتّى، ويحصلون عليها من جهات محليّة وأخرى أجنبيّة، ولا يعلم أحد مصير تلك التّبرعات إلا علّام الغيّوب، ونفر من المتسلّطين على تلك المؤسّسات. والزّائر لمقرّات هذه المؤسّسات سيجدها مجهّزة بأحدث الأجهزة والأثاث، ولزيادة الفساد فسادا فإنّنا نجد من يشيد برؤوس الفساد تلك، ويقوم بعمل احتفالات تكريميّة لهم، والفساد لا يعني بالضّرورة الاختلاس، فوضع الانسان غير المناسب في مناصب لا تناسبه أيضا فساد، واستمرار من شاخوا في مناصبهم وما عادوا مؤهّلين صحيّا وعقليّا فيها فساد أيضا…وهكذا. أمّا قضيّة إحالة من هرموا وشاخوا من الرّؤوس الكبيرة، ويحتاجون إلى ترجمان من العربيّة إلى العربيّة على التّقاعد، فهي غير قابلة لمجرّد البحث.
الفوقيّة في الثّقافة
وبما أنّنا ورثة حضارة عريقة، لها ما لها، وعليها ما عليها، فإنّ عقليّة الفوقيّة، التي تحمل في طيّاتها”اخدمني وأنا سيدك” لا تزال قائمة عندنا وفي مختلف المجالات، ولم نتّعظ من مقولة “أهل مكّة أدرى بشعابها” فالكبار سواء كانوا كبارا في مناصبهم أو في أعمارهم أو في كليهما معا، لا يرون كفاءة في أيّ شخص غيرهم، ولكم أن تتصوّروا على سبيل المثال أنّ تشكيل اللجنة الوطنيّة لرعاية نشاطات واحتفالات” القدس عاصمة للثّقافة العربية في العام 2009″ جاء فصائليّا وحزبيّا، دون الالتفات إلى المثقّفين من كتّاب وفنّانين تشكيليّين ومسرحيّين وموسيقيّين وسينمائيّين وغيرهم، فلم يكن واحدا من هؤلاء من القدس التي هي العاصمة السّياسيّة والدّينيّة والثّقافيّة والتّاريخيّة والاقتصاديّة للشّعب الفلسطينيّ ودولته العتيدة، وعندما أعلنت وزيرة الثّقافة الفلسطينيّة في حينه أنّه سيصدر كتاب كلّ يوم في ذلك العام، فإنّه على أرض الواقع لم يصدر 10% ممّا أعلنت عنه، وحتى يومنا هذا فإنّ وفودنا الثّقافيّة التي تسافر إلى العواصم العربيّة والصّديقة-خصوصا بعد الإعلان العربيّ أنّ القدس عاصمة دائمة للثّقافة العربيّة – نادرا ما يكون أحد أعضائها من المبدعين أو المهتمين بالثّقافة، ممّا يبقي ثقافتنا مغيّبة بشكل وآخر عن السّاحات العربيّة التي هي امتدادنا الثّقافيّ، مع أنّ ثقافتنا جزء من الثّقافة العربيّة، وكأنّ الثّقافة ونشرها حكر على موظّفين رسميّين- مع احترامي لهم جميعهم-. ولولا شبكة الاتّصال العنكبوتيّة- الانترنت- لبقيت أسماء فلسطينيّة مبدعة كثيرة وكبيرة مغيّبة إلى ما شاء الله.
وإمعانا في التّربية الفوقيّة وثقافتها السّائدة، وطريقة تعاملها مع الآخرين، وما يهمّنا هنا هو الجانب الثّقافي حيث أنّنا نجد بعض المتنفّذين، يريدون أن تبقى هيمنتهم على المؤسّسات الثّقافيّة قائمة في الظّروف والأحوال كلّها، لهذا لم يكن غريبا على سبيل المثال استقالة البعض من اتّحاد الكتّاب الفلسطينيين وانسحابهم من عضوية الاتّحاد بعد انتخابات الهيئة الإدارية الأخيرة للاتّحاد، لأنّ من فازوا بالانتخابات ليسوا ممن يريدونهم، علما أنّ للفائزين مساهمات جادّة وظاهرة في النّتاج الإبداعيّ والأنشطة الثّقافيّة، بل إنّهم أنجزوا إنجازات غير مسبوقة، فقد بعثوا الحياة في الاتّحاد بعد أن كان في ثلاجة الموتى، كما نشروا عددا من الأعمال الشعريّة والأدبيّة الكاملة لعدد من الرّواد والمبدعين الفلسطينيّين، وقاموا بتكريم نخبة ممّن تركوا بصماتهم على ثقافتنا المحليّة والعربيّة، ومع ذلك فإنّ إنجازاتهم لم تشفع لهم بإسكات من يناصبونهم العداء ممّن يعتبرون أنفسهم أوصياء على الحركة الأدبيّة والثّقافيّة.
وفي الكثير من مؤسّساتنا الثّقافيّة، وكما غيرها من المؤسّسات الأخرى، هناك قوانين ولوائح داخليّة تضع قيودا على عضويّة الهيئات العامّة لهذه المؤسّسات، وتحصر العضوية في عدد محدود بناء على أساس عائليّ أو سياسيّ ضيّق، لتبقى الهيئات الإداريّة ومن يرأسونها حكرا على أشخاص معيّنين، بغض النّظر عن كفاءاتهم أو قدراتهم، أو عمّا ستؤول إليه المؤسّسات من خراب ودمار ذاتيّ.
الهبل وثقافة الخوف من النّجاح
يقول علماء النّفس أنّ المريض نفسيّا أو عقليّا، عندما يدرك أنّه مريض ويعترف بذلك، فهذا يعني بداية شفائه، وعندنا كثيرون من المثقّفين وأشباه المثقّفين ممّن باعوا أنفسهم لمصالح شخصيّة ضيّقة، جيّروا ثقافتهم لتزيين الهزائم التي نعيشها على مختلف الأصعدة، فزيّفوا الحقائق والوقائع وحوّلوها إلى انتصارات وهميّة، واستمرّوا في أكاذيبهم لخداع العامّة، ثم ما لبثوا أن صدّقوا هم أنفسهم هذه الأكاذيب، والنّتيجة هي تكريس هزائمنا واخفاقاتنا. لذلك فهم يخافون نجاح غيرهم من المخلصين الأوفياء، ولا يتردّدون في حصار النّاجحين، بل ومحاربتهم، لأنّهم يرون في نجاح الآخرين سقوطا لهم.
والصّراع بين الخير والشّر في المجال الثّقافيّ أخذ مناحي عديدة، ووصل إلى تخريب وهدم مؤسّسات ثقافيّة، تمثّل في كثير من النّواحي، مثل تعيين أشخاص غير مناسبين وغير أكفياء في مناصب ثقافيّة رفيعة، ومنها وسائل الإعلام، ولكم أن تتصوّروا أنّ محرّرا في إحدى صحفنا المحليّة كان يفاخر بجبروته و”عبقريّته” بأنّه كان يمنع نشر عدد من الرّسومات الكاريكاتوريّة للمبدع الشّهيد ناجي العلي! وبما أنّ هؤلاء “العباقرة” يسخرّون صلاحيّاتهم الوظيفيّة لمحاربة وطمس أيّ نجاحات ثقافيّة محليّة، فإنّهم يتعمّدون مع سبق الإصرار والتّرصد عدم نشر أيّ خبر عن إبداعات النّاجحين ثقافيّا، ولو كان الخبر يتعلق بإصدار كتاب جديد، وممّا يدعو إلى الضّحك و- شرّ البلية ما يضحك- أن إحدى صحفنا المحليّة، وبناء على “عبقريّة” محرّرها الثّقافيّ رفض نشر وقائع أمسية ثقافيّة لندوة اليوم السّابع الثّقافيّة الأسبوعيّة في المسرح الوطني الفلسطينيّ في القدس، أُرسلت للصّحيفة بعد الانتهاء منها مباشرة، واعتبرها- كلام فاضي- حسب رأيه! ثم نشرها بعد ثلاثة أشهر، وعلى صفحة كاملة، مذيّلة بـ “منقول عن صحيفة القدس العربيّ اللندنيّة” وبالتأكيد فإنّ نشره لها جاء لانبهاره بكلّ ما هو خارجيّ، دون قراءته، ولو قرأها لما نشرها، لأنّه يعرف شخصيّا الأسماء التي تحدّثت في النّدوة، وهم من الموضوعين على قائمته السّوداء.
ومن العمى الثّقافيّ والإعلاميّ الذي شاهدته في معرض فلسطين الدّولي العاشر للكتاب، أنّ أحد المواقع الثّقافيّة الذي يتخطّى اسمه حدود فلسطين، قد نشر على صفحته الأولى خبرا ممنتجا بطريقة لافتة، يدعو فيه الزّائرين لحضور حفل توقيع لكتاب شخصيّة قياديّة، وهذا أمر جميل، لكنّ العمى والهبل الإعلاميّ تجلّى في عدم النّشر عن الكتب الأخرى التي ستوّقع في اليوم نفسه والسّاعة نفسها، لذا فلا غرابة أن نجد أسماء بعينها هي التي تظهر على صفحات عدد من صحفنا وفي وكالات الأنباء المحلّيّة.
أمّا عن نشر الكتب في المؤسّسات الرّسميّة والشّعبيّة، فالوضع لا يختلف كثيرا عن النّشر في الصّحافة إلا من رحم ربّي، وإذا ما كان المبدعون في الدّول المتقدّمة يحصلون على ثروات كبيرة كمردودات لمبيعات إبداعاتهم، كما يحظون بمكانة اجتماعيّة مرموقة، فإنّ الابداع في بلاد العربان، وفلسطين طبعا ليست استثناء، يشكّل نكبة مادّية لمبدعين كثيرين – خصوصا الشّباب منهم-، لأنّهم يطبعون ما يبدعونه على حسابهم الخاصّ، وهذا يقودنا إلى التّساؤل عن جدوى وجود ما يشبه “المافيا” الثّقافيّة بين ظهرانينا؟ وإلى أين ستصل بنا؟
الثّقافة والتّمويل
لسنا هنا في مجال الحديث عن أهميّة الثّقافة ودورها في بناء المجتمعات والنّهوض بها، فالمثقّف في بلاد العربان متّهم حتى يثبت ولاؤه للنّظام، ويحارب حتّى في لقمة عيشه، ولسنا هنا في مجال الحديث أيضا عن كثيرين من المبدعين والعلماء العرب الذين لم يجدوا متّسعا لهم للعيش في بلدانهم، ولجأوا إلى العيش في بلاد الغرب “الامبرياليّ الكافر”! حيث وجدوا هناك الحرّيّة للتّعبير عن أفكارهم، كما وجدوا العيش الكريم أيضا، لذا فإنّ العلم والثّقافة هو آخر ما يتمّ الانتباه له عند العربان، ولا غرابة حسب إحصائيّات منظّمة الأمم المتّحدة للعلوم والثّقافة “اليونسكو” أنّ ما يترجم إلى اللغة الاسبانيّة في العام الواحد يعادل ما ترجم إلى العربيّة من عهد الخليفة العبّاسيّ المأمون “786م-833م” حتى أيّامنا هذه، أي في أكثر من ألف ومائة وخمسين عاما، وأن ما تنفقه إسرائيل على البحث العلميّ في العام الواحد يعادل ما تنفقه دول العربان مجتمعة في عدّة سنوات.
وإذا ما عدنا إلى التّمويل الثّقافي، ولا نقصد هنا تمويل المثقّفين والمبدعين- مع أنّ من حقّهم أن تتوفّر لهم ولأسرهم حياة لائقة وكريمة- فإنّ ما يخصّص للشّأن الثّقافيّ من ميزانية دول العربان لا يكاد يذكر، وقد يصل إلى نسبة واحد في الألف كما هو في فلسطين مثلا، والاستثناء هنا هو في دولة الإمارات العربية التي تخصّص ميزانيّات لائقة لرعاية الابداع الثّقافيّ.
ومع الشّح في ما يخصّص للتّمويل الثّقافيّ في بلادنا، ولا أقصد هنا وزارة الثّقافة، لأنّ ما يخصّص لها لا يكاد يفي برواتب موظّفيها وأجور مقرّاتها، وإنّما المؤسّسات الثّقافيّة الشّعبيّة وشبه الرّسميّة، وهذه تنطبق عليها مقولة “قالوا عند الغولة حفلة عرس، فردّوا عليهم: يا ريت يكفيها ويكفي أولادها” فهذه المؤسّسات تحصل على تبرّعات من مؤسّسات ودول شقيقة، وبعضها يجد تمويلا أجنبيّا، ومن تبرّعات بعض الميسورين، مع أنّ بعضها لا يقوم بأيّ نشاط ثقافيّ يذكر، ولا فضل لها سوى تعليق لافتة على واجهة مقرّها تفيد بأنّها مؤسّسة ثقافيّة، لأنّ المؤسّسة مجيّرة للقائم أو القائمين عليها، وغالبا ما تأخذ الطّابع العائليّ، وإذا ما أقيم فيها نشاط ثقافيّ من ناشطين ثقافيّا، فإمّا أن يطلبوا منهم دفع أجرة لاستعمال المقرّ، أو في أحسن الأحوال فإنّهم يبخلون عليهم بالضّيافة ولو كانت ماء الشّرب أو فنجان قهوة، هذا إذا لم يرفضوا النّشاط الثّقافيّ بالمطلق، لأنّهم يخافون الثّقافة لبعدهم عنها، وقد يعتبرونها “بعبعا” يضرّ بهم لجهلهم بها. وإذا ما طُلب منهم دعم نشاط ثقافيّ، كأن يوفروا الضّيافة والمواصلات للمدعوّين القادمين من مدن بعيدة، فإنّهم يضعون شروطا تعجيزيّة على طالبها، يستحيل عليه تنفيذها. ويبرّرون ذلك يا للعجب! “بالشفافيّة في الانفاق الماليّ” مع أنّ الصّحيح هو أنّهم لا يريدون الصّرف، أمّا أين تذهب الأموال المخصّصة للنّشاطات الثّقافيّة فذلك علمه عند علّام الغيوب وعندهم، والأسئلة حول ذلك ممنوعة، أو لا إجابات مقنعة عليها.
الثّقافة والذّاكرة المفقودة
وبما أنّ وزراء الثّقافة في دول العربان قرّروا عام 2011م بأنّ القدس عاصمة دائمة للثّقافة العربيّة، فهذا قرار صائب، وله دلالات مع أنّهم لم يأتوا فيه بجديد، لأنّ القدس منارة علميّة، ثقافيّة، دينيّة وحضاريّة عبر تاريخها، منذ أن بناها الملك اليبوسيّ العربيّ ملكي صادق قبل ستّة آلاف عام؛ لتكون عاصمة لمملكته، ويشهد على ذلك باطن أرض المدينة وظاهرها، إلا أنّ ما يحزن القدس أن لا أحد ممّن يتغنّون بها من أصحاب القرار، عمل شيئا للقدس يرسم الفرحة على وجه المدينة، ففي الوقت الذي يجري فيه سرقة وتزييف تاريخ المدينة بعد جغرافيّتها، فإنّنا نساهم بشكل وآخر وبغض النّظر عن كلّ التّبريرات في طمس الثّقافة العربيّة في هذه المدينة، الذي يعتبر مسجدها الأقصى جزءا من العقيدة الإسلاميّة التي يدين بها أكثر من مليار ونصف شخص، تماما مثلما هي كنيسة القيامة بالنّسبة للمسيحيين الذين يزيد عددهم في العالم على عدد المسلمين. فعلى سبيل المثال فقد جرى بعد اتّفاقات أوسلو الموقّعة في أيلول 1993م والتي نحصد نتائجها الآن، تغييرات كثيرة شوّهت معالم المدينة، وفلسطينيّا جرى نقل مؤسّسات ثقافيّة من القدس إلى رام الله، مثل مقرّ اتّحاد الكتّاب الفلسطينيين، ومسرح القصبة، كما أن صحفا ومجلات كانت تصدر في القدس قد توقفت واختفت مثل: صحف الفجر وملحقها الأدبيّ، المنار، الشّعب، النّهار، الصّدى، ومجلات مثل: العودة، الكاتب، الأسبوع الجديد. ولم يبق في القدس إلا صحيفة القدس.
وظهرت صحف جديدة في رام الله مثل الأيّام والحياة الجديدة وغيرهما، وهذا أمر جيّد أيضا، لكن لماذا تمّ اغلاق الصّحف والمجلات التي كانت تصدر في القدس؟ صحيح أنّ عددا كبيرا من الصّحفيين من خارج القدس لا يستطيعون دخول القدس بعد إغلاقها في 28-3-1993 ، وعزلها عن محيطها الفلسطينيّ وامتدادها العربيّ، لأنّهم يعيشون خارج المدينة المقدّسة، لكنّه كان بالإمكان التّغلب على هذه القضيّة من خلال الفاكس والانترنت.

الثّقافة ونشر الكتب
عندما نشرت اليونسكو أنّ العربيّ يقرأ بمعدل ستّ دقائق في السّنة، بينما يقرأ الفرنسيّ بمعدل 280 ساعة، لم يصدّق كثيرون من العربان تلك الإحصائيّة، ولم يصدّقوا أن أمّة اقرأ لا تقرأ، وأنا شخصيّا ممن لم يصدّقوا ذلك، لكن من منطلقات أخرى غير منطلقات أولئك الذين يعتبرون من يؤمّون الصّلاة علماء، حتّى وإن كان منهم أشباه أمّيين، ولديّ ما يثبت عدم دقّة إحصائيّة اليونسكو، وليس عدم مصداقيّتها، فاليونسكو تعتمد في إحصائياتها تلك على الكتب المطبوعة والصّادرة عن دور نشر في دول فيها مكتبات وطنيّة، تعطي رقم إيداع لكلّ كتاب يصدر، ونحن في فلسطين لا مكتبة وطنيّة عندنا، وبالتّالي فإنّ اليونسكو وغيرها من المنظّمات الدّوليّة لا تعرف شيئا عن الكتب التي تصدر عندنا، ولا حتّى عن الكتّاب بمن فيهم من صدر لهم عشرات الكتب. وإذا كانت جهود كتّابنا مجهولة دوليّا، فإنّ النّشر في بلادنا مشكلة بحدّ ذاته لأسباب كثيرة منها:
أنّ ميزانيّة وزارة الثّقافة محدودة جدّا، وبالتّالي فإنّ مخصّصاتها لدائرة النّشر في الوزارة محدودة جدّا هي الأخرى، وكذلك الأمر بالنّسبة لاتّحاد الكتّاب وبيت الشّعر، اللذين لا مخصّصات تذكر لهما، حتّى أنّ بعض المؤسّسات التي تصدر أبحاثا ودراسات قيّمة مثل مركز البحوث والدّراسات الاسلاميّة في أبو ديس قرب القدس، تصدر منشوراتها بطريقة بائسة وفقيرة، وبعشرات النّسخ التي توزّع على مؤسّسات، مع أنّها تستحق التّعميم بآلاف النّسخ وبطباعة أنيقة.
لكنّ اللافت أنّه كان في القدس دور نشر ما لبثت أن أغلقت أبوابها لأسباب ماليّة ومنها: دار الكاتب، دار العودة، منشورات صلاح الدين، وكالة أبو عرفة وغيرها. وفي العام 2010 ظهرت دار الجندي للنّشر والتّوزيع، وهي دار نشر خاصّة يملكها الكاتب سمير الجندي، وهذه الدّار سدّت فراغا كبيرا، و نشرت أكثر من 500 كتاب، كما أنّها تشارك في معارض الكتب التي تقام في العواصم العربيّة، ولها الفضل الكبير في إيصال الكتاب المحليّ إلى العالم العربيّ الذي نحن جزء لا يتجزّأ منه، وكذلك الأمر بالنّسبة لمكتبة كلّ شيء الحيفاويّة لصاحبها صالح عبّاسي، ولدار الشّروق في رام الله لصاحبها الكاتب فتحي البسّ. والمكتبة الشّعبيّة في نابلس، وهناك منشورات أوغاريت، ومنشورات مؤسّسة تامر التي تعنى بأدب الأطفال، وجمعيّة الزيزفونة التي تصدر مجلة باسمها، ونشرت عددا من قصص الأطفال وبعض الكتب، لكن ذلك لا يكفي، لعدم وجود دعم للكتاب، في ظلّ ارتفاع أسعار ثمن الورق والطّباعة، مما يرفع سعر الكتاب الذي يصبح ثمنه فوق القدرات الاقتصاديّة للقارئ الجادّ في ظلّ تدنّي المداخيل.
لكن في الأحوال كلّها فإنّ الكتّاب الشّباب يبقون هم الضّحيّة الأولى، فهم مضطرّون لطباعة كتبهم على حسابهم الخاصّ، وهذا قتل للإبداع، بدل تشجيعه، وهناك طلاب موهوبون ومبدعون، ولا مداخيل لهم، وينحدرون من أسر فقيرة، ولا يجدون من يأخذ بأيديهم لنشر إبداعهم.
الثّقافة وتفريغ المبدعين
كتب الشّهيد ماجد أبو شرار مجموعة قصصيّة بعنوان “الخبز المرّ” وكتب الرّاحل المغربي محمد شكري “الخبز الحافي”، وإن اختلفت منطلقات كليهما باختلاف بيئتيهما وظروف معيشتهما واهتمامات كلّ منهما، إلا أنّهما توحّدا أمام رغيف الخبز، وذات يوم من عام مضت عليه عقود، كان عدد من الأدباء في ضيافة أديب مصريّ كبير، وبينما هم جلوس في صالة الضّيافة يتحاورون في أمور شتّى، دخلت طفلة المضيف بنت السّنوات الثلاثة، ووقفت فوق كنبة ترقص مقلّدة راقصة رأتها في أغنية على التّلفاز، فقال لها أبوها الأديب مازحا:”ارقصي يا بنت الكلب حتّى تعيشي، فدخل راقصة في الليلة الواحدة يزيد على دخل والدك طيلة حياته” ونحن هنا لا نقلّل من قيمة الرّقص الفنّيّ الملتزم وليس الخليع، إنّما نورد هذا المثال لتبيان الوضع الاقتصاديّ المتردّي للأدباء في بلاد العربان، في حين أنّ أقرانهم في بلدان ناهضة يملكون الملايين ويعيشون ترف الحياة، ويزدادون إبداعا، لذا فإنّنا ومن باب خداع الذّات نجد بين ظهرانينا من يُنَظِّر “بأنّ الحرمان يلد ويفجّر الإبداع” وكأنّ حرمان الأدباء العرب من حقّ العيش الكريم شرط لإبداعهم، ودون الالتفات إلى أنّ مئات ملايين المحرومين عندنا وعند غيرنا لم يبدعوا، لأنّ الفقر أساس المصائب كلّها.
ونحن هنا بصدد واقع المبدعين ومنهم الأدباء، فجزء من مبدعينا يعاقب على إبداعه بدلا من مكافأته، وأحد الشّعراء العرب حُكم عام 2013 خمسة عشر عاما؛ لأنّه كتب قصيدة تعرّض فيها لسياسة رأس السّلطة في بلاده، وكثيرون من المبدعين محرومون من العمل في وظائف رسميّة، لأنّه مشكوك بولائهم للنّظام، ومن يستلم وظيفة فإنّه غالبا لا يحصل على دخل يوفّر له حياة كريمة. وفي الأحوال كلّها فإنّه لا يجري تفريغ المبدعين وتوفير دخل لائق لهم، كي يتفرغوا لتنمية قدراتهم ومواهبهم الإبداعيّة، وبالتّالي سينتجون إبداعا لائقا.
وعندنا في فلسطين فنّانون مسرحيّون وكتّاب وفنّانون تشكيليّون…إلخ، مبدعون يعانون البطالة والعوز، ويمارسون أعمالا لا تليق بمواهبهم وقدراتهم للحصول على رغيف “الخبز المرّ”، فأحد الفنّانين المسرحيّين “يبيع الكعك” متجوّلا في شوارع مدينة القدس على سبيل المثال، وأحد الشّعراء يدخن”الهيشي” لأنّه لا يملك ثمن علبة سجائر….إلخ.

الثّقافة وتكريم المبدعين
من حقّ ذوي الفضل علينا أن نذكر أفضالهم، ومن حقّ المبدعين أن يتمّ تكريمهم في حياتهم، مع أنّنا من أمّة ثقافتها “ذِكْر محاسن الموتى” و”مديح الوجه مذمّة” وعندنا مبدعون لا يلقون أيّ اهتمام شعبيّ أو رسميّ يليق بما قدّموه من نتاجات للحياة الثّقافية، ولوحظ أنّ عددا من المؤسّسات صارت تلجأ إلى تكريم بعض المبدعين من خلال إقامة احتفال تلقى فيه كلمات، وتوزِّع فيه دروعا خشبيّة تحمل اسم المؤسّسة، وهذه الدّروع هي دعاية للمؤسّسة أكثر مما هي تكريم للمبدع، ويلاحظ أنّ هذه الدّروع شكليّة ولا قيمة ماديّة لها، ويحضر لقاءات التّكريم هذه مسؤولون كبار لتقديم هذه الدّروع، كما أنّ لهم هم الآخرون دروعا تقدّم لهم “لإبداعاتهم التي لا يعلمها إلا الله!”
في العام 2012 كنت مشاركا في حفل تكريم ثلاثة من أدبائنا الكبار من قبل مؤسّسة ثقافيّة كبيرة، ولديها إمكانيّات مادّيّة كبيرة، وكان في الحفل قادة سياسيّون ووزراء ورموز ثقافيّة، في حين كان التّكريم يقتصر على الكلمات وتقديم درع زجاجيّ يسهل كسره، فاستذكرت حادثة وردت في الأثر وقلت:
” مرّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه بأعرابيّ يقرأ القرآن على ناقته الجرباء، فقال له: لو أضفت قليلا من القطران على قراءتك لشفيت ناقتك.”
وأضفت أنا: ولو أضافت المؤسّسة الراعية للحفل قليلا من “القطران” إلى درعها الزّجاجيّ لكان لهذا التّكريم معنى، خصوصا وأنّ مبدعينا يعانون أوضاعا ماديّة غاية في الصّعوبة، فاستحسن الحضور ما قلت وصفّقوا بحرارة.
أمّا الجوائز التّقديريّة والتي لها قيمة مادّيّة مهما كانت بسيطة، فلا أحد يعلم كيف يتمّ توزيع غالبيتها إلا من له باع طويل في “علم الكولسات” وهو “علم” عربيّ بامتياز.
أمّا النّخب الحاكمة والتي تصرف الكثير من خزينة الدّولة على احتفالات كثيرة، فماذا كانت ستخسر مثلا لو وفّرت سكنا لائقا على سبيل المثال للمبدعين من أبناء شعوبها، ورحم الله رمزا من رموزنا الثّقافيّة، الذي ترك لنا أكثر من خمسين كتابا قيّما، وهو أب لشابّين عندما قال وهو على فراش الموت متحسّرا: ” نظرا لانشغالي بالأدب فإنّني لم أترك لأبنائي سوى ديون سيسدّدونها بعدي “.
ثقافة المطالعة
لا أعتقد أنّ هناك عاقلين يختلفان على أهميّة العلم والمعرفة، فبالعلم تنهض الأمم، وبالثّقافة والإبداع تسمو، وفي الوقت الذي تعتبر فيه الشّعوب المتحضّرة والرّاقية الرّياضيّات أساس العلوم، فإنّ “شيوخ” العربان يعتبرونها رجسا من عمل الشّيطان، متناسين الآيات القرآنيّة والأحاديث النّبويّة التي تحثّ على التّفكير وطلب العلم، ولم يميّزوا بين متطلّبات الدّين ومتطلّبات الدّنيا، ولم يشغل تفكيرهم يوما سبب تقدّم الشّعوب الأخرى ورقيّها على مختلف الأصعدة، وهم راضون بما هي عليه شعوبهم ودولهم من تخلّف عن الرّكب الانسانيّ، وحتّى أنّهم يسيئون مفهوم التّوَكّل القائم حقيقة على قاعدة “اعقل وتوكّل” فهم يتوكّلون ولا يعقلون. ولا ينتبه كثيرون إلى الأميّة المتفشّية، ومع ذلك نجد منّا من هو فرح وسعيد بجهله ظنّا منه أنّه العالِم الوحيد في عصره، غير مدرك لمقولة الإمام الشّافعي رضي الله عنه والتي مفادها ” أجهل الجهلاء من يجهل ولا يعلم أنّه يجهل” وهذا ما أدركه أبو الطيب المتنبي المتوّفى عام 965م، أي قبل أكثر من ألف عام عندما قال:
ذو العقل يشقى في النّعيم بعقله…وأخو الجهالة في الشّقاوة ينعم
ويضاف إلى جهلنا جهل آخر هو”الانغلاق الثّقافي” المتمثّل بعدم الإطلاع على ثقافات الشّعوب الأخرى، وعلى ما وصلت إليه من نهضة مذهلة.
وبعدها نتساءل: لماذا أمّة اقرأ لا تقرأ؟ ولماذا كبريات دور النّشر في العالم العربيّ لا تطبع أكثر من عشرة آلاف نسخة من مؤلفات كبار المبدعين والمفكّرين العرب؟ توزّع في الدّول العربيّة جميعها، في حين غيرنا من الشّعوب تطبع مئات آلاف النّسخ أو ملايين من كلّ كتاب، مع أنّ عدد شعوبها لا يساوي 10% من عدد شعوب العربان.
وعدم قراءة العربان لها أسباب كثيرة منها تفشّي الأمّيّة، والفقر والحرمان وارتفاع سعر المطبوعات قياسا بالمداخيل المتدنّية وغيرها، لكنّنا نغيب السّبب الأكثر أهمّيّة وهو تغييب ثقافة المطالعة، التي إذا ترسّخت تصبح سلوكا، ودعونا نتساءل عن نسبة من يملكون مكتبة في بيوتهم؟ وعن نسبة من يشترون كتبا لأطفالهم في مراحل الطّفولة؛ ليشّجعوا بناتهم وأبناءهم على المطالعة؟ وعن نسبة من يُهدون كتابا لأصدقائهم في المناسبات؟ وعن نسبة من يحترمون الكتاب والكاتب؟ وعن نسبة المدارس التي تمتلك مكتبات وتشجّع طلابها على المطالعة؟ وعن نسبة رّواد المكتبات العامّة؟ وبالتّأكيد فإنّنا إذا حصلنا على إجابات دقيقة لأسئلتنا فإنّها ستشكّل صدمة لنا.
عند الشّعوب المتحضّرة يبدأ اهتمامهم بتربية الطّفل على المطالعة وهو جنين في بطن أمّه، فيسمعونه موسيقى خفيفة، وبعد ولادته هناك قصص مخصّصة لكلّ مرحلة عمريّة، فيقرأ له والداه ما يناسب عمره، وفي الحضانة يقرأون له، وعندما يتعلّم الأبجديّة يقرأ وحده، وله مكتبة خاصّة يحفظ كتبه على رفوفها، وفي المدرسة تدخل المطالعة ضمن المنهاج، وفي الحيّ الذي يسكنه مكتبة عامّة، لذا فالمطالعة تصبح سلوكا له.
ونحن إذ نسوق ذلك ليس من باب جلد الذّات، ولا من باب تسجيل المواقف، وإنّما لنقف على أسباب الخلل في عدم وجود مجتمعات قارئة، لأنّها لو وجدت لكان باستطاعة دور النّشر أن تطبع مئات آلاف النّسخ من كلّ كتاب، وستبيع الكتاب بسعر معقول؛ لأنّها ستحقّق أرباحا مجزية سيكون للكاتب منها نصيب، وسينعكس ذلك إيجابا – فيما لو حصل- على وعي الشّعوب وتقدّمها، لكنّ الأمنيات شيء، والواقع شيء آخر مع الأسف، ولو ترسّخت ثقافة المطالعة عند شعوبنا، لازدادت المعرفة والوعي، وهذا سيساعد على التّحرّر من “ثقافة الهبل والجهل” التي تعشّش في رؤوس كثيرين.
مؤسّساتنا الثّقافيّة بين الوهم والحقيقة
جاء في تقرير الإحصاء الفلسطينيّ في شهر نيسان بأنّ عدد المراكز الثّقافيّة العاملة في فلسطين 658 مركزا في عام 2013؛ 575 مركزا في الضّفّة الغربيّة، و83 مركزًا في قطاع غزّة، وهو عدد كبير قياسا بمساحة الأراضي الفلسطينيّة وعدد سكانّها، ومع ذلك فإنّ النّشاطات الثّقافيّة لا تتناسب وهذا العدد، ممّا يعني أنّ هناك مؤسّسات ثقافية مرخّصة، ولها مقرّات وميزانيّات، لكنّها لا تمارس أيّ نشاط يذكر، وممّا جاء في تقرير جهاز الإحصاء الفلسطينيّ:” قدمت المراكز الثّقافيّة خلال عام 2013 حوالي 9.4 ألف نشاط ثقافيّ؛ 8.9% من هذه الأنشطة ندوات، و10.2% محاضرات، 63.0% دورات، و15.9% عروض فنّيّة، و2.0% معارض.
ويلاحظ من خلال التّقرير أنّ غالبيّة النّشاطات تتركّز على الدّورات 63.0% دورات، فما المقصود بالدّورات؟ والمتابع للشّأن الثّقافيّ سيجد أنّها في غالبيّتها العظمى دورات تقوية لطلبة المدارس، تجبي من خلالها المؤسّسات رسوما ماليّة من الطلبة، وهي بذلك تبقى دورات تعليميّة لا ثقافيّة، واذا ما أضفنا إليها 10.2% محاضرات، وهي في غالبيّتها محاضرات سياسيّة لا علاقة لها بالثّقافة، سنجد أنّ ثلاثة أرباع هذه النّشاطات بعيدة عن الشّأن الثّقافيّ. ويلاحظ أنّ تقرير جهاز الإحصاء الفلسطينيّ لم يشمل القدس العربيّة المحتلّة، مع أنّها جوهرة الأراضي الفلسطينيّة والعاصمة السّياسيّة، الدّينيّة، الثّقافيّة والاقتصاديّة للشّعب الفلسطينيّ ودولته العتيدة، وهذه بحدّ ذاتها قضيّة ثقافيّة أخرى.
كما يلاحظ أنّه لا يحسب أيّ حساب لأيّ مؤسّسة ثقافيّة غير مرخّصة، مهما كانت فاعلة، فعلى سبيل المثال ندوة اليوم السّابع الثّقافيّة الأسبوعيّة الدّوريّة في المسرح الوطنيّ الفلسطينيّ في القدس، والمستمرّة منذ آذار – مارس- 1991 وحتّى يومنا هذا، وصدر عنها حتى آذار – مارس- 2017 تسعة عشر كتابا توثيقيّا لجلساتها، وتعتبر الأكثر استمراريّة ونشاطا مواظبا ليس في فلسطين فحسب، بل في البلاد العربيّة جميعها، إن لم نقل في العالم جميعه حسب رأي رئيس اتّحاد كتاب أدب الأطفال في السّويد -الذي زار القدس عام 2010 والتقى روّاد النّدوة، ومع ذلك فإنّ النّدوة غير معترف بها على المستوى الرّسميّ، لأنّها غير مرخّصة، وكأنّ الثّقافة بحاجة إلى ترخيص، أو إذا لم يكن المبدع مرخّصا فإنّه لن يبدع! أو لا يسمح له بأن يبدع.
الثّقافة والعفاريت
جاء في لسان العرب: يأتي الاسم عفريت من الجذر الثلاثي (ع – ف – ر) ويجمع على عفاريت أو عفاري ومعنى الكلمة:
الخبيث – الماكر – الدّاهية – الدّاهي الخبيث الشّرّير – الشّديد القويّ – المتشيطن وأيضًا يأتي معنى عرف الدّيك.
وللعفاريت والشّياطين حكايات كثيرة وردت في المأثور الشّعبيّ عند مختلف الشّعوب والثّقافات، وهي تأتي حاضنة للشرّ ومعاكسة للخير، وبالتّالي فهي مخيفة ومرعبة، وهي انعكاس لجهل الانسان في فهم بعض الظّواهر الطّبيعيّة والحياتيّة.
وفي ثقافتنا الشّعبيّة الكثير من الحكايات الخرافيّة عن العفاريت والشّياطين والغيلان، التي تثير الرّعب في نفوس متلقيها خصوصا الأطفال. لكنّ إنساننا الشّعبيّ مع كلّ ذلك تعايش مع هذه الخرافات رغم تأثيراتها النّفسيّة عليه. ونظرا للتّطوّر العلميّ والحضاريّ للبشرية فقد تحرّر كثيرون من سطوة هذه الحكايات، لكنّها لا تزال تسيطر على عقول تحجّرت، وانغلقت على وعي معين، رغم أنّها تعتبر نفسها علّامة عصرها ووحيدة زمانها، بل إن “عفاريتها” المعششة في رؤوسها جعلتها لا ترى غيرها ممن فاقوها علما وخبرة ودراية ومعرفة.
ولكم أن تتخيّلوا أو تتصوّروا أن مجلس إدارة إحدى مؤسّساتنا الثّقافيّة في القدس عقد جلسات بحث فيها إغلاق مقرّ المؤسّسة الثّقافيّة، التي كلّفت الملايين، وعدم استعماله؛ لأنّهم يعتقدون أنّ أرواحا شرّيرة وعفاريت يسكنونه، ويأتي هذا الاعتقاد من معرفتهم الشّخصيّة لسلوكيّات غير لائقة للرّاحل الذي بنى المقرّ. ولأنّه ينطبق عليهم المثل القائل:” اللي يخاف من العفريت في الليل يطلع له” وجماعتنا “عفاريت الجهل والهبل” تتلبّسهم ليل نهار، لكنّهم أي مجلس الإدارة لم يبحثوا يوما أن يتخلّوا هم عن مناصبهم؛ ليفسحوا المجال لغيرهم ممّن تهرب منهم “العفاريت والأرواح الشّريرة!” وعندما سمعت بذلك ترحّمت على جدّتي التي ماتت وهي تقصّ علينا حكايات العفاريت والغيلان وغيرها من الخرافات، لكنّ جدّتي الأمّيّة – رحمها الله – لم تزعم يوما أنّها عالمة، ولم تشغل أيّ منصب في حياتها سوى الحمل والولادة ورعاية جدّي الذي لم يرحم إنسانيتها.

الثّقافة وعبادة العجول
في ثقافتنا الشّعبيّة أمثال وحكايات أفرزتها الطّبقات المستبّدة التي خرّبت البلاد وأهلكت العباد، ومع أنّ الطبقات المستبدّة والنّفعيّة انسلخت عن تراث شعوبها، إلا أنّها رسّخت ثقافة الخنوع لعامّة النّاس، ومن هنا فإنّ كثيرين يردّدونها باستهبال واضح حتّى أصبحت سلوكا ومنها: ” اللي يتجوّز أمّي هو عمّي”و “حُط راسك مع هالرّوس وقول يا قطّاع الرّوس” و”اليد اللي ما بتقدر تقطعها بوسها وادعِ عليها بالقطع” و”إذا لقيت ناس يعبدوا عجل حشّ واطعمه” و”اخدمني وأنا سيدك”وغيرها كثير. وبما أنّ شعوبنا بمسلميها ومسيحيّيها في غالبيّتها متديّنة، فإنّها لم تأخذ بدينها لمحاربة الفساد، فثقافتنا الدّينيّة تقول:” من رأى منكم منكرا فليغيّره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان” وبما أنّ ثقافة التّغيير باليد أصبحت في خبر كان عند حكومات العربان وعند شعوبهم، فإنّ البعض يعتبر ثقافة التّغيير باللسان تشهيرا غير لائق، أمّا ثقافة التّغيير بالقلب فتلك أمور فيها “خيانة للضّمير”!، وبالتّالي فإنّنا استسغنا “عبادة العجول” مع ما تحمله من شرك وكفر، ومع أنّ المطلوب أن لا “نحشّ للعجل المعبود ولا نطعمه” بل نهدي عبدته ونذبح العجل ونأكله وإيّاهم. وهذا ما لا يحصل عندنا.
وقد يغضب البعض من هذا الكلام، ولا يحبّ سماعه انطلاقا من ثقافة الخنوع المستأصلة؛ لذا فإنّ الفساد يستشري في الكثير من مؤسّساتنا الثّقافيّة وغير الثّقافيّة، وهو واضح للعيان، لكنّ المفسدين يواصلون ممارسة الفساد والتّخريب، والأنكى من هذا كلّه أنّ بعضهم على قناعة تامّة بأنّه على حقّ، وأنّ ابتعاده عن المؤسّسة قد يكون سببا في إغلاقها وانهائها، وبالتّالي فإنّه يخرق دستور ولوائح مؤسّسته، ولا يؤمن بالانتخابات إلا لمرّة واحدة وهي التي أوصلته إلى دفّة الإدارة. خصوصا وأنّه لا يجد من يحاسبه، أو يوقفه عند حدوده، أي أنّه ” يتفرعن لعدم وجود من يردعه عن فرعنته” وامعانا منه في “الفرعنة” والاستمراريّة فإنّه يحصر عضويّة الهيئة العامّة في المؤسّسة بأفراد من شاكلته “يحشّون لعجله ويطعمونه” وإذا ما غيّبه الموت فإنّ البدائل له من هذه الشاكلة جاهزة، ولنبقى ندور في حلقة مفرغة، وكأنّ المؤسّسات العامة ملكيّة خاصّة لبعض العائلات المتنفّذة، مع أنّ بعضها له تاريخ أسود.
وعندما تقع مؤسّسات “عبدة العجول” في مآزق ماليّة، فإنّ البحث يجري حول كيفيّة حلّ هذه المشاكل دون البحث عن أسبابها، لنعود مرّة أخرى لتسمين”عجولنا”.
وعبادة العجول تذكّرني بما يروى:
” أنّه كان في نيودلهي سفير بريطانيا يمرُّ بسيّارته مع قنصل بلاده حين رأى شابّا جامعيّا يركل بقرة، فأمر السّفير سائقه بأن يتوقّف بسرعة، ونزل من السّيّارة مُسرعا باتّجاه البقرة “المقدّسة”؛ ليدفع عنها الشّابّ صارخًا في وجهه، ويمسّد على جسدها طالبًا الصّفح والمغفرة وسط دهشة المارّة الذين إجتمعوا بعد سماع صراخه.
ووسط ذهول الحاضرين اغتسل السّفير البريطانيّ ببول البقرة، ومسح به وجهه، فما كان من المارّة إلا أن يسجدوا تقديرا لربّهم البقرة، ذلك الربُّ الذي سجد له الغريب، وأتوا بعدها بالشّابّ الذي ركلها؛ ليسحقوه أمام البقرة انتقاما لقدس مقامها ورفعة جلالها!
وبربطته وقميصه المُبلّل بالبول وشعره المنثور عاد السّفير ليركب سيارة السّفارة إلى جانب القنصل الذي بادره السّؤال عن سبب مافعله، وهل هو مقتنع حقّا بعقيدة عبادة البقر؟
فأجابه السّفير: ركلة الشّابّ للبقرة هي صحوة وركلة للعقيدة التي نريدها! ولو سمحنا للهنود بركل العقائد، لتقدّمت الهند 50 عاما إلى الأمام. وحينها سنخسر وجودنا ومصالحنا الحيويّة، فواجبنا الوظيفيّ هنا، أن لا نسمح بذلك أبدا؛ لأنّنا نُدرك بأنّ الجهل والخرافة وسفاهة العقيدة هي جيوشنا في تسخير المجتمعات.”
وبغضّ النّظر عن صحّة هذه الحكاية أو عدمه، إلا أنّها تحمل في طيّاتها معنى عميقا، وهي أنّ الهبل والخرافات تغييب للعقول ومفسدة للبشر.

ثقافة تحريم الحلال
ومن الأمور التي لم تعد عجيبة في عصر هزائمنا هذا أن تجد بين ظهرانينا من يحرّمون صنوف الابداع، ويحاربونها، فهم يحرّمون القصّ والرّواية والفنّ التّشكيليّ والنّحت، والموروث الشّعبيّ، والموسيقى والغناء والمسرح وغيرها، ولولا أنّ الرّسول عليه الصّلاة والسّلام استمع للشّعراء لحرّموا الشّعر، مع أنّهم يحرّمون شعر الغزل، ولم ينتبهوا إلى قصيدة كعب بن زهير التي مدح فيها خاتم النّبيين، مع أنّه افتتحها بالغزل:
بانَتْ سُعادُ فَقَلْبي اليَوْمَ مَتْبولُ مُتَيَّمٌ إثْرَها لم يُفْدَ مَكْبولُ
وأنّه واصل الغزل والتّشبيب في أكثر من ثلثي القصيدة الى أن وصل مديح الرّسول بقوله:
أُنْبِئْتُ أنَّ رَسُولَ اللهِ أَوْعَدَني والعَفْوُ عَنْدَ رَسُولِ اللهِ مَأْمُولُ
فطرب عليه الصّلاة والسلام للقصيدة وخلع بردته”عباءته”على الشّاعر.
ومع ذلك فقد وجدنا من يهاجم الشّاعر الكونيّ الرّاحل محمود درويش، بل ويكّفره.
تماما مثلما لم تنتبه حركة طالبان الى أنّ الخلفاء المسلمين لم يدمّروا حضارات الشّعوب التي سبقت الإسلام، فأبقوا على تماثيل ونقوش الفراعنة في مصر، وتماثيل بوذا وغيره في بلاد الأفغان وغيرها من البلدان، فقامت طالبان بتدمير تماثيل بوذا؛ لتقف في مواجهة مع العالم. فهل طالبان تفهم الاسلام أكثر من سابقيها من المسلمين؟
ويتساءل البعض عن سبب عدم مواكبة الفنّ التّشكيليّ في بلاد العربان التّطوّر الذي وصل إليه الفنّ نفسه في بلدان أخرى، زاد فيها ثمن بعض اللوحات على مئة مليون دولار. ويتناسون وجود أشخاص بين ظهرانينا وحتّى يومنا هذا يحرّمون الفنون التّشكيليّة والنّحت والتّصوير، وما تحطيم المسلمين الأوائل للأصنام إلا تحطيم للآلهة الوثنيّة، فهل هناك خوف في أيامنا هذه أن يعود من بين المسلمين من يعبد الأصنام؟
ولم ينتبه محرّمو الفنّ القصصيّ أنّ في القرآن الكريم قصصا، ولم ينتبهوا أنّ حكايات ألف ليلة وليلة كتبت في العصر العبّاسي، وجميعها حكايات جنسيّة خرافيّة، فلماذا لم يمنعها الخلفاء المسلمون؟ ولماذا لم يمنعوا السّير الشّعبيّة الأخرى التي يطغى عليها الخيال كسيرة بني هلال و”سيرة معن بن زائدة” وسيرة”الزّير سالم” وسيرة عنترة بن شدّاد” وغيرها؟
وخضوعا لثقافة التّحريم فإنّ بعض مؤرّخي الثّقافة عند العربان، أرجعوا أنّ الفنّ الرّوائيّ والقصصيّ في بلاد العربان بدأ مع بدايات القرن العشرين، عندما نقله بعض الدّارسين في أوروبا عن الآداب الأوروبيّة. ولم يكلّفوا أنفسهم عناء البحث عن أصوله العربيّة، أو أنّهم لم يربطوا ابتعاد المبدعين عن كتابة هذه الفنون لوجود مفتيي التّحريم في عصور مختلفة.
وإذا كان هناك من يحرّم الإبداع دينيّا لجهله بالدّين، وإخراجه النّصوص الدّينيّة عن سياقها الزّمنيّ، فإنّ هناك – ومع الأسف- من يحرم الإبداع عند البعض من منطلقات طبقيّة وعائليّة، لأنّه يعتقد أن الإبداع حكر على عائلات وفئات معيّنة، توارثت شهرتها أبا عن جدّ من تذيّلها للأنظمة، الحاكمة بما فيها أنظمة احتلاليّة غريبة.
وأصحاب فتاوي التّحريم المنغلقون في تفكيرهم، بل ولا يعرفون أمور دينهم الصّحيح، تجاوزوا حدود تحريم الفنون الإبداعيّة إلى تحريم الخروج على الحاكم الظّالم، كما شاهدنا على شاشات التّلفزة من حرّموا الخروج على الرّئيس المصريّ المخلوع حسني مبارك، وعندنا هناك من يعتبر نشر وفضح الفساد المستشري في بعض مؤسّساتنا، ومنها مؤسّسات ثقافيّة بأنّه تشهير وغيبة ونميمة، وكأنّ فضح الفساد رذيلة، واستمراريّته فضيلة!

ثقافة القبيلة
وإمعانا في التّربية العشائريّة والقبليّة التي تطمس الفرد لصالح العشيرة والقبيلة، بل تجيّر انجازاتها إن كانت لها انجازات لشيخ القبيلة، فإنّه لا قيمة للفرد إلا بمقدار ولائه لشيخ القبيلة الملهم و”المعصوم عن الخطأ” والعياذ بالله! ويكفي الأفراد أن ينالوا “شرف الانتماء” للقبيلة والولاء لشيخها، وهذا ليس تراثا أصيلا في ثقافتنا العربيّة، بل هو دخيل وافراز لمراحل الاستبداد التي مرّت بها الشّعوب، ومثال على ذلك في زمن جاهليّة ما قبل الاسلام، عنترة بن شدّاد العبسي، فقد عومل كما العبيد لأنّه كان أسود البشرة كلون والدته الأَمَة السّوداء، ولم يشفع له أنّ والده سيّد القبيلة، وعندما أثبت نفسه بفروسيّته وبطولاته الخارقة، أقرّوا بسيادته، وفي زمن الاسلام يقول تعالى :”ومن يعمل مثقال ذرّة خيرا يره، ومن يعمل مثقال ذرّة شرّا يره” وهذا يعني أنّ المرء مقرون بعمله، يثاب أو يعاقب عليه، ولا شفاعة لآبائه وأجداده له، ولاحقا كان زياد بن أبيه أحد قادة الجيوش الاسلاميّة، مع أنّه ابن امرأة بدون زواج، أي مجهول النّسب، ولم يعبه ذلك. وقصّة الخليفة الثّاني عمر بن الخطاب عندما اقتصّ من ابن عمرو بن العاص واليه على مصر لمّا لطم أحد الأقباط؛ لأنّه تقدم عليه في سباق للخيول، واشتكاه لعمر قصّة معروفة، حيث أحضر عمر اللاطم وقال للملطوم:”اضرب ابن الأكرمين” قصّة معروفة ومدونة في أمّهات الكتب.
أمّا في عصرنا هذا فنحن في جاهليّة لم تشهدها العصور التي سادت فيها الأمّة، فعدنا إلى عقليّة قبليّة عمياء لم تورثنا سوى الهزائم، ولم يعد للإبداع الفرديّ فيها قيمة، ولنأخذ بعض الأمثلة، ففي أواخر سبعينات القرن الماضي، وعند تأسيس روابط القرى، في محاولة من الاحتلال لخلق قيادات بديلة في الأراضي المحتلّة، لم يتورع قائد هذه الرّوابط من أن يهاجم القائد الفلسطينيّ البارز أمير الشهداء خليل الوزير”أبو جهاد” من على شاشة التّلفزة بتساؤله الوقح: “من هو ابن الحمّمجي هذا؟” وفي ذلك إشارة الى أنّ عائلة الوزير كانت تملك حمّاما تراثيّا في مدينة الّلد التي شرّدوا منها عام النّكبة.
وذات يوم تفاخر -أمامي بوجود عدد من الأصقاء-أحد كبار الصحفيّين المقدسيّين الذي رتّب له أحد القادة العرب لقاء مع الرّئيس الأمريكيّ رونالد ريغان، فتجاهل الصّحفي دور القائد العربيّ وقال في لقاء خاصّ:” لم يستطع ريغان أن يضع اسمي على قائمة الانتظار كبقيّة الصّحفيين، ووافق على لقائي فور رؤيته لاسمي؛ لأنّه يعلم أنّ اسم عائلتي يشرّفه ويشرّف عائلته”!
وذات العقليّة هي التي أفرزت قرارات بضرورة تسليم أبناء عائلات بعينها مناصب رفيعة ذات مداخيل عالية؛ كي يبقوا في مدينتهم، وكأنّ الصمود في أرض الوطن يحتاج إلى رشوة! وإمعانا في ترسيخ الثّقافة العائليّة والعشائريّة، فإن الصّدق ومصداقيّة الفرد يغيّبان، فذات يوم وبينما كان أحد المبدعين يدلي بشهادته عن تجربته الإبداعيّة، وتطرّق الى أنّه ولد من أبوين أمّيين، فما كان من أحدهم إلا أن عقب على ذلك فورا وبصوت مسموع قائلا:”مسكين”! وكأن أمّيّة والديه عيب يلحق به، وبذلك فهو مسكين يستحقّ الشّفقة!
وإيغالا في ثقافة ترسيخ العائليّة والعشائريّة فإنّ مناصب رفيعة يتقلّدها أشخاص أولى مؤهّلاتهم أنّهم ينحدرون من عائلات اكتسبت شهرة في غفلة من التّاريخ، سواء بابداعات إيجابيّة من فرد أو أكثر في مرحلة ما، أو بتذيّل مهين لمن سيطروا على البلاد من أغراب محتلّين. أمّا من تعلّموا وأبدعوا وناضلوا وضحّوا ويتحلّون بكفاءات ذاتيّة عالية من أبناء العامّة، فلا أحد يلتفت إليهم.
الثّقافة الأبويّة
الثّقافة الأبويّة إحدى افرازات عقليّة القبيلة والعشيرة أيضا، ففي القبيلة شيخ القبيلة هو من يتحكّم بمصيرها ومصير أبنائها، وقد يقودها إلى الهلاك دون أن يعترض عليه أحد من أفراد القبيلة، لأنّ سياسة القطيع هي السّائدة، وهي مغروسة في ذهن كلّ فرد، حتى أصبحت سلوكا، وإمعانا في ذلك فإنّ الخوف من موت شيخ القبيلة يبقى هاجسا يؤرّق أبناءها، والخوف عليهم وعليها من الضّياع، لأنّ ثقافة القبيلة تعتبر شيخها ظلّ الله في أرضه، وهذا ينعكس على دول القبيلة أو القبائل، تماما مثلما ينعكس على الأفراد والعائلات، وإذا كان سداد الرّأي محصور في شيخ القبيلة، أو في رأس الدّولة، فإنّه أيضا محصور في رأس العائلة وحتّى الأسرة، فالتّربية القبليّة تمنع الابن من الحديث أو ابداء الرّأي في مجلس يتواجد فيه أبوه، حتى لو كان عمر الابن سبعين عاما فهو يعامل كطفل بوجود أبيه، وإذا ما توفّي الأب فإنّ القيادة تنتقل للابن الذّكر الأكبر، ولا وجود للإناث في عقليّة القبيلة، وتقود هذه التّربية إلى اتّكال الابن على الأب، أو الجدّ في حالة وجوده، أو إلى الأخ الأكبر مما يولّد الاتّكالية، التي تورث الكسل والخمول وكبت الإبداع الفرديّ، وقد يكبر الابن ويتزوّج ويصبح أبًا وهو لا يعرف شراء قميص له على سبيل المثال، لأنّ شراء القميص من تخصّصات الأب الملهم! وإذا ما أخطأ رأس القبيلة أو الأسرة فإنّ براءته جاهزة بردّها إلى القضاء والقدر، مع ما يحمل هذا من فهم خاطئ للدّين ولمفهوم القضاء والقدر.
وتنسحب ثقافة القبيلة التي تعصم “الكبير”عن الخطأ إلى مختلف مناحي الحياة، فعلى المستوى الدّيني هناك ممّن يدّعون العلم بأمور الشّريعة يحرّمون الاجتهاد، ويعتمدون في “فتاويهم” على كلّ شيء قديم وموروث من اجتهادات وتفسيرات الأقدمين، وليس على القرآن والسّنّة. وهناك من يغضب ويرغي ويزبد ويتنطّع لمن يعلمون دينيّا، ويدعون على سبيل المثال إلى إعادة تفسير القرآن بما يتناسب والمستجدات العلميّة وتطوّرات الحياة، أو يدعو الى تنقية السّنة النّبويّة من الأحاديث الموضوعة، بل إنّهم يكفّرون أصحاب هذه الدّعوات، ويتناسون أنّ من فسّروا القرآن، ودوّنوا الأحاديث النّبويّة بشر يخطئون ويصيبون كبقيّة البشر.
وثقافة “عصمة الكبير” تنسحب على مختلف مجالات الحياة، دون الانتباه إلى التّطوّر العلميّ والحياتيّ، فعلى سبيل المثال هناك من ورثوا مصانع عن آبائهم الذين أنشأوها في زمانهم، ودرّت ثراء على صاحبها الذي بناها وأدارها بطريقة تناسب عصره، وعند وفاة الأب الباني فإنّ الورثة الذين التزموا بنفس طريقة الأب، ولم يواكبوا التّقدّم الصّناعيّ لا يلبثون أن يخسروا إلى درجة الافلاس أمام صناعات منافسة حديثة ومتطوّرة ورخيصة.
وكذا الأمر في الشّأن الثّقافيّ، فجيل الآباء لا يعترف بقدرات وابداعات الأبناء، بل لا يعيرها انتباها، وربّما يخاف منها، ومثال على ذلك محليّا “مبادرة شباب البلد” في جبل المكبر قضاء القدس، أبدعت فكرة أطول سلسلة قارئة حول سور القدس التّاريخي، وهذا حدث غير مسبوق عالميّا، ومع ذلك فإنّ مبدعي هذه الفكرة الرّائعة لم يجدوا الانتباه الكافي من “أبوات الثّقافة” وممّن يتحكّمون بمؤسّسات ثقافية تنفق الملايين سنويّا، ولم يحاول أحد الاستفادة من قدراتهم الابداعيّة الخلاقة، تماما مثلما لم يجدوا تغطية إعلاميّة لائقة من وسائل الاعلام، وربّما هناك مَنْ تخوّف مِنْ هذا النّجاح الذي أبهر العالم، والسّبب طبعا هو ثقافة القبيلة التي تغيّب الصّغير أمام جبروت الكبير.
ولا يفهمنّ أحد من هذا بأنّ على الأبناء أن يتمرّدوا على الآباء، بل عليهم الاستفادة من خبرتهم وتجاربهم، كما على الآباء أن يؤهّلوا أبناءهم للحياة، وأن يطلقوا عنان قدراتهم، وفي نفس الوقت على الآباء أن لا “يأخذوا دورهم ودور أبنائهم”.

ثقافة المفرقعات
بغضّ النّظر عن الاجتهادات المتفاوتة ما بين تأييد المقاومة السّلميّة للاحتلال أو المقاومة المسلّحة، إلا أنّ فوضى السّلاح تشكل عبئا وخطرا على المواطن الفلسطينيّ نفسه، وتضعف من هيبة السّلطة الوطنيّة أمام هذا المواطن، بل إنّ تعدّد “السّلطات” التي تفرض هيمنتها على الشّارع تحت تهديد السّلاح، أوقعتنا ولا تزال توقعنا في “مطّبات” سياسيّة، تبعدنا عن الاستقلال والتّحرّر الوطنيّ، وتضعنا أمام العالم وكأنّنا غير قادرين على حكم أنفسنا.
ومواطننا الذي هو الضّحيّة الأولى لهذا الانفلات النّاتج عن “فوضى السّلاح” هو نفسه يحبّ المظاهر المسلّحة و”الطّخطخة” إذا ما ابتعدت عنه وعن مكان سكناه، وحبّ اقتناء السّلاح النّاري واطلاق الرّصاص كامتداد لثقافة الهبل، ليس حكرا على الأراضي الفلسطينيّة المحتلّة فقط، بل هو موجود عند الشّعوب العربيّة الأخرى، حتّى إنّ التّقارير الصّحفيّة أفادت أنّه في اليمن وحدها يوجد تسعة ملايين قطعة سلاح بين أيدي المواطنين، وأنّها تستعمل في النّزاعات الشّخصيّة والعائليّة والقبليّة، ومن السّهل جدّا مشاهدة أشخاص في العواصم والمدن العربيّة، يتمنطقون بالمسدّسات أو البنادق بمختلف أنواعها كمظهر من مظاهر “الوجاهة” حسب المفاهيم العشائريّة والقبليّة، ومن السّهل جدّا على أيّ مشاهد في مختلف أرجاء المعمورة أن يشاهد على الفضائيّات العربيّة بعض الأغاني الشّعبيّة التّراثيّة، ومقدّموها يتوشّحون بالمسدّسات أو يرفعون البنادق، وهم يرقصون ويدبكون ويغنّون، وهذه المظاهر لا تشاهد في الأراضي الفلسطينيّة بشكل علنيّ نظرا لوجود الاحتلال، الذي يطلق جنوده النّار على كلّ حامل للسّلاح. وحبّ اقتناء السّلاح واطلاق الرّصاص في “الهواء” هو ظاهرة تكاد تكون تخصّصا يعربيّا في مختلف المناسبات مهما كانت صغيرة أو كبيرة، وإذا ما تعذّر وجود السّلاح النّاري القاتل كما هو الحال في بعض المناطق الفلسطينيّة، فإنّ المفرقعات هي البديل الجاهز والمتوفّر في الأسواق وفي متناول أيدي الجميع. ومع ما تشكّله من ازعاج قاتل للمواطنين، فإنّها تستعمل بكثرة ليل نهار في مناسبات كثيرة مثل حفلات الأعراس، النّجاح في الجامعة وحتى النّجاح في الثّانويّة العامّة “التّوجيهي”، وعند ولادة طفل ذكر عند بعض الأسر التي تأخّرت في الانجاب، أو أنّ مواليدهم من الإناث فقط وولد لهم ابن ذكر، وعند الختان، وعند النّجاح في الانتخابات كانتخابات المجالس الطلابية في المعاهد والجامعات، أو انتخابات المجالس المحلّيّة، وانتخابات المجالس النّيابيّة، وعند عودة الغائبين من سفر بمن فيهم عودة حجّاج بيت الله الحرام الذين لا تزيد غيبتهم عن أسبوعين، أو عند زيارة قائد سياسيّ أو حزبيّ لمنطقة من المناطق، أو صباحيّة العرس “لانتصارات” العريس على العروس وعذريتها! وهذه جميعها مناسبات مفرحة حسب ثقافتنا الشّعبيّة، أمّا إطلاق النّار بين الأخوة المتخاصمين – والذين قد يتخاصمون على أمور تافهة – أو استعمال السّلاح للسّطو فهذه قضية يطول الحديث فيها. في الدّول الغربيّة يطلقون المفرقعات والألعاب النّارية في أعياد الميلاد، وفي رأس السّنة الميلاديّة، وفي الولايات المتّحدة الأمريكيّة شاهدتهم يطلقونها في احتفالاتهم بعيد استقلال أمريكا الموافق 4 تمّوز- يوليو- كلّ عام.
ولكنّ القاسم المشترك بين جميع هذه المناسبات في بلداننا العربيّة هو وقوع ضحايا بين قتيل وجريح من مختلف الأعمار، ومن الجنسين ذكورا وإناثا، فحوادث كثيرة قتل فيها العريس أو العروس أو الخريج أو المختون أو أحد الحضور، فينقلب الفرح إلى مأتم، ونودّع الضّحيّة بالزّغاريد والأهازيج واطلاق النّار أيضا! وترسيخا لثقافة الهبل فإنّنا نعتبر مصرع الضّحيّة قضاء وقدرا، ونشرب القهوة “السّادة” عن روحه و”نبوس” لحية وليّ أمره، الذي يبدي تسامحا كبيرا نتغنّى به في الصّحافة! لتتكرّر فعلتنا مرّات ومرّات، وليقع ضحايا جدد أيضا، أمّا ما تتسبّب به ثقافة هبل “الطخطخة” من رعب وإزعاج للنّساء والأطفال والشّيوخ والمرضى والطلّاب والدّارسين فحدّث ولا حرج؟
وحتّى سلاح “المقاومة” واطلاق الرّصاص في الهواء، فهل هو من أجل الاستعراضات أمام ووسط المواطنين المسالمين أم لأسباب أخرى؟
وهناك ثقافة مكبّرات الصّوت في الأعراس والمناسبات، ومنها قراءة القرآن في بيوت العزاء، وكلّها تستمر حتى ساعات الصّباح دون أخذ حرمات الناس وبيوتهم بعين الاعتبار.
يبقى أن نقول أن النّتائج السّلبيّة المترتّبة على ثقافة “الطّخطخة” كثيرة وخطيرة، وعلى الحكومات ومنها السّلطة الوطنيّة الفلسطينيّة أن تضع حدّا حاسما لها؛ لتحمي حياة مواطنينا، ولنظهر كشعب متحضّر يستحقّ الحرّيّة والاستقلال.

الهبل في ثقافة الطّبيخ
من اللافت هو السّباق غير المنضبط في المناسبات المختلفة في أيّهم سيقدّم طبيخا أكثر، بل من يفاخر بكميات الطّعام التي يلقيها في حاويات القمامة، أو بعدد رؤوس الأغنام والأبقار التي ينحرها في حفل زفاف ابنه مثلا، وهذه قضايا لا علاقة لها بالكرم وقِرى الضّيف، بل هي نوع من النّفاق الاجتماعيّ الذي لا ضرورة ولا مبرّر له، والذي قد يفرض نفسه على الفقراء؛ ليتماشوا مع ما يقدّمه الميسورون، وبالتّالي سيعيشون ردحا من الزّمن وهم يسدّدون ديونا استدانوها في حفل زفاف أبنائهم. أعرف أشخاصا في قريتي تفاخروا بأنّهم نحروا أكثر من خمسين رأس غنم في عرس كلّ ابن من أبنائهم، في حين كان عدد المدعوّين لا يصل المائتين، هذا عدا الأرز والخبز لإعداد المناسف، وغالبيّة هذا الطّعام يستقرّ في حاويات القمامة. ومن الملاحظ أنّ هناك من يدعو شخصا ذا نفوذ أو مكانة معيّنة لزيارته وتناول الطّعام في بيته، مؤكّدا عليه بأن يأتي هو ومن يريد من أقاربه وأصحابه، وبالتّالي فإنّ الدّاعي يدعو هو الآخر عددا من أقاربه ومن الوجوه الاجتماعيّة؛ لتناول الطعام على شرف “الضّيف المدعو”، وقد لا يزيد عدد الحضور عن العشرة أشخاص، لكنّ الخراف التي نحرت قد تكون عشرين أو يزيد، وبما أن هذا خارج عن نطاق الكرم واكرام الضّيف، ويدخل في باب الرّياء الاجتماعيّ لتحقيق مصلحة ما، لأنّ الدّاعي يفاخر بأنّه ذبح كذا خروفا عندما زاره فلان! وبما أن هذه الولائم لا داعي لها، وليست ذات مصداقيّة حتى عند من يقومون بها، فإنّنا نجد بعض الأشخاص يدعو عددا من الأشخاص، كأن يكونوا عشرة مثلا، وهذا عدد يكفيه خروف واحد بل ويزيد، لكن الدّاعي يريد أن يستهبلهم وأن يحمّلهم جمائل كرمه الزّائف، فيشترى من الجزّارين عددا من رؤوس الماشية المذبوحة، ويقدم خمسة مناسف بدلا من اثنين، وعلى كلّ منسف رأس خاروف، ليوهم المدعوّين أنّه نحر لهم خمسة خراف….وهكذا.
والبذخ في تقديم الطّعام يندرج أيضا على المؤسّسات الشّعبيّة والرّسميّة، فبعض حفلات العشاء التي تقام مكلفة جدّا، مع أنّ المدعوّين ليسوا جياعا، وليسوا بحاجة إلى الطّعام، ولو تمّ توفير تكلفات حفلات البذخ لكان بالامكان صرف تكلفتها على مواطنين هم بحاجة حقّا إلى المساعدة، أو القيام بمشاريع تفيد الشّعب.
والمحزن أنّ المبالغة في تقديم الطّعام، والذي يبدو كأنّه ميدان سباق غير معلن قد أصبح سلوكا وثقافة، بحيث أنّ من لا يتماشى معه يتعرّض للانتقاد والاتّهام بالبخل والتّقتير، وهذا هو الهبل بعينه.
ثقافة الموت
كلّ الأحياء نهايتهم الموت، وهذه حقيقة يعلمها البشر جميعهم، وإن كانوا لا يكترثون بها، وكأنّهم خالدون في الحياة، وإذا كانت طقوس الموت والتّشييع تأخذ أشكالا مختلفة بين البشر تبعا لاختلاف معتقداتهم وثقافاتهم، إلا أنّ هناك اجماعا بضرورة الخلاص من جثمان المتوفّى بالدّفن أو بغيره، لكن في الأحوال كلّها فإنّ احترام حياة الانسان، وحقّه في الحياة الكريمة لا خلاف عليها بين البشر، وإن كان البعض لا يسأل عن حياة آخرين لأسباب عقائديّة أو عرقيّة، وما يهمّنا هنا هو طقوس الدّفن وتشييع الموتى في بلداننا، وإذا كان “إكرام الميّت دفنه”وهو فضيلة للحرص على عدم تحللّ جسد الميت قبل دفنه، فإنّ ما يجب الالتفات إليه عندنا هو تشييع جثامين شهدائنا وهم “خير من فينا”، فهل ننتبه إلى بعض الأهازيج التي يردّدها كثيرون مثل: “بالرّوح بالدّم نفديك يا شهيد” فهل يُفتدى الشّهيد؟ وكيف وهو متوفّى؟ أم أن تكريم الشّهيد يكون بتكملة رسالته التي لقي حتفه من أجلها؟ ثمّ يأتي النّعي في الصّحف سواء من ذوي الرّاحل أو من مؤسّسات وتنظيمات وأحزاب، وغالبا ما يتصدّره: “ننعى بفخر واعتزاز….” فعن أيّ فخر وعن أيّ اعتزاز نتحدّث؟ وهل ارتقاء واحد من أبنائنا سلّم المجد يدعو إلى الفخر والاعتزاز؟ وهل ننتظر هكذا ساعة لنبدي فخرنا واعتزازنا بذلك؟ ويصاحب عمليّة التّشييع هتافات وربما اطلاق عيارات ناريّة، وذات تشييع جنازة شهيد، وكانت الصّحافة متواجدة، سأل صحفيّ فرنسيّ عندما أحضروه لتصوير والدة الشّهيد الثّكلى بعد أن طلبوا منها اطلاق الزّغاريد في جنازة ابنها، فسأل: هل تحبّون الموت؟ وهل تحزنون على أبنائكم عندما يقتلون؟ وهل هذه من معتقداتكم الدّينيّة؟
وإذا كنّا نؤمن بأنّ الشّهداء أحياء عند ربّهم يرزقون، وأنّ لهم ثوابا عظيما، فإنّ الشّهادة لا يعلمها إلا الله، لكنّ المجاهدين يقاتلون لتحقيق النّصر، وهم يتقبّلون الموت في سبيل ذلك، وهم يحرصون على الفتك بالعدوّ لا بأنفسهم.
لكنّ الذي يدعو إلى التّفكير، بل وإلى إعادة حساب الذّات عندما يعلن البعض عن فتح بيت العزاء، لتقبّل التّهاني باستشهاد الابن! والتّهاني عادة تكون في المناسبات السّعيدة، فهل يسعد والدا الشّهيد وذووه باستشهاد ابنهم؟ وهل نحزن على أبنائنا الرّاحلين أم لا؟ ولنتذكر ما ورد في الأثر من أنّ الرّسول الكريم عليه الصّلاة والسّلام قد حزن وبكى ابنه ابراهيم عندما توفي: “إن القلب ليحزن، وإنّ العين لتدمع، وإنّا لفراقك يا إبراهيم لمحزونون” وما الحزن إلا صفة إنسانيّة تماما مثلما هو الفرح، لكن لكلّ منهما أسبابه، وبالتّأكيد فإنّ الموت ليس سببا للفرح.
وإذا كان استشهاد إنسان ما يدعو إلى الفخر والاعتزاز، ويتوجّب تقبّل التّهاني فهل هكذا سلوك يحمل في طيّاته براءة للقاتل من دم القتيل؟ وإذا كان الأمر كذلك فإنّه يستحق الشّكر أيضا؛ لأنّه جلب لنا الفخر والاعتزاز! وهذا ما لا يقبله عاقل.
ومن ثقافة الهبل التي يجب إعادة النّظر فيها بل وضرورة استبدالها هو الطّلب من أمّ الشهيد أو زوجته، أو شقيقاته، أو قريباته باطلاق الزّغاريد أثناء تشييعه، ومنعهنّ من “الزّغردة” والفرح في زفاف شقيقه الثّاني.
ثقافة الطّوشة
ونظرا للتّربية العشائريّة والقبليّة فإنّ الفزعات للطّوشات، واشتراك مجموعات فيها بناء على أسباب تافهة، لا تزال قائمة كامتداد لثقافة الهبل، ويقع فيها ضحايا، وبما أنّ التّربية القبليّة تقوم على الاعتداد بالذّات وبالقبيلة، وعلى رأي الشّاعر الجاهليّ عمرو بن كلثوم:
اذا بلغ الرّضيع لنا فطاما….تخرّ له الجبابر ساجدينا
فإنّ ثقافة الهبل الشّعبيّة أفرزت مقولة ” اللي يحسب لك حساب لا يضرب حجر على كلبك”، وهذا ما حصل في أكناف بيت المقدس، حيث قتل رجلان، وأحرقت بيوت ومحلات تجاريّة قبل سنوات قليلة؛ لأن طفلا ضرب حجرا على كلب، وتمّت الحشودات وبقي الكلب يسرح ويمرح.
وعقليّة القبيلة لا تنتبه لافرازاتها المشينة في تشجيع المنحرفين واللصوص وغيرهم، طبعا هناك استثناءات، فالمنحرف الذي يعتدي على الآخرين وعلى أملاكهم، ويجد من يحميه، ويفزع له إذا ما تمّ ردعه من قبل المعتدى عليهم، فإنّه يتمادى في غيّه وضلاله، إلى أن يوقع جماعته في جرائم كبرى عواقبها وخيمة، وقد تكون سببا في خراب بيوتهم.
ويلاحظ أنّ ثقافة “الطّوشة” التي هي بمثابة سلوك تدعمه الجماعة القبليّة، فاجتماعات العائلة أو القبيلة، تعتبر ذوي الرّؤوس الحامية الذين يهدّدون بالويل والثّبور دون تقدير عواقب الأمور، “رجال سباع من ظهور سباع” في حين تتّهم العقلاء بالجبن! وهذه واحدة من مصائب ثقافة الهبل عندنا، وفي مجتمعات العربان نلاحظ تطوّرات ثقافة الطوشة؛ لتتناسب وتطوّرات الحياة، فعلى سبيل المثال هناك طلبة ومن أعمار مختلفة يحملون سكاكين وخناجر في حقائبهم، ويستعملونها ضدّ زملائهم أو مدرّسيهم في أيّ خلاف يحصل في المدرسة أو في الطريق إليها ومنها، وهناك في المرحلة الجامعيّة من يحمل أسلحة ناريّة كالمسدّسات وغيرها، وقد سقط جراء استعمالها ضحايا في الحرم الجامعي، بل إنّ هناك من استعمل السّلاح النّاريّ في مجلس النّواب- البرلمان- في إحدى الدّول العربيّة، ومما يشجّع استمراريّة “الطّوشات” كثقافة وكسلوك هو عدم وجود قوانين رادعة، وعدم استقلاليّة القضاء، والخضوع للأعراف العشائريّة التي تنتهي بتقبيل الّلحى، والإشادة بكرم ذوي الضّحايا، “لأنّ الجاهل يعمل الشّرّ والعاقل يصلح بعده” ونظرا لسيادة عقليّة القبيلة، فإنّه وفي حالة فرض خسارة مادّيّة على المعتدي وذويه، فإنّهم يتقاسمونها بتوزيعها على أبناء القبيلة الذّكور، لنجد من يستغل ذلك بالتّهديد بقتل الآخرين وهو يردّد “سأقتلك ورأس مالك معروف فلن أخسر أكثر من بضعة قروش” أو في استغلال حالات التّسامح بقوله “كلّ راس مالك فنجان قهوة”. والإغراق في عقليّة القبيلة ووحشيّتها ليس حكرا على أبناء العشائر والقبائل، بل يتعدّاها إلى فئات اجتماعيّة تدّعي أنّها متحرّرة من العقليّة العشائريّة، فعلى سبيل المثال، في الانتخابات التي تجري سواء كانت لهيئات إدارية لمؤسّسات، أو مجالس محليّة أو للبرلمان، فإنّ التّرشيح والانتخاب يتمّ على أسس عائليّة وعشائريّة، وليس بناء على الكفاءة، وتتساوق القوى المنظّمة كالأحزاب وغيرها مع هذه العقليّة، لذا فإنّهم عند ترشيح أحد أتباعهم لمؤسّسة ما فإنّهم غالبا ما يبنون خيارهم على عدد من سينتخبونه عشائريّا….وهكذا.
ثقافة الانبهار بالأجنبيّ
يبدو أنّنا نعيش عقد نقص في الانتماء القوميّ، وهذا يلاحظ في بعض الرّسومات الكاريكاتوريّة، وبعض الكتابات التي تمجّد الشّعوب والثّقافات الأخرى، وتستهزئ بالعرب، ولا يفهمنّ أحد من هذا أنّه يعني الدّعوة إلى التّعالي على الأعراق الأخرى، أو معاداة ثقافاتها، لكنّه يعني بالتّأكيد أن لا نعادي أنفسنا وأمّتنا وشعوبنا ولغتنا وثقافتنا، وحتما لدينا سلبيّات ونواقص كبيرة وكثيرة، والصّحيح هو العمل على التّغلب عليها، والعمل على النّهوض من كبواتنا وليس بجلد الذّات. والانبهار بالأجنبيّ يتجلّى كثيرا في حياتنا اليوميّة عندما نجد أشخاصا يستعملون في أحاديثهم العاديّة كلمات أعجميّة، قد لا يعرفون من لغتها غيرها، وذلك ظنّا منهم بأنّها مظهر من مظاهر التّقدّم والرّقيّ الحضاريّ. بل وصل الأمر في بعض دول الخليج العربيّ درجة أن من لا يتقن الانجليزيّة قد لا يستطيع قضاء حاجاته، لأنّها اللغة السّائدة، والانبهار بالأجنبيّ يتعدّى اللغة إلى كلّ مظاهر الحياة، حتّى أنّ هناك من يفاخر بأنّ سجائره وملابسه وأحذيته هي صناعة أجنبيّة، بل إنّ هناك من يترك المنتوجات الزّراعيّة المحليّة، ليشتري مثيلتها المستوردة مثل الزّيتون المعلّب.
وبما أنّنا ننفرد عن غيرنا من الشّعوب والأمم بثقافتنا القائلة “لا كرامة لنبيّ في وطنه” فإنّنا نقدّم الأجنبيّ علينا في أشياء كثيرة، ظنّا منّا أنّه الأعلم والأدرى منّا، وعلى سبيل المثال اتّصل ذات يوم من عام مضى مسؤول كبير بموظفين في إحدى محافظات الوطن طالبا استقبال وفد خبراء زيتون هولندي بما يليق بهم، والاستفادة من خبراتهم لتطوير زراعة شجرة الزّيتون والعناية بها في بلادنا، ولما حضر الوفد وكان مكونا من شابّين لم يصلا العشرين من عمريهما، لفت ذلك انتباهي أنا شخصيّا، فكيف أصبح هذان الشّابان خبراء وهما في بداية العمر، فسألتهما عن عملهما في بلادهما، فأجابا بأنّهما طالبان واحد سنة أولى جامعيّة والثّاني سنة ثانية، يدرسان في كلّيّة الزراعة في إحدى الجامعات التي أرسلتهما إلى بلادنا؛ ليتعلّموا من فلاحينا كيف يعتنون بشجرة الزّيتون؛ وليستفيدوا من خبرتهم لينقلوها إلى بلدانهم. وفي البلدان العربيّة يسهل جدّا أن تجد مدراء ومستشارين وخبراء أجانب، مسؤولين عن أقرانهم العرب بمن فيهم خريجو نفس الجامعات التي تخرّج منها الأجنبيّ، ويتقاضون رواتب مضاعفة.
وعلى المستوى الثّقافيّ فإنّ الكثيرين من مدّعي الثّقافة يفاخرون بأنّهم لا يطالعون إلا كتابات أجنبيّة، بل إنّ بعضهم يحفظ بعض الأسماء الأدبيّة العالميّة الكبيرة، يردّدها كثيرا كالببّغاء، مع أنّه لم يقرأ لها شيئا، وإذا كان الانغلاق الثّقافيّ يشكّل كارثة ثقافيّة على شعوبنا وأمّتنا، فإنّ عدم الاطّلاع على ثقافتنا المحليّة والعربيّة يشكل كارثة أكبر.
وإذا ما كنّا مبهورين حقّا بانجازات الشّعوب الأخرى التي تفوّقت علينا في مجالات مختلفة أساسها العلم الصّحيح، فإنّنا مطالبون باللحاق بالرّكب العلميّ من خلال التّعلم، والاستفادة من التّطوّر العلميّ الهائل لتطوير ما لدينا، واستغلال مواردنا الطبيعيّة بما يفيد شعوبنا وأمّتنا، لا أن نرتضي بأن نكون مجرّد سوق استهلاكيّة لمنتوجات غيرنا.

ثقافة التّكفير والتّخوين
ممّا قاله الأقدمون”لا يزال المرء عالما ما طلب العلم، فإن ظنّ أنّه عالم فقد جهل”، ويروى عن الإمام الشّافعي قوله: “ما جادلني عالم إلا غلبته، وما جادلني جاهل إلا غلبني”. وما الجهل إلا السّبب الرّئيس الذي أنتج وينتج هزائمنا وخيباتنا على مختلف الأصعدة، والمصيبة الأكبر هي في أجهل الجهلاء، وهم “الذين يجهلون ولا يعلمون بأنّهم يجهلون” وليتهم يتوقّفون عند هذا الحدّ، بل إنّهم يزعمون أنّهم علماء.
وممّا يلاحظ في بلداننا أنّ هناك من يدّعي العلم بأمور الدّين، ويبدأ بالتّردّد على المساجد، يطلق ذقنه، ويرتدي ثوبا قد يضع تحته سروالا، يحمل مسبحة ويبدأ بالوعظ والارشاد، وهو لا يعرف أركان الدّين، ولا يكلّف نفسه قراءة كتاب، والويل والثّبور لمن يخالفه الرّأي، فإنّ تهمة التّكفير جاهزة لقذفه بها، وكأنّ صاحبنا يملك مفاتيح الغيب والايمان، وبعضهم يعتلي منابر المساجد وقد يكون خطيبا مفوّها، لديه بعض المعلومات غير المكتملة، فيبدأ خطبه موزعا التّهم ذات اليمين وذات الشّمال، وقد يسيء إلى الدّين وهو لا يدري، ظنّا منه أنّه ينشر الدّعوة، ولديه أنصار يهلّلون ويكبّرون لفصاحة صاحبهم، وسأعطي بعض الأمثلة، فقد استمعت ذات جمعة إلى خطبة الصّلاة، فبدأ “الإمام العالم!” بلهجة هجوميّة وكأنّه في حرب مع المصلين، ومن يسمعونه عبر مكبّرات الصّوت حديثه عن أخلاق المسلمين، وأعطى مثالا على ذلك” أنّ طالبا صوماليّا مسلما يدرس في إحدى الجامعات الأمريكيّة، سأل زميله الأمريكي في قاعة المحاضرات: كيف تقضي أوقات فراغك؟
فأجابه الأمريكيّ: في الحانات ومع النّساء، ثمّ ردّ الأمريكيّ السّؤال إلى الطّالب الصّومالي، فأجابه:
انظر إليّ، وذهب إلى المغسلة وتوضّأ، وبينما هو يغسل قدميه في المغسلة، صاح به أستاذه قائلا:
ويحك كيف تغسل قدميك في مغسلة نغسل أيدينا فيها ونشرب منها؟
فردّ عليه أخونا المسلم: إن قدميّ أنظف من يديك وفمك؛ لأنّني أتوضأ خمس مرّات في اليوم!
وصاح الخطيب مفاخرا: هذه أخلاقنا الاسلاميّة!” وعلا التّكبير والتهليل! والتقيت”العالم الخطيب!” وسألته:
من أين أتيت بهذا الخبر يا سيدنا الشّيخ؟ وهل ما رويته يسيء إلى الاسلام أم يدعو إليه؟ وهل من الأخلاق الحميدة أن يجيب طالب أستاذه بالإجابة التي رويتها؟ وماذا كنت فاعلا لو أجابها ابنك لك مثلا؟ وهل سبق لك وأن دخلت جامعة؟ وهل يوجد في غرف المحاضرات الجامعية مغاسل؟ وإن وجدت فهل يشرب الأمريكان منها؟ فاستاء صاحبنا ممّا سألت ودعا لي بالهداية، وكأنني ضالّ وهو مهدي!
وذات خطبة أخرى هاجم الخطيب الأولومبياد الذي جرى في جنوب افريقيا، واعتبره نشاطا لإفساد أخلاق أبناء المسلمين! ولمّا ذكرته بالحديث:”علّموا أبناءكم الرّماية والسّباحة وركوب الخيل” قال بأنّه حديث موضوع، والأمثلة كثيرة ومحزنة، وقد كتبت عددا من المقالات انتقدت فيها هكذا خُطَب، ودافعت فيها عن الدّين الصّحيح، وفوجئت بنشرها على موقع أحد الأحزاب الدّينية تحت عنوان:
” تقيّؤات على شكل مقالات!”
لكنّ اللافت والمثير للرّعب هم التّكفيريون الذين يرفعون راية الجهاد حسب فهمهم، ولا يكتفون باستهداف غير المسلمين باعتبارهم”كفّارا” بل يتعدّونهم إلى قتل المسلمين ممّن يخالفونهم الرّأي، فقاموا بتفجيرات إجرامية في مدن عربيّة، ضحاياها كلّهم من المسلمين، لأنّ من يخالفهم الرّأي كافر، بل يستحقّ القتل، وقد شاهدنا على شاشات التّلفزة إعدامات لأسرى من الجيش السّوري وهم مقيّدون، في الحرب القذرة الدّائرة في سوريا، كما شاهدنا عمليّات قطع الرّؤوس لمدنيّين وعسكريّين في سوريا والعراق وسط التّكبير والتّهليل، بل شاهدنا ما هو أبشع عندما قام أحدهم بشقّ صدر جنديّ سوريّ وأكل قلبه، أمّا الذّبح تعذيبا وتنكيلا فهي كثيرة وتقشعرّ لها الأبدان. فمن المسؤول عن هكذا جرائم؟ وما علاقة الاسلام الصّحيح بها؟ ومن يملك مفاتيح الغيب ليقرّر من هو المؤمن؟ ومن هو الكافر؟ ولمصلحة من أعمال التّفجير والقتل التي تحصل في سوريا والعراق ومصر واليمن وليبيا وغيرها؟ ومن المستفيد منها؟ ومن المتضرّر؟ ومن يموّل هذه الجماعات التّكفيريّة؟ ولمصلحة من؟
وعلى الجانب الآخر هناك تنظيمات وأحزاب تدّعي الوطنيّة، ويصل بها التّحزّب الأعمى إلى تخوين من يخالفها الرّأي، بل إنّ بعضها مارس هو الآخر قتل بعض خصومه السّياسيّين، وله وسائل إعلام مختلفة لترويج سياسة التّخوين.
وإذا كان “الحلال بيّن والحرام بيّن” دينيّا، وأنّ البشر “أدرى بشؤون دنياهم” فلماذا التّكفير والتّخوين؟ ولماذا لا تتّسع صدورنا للرّأي والرّأي الآخر؟ ومتى ندرك أنّ الدّين لله وأنّ الوطن للجميع؟ وهل نحن شعوب قادرة على تطوير ذاتها وتطوير بلدانها ما دمنا نتعامل مع بعضنا البعض بالحديد والنّار وبالتّهديد وبالوعيد؟ إنّ الخراب الذي يعمّ بلداننا سببه خراب الانسان نفسه، وثقافة الجهل والهبل السّائدة، ولا بدّ من تطوير التّعليم في مختلف مراحله، وإطلاق الحرّيات، وهذا يتطلب بناء الانسان السّليم جسديّا ونفسيّا أوّلا، حتّى يستطيع استيعاب العلوم والتّحرّر من الخرافات ومن عقليّة”الأنا” التّدميريّة.

ثقافة تدمير الذّات
دعونا نؤكّد أنّ من حقّ أيّ مواطن أو جماعة أن يتظاهروا احتجاجا على سياسة معيّنة، أو تأييدا لها، أو احتجاجا على ظلم واقع، لكن علينا أن نستذكر دائما بأنّ حرّيّتنا تنتهي عندما تبدأ حرّيّة غيرنا، فللتّعبير عن الرّأي ودقّ جدران خزان أصحاب القرار أخلاقيّات يجب أن لا نتجاوزها؛ كي لا ندخل في المحظور، مع أنّ بين ظهرانينا من يتمترس خلف اجتهادات بعضها دينيّ بتحريم “الدّيموقراطيّة” على اعتبار أنّها مصطلح غربيّ “مستورد”! كما أنّ هناك من يحملون فكرا “سلفيّا” يحرّمون من خلاله الخروج على الحاكم مهما كان ظالما. وبما أن الدّيموقراطيّة صناعة غربيّة، ويحاربها بعضنا، فلا يضيرنا أن نستذكر نحن العربان صناعة ابتكرناها، وارتضيناها وفاخرنا بها! وقلّدتنا فيها أمم وشعوب أخرى، وهي أنّ أوّل من ابتكر “منع التّجوّل” في العالم هو زياد بن أبيه، عندما ولّاه معاوية على البصرة وخراسان وسجستان، وقدم البصرة وألقى فيها خطبته البتراء المشهورة، ومما جاء فيها: “حرام عليّ الطعام والشّراب، حتى أُسوّيها بالأرض هدما وإحراقا، إنّي رأيت آخر هذا الأمر لا يصلح إلا بما صلح به أوّله، لين في غير ضعف، وشدّة في غير عنف.
وإنّي أقسم بالله لآخذنّ الوليّ بالمولى، والمقيم بالظّاعن، والمقبل بالمدبر، والمطيع بالعاصي، والصّحيح بالسّقيم، حتى يلقى الرّجل منكم أخاه فيقول : “أنج سعد، فقد هلك سعيد.” أو تستقيم قناتكم.” وبعدها فرض منع التّجوال، وأرسل مناديا يعلن ذلك، ونقل الحجّاج والي الكوفة منع التّجوال عن زياد بن أبيه، وممّا يروى أن عسس الحجّاج ألقوا القبض على رجل هرمٍ خرج لصلاة الفجر في المسجد، واقتادوه إلى الحجّاج، فسأله عن سبب عدم استجابته لمنع التّجوّل؟
فأجاب: والله أنّني لم أسمع النّداء.
فردّ عليه الحجّاج”: والله إنّني أصدّقك، لكنّني سأقتلك لتكون عبرة لغيرك”! وقتله. والحجّاج هو من قذف الكعبة بالمنجنيق؛ ليهدمها على رؤوس ابن الزبير وأنصاره الذين احتموا بها. ومع ذلك فإنّ الظلم مرفوض في الأحوال كلّها، لكنّ الكارثة أن يقبل المظلوم بالظّلم وبحكم الظّالم كائنا من كان.
وعودة إلى حقّ التّظاهر، وهو حقّ يجب أن يحميه القانون، ونلاحظ ذلك في الدّول المتقدّمة، والتي تحترم حرّيات شعوبها، وكثير من المظاهرات السّلميّة الحضاريّة أسقطت حكومات ورؤساء دول دون أن يسقط ضحايا أو تُدمّر ممتلكات، وقادت إلى انتخابات أفرزت قيادات جديدة تحظى برضا شعوبها، وفي بلداننا فإنّ المتظاهرين والحكومات وقواها الأمنيّة لا يحترمون حقّ التّظاهر، فنرى المتظاهرين يغلقون الشّوارع والطرقات بالحجارة وإطارات الكاوتشوك المشتعلة، ويدمّرون المؤسّسات الرّسميّة والمحلات التّجاريّة في طرقاتهم، وكأنّهم في معركة مع أعداء. وهم بهذا يؤذون أنفسهم ويؤذون غيرهم من المواطنين دون مبرّر.
وتقابلهم قوى الأمن بالعصيّ والرّصاص، وفي كثير من الأحيان دون مبرّر أيضا. ولا أحد ينتبه إلى الأضرار التي تلحق بالمواطنين وبمؤسّسات الشّعب نتيجة عبث بعض المتظاهرين، وإن انتبهوا فإنّهم لن يستطيعوا التّغيير، لأنّ صوتهم يكون كما “الطّبل عند الطّرشان”. وحتّى عندما تكون المظاهرات ضدّ الغزاة والمحتلين، كما يحدث في الأراضي الفلسطينيّة المحتلة، فما الدّاعي لهدم السّلاسل الحجريّة في القرى ورمي حجارتها في الشّوارع والطّرقات؟ وتدمير المحلّات التّجاريّة والمؤسّسات في المدن واغلاق الشّوارع بالاطارات المشتعلة أيضا. فمن المتضرّر من ذلك هل هم المواطنون أم قوّات الاحتلال؟

ثقافة العمى الحزبيّ
من حقّ شعوبنا أن تتمتّع بالحرّيّات الدّينيّة والعقائديّة، وحرّيّة التّنقّل واختيار مكان السّكن، واختيار شريك الحياة، واختيار من يحكمها أو يمثلها في مؤسّسات الدّولة، كما هو من حقّها أن تكون لها صحافة حرّة تتّسع للرّأي والرّأي الآخر، وهذا يتطلّب أن تكون لنا دولة مدنيّة لها قوانينها، التي تضمن مساواة المواطنين فيها، وفصل واستقلاليّة السّلطات الثّلاث وهي التّنفيذيّة والتّشريعيّة والقضاء. ومن حقّ المواطنين أن تكون لهم أحزاب وتنظيمات تعبّر عن اتجاهاتهم الفكريّة والسّياسيّة، وصيانة الحرّيّات تتطلّب القناعة والايمان بتبادلية السّلطة من خلال انتخابات حرّة ونزيهة، واحترام نتائج هذه الانتخابات بأن تقبل الأقلّيّة الحزبيّة بحكم الأكثريّة، بما يخدم الشّعب والوطن، ويعمل على رفعتهما، ويصون وحدة الشّعب والوطن، ويبني للدّولة مكانة تليق بها بين الأمم، فما يجمع أبناء الشّعب الواحد أكثر بما لا يقاس بما يفرّقه.
فهل هذا ما يجري في بلداننا؟ وهل عندنا فهم راق لمفهوم الحرّيّات؟ وهل فهمنا للتّعدّديّة الحزبيّة والثّقافيّة تربية وسلوك أم مجرّد صندوق اقتراع؟ ولكي نكون صادقين مع أنفسنا قبل غيرنا، علينا أن نتذكّر دائما أنّ أحزابا في دول عربيّة تزعم أنّها ثوريّة وطلائعيّة ووحدويّة وديموقراطيّة، وصلت إلى الحكم بانقلابات عسكريّة، وما لبثت أن حكمت شعوبها بالحديد والنّار، فقمعت الحرّيّات واضطهدت الأحزاب الأخرى التي كانت حليفا لها في مراحل سابقة، كما اضطهدت الأقليّات الدّينيّة والعرقيّة.
كما شاهدنا ونشاهد أحزابا من الاسلام السّياسيّ، لا ترى مسلمين غيرها، وهي تؤمن بالانتخابات لمرّة واحدة إذا ما فازت، وبعدها تجيّر الدّولة لمصلحة الحزب، وتضطهد هي الأخرى مخالفيها سواء كانوا أفرادا أو أحزابا. واذا لم تفز بالانتخابات فإنّها تلجأ إلى العنف للوصول إلى الحكم.
ويلاحظ أيضا أنّ الأحزاب الوطنيّة والدّينيّة إذا ما كانت في المعارضة، فإنّها لا تحترم رأي الأغلبيّة الحاكمة التي أفرزتها صناديق الاقتراع، ولا تسعى إلى اسقاط الحكومات التي تعارضها من خلال البرامج الواقعيّة والصّحيحة التي تقنع الشّعب كي ينتخبها بناء عليها، وبعضها يتذيّل لجهات أجنبيّة ويخدم أجندتها ويقبل تمويلها له على حساب شعبه ووطنه.
ونتيجة لعدم الاستقرار في منطقتنا، وما يترتب عليه من مشاكل على مختلف الأصعدة، ولأنّنا في فلسطين لم نبن الدّولة المدنيّة المستقلة حتّى الآن، ولم نجرّب حلاوة الاستقلال الحقيقيّ، فإنّ ذلك أدخلنا ويدخلنا في مشاكل لها أوّل وليس لها آخر. ولنأخذ مثالا على ذلك الحالة الفلسطينيّة، كون فلسطين تعيش تحت احتلال كولونياليّ أهلك البشر والشّجر والحجر، وكون شعبنا العربيّ الفلسطينيّ يسعى إلى تقرير مصيره، بالتّحرّر والاستقلال وبناء دولته المستقلة بعاصمتها القدس الشّريف بعد كنس الاحتلال ومخلّفاته كافّة. فتنظيماتنا وأحزابنا وحدّها الدّم المسفوك من أبناء شعبنا عبر عقود طويلة وفي جبهات وخنادق مختلفة، لكنّنا نلاحظ الصّراعات الحزبيّة التي أضرّت بالقضيّة وبالشّعب، والتي وصلت ذروتها في انقلاب حماس في 14 حزيران-يونيو- 2007 لتفصل قطاع غزّة عن شطره الثّاني المعروف بالضّفّة الغربيّة، وإذا كنّا نتّفق على عَلَم دولتنا العتيدة ذي الألوان الأربعة، وهو علم الوحدة العربيّة، وعلم دولة الخلافة العباسيّة لمن لا يعلم. وهذا ما يدعو إلى التّمسك به أكثر ممّا يجب حتّى يُرفع خفّاقا فوق سور القدس ومآذن مساجدها وأبراج كنائسها، لكنّنا نشاهد تنظيماتنا وأحزابنا تقوم بمظاهرات ومسيرات واحتفالات ترفع فيها الأعلام الحزبيّة، وكأنّ للعلم الحزبيّ قدسيّة تفوق قدسيّة العلم الوطنيّ، علم الدّولة العتيدة، رمز الحرّيّة والاستقلال. أفلا يدلّ هذا على ثقافة الهبل الحزبيّة العمياء.
ثقافة الإشاعة
مصطلح الإشاعة في اللغة مشتق من الفعل “أشــاع”، وأشاع الخبر أي قام بنشره أو إطلاقه.
“والإشاعة هي خبر أو مجموعة أخبار زائفة تنتشر في المجتمع بشكل سريع، ويتمّ تداولها بين العامة ظنّا منهم على صحّتها”.
والإشاعة أنواع منها: إشاعة الحقد والكراهية، وهي تسعى إلى بثّ الأحقاد بين النّاس لإثارة الفتنة وتغذية الخلافات. ومنها إشاعة الخوف والتي تعتمد على تنمية المخاوف لدى النّاس في الظّروف العصيبة، والإشاعة معروفة عند جميع الشّعوب، وتنتشر بشكل واسع زمن الحروب والهزائم، وتجد من يروّجها وهم ما يطلق عليهم “الطّابور الخامس” وغالبا ما ينشرها الأعداء؛ لتحقيق مآربهم وسياساتهم. ونشر الإشاعة السّلبيّة ضدّ الأفراد خطير جدًا، فاغتيال السّمعة أخطر من اغتيال الجسد، كاتّهام شخص بالعمالة أو اتّهام امرأة بأخلاقها.
ومن المعروف أنّ الإشاعات التي تستهدف الوطن أو القيادات خطيرة جدّا أيضا، خصوصا في المراحل الصّعبة التي يعيشها الوطن، وقد شاهدنا ونشاهد في الأراضي الفلسطينيّة المحتلّة إشاعات يروّجها الإعلام المعادي، وتجد من يسوّقها بين ظهرانينا، ممّا يكون له نتائج سلبيّة تضرّ بقضيّتنا وبشعبنا بل وبأمّتنا، وهذا ما يجب الانتباه إليه والحذر منه، لأنّها تروّج لثقافة الهزيمة والاستسلام وبثّ اليأس بين أفراد الشعب. كما يجب الانتباه إلى الإشاعات التي يتمّ بثّها بين مجموعات متنازعة على قضايا مهما كانت بسيطة أو صعبة، والهدف منها تصعيد الموقف لإشغال النّاس بتوافه الأمور. والتي قد يترتّب عليها وقوع ضحايا أبرياء.
ويجب الانتباه إلى أنّ الإشاعة تجد مناخا خصبا تنمو فيه بين الشّعوب التي تعاني ظروفا استثنائيّة، كما هو حال شعبنا الفلسطينيّ الذي يعاني من ويلات وشرور الاحتلال.
ثقافة القتل والثّأر
عمليّات القتل في الأراضي الفلسطينيّة أمر مفزع، ونأمل أن لا تتحوّل إلى ظاهرة، أو إلى مجرّد خبر تتناقله وسائل الإعلام، أو إحصاء لعدد القتلى يضاف إلى قوائم عدد الضّحايا التي تنشرها دائرة الاحصاء، وبعض المنظّمات الحقوقيّة، وبغضّ النّظر عن أسباب هذا القتل، إلا أنّنا نقف أمام جرائم بشعة ما كان يجب أن تقع، وهذا يستدعي وضع الحلول المناسبة والسّريعة لها، ولن يتحقّق ذلك إلا من خلال قوانين رادعة، تحميها السلطة التنفيذية، ويطبقها القضاء العادل.
ونظرة سريعة لعمليّات القتل التي تستدعي عمل دراسات اجتماعيّة وعلميّة للوقوف على أسبابها، من أجل معالجتها واقتلاعها بشكل جذريّ، سنجد أنّ عمليات قتل النّساء نتاج للتّربية الذّكورية القاتلة، ولعادة ما يسمى”القتل دفاعا عن الشرف!”، وهي إرث جاهليّ مقيت ومرفوض في الأحوال كلّها، وغالبا ما تكون ضحاياه بريئة، كما أنّ التّربية العشائريّة والقبليّة التي تقدّس عمليّات الثّأر، وما يترتّب عليها من تصعيد للخلافات التي تنشب في غالبيّتها بناء على أسباب تافهة، لتتطوّر إلى عمليّات قتل بشعة، قد يذهب ضحايا لها لا علاقة شخصيّة لهم بالخلاف. ولتنتهي مؤقّتا بـ “صلحات عشائريّة” ليعود التّصعيد طلبا للثّأر بعد أشهر قليلة، ولتكون الخسائر أكبر ممّا كانت سابقا، وقد تصل إلى جريمة القتل، وما يترتّب عليها من قتل جديد، وما يتبعه من حرق للمتلكات والبيوت، وما يصاحب ذلك من إجلاء لعائلة القاتل بمن فيهم أُسَر لا علاقة لها بالجريمة، وما يصاحب ذلك أيضا من ترويع للبشر ومن ضمنهم النّساء والأطفال والشيوخ.
ولا يحتاج المرء إلى كثير من الذّكاء ليعلم بأنّ القتل جريمة بشعة لا يقرّها العقل البشريّ السّويّ، كما أنّها محرّمة دينيّا، فجميع الدّيانات السّماوية تحرّم القتل، وتحترم حياة الانسان.
قال تعالى في القرآن الكريم: ” وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنا مُتَعَمِّدا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابا عَظِيما” وقال “وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ” “وثبت في الصّحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النّبيّ صلى الله عليه وسلّم أنّه قال: اجتنبوا السّبع الموبقات…- وعدَّ منها-… قتل النّفس التي حرم الله إلا بالحقّ”.
وحتّى القتل الخطأ لم يتهاون به الدّين، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: “من قُتِل خطأ فديته مائة من الإبل، ثلاثون بنت مخاض، وثلاثون بنت لبون، وثلاثون حقّة وعشرة بني لبون ذكور.” وإذا عفا ذوو القتيل عن القاتل ورضوا بالدِيّة فإنّه تلزمه كفّارة تزكية لنفسه وهي بالتّرتيب عتق رقبة مؤمنة، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين.”
وإذا كان القتل هو عقوبة القاتل عمدا حسب الدّين، فإنّ المخوّل بتنفيذ العقوبة هو الحاكم وليس ذوي القتيل، وإذا ما أقدم أحد من ذوي القتيل على قتل القاتل، فإنّه يُقتل به، وفي هذا دعوة لحماية القانون، لأنّ القانون يحمي الجميع. فما بالكم إذا استهدف الثّأر شخصا آخر من ذوي القاتل؟
فهل يعلم القتلة ومن يقف وراءهم، أو يحرّضهم أمور دينهم ودنياهم؟ وإن علموا أو لم يعلموا فلماذا لا يوجد قوانين رادعة تجعل من القاتل عبرة لغيره؟
ثقافة الهزيمة
المثقّفون العرب – في غالبيّتهم- تفكيرهم وجهودهم وثقافتهم منصبّة على القضايا السّياسيّة بين مُرَوِّج أو معارض لهذه السّياسة أو تلك، أو لهذا النّظام أو ذلك، أو في مهاجمة السّياسات الدّوليّة أوالترويج لها، ومع أهميّة الانتباه إلى السّياسة والعلاقات السّياسيّة داخليّا واقيليميّا ودوليّا، إلا أنّها ليست المُقرّر الوحيد لمصائر الشّعوب، ومع كلّ ذلك فإنّ الدّول والشّعوب العربيّة لا تزال تتمرّغ في وحل الهزائم السّياسيّة والعسكريّة والاقتصاديّة والعلميّة، بل إنّ هذه الهزائم تتوالى بشكل مستمرّ. لكن هناك هزائم كثيرة في الاقتصاد، والتّعليم، والبيئة الاجتماعيّة، والحرّيّات السّياسيّة والدّينيّة والعلميّة والاعلاميّة … إلخ ، وحتّى في بناء الانسان نفسه. وهذه الأمور هي التي تحصد انتصارات عسكريّة وسياسيّة اذا ما تمّ التّغلب عليها. فعلى سبيل المثال يمتلك العرب أكبر احتياطي من مخزون البترول في العالم، والدّول العربيّة البتروليّة هي أكبر مصدر للبترول في العالم، وإذا ما استطاعت بعض الدّول العربيّة المنتجة والمصدّرة للبترول أن ترفع من مستوى معيشة شعوبها، إلا أنّها لم تحاول أن تستثمر فائض أموالها في إقامة صناعات تدخل من خلالها الأسواق العالميّة كمنافس في هذه الصّناعات، ولم تحاول استثمار أراضيها الزّراعيّة حتى لتغطية احتياجات سوقها المحليّ، بل هي تعتمد على مجال الاستثمار في العقارات والاقتصاد الاستهلاكيّ، وهذا دفعها إلى الاستعانة بأيد عاملة أجنبيّة وغير عربيّة، ممّا يشكّل خطرا مستقبليّا على مثل هذه الدّول، وامكانية انسلاخ(شعوبها) عن العروبة كون(مواطنيها) في غالبيّتهم غير عرب، فالامارات العربيّة المتّحدة على سبيل المثال كما تشير الاحصائيات 80% ممّن يعيشون فيها أجانب، وهؤلاء أو أبناؤهم سيطالبون مستقبلا بحقّ تقرير المصير. ومع انتشار التّعليم الجامعيّ بشكل واسع في الدّول العربيّة، في نفس الوقت الذي يوجد فيه أكثر من 100 مليون أمّي في العالم العربيّ، إلا أنّ هذا التّعليم هو امتداد للتّعليم المدرسيّ، وكلاهما لا يعطيان للعلوم الحديثة أهمّيّة تذكر، بل إنّهما لا يواكبان العلوم الحديثة ممّا يقود في المحصّلة إلى أنّ خريجي جامعاتنا هم أشباه متعلّمين قياسا بخريجي الجامعات في أوروبا الغربيّة وأمريكا مثلا، ومع أنّ النّهوض العلميّ المدروس والحديث هو الكفيل بالنّهوض في المجالات الأخرى كافّة، إلا أنّ ذلك ليس واردا في حساباتنا، وللتّذكير فقط فإنّ العالم المصريّ المرحوم الدكتور أحمد زويل-الحاصل على جائزة نوبل في الكيمياء- أوضح في لقائه مع أساتذة الجامعات، وبعض المفكّرين في جامعة القاهرة، بأنّ السّبيل الوحيد للنّهوض بالشّعوب العربيّة هو العلم فقط، ولا شيء غير العلم. ونفس التّوضيح جاء على لسان السّيّد مهاتير محمد رئيس وزراء ماليزيا السّابق، والذي نهض باقتصاد بلاده من المديونيّة إلى دولة تمتلك مئات المليارات كاحتياطيّ في خزينتها. والتّخلّف العلميّ يقودنا إلى حلقات مفرغة من التّخلّف في مختلف مجالات الحياة، وإذا ما ألقينا نظرة على القطاع الزّراعيّ في مختلف الدّول العربيّة، فإنّنا سنجد أنّ المستغَلّ من الأراضي الزراعيّة هي نسبة قليلة جدّا، فالسّودان على سبيل المثال والذي تعتبره الأمم المتّحدة مع استراليا وكندا سلّة الغذاء الاحتياطيّة للعالم أجمع، فإنّ نسبة الأراضي الزّراعيّة المستغلّة فيه لا تصل إلى واحد في المئة، ممّا يعني أنّ ملايين الفدادين من الأرض غير مستغلّة زراعيّا، وأنّ بعض مناطق هذا البلد تشهد مجاعات، وكذلك الأمر في جيبوتي، وكذلك العراق الذي كان انتاجه من الحبوب وغيرها من المحاصيل يكفي دولة الخلافة، وغيرها من الدّول، فما هو دور الحكومات في التّعليم والقضاء على ظاهرة(العيب)هذه؟ وممّا لا شكّ فيه أنّ التّخلّف في مجالات العلوم يقود أيضا إلى تردّي الأوضاع الصّحّيّة، وإلى التّخلّف الاجتماعيّ والاقتصاديّ، ممّا يولّد ظواهر سلبيّة في المجتمع، تقود إلى النّزاعات التي ينفذ من خلالها أعداء الأمّة لاثارة الحروب الأهليّة، كي تسهل السّيطرة على هذه الشّعوب، كما أنّها تلد تململا عشوائيّا وجاهلا، مثل ظهور التّطرّف الدّينيّ الذي يضر بالنّاس ويسيء للدّين قبل غيره، فأصحاب الفكر التّكفيريّ يرفعون شعار الدّين والتديّن عن جهل منهم في أمور دينهم وحتّى دنياهم، ويقومون بأعمال ليست من الدّين، كأعمال التّفجيرات التي يقتلون بها أنفسهم، ويقتلون غيرهم من أبناء دينهم وأمّتهم، وبعض الأجانب الذين لم يقترفوا شيئا يستحقون القتل عليه، كما حدث في بعض العواصم والمدن العربيّة والعالميّة، أو يقومون بأعمال لا يمكن تفسيرها إلا أنّها ارهاب عالميّ مثل تفجير الطّائرات المدنيّة، والتّفجيرات في الشّوارع والمراكز التّجاريّة التي تكتظ بالنّاس، وهذه الأعمال يتلقّفها أعداء الأمّة ويروّجونها لمهاجة الاسلام كدين، وكأنّ هؤلاء المغرّر بهم حجّة على الاسلام.
ومن المفارقات غير العجيبة مثلا أنّ دولا كاليابان وألمانيا وإيطاليا قد خرجت من الحرب العالميّة الثّانية مهزومة ومدمّرة، وغنيمة حرب للدّول المنتصرة كأمريكا التي لا تزال تحتفظ بقواعد عسكريّة في هذه البلدان، إلا أنّ هذه الدّول نفضت غبار الهزيمة، وبدأت بعملية بناء جديدة، وتعتبر منذ عشرات السّنين من الدّول الصّناعيّة الثّمانية الأولى في العالم، بل هي تنافس أمريكا في السّيطرة على سوق الاقتصاد العالميّ. بينما الدّول العربيّة التي كانت مستقلة في نفس تلك الفترة، وأخرى كانت في طريقها إلى الاستقلال بقيت تعاني من الفقر والتّخلّف. واللافت للانتباه أنّ الشّعوب العربيّة مخدّرة إلى درجة التّغييب عن قضاياها وهمومها، والسّبب أنّ الذي يروّج لقبول الهزائم، ويعمل على غسيل دماغ الشّعوب، بل ويضلّل الحكّام هم مثقفون عرب، يركبون مصالحهم الشّخصيّة، وهم يتبوّأون المناصب الرّفيعة، ويحوّلون الهزائم إلى انتصارات، لترويج استبداد الحكام، وتبعيتهم لدول أجنبية وكأنّها لمصلحة الشّعب والوطن. ولو أخذنا السّاحة الفلسطينيّة كمثال على دور بعض المثقّفين، فإنّنا سنجد مثقّفين يبرّرون أو يشجّعون بشكل وآخر الانقسام على السّاحة الفلسطينيّة، من خلال التّحيّز الأعمى لهذا الفصيل أو ذلك من الفصيلين المتناحرين في الضّفّة الغربيّة وقطاع غزّة، ويغذّون الانقسام، وسنجد مثقّفين فلسطينيين يتكلّمون عن انتصارات كبيرة، مع أنّ فلسطين التّاريخيّة محتلّة، إضافة إلى أراض عربيّة أخرى، وسنجد مثقّفين آخرين يروّجون لسياسة التّذيّل والعمالة للدّول المعادية بحجّة الحنكة السياسيّة، وسنجد مع الأسف من يصفّق لهم غير عابئين بما قاله الشّهيد صلاح خلف قبل أربعين عاما “أكثر ما أخشاه أن تصبح الخيانة وجهة نظر.”
ودور العهر التّثقيفي لبعض المثقّفين العرب يتعدّى إلى بقيّة الدّول العربيّة، فمثلا هناك مثقّفون عراقيّون وعرب يدافعون عن احتلال العراق، وعن مقولة الرّئيس الأمريكي السّابق جورج دبليو بوش الذي اعتبر احتلال العراق تحريرا! مع أنّ هذا (التّحرير) تمخّض عن تدمير العراق حضارة وشعبا ودولة. فأكثر من مليون مدنيّ عراقيّ قتلوا، وخمسة ملايين طفل عراقيّ تيتّموا، ومليون امرأة عراقيّة ترمّلن، وربع الشّعب العراقيّ مشرّد خارج حدود وطنه … وهكذا، ولا يوجد أبشع من دعوات بعض المثقّفين أو مدّعي الثّقافة دولا أجنبيّة لتدمير بلدانهم واحتلالها وقتل شعوبهم، كما يحصل في سوريّا منذ العام 2011. لكن وفي الأحوال كلّها فإنّ المثقّفين المروّجين والمدافعين عن ثقافة وسياسة الهزيمة غير معنيّين بتطوير مجتمعاتهم والنّهوض بها، فحلقات التّخلف التي تعيشها الشّعوب إذا ما خرجت منها فإنّ الدّائرة ستدور على رؤوس هؤلاء المثقّفين الفاسدين والمفسدين، وهذا ما يدفعهم إلى الاستمرار فيما هم عليه من ضلال.

ثقافة الهبل في فهم صراع الأجيال
ممّا يروى أنّ أحد الفلاسفة سئل: ما خير ما في الانسان؟
فإجاب: عقل يسيّره.
فقيل له: وإن عُدم؟ فأجاب: علم ينفعه
وقيل له مرّة أخرى وإن عُدم؟ فإجاب: نار تحرقه.
فأيّ من الثّلاثة ينطبق علينا نحن العربان؟ فعندما يولد لأحدنا طفل، فإن كان ذكرا تعاملوا معه على أنّه رجل منذ يومه الأوّل، وإن كان المولود أنثى يتمّ التّعامل معها على أنّها “عروس” منذ يومها الأوّل، وعندما يحبو الطّفل ويمشي، وفي مختلف مراحله العمريّة أيضا يجري زجره على أيّ خطأ مهما كان صغيرا، ويحاط الأطفال من الجنسين بطوق “العيب” حتّى أنّ البعض منهم يظّن أنّه “كتلة عيب” وسط “الكبار الأفاضل”ّ! ويبقى الابن الذّكر “طفلا” ما دام والده حيّ يرزق، حتّى لو كان في الثّمانين من عمره، ووالده في المائة حيّ يرزق، في حين هو رجل على أمّه وأخواته بتربية ذكوريّة لا غبار عليها، في حين تبقى المولودة الأنثى عروسا تحت الرّقابة حتّى تتزوّج، وبعدها تصبح امرأة وربّة بيت حتى ولو زوّجوها وهي في سنّ الطفولة، وضمن تربية ثقافة الهبل والاستهبال مطلوب من الأبناء أن يكونوا صورة طبق الأصل عن والديهم، وممنوع عليهم مسايرة أبناء جيلهم وما طرأ على الحياة من تطوّر لم يكن زمن طفولة وشباب الوالدين، يعني لا يتمّ فهم صراع الأجيال ولا يعرف الغالبيّة كيفيّة التّعامل معه، وصراع الأجيال معروف منذ القدم، فالإمام عليّ كرّم الله وجهه قال:”اتّقوا الله في أبنائكم فقد خلقوا لزمن غير زمنكم” ويبدو هذا في عصور الجهل الحاليّة عصيّ على فهم كثيرين. ولا يستوعب كثيرون أنّ كثرة الضّغط قد تولّد الانفجار، أي ربّما ستقود إلى الانحراف، لأنّ الثّقة تصبح معدومة بين الوالدين والأبناء.
وثقافة الهبل والجهل في التّعامل مع الأبناء تعني أنّنا نحرمهم من أجمل مرحلة في حياتهم، وهي مرحلة الطّفولة مع ما تحمله من براءة، وبالتّالي فنحن نهدم الانسان بدلا من بنائه، نهدم شخصيّة أبنائنا، وندرّبهم كيف ينقادون لغيرهم بدون تفكير، ولا ننتبه للعواقب الوخيمة على جيل الأبناء الذين هم جيل المستقبل.
ثقافة الشّطّار
(ما معنى كلمة “شاطر” فى اللغة العربيّة؟
نحن نقول: فلان شاطر” نقصد أنّه ممتاز في الدّراسة أو في العمل أو في وجه ما من الوجوه.
فهل هذا صحيح؟
الصّواب: لا.
بل العكس.
فلفظة (شاطر) أطلقت في العربيّة على صفات قبيحة، وقد جاء في القاموس المحيط (1/533): “والشَّاطِرُ : من أعْيا أهلَه خُبْثا”.
والأصل في الشّاطر أنّه الذي يشطح في سيره ويخالف الجادة ويبعد عنها قال الزّبيديّ في تاج العروس من جواهر القاموس (12/71): “قال أَبو إِسحاق : قَوْلُ النّاس: فلانٌ شاطِرٌ: معناه أَنه آخِذٌ في نَحْوٍ غيرِ الاستواءِ، ولذالك قيل له: شاطِرٌ ؛ لأَنّه تَباعَدَ عن الاسْتِواءِ” .
وقال أبو بكر محمد بن القاسم الأنباري في الزّاهر فى معانى كلمات النّاس (1/115): “وقال أبو عبيدة: الشّاطر معناه في كلامهم الذي شطر نحو الشّرّ وأراده”.
والشّطارة هي المصدر من ذلك قال الجوهريّ في الصّحاح (3/260): ” والشاطر: الذى أعيا أهله خبثا. وقد شطر وشطر أيضا بالضّمّ، شطارة فيهما”.
ولذلك جاء في المعجم الوسيط (1/482): “الشاطر الخبيث الفاجر.”)
كثيرون جمعوا أموالا طائلة وأثروا ثراء فاحشا دون أن يعملوا شيئا، اللهم إلاّ إذا اعتبرنا التّهريج والاحتيال عملا، فبعض الأثرياء احتال على تنظيم أو حزب ونهب ما نهب باسم النّضال والجهاد! وبعضهم أثرى من خلال الاتّجار بالمخدّرات، فأصبحوا – بعد أن بنوا العمارات الفاخرة واشتروا الأطيان – وجاهات اجتماعيّة يشار إليها بالبنان، لكنّ التّجارة الأكثر ربحا في الأراضي الفلسطينيّة تحديدا وتخصيصا، وفي بقيّة الدّول العربيّة بشكل عامّ في أيّامنا هذه هي تجارة المنظّمات غير الحكومية المدعومة من دول الاتّحاد الاوروبي ومن أمريكا، وقد بدأت هذه المنظّمات نشاطاتها في استهبال واضح لتنظيمات وأحزاب لم تدرك خطورتها إلا لاحقا، وهذه التّجارة اتّخذت تخصّصات مختلفة حسب طلب “المستثمر”، لكن أشهر هذه التّخصّصات هي:- حقوق الانسان، التّوعية الدّيمقراطيّة، المرأة والطفل.
واستغلّ “المستثمرون” وكلاءهم المحلّيّين في نشر سياساتهم وأفكارهم وترويجها، في حين أنّ الوكلاء المحلّيّين استغلوا شعبهم من أجل الاثراء الشّخصيّ، وفي الأراضي الفلسطينيّة لم يقتصر الاثراء على القائمين على هذه المؤسّسات، بل امتدّ إلى شركائهم ممثّلي الجهات المموّلة الذين يظهرون كمتطوّعين في الأراضي الفلسطينيّة، بل وإلى شركاء مماثلين في الجانب الاسرائيليّ بنوا مؤسّسات مماثلة كتلك العاملة في الأراضي الفلسطينيّة،والمموّلون لا يدفعون للشّطّار الفلسطينيّين إلا إذا نسّقوا مع أقرانهم الاسرائيليّين.
ولا يفهمنّ أحد بشكل من الأشكال أنّ هذا الحديث يعني الوقوف ضدّ حقوق الانسان أو التّوعية الدّيمقراطيّة أو حقوق المرأة والطّفل، وإنّما يهدف إلى فضح الدّور المشبوه واللاأخلاقي لزمرة “الشّطّار” الذين استطاعوا تضليل الشّعب، ويسعون إلى أن يصبحوا قادته من خلال الانفاق الماليّ وتقديم الرّشوات، فانطلت حيلتهم على الشّعب فاعتبرهم البعض” شطّارا” مع معرفته المسبقة بلصوصيّتهم، وإذا كانت كلمة “الشّطّار” تعني اللصوص في اللغة إلاّ أنّ عامّة النّاس تعني بها الحذاقة والذّكاء والمهارة، ففي زمن الهزائم تنعكس الأمور، ويصبح اللصّ قائدا سياسيّا ذكيّا ووجيها اجتماعيا نابها بدلا من قطع يده أو وضعه في السّجن، ولا يلومنّ لائم عامّة النّاس لأنّ هؤلاء الشّطار اشتروا ذمم قادة سياسيّين وأمنيّين من خلال الانفاق الماليّ من أموال سرقوها، وهكذا فإنّ الدّائرة تتّسع؛ ليصبح حاميها هو حراميها، فبدلا من أن يحاسب هؤلاء القادة الشّطّار على ما سرقوه، فإنّهم يوفّرون لهم الحماية مقابل ثمن بخس، وتمتدّ شطارة الشّطّار إلى وسائل الاعلام التي يقدّمون لها أو لمندوبيها الرّشاوي التي تتراوح بين وجبة وسكرة في مطعم فاخر، وبين الدّفع الماليّ، فأصبح الشّطّار نجوما في وسائل الاعلام المرئيّة والمقروءة والمسموعة، وشرعوا يدلون بالتّصريحات والخطابات الرّنانة التي تلهب حماس الجماهير، فضلّلوا النّاس ووجدوا المؤيّدين، وهكذا نجح المموّلون في تلميع مثل هؤلاء الشّطّار لاعدادهم كي يصبحوا قادة المستقبل، لأنّ المخطّطات ترمي إلى استبدال التّنظيمات والأحزاب السّياسيّة بالمنظّمات غير الحكوميّة ليس على المستوى المحليّ أو الاقليميّ فقط، وإنّما على مستوى العالم، وقد نجحت هذه المخطّطات في دول مثل بنجالادش وأوكرانيا وغيرها، وفشلت في مناطق أخرى مثل فنزويلا، لكنّ يبدو أنّها تسير عند العربان بخطى واثقة نحو النّجاح، وهو دور مرسوم لهم من الخارج وينفّذونه في الدّاخل، وبالتّأكيد هو ليس في صالح الوطن ولا هو في صالح الشّعب، والشّطّار ينهبون ويسرقون ولا من رقيب ولا حسيب، رغم تشكيل لجان مكافحة الفساد، لكن الأدهى أنّ الشّطّار المحلّيّين يجدون مؤيّدين لهم في الأقطار المجاورة عبر المحطّات الفضائيّة، وهؤلاء المؤيّدون إمّا هم شطّار كشّطّارنا ومموّلوهم نفس المموّلين، أو جاهلون بما يقوم به شطّارنا، ويبدو أنّ شعوبنا لن تنتبه للشّطّار إلا بعد خراب الدّيار وبعد أن يغرق الجميع في مستنقع الشّطارة.

ثقافة الهبل- الكسل:
هل الكسل ثقافة عامّة في الدّول النّامية، وهل هو موروث أم مكتسب؟ وهل يجري بناء الانسان العربيّ ليكون منتجا، أم يجري هدم كيانه الشّخصيّ؛ ليكون عالة على الغير؟ وهل “لثقافة الهبل” دور في تحطيم الانسان في بلداننا؟
رأيت مهاجرين عربا في أمريكا، بعضهم نجح وأثرى وعاد إلى بلاده، افتتح مشاريع، وبنى وعمّر واستثمر، وبعضهم أدمن المخدّرات والكحول فضاع، فما سرّ نجاح من نجحوا؟ ومن خلال مشاهداتي وكثرة أسئلتي حول الموضوع، وجدت أنّ النّاجحين، عملوا بجدّ واجتهاد متأثرين بالنّخب الأمريكيين، حيث ثقافة العمل، فيجمعون دولارات ويفتحون محلات تجاريّة، وكلّما زادت أموالهم زادت استثماراتهم وازداد تعبهم الجسديّ وراحتهم النّفسيّة، وزادت أرباحهم أيضا، وهم في الغالب يعملون أكثر من اثنتي عشرة ساعة يوميّا، ولمدّة سبعة أيّام في الأسبوع. وهكذا.
بينما في بلداننا كسالى كثيرون، لا يعملون، وإن عملوا لا يستمرّون، ويشكون دائما من قلّة الفرص المتاحة لهم، ويعتبون على الحكومات؛ لأنّها لا تصرف لهم رواتب دون عمل، بل يعتبون على والديهم؛ لأنّهم لم يتركوا لهم ثروات كبيرة يعتاشون منها، وبعضهم يعتب على اخوته وبقيّة أقاربه؛ لأنّهم لا يدفعون له مخصّصات شهريّة! المهم كلّ النّاس من وجهة نظره مقصرّون معه، باستثنائه هو فهو بريء من كلّ شيء، وغير مطلوب منه أيّ شيء، والبعض يتعالى على بعض المهن، ولا يعمل بها؛ لأنّه يعتبر نفسه أعلى منزلة منها وممّن يعملون بها، أمّا أن يكون كما المتسوّلين فلا عيب في ذلك من وجهة نظره!
ويبدو أنّ الكسل يندرج ضمن ثقافة الهبل الموروثة، وممّا كان يفعله الآباء والأجداد في الرّيف والبادية، حيث كان الذّكور يلتقون للعب “السّيجة”، يدخّنون السّجائر، ويحتسون القهوة بينما النّساء يعملن في الأرض، يزرعن، يحصدن، يرعين الماشية، يحلبن الغنم، يصنّعن الحليب ويعملن منه:”الزّبدة، السّمن، اللبن، الجبنة وغيرها” يضاف إلى ذلك رعاية الأطفال، والغسيل والطّبيخ والكنس. والرّجال يشتكون دائما من التّعب! مع أنّهم لا يعملون شيئا، وفي الوقت نفسه يتساءلون عمّا تفعله النّساء بأسلوب استنكاريّ، يعني أنّهن لا يعملن شيئا؛ لأنّ العمل في “ثقافة الهبل” يعني العمل المأجور فقط!
والكسل وعدم الطّموح تربية وسلوك سلبيّ، يعتاد عليه المرء منذ نعومة أظفاره. وقد حذّر الدّين من الكسل وعواقبه، وحضّ على العمل والكسب الحلال :
روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “والذي نفسي بيده، لأن يأخذ أحدكم حبله فيَحتطب على ظهره خير له من أن يأتي رجلا فيسأله أعطاه أو منعه.”
وممّا كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم يدعو الله:
“اللهم إنّي أعوذ بك من الهمِّ والحزَن، والعجز والكسل، والجبن والبخل، وضلع الدَّين وغلبة الرجال.”
ويقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه:
“لا يقعد أحدكم عن طلب الرّزق ويقول: اللهمَّ ارزقني؛ فقد علمتم أنّ السّماء لا تمطر ذهبا ولا فضّة”، وكان يقول: “ما من موضع يأتيني الموت فيه أحبّ إليَّ من موطن أتسوّق فيه لأهلي أبيع وأشتري.”
وممّا جاء في- هداية المرشدين إلى طرق الوعظ والخطابة؛ الشيخ علي محفوظ، ط دار الاعتصام- :
” سمع أحد الأدباء رجلا في الثلث الأخير من الليل يقول:
وأُكرم نفسي، إنَّني إن أهنتها …وحقِّك لم تكرمْ على أحدٍ بعدي
فأعجبه قوله، فأتاه حتّى وقف على رأسه، فإذا به يقمُّ الشّارع (زبّال) يَبيع القمامة ويموّل نفسه وعياله من ثمنِها، فقال له:
أنت تقول: أكرم نفسي؟ فأيّ إكرام أنت فيه مع ما تصنع من جمع القمامة؟
فقال له: إليك عنّي؛ لقد أكرمتها بهذه الحرفة عن ذلّ السّؤال لمثلِك.
فقال: صدقتَ، وقبَّله بين عينيه.”

ثقافة الهجرة من الرّيف للمدينة
يلاحظ أنّ معدّلات الهجرة الدّاخليّة من الرّيف إلى المدينة في العالم العربيّ تشكّل ظاهرة لا تبشّر بالخير، ولهذه الهجرات أسباب قد تختلف من قطر إلى آخر في جزئيّاتها، ومن هذه الأسباب أنّ اقتصاديّات البلد في غالبيّتها تتمركز في العاصمة، وفي المدن الكبيرة، وكذلك بالنّسبة للمؤسّسات، كالمستشفيات، الجامعات، الشّركات، والمصانع والبنوك، وغيرها.
ومن أسباب الهجرات الدّاخليّة أيضا أنّ الحكومات لا تبني مؤسّسات في الرّيف لاستيعاب الأيدي العاملة في مختلف المجالات.
ويلاحظ أنّ العديد من القرى لا يوجد فيها مدارس ثانويّة، مع أنّه يوجد فيها أعداد طلبة تكفي لفتح صفوف ثانويّة، وعدم وجود المدارس الثّانويّة يلزم الطلبة بالالتحاق في مدارس المدن القريبة لمكان سكنهم لاستكمال دراستهم، ثمّ الالتحاق في الجامعة، وبعد التّخرّج يبحثون عن عمل في المدينة، ويستقرّون فيها، وحتّى العمّال والمهنيّون يبحثون عن عمل في المدن، ويستقرّون فيها أيضا، والكثافة السّكانيّة في المدن تخلق أزمات كثيرة في المواصلات وازدحام الشّوارع، وأزمات في الاسكان، وارتفاع فاحش في ثمن الأراضي…..إلخ. وهذا الازدحام يزيد نسبة الجريمة في المدن على مختلف مستوياتها.
وإذا كان من البدهيّات التّذكير بحقّ المواطن على حرّيّته في التّنقّل والتّملّك والسّكن والعمل في وطنه، إلا أنّ الهجرة العشوائيّة من الرّيف للمدينة لها سلبيّاتها أيضا، وأولى هذه السّلبيّات هو ترك الأراضي الزّراعيّة في الرّيف وعدم استغلالها لنقص الأيدي العاملة التي تركت الحياة في الرّيف، وعدم استغلال الأراضي له تأثير بائن على الدّخل القوميّ لأيّ بلد، ومن هنا فإنّ دولا صناعيّة ثريّة جدا، كالولايات المتّحدة الأمريكيّة وكندا، تستغلّ أراضيها الزّراعيّة وتوجّه المزارعين وتدعمهم ماديّا لتوفير احتياجات البلد، وانتاج فائض هائل للتّصدير، يجعلها تسيطر على السّوق العالميّ لبعض المنتوجات كالقمح والشّعير والذّرة، بل وتتحكّم بسياسات الدّول المستوردة، بينما غالبيّة دولنا العربيّة لديها أراضٍ زراعيّة شاسعة، لا يتمّ استغلالها زراعيّا حتّى لتوفير ما يستهلكه مواطنوها، فتلجأ لاستيراد حاجة سوقها من الخارج، وتخضع لشروط المصدّرين، والتي لا تتوقّف على تسديد أثمان ما تمّ استيراده.
25-3-2017

جميل السلحوت:
– جميل حسين ابراهيم السلحوت
– مولود في جبل المكبر – القدس بتاريخ 5حزيران1949 ويقيم فيه.
– حاصل على ليسانس أدب عربي من جامعة بيروت العربية.
– عمل مدرسا للغة العربية في المدرسة الرشيدية الثانوية في القدس من 1-9-1977 وحتى 28-2-1990.
– اعتقل من 19-3-1969 وحتى 20-4-1970وخضع بعدها للأقامة الجبرية لمدة ستة شهور.
– عمل محررا في الصحافة من عام 1974-1998في صحف ومجلات الفجر، الكاتب، الشراع، العودة، مع الناس، ورئيس تحرير لصحيفة الصدى الأسبوعية. ورئيس تحرير لمجلة”مع الناس”
– عضو مؤسس لإتحاد الكتاب الفلسطينيين، وعضو هيئته الادارية المنتخب لأكثر من دورة.
– عضو مؤسس لاتحاد الصحفيين الفلسطينيين، وعضو هيئته الادارية المنتخب لأكثر من دورة.
– عمل مديرا للعلاقات العامة في محافظة القدس في السلطة الفلسطينية من شباط 1998 وحتى بداية حزيران 2009.
– عضو مجلس أمناء لأكثر من مؤسسة ثقافية منها: المسرح الوطني الفلسطيني.
– منحته وزارة الثقافة الفلسطينية لقب”شخصية القدس الثقافية للعام 2012″.
– أحد المؤسسين الرئيسيين لندوة اليوم السابع الثقافية الأسبوعية الدورية في المسرح الوطني الفلسطيني والمستمرة منذ آذار العام 1991وحتى الآن.
– جرى تكريمه من عشرات المؤسسات منها: وزارة الثقافة، محافظة القدس، جامعة القدس، بلديّة طولكرم ومكتبتها، المسرح الوطني الفلسطيني، ندوة اليوم السابع، جمعيّة الصداقة والأخوّة الفلسطينيّة الجزائرية، نادي جبل المكبر، دار الجندي للنشر والتوزيع، مبادرة الشباب في جبل المكبر، ملتقى المثقفين المقدسي، جمعية يوم القدس-عمّان، جامعة عبد القادر الجزائريّ، في مدينة قسنطينة الجزائريّة، المجلس الملّي الأرثوذكسي في حيفا.

شارك في عدّة مؤتمرات ولقاءات منها:
– مؤتمر “مخاطر هجرة اليهود السوفييت إلى فلسطين”- حزيران 1990 – عمّان.
– أسبوع فلسطين الثقافي في احتفالية “الرياض عاصمة الثقافة العربية للعام 2009.”
– أسبوع الثقافة الفلسطيني في احتفالية الجزائر “قسنطينة عاصمة الثقافة العربية للعام 2015”.
– ملتقى الرواية العربية 7 -11 أيار-مايو- رام الله-فلسطين.

اصدارات جميل السلحوت
الأعمال الرّوائيّة
– ظلام النهار-رواية، دار الجندي للطباعة والنشر- القدس –ايلول 2010.
– جنة الجحيم-رواية – دار الجندي للطباعة والنشر- القدس-حزيران 2011.
-هوان النعيم. رواية- دار الجندي للنشر والتوزيع-القدس-كانون ثاني-يناير-2012.
– برد الصيف-رواية- دار الجندي للنشر والتوزيع-القدس- آذار-مارس- 2013.
– العسف-رواية-دار الجندي للنشر والتوزيع-القدس 2014
– أميرة- رواية- دار الجندي للنشر والتوزيع- القدس 2014.
– زمن وضحة- رواية- مكتبة كل شيء- حيفا 2015.
– رولا-رواية- دار الجندي للنّشر والتّوزيع- القدس 2016.
– عذارى في وجه العاصفة-رواية- مكتبة كل شيء-حيفا 2017

روايات اليافعين
– عشّ الدّبابير-رواية للفتيات والفتيان-منشورات دار الهدى-كفر قرع، تمّوز-يوليو- ٢٠٠٧.
– الحصاد-رواية لليافعين، منشورات الزيزفونة لثقافة الطفل، ٢٠١٤، ببيتونيا-فلسطين.
– البلاد العجيبة- رواية لليافعين- مكتبة كل شيء- حيفا 2014.
– “لنّوش”-رواية لليافعين. دار الجندي للنّشر والتوزيع،القدس،2016.

قصص للأطفال
– المخاض، مجموعة قصصيّة للأطفال، منشورات اتحاد الكتاب الفلسطينيّين- القدس،1989.
– الغول، قصّة للأطفال، منشورات ثقافة الطفل الفلسطيني-رام الله 2007.
– كلب البراري، مجموعة قصصيّة للأطفال، منشورات غدير،القدس2009.
– الأحفاد الطّيّبون، قصّة للأطفال، منشورات الزّيزفونة لثقافة الطفل، بيتونيا-فلسطين 2016.

أبحاث في التّراث.
– شيء من الصراع الطبقي في الحكاية الفلسطينية .منشورات صلاح الدين – القدس 1978.
– صور من الأدب الشعبي الفلسطيني – مشترك مع د. محمد شحادة .منشورات الرواد- القدس 1982.
– مضامين اجتماعية في الحكاية الفلسطينية .منشورات دار الكاتب – القدس-1983.
– القضاء العشائري. منشورات دار الاسوار – عكا 1988.

بحث:
– معاناة الأطفال المقدسيّيين تحت الاحتلال، مشترك مع ايمان مصاروة. منشورات مركز القدس للحقوق الاجتماعيّة والاقتصاديّة، القدس 2002
أدب ساخر:
– حمار الشيخ.منشورات اتحاد الشباب الفلسطيني -رام الله2000.
– أنا وحماري .منشورات دار التنوير للنشر والترجمة والتوزيع – القدس2003.
أدب الرّحلات
– كنت هناك، من أدب الرّحلات، منشورات وزارة الثّقافة، رام الله-فلسطين، تشرين أوّل-اكتوبر-2012.
– في بلاد العمّ سام، من أدب الرّحلات، منشورات مكتبة كل شيء-حيفا2016.
يوميّات
– يوميّات الحزن الدّامي، يوميات،منشورات مكتبة كل شيء الحيفاويّة-حيفا-2016.
أعدّ وحرّر الكتب التّسجيليّة لندوة اليوم السّابع في المسرح الوطنيّ الفلسطينيّ – الحكواتي سابقا – في القدس وهي :

– يبوس. منشورات المسرح الوطني الفلسطيني – القدس 1997.
– ايلياء. منشورات المسرح الوطني الفلسطيني – القدس تموز 1998.
– قراءات لنماذج من أدب الأطفال. منشورات المسرح الوطني الفلسطيني – القدس كانون اول 2004.
– في أدب الأطفال .منشورات المسرح الوطني الفلسطيني – القدس تموز 2006.
– الحصاد الماتع لندوة اليوم السابع. دار الجندي للنشر والتوزيع-القدس كانون ثاني-يناير- 2012.
– أدب السجون. دار الجندي للنشر والتوزيع-القدس-شباط-فبراير-2012.
– نصف الحاضر وكلّ المستقبل.دار الجندي للنشر والتوزيع-القدس-آذار-مارس-2012.
– أبو الفنون. دار الجندي للنشر والتوزيع-القدس نيسان 2012.
– حارسة نارنا المقدسة- دار الجندي للنشر والتوزيع- القدس. أيار 2012
– بيارق الكلام لمدينة السلام- دار الجندي للنشر والتوزيع- القدس- ايار 2012.
-نور الغسق- دار الجندي للنشر والتوزيع-القدس 2013.
– من نوافذ الابداع- دار الجندي للنشر والتوزيع- القدس 2013.
– مدينة الوديان-دار الجندي للنشر والتوزيع-القدس 2014.

التعليقات

جميل السلحوت

جميل حسين ابراهيم السلحوت
مولود في جبل المكبر – القدس بتاريخ 5 حزيران1949 ويقيم فيه.
حاصل على ليسانس أدب عربي من جامعة بيروت العربية.
عمل مدرسا للغة العربية في المدرسة الرشيدية الثانوية في القدس من 1-9-1977 وحتى 28-2-1990

أحدث المقالات

التصنيفات