زمن وضحة-رواية

ز

جميل السلحوت

زمن وضحة
رواي
منشورات مكتبة كل شيء- حيفا
2015

تنويه: اللهجة المحكيّة لا تخضع لقواعد الّلغة.

الاهداء
إلى من ملأت حياتي حبّا
إلى حفيدتي الرّائعة لينا.

برقت عيناه كعيني كلب مسعور عندما رآها قادمة من طرف الطّريق البعيد، امتطى بغله ليعترضها … أوقف البغل أمامها بطريقة فجائيّة …جفلت إلى جانب الطّريق وسط الأشواك وهي تصرخ مرتعبة:
يمّه!
ابتسم لها وقال:
لا تخافي…أنا أحبّك!
طأطأت رأسها حياء ولم تتكلّم.
فرح بذلك ظنّا منه أنّ “السّكوت علامة الرّضا.” فتغزّل بها قائلا:
“بوزك يلمع مثل بوز البسطار
وحبّك بقلبي مثل دبيك البغال.”
وضعت يدها اليسرى على وجهها تتحسّسه، بينما كانت يدها اليمنى على صدرها فوق القلب الذي ازداد نبضه من شدّة الخوف…قالت له:
ابتعد من طريقي بدون فضايح!
ـ وإذا لم ابتعد؟
ـ سأصرخ حتّى يجتمع النّاس عليك.
ـ كيف يجتمعون ونحن في برّيّة لا ناس فيها؟
حملت حجرين بيديها، كلّ واحد منهما بحجم قبضة اليد وقالت بصوت ذي نبرة حادّة:
انصرف وإلّا…
قهقه وهو يدور حولها على ظهر البغل وسألها:
أجيبي؟
ـ عن إيش؟
عن حبّي لك.
ـ حبّك وجع يخلع نيعك واحد سافل…والله لأقول لإخوتي عَ شان يقطعوك.
– “ضبّي هرجك بفرجك يا وضحة يا سنيحة
يا راسك اقرع وثمّك له ريحة”
أنا نيّتي حسنة وبدّي الحلال يا غضيبة.
ـ الله يحرّم جلدك عليك…هيك الّلي يريد الزّواج يا ملعون الوالدين؟ انصرف أحسن لك.
– شو رايك أردفك وراي على البغل؟
ـ باين إنّك مجنون…روح أحسن لك.
أدار إسماعيل أبو بسطار رأس البغل، قفل عائدا فرحا بموقف وضحة، فالنّساء الشّريفات يتصرّفن هكذا حسب فهمه، بينما بكت وضحة حتّى احمرّت عيناها….لم تعرف إن كانت تبكي غضبا ممّا جرى من تصرّف إسماعيل أبو بسطار، أم فرحا لأنّها هذه المرّة الأولى التي يتعرّض لها فيها شاب….تحسّست نهديها الصّغيرين تبحث عن أنوثتها التي لم تكتمل، فهي لا تزال في الخامسة عشرة من عمرها…بينما يزيد عمر إسماعيل أبو بسطار عن ضعف عمرها…وهو متزوّج من امرأة وأب لخمسة أطفال، اثنان منهم ذكور… تعدّد الزّوجات أمر شائع بينهم، ولا غرابة فيه، فوالدها تزوّج من ثلاث نساء، طلّق إحداهنّ؛ فحملت أبناءها الأربعة وعادت إلى أهلها في قرية بعيدة في دولة مجاورة، وانقطعت أخبارهم، أمّا الأخرى فقد ماتت دون أن تنجب، وأخوها البكر متزوّج من اثنتين. وجدّها لأبيها طلّق زوجتين، ومات عن أربع نساء وهو لا يعرف عدد أبنائه وأحفاده.
دخلت الغرفة الفقيرة…لم تطرح السّلام على والدتها…ارتمت في الزّاوية باكية بعد أن ألقت خريطة الخبّيزة جانبا…لحقت بها والدتها تسأل:
خير يا بنت شو صار لك؟
– ـ إسماعيل أبو بسطار تعرّض لي في الطّريق.
– كيف تعرّض؟ وماذا فعل؟
– ـ قال لي بأنّه يريد الحلال!
– وشو قال كمان؟
– ـ قال لي حكي ما حفظته ….لكنّه يعني أنّي مزيونة.
ضحكت أمّ وضحة وقالت لها:
طيّب حطّي في ثمّك رغيف خبز واسكتي، ما بدّي حدا يسمع هيك كلام….الحمد لك يا ربّي…صرتِ عروس والرّجال ينتبهوا لك…أبوي الله يرحمه تزوّج أمّي وعمرها عشر سنين، وخلّفتني بعد سنتين…وأنا تزوّجت ابن الفنسا قبل ما يصير عمري اتنعشر سنة…وشردت من عنده بعد شهرين، وربنا قسم النّصيب وتزوّجت أبوك بعد الطّلاق بستّ شهور، الحمد لله كنت “أزُق” كلّ سنة واحد، وهيّو عندي أربعتعش، تسع بنات وأربع أولاد غير الّلي عند الله.
وضحة: شو الّلي عند الله يمّه؟
– الأولاد اللي نزلوا في الحمل قبل التّسع شهور وماتوا…نزّلت والعلم عند الله أكثر من عشر مرّات.

– ليش طلّقك ابن الفنسا؟
– كنت أعجن في باطية كبيرة تكفي لكلّ العائلة، ونعست من التّعب، نمت وراسي على الباطية، لمّا شافني هيك – الله لا يسامحه- ضربني ضرب ما يتحمّله حمار، وطردني وهو يقول:
– أنت مش شغل زواج.
– وأمّه – الله لا يسامحها- زفّتني بكلام وسخ مثلها، وطردوني في الّليل.
شعرت وضحة بطمأنينة بعد أن سمعت كلام والدتها….تحسّست صدرها مرّة أخرى، فشعرت بلذّة كمينة لم تعرفها من قبل…فكّرت بما قالته أمّها فاعتقدت أنّها عانس!
سألت وضحة: كيف كانوا يعقدون الزّواج عَلى البنات الصّغيرات؟
– ما كان عقود زواج ولا سخام…كان والد العريس يطلب العروس من والدها بوجود الشّيخ، ويقرؤوا الفاتحة، يجيبوا “سفط حلقوم” ويغنّوا ويرقصوا ليلتين، ويوم الفاردة يذبحوا نعجة، وياخذوا العروس.
وضحة: والعرايس بهذا العمر يكنّ بالغات؟
– بالغات ولّا مش بالغات ما حدا سائل عنهن…وجدّتك- الله يرحمها- قالت انها بلغت المحيض بعد زواجها بستّة أشهر…وليلة الحنّا قالت انها نامت وهن يحنّين يديها.
وضحة: كيف المرأة تقبل تتزوّج على ضرّة؟
– ـ الزّواج سترة يمّه! والرّجل دايما رجل…لا يعيبه شيء.
– ـ والبنات شو عيبهن يمّه؟
– ـ البنات كلهنّ عيب…والزّواج سترة!
– ـ يعني البنت الّلي ما تتزوّج تصير عايبة؟
– ـ اخرسي يا بنت…مش هيك الأمور…لكن” الأعراض لا تحمى بالسّيف”!
– ـ طيّب مين يحميها؟
– ـ لا حول ولا قوّة إلّا بالله…حسبي الله على هيك بنات…عندما تكبري رايحة تعرفي كلّ شي.
– عندي شغل…بدّي أعمل الجبنة…لكن إيّاك تجيبي سيرة أيّ رجل على لسانك…لأنّه ما بدنا فضايح…والبنت طويلة الّلسان ما حدا يتزوّجها.
ـ يعني عيب أحكي لأبوي وإخوتي عن إسماعيل أبو بسطار؟
ـ قبرتِ أهلك يا ربّي…بدّك يذبحوك.
ـ يذبحوني ليش؟ ما عملت خطأ.
ـ الرّجل لا يعيبه شي…وإذا صارت سيرتك على لسان النّاس نهايتك الذّبح ولو كنت أمّ الشّرف!
ـ الله يقطع البنات ويقطع عيشتهن…شو ما عملن مظلومات.
ـ هاي حياتنا والله “ولد أهبل أحسن من عشرين بنت شاطرات”…ويوم ما كنت ألد بنت كنت أبكي على حالي وعليها…وأتمنى لو انها تموت من ساعة ما تطلع للدّنيا على شان ترتاح وتريّحنا لأنّه “همّ البنات للمات.”
فهمت وضحة من كلام أمّها أنّ عليها الاستعداد للزّواج منّ أوّل شخص يطرق الباب طالبا يدها، بغضّ النّظر عن عمره وعن عدد زوجاته…منّت نفسها أن يطلب يدها عازب قريب من عمرها…لتكون له زوجة مطيعة تملأ بيته أولادا ذكورا…وتغنيه عن كلّ النّساء الأخريات، فلا يفكّر بالزّواج عليها…لكنّها تخاف من إسماعيل أبو بسطار، فإذا تقدّم لها، ولم يرفضه والدها، فإنّها ستكون زوجته الثّانية، وهذا ما لا تريده…فكّرت بالموضوع فرأت نهارها ليلا سرمديّا…بكت على حالها وعلى أحوال بنات جنسها بعدما سمعت ما قالته أمّها… تمنّت لو أنّها لم تولد، ولم ترَ هذه الحياة البائسة، لكنّها عادت تفكّر بوالدتها…صحيح أنّها تعمل وتتعب وتشقى، فهي ترعى الغنم، تحلبها…تعمل الحليب جبنا ولبنا وزبدة وسمنا، تحصد، تغربل وتحطّب، تعجن…تخبز وتقوم بأعمال البيت ورعاية الأطفال قدر استطاعتها، لكنّها لم تشْكُ يوما ولم تحتجّ! فهل هي سعيدة في حياتها أم أنّها لا تريد إزعاج بناتها وأبنائها بمعاناتها؟ صحيح أنّ والدها يضرب والدتها لأتفه الأسباب فتبكي بصمت…لكنّها تواصل عملها كأن شيئا لم يحصل! فهل تتلذّذ بالضّرب أم أنّها مستسلمة لقدرها؟ وما هي أسبابها الحقيقيّة؟ أسئلة كثيرة هاجمت دماغها ولم تجد لها جوابا…تذكّرت فَزِعة مجايلتها خميسة الّتي خطّبوها لمحمّد ابن عمّها الذي يكبرها بشهرين ساعة ولادتها، وعندما بلغ الرّابعة عشرة من عمره زوّجوه فاطمة العبد ابنة التّسع سنوات…لأنّ والدته رفضت زواجه من خميسة…فتشاجر الوالدان، واشترك في المشاجرة أبناؤهما…وأصبحوا أعداء بدل الأخوّة، وانتشرت إشاعات كثيرة عن أسباب عدم زواج محمّد من خميسة! إلى أن زوّجوها من رجل من قرية أخرى في الخمسينات من عمره وله زوجتان أخريان…فأصبحت خادمة لزوجتيه وأبنائه الذين يكبرونها عمرا، ولمّا هربت إلى بيت والديها بعد أن تحرّش بها أحد أبناء زوجها…ازدادت الإشاعات حولها…وكانت نهايتها الذّبح على يدي شقيقها الأكبر بتحريض من والدها.
أمضت وضحة ليلتها باكية…لم يشعر بها أحد، ولا يعرف همومها أحد، فرغم صِغَر عمرها إلّا أنّ همومها أكبر منها…هي لا ترى نفسها صغيرة، فغالبيّة بنات جيلها متزوّجات، وبعضهنّ أصبحن أمّهات – مع أنّهنّ لا يعرفن كيف يعتنين بأطفالهنّ- ومن أنجبت منهنّ طفلا ذكرا فإنّ حماتها تريها كيف تعتني بطفلها من رضاعة ونظافة ونوم، وإذا ما أنجبت ابنة أنثى فإنّ والدتها رغم ضيق وقتها- ترشدها بكيفيّة رعاية طفلتها وتقول لها:
لا تخافي عليها “البنات مثل خبّيزة المزابل” يكبرن بسرعة ولا يحتجن الرّعاية، جهزي حالك عَ شان تجيبي لها أخو!
بكت وضحة بحرارة وهي تتذكّر فاطمة شقيقتها التي تكبرها بأربع سنين وماتت في المخاض، وصراخها من شدّة الألم يدوّي في السّماء، لم تجد من يأخذها إلى طبيب أو مستشفى، حتّى قابلة لم يحضروا لها…صحيح أنّ كلّ الن~ساء المسنّات يعتبرن أنفسهنّ قابلات بخبرتهنّ الطّويلة في الحمل والإنجاب…لكّنّهن عاجزات عن معرفة أسباب تعثّر بعض النّساء في الولادة…بل يعتبرن ذلك دلعا زائدا من تلك النّساء! وعندما تموت إحداهنّ في المخاض فإنّهم يعتبرون بأنّ عمرها قد انتهى، هذا نصيبها وقدرها! “فالرّب معبود والعمر محدود”…وإذا ماتت المرأة في المخاض وأنزلت جنينها حيّا، وبقي على قيد الحياة فإنّه سيلقى الرّعاية إن كان ذكرا، أمّا إذا كان أنثى فإنّها تعيش مأساة طيلة حياتها، ويعتبرونها قاتلة لوالدتها! حمدت وضحة ربّها أنّ جنين شقيقتها فاطمة توفيّ مع والدته؛ كي لا يعاني بؤس حياة اليُتم.
غفت وضحة بعد منتصف الّليل، مع ساعات الفجر الأولى، استيقظت مفزوعة على صراخ رمّانة زوجة حمدان شقيقها، ركضت إلى غرفتها تستطلع سبب صراخها…وجدتها في حالة مخاض، تجلس القرفصاء بمساعدة والدتها وحماتها الّلتين تحاولان رفعها من تحت إبطيها…كي لا تسقط أرضا…يصحن بها:
اضغطي…لا تخافي سينزل المولود…شدّي حيلك…الله يعينك.
قالت الحاجّة صبحة كبيرة النّساء:
هاتوا بسطار زوجها…عَ شان تشرب منه كاسة ميّة وسينزل المولود! طلبت من وضحة أن تأتي ببسطار شقيقها…لكنّها تجاهلت الطّلب، فصاحت بها والدتها:
هاتِ بسطار أخوك يا وضحة…اسمعي الّلي قالته الحجّة صبحة.
قامت وضحة متكاسلة فهي غير مقتنعة بذلك…لكنّها لا تملك من أمرها شيئا…وجدت شقيقها ينتعل الحذاء ليذهب للعمل في الأرض…طلبت منه الحذاء فاستغرب الطّلب…لكنه أعطاها فردة من البسطار بعد أن أمره أبوه بذلك…عادت وضحة بفردة البسطار، وضعتها أمام الحاجّة صبحة ودموعها تنهمر على وجنتيها…نظرت إلى رمّانة التي كانت في حالة إنهاك شديدة، الزّبد يخرج من شدقيها…ارتخى جسدها وهنّ يتناوبن على رفعها من تحت إبطيها كي لا تسقط أرضا، وبالتّالي لن يجد الجنين طريقه إلى الخروج، لأنّه ممنوع على المرأة الاستلقاء على ظهرها أثناء المخاض…تتعالى دعوات النّساء يطلبن من الله ومن أنبيائه أن ييسّر خروج الجنين من رحم والدته …أسقينها الماء من حذاء زوجها الذي تنبعث منه رائحة كريهة…لم تعد رمّانة بكامل قدراتها ووعيها…أنينها يقطع نياط القلوب…لم تستجب وضحة لطلبات النّساء بمساعدتهنّ برفع رمّانة …بل خرجت راكضة إلى أخيها حمدان زوج رمّانة وقالت له:
رمّانة وضعها خطير يا حمدان ما رأيك بنقلها إلى المستشفى؟
قبل أن يفتح حمدان فمه قال أبوه:
شو صار لك يا وضحة؟ بدّك النّاس يشوفوا عورات بناتنا؟
وضحة: رمّانة تموت يابا…جيبوا لها داية متعلّمة على الأقلّ.
ـ بعدك صغيرة على فهم الولادة….لا تخافي عليها…كلّ النّساء يصرخن أثناء الولادة، وبعد الولادة يحملن وينجبن مرّة أخرى.
بكت وضحة، فضحكوا منها، واستهزؤوا بها.
عادت وضحة منتحبة إلى المخزن حيث تنام، خفت صوت رمّانة ولم يعد مسموعا…نزل الجنين ونزل معه رحم رمّانة…احتضنت حماتها الجنين وهي تزغرد فرحة بالمولود الذّكر الجديد….مدّدن رمّانة على كيس خيش…عبثن برحمها المتدلّي، قالت الحاجّة زكيّة:
يبدو أنّ هذا جزء من أمعائها!
بكت والدتها وقالت: و”العلم عند الله- هذا رحمها يا حجّة، لن تحمل بعد هذه الولادة إن لم نعده مكانة!
تبرّعت الحاجة صبحة بذلك…مسحت يديها على ثوبها…أمسكت الرّحم من منتصفه…وشرعت تعيده إلى مكانه وهي تبسمل وتحوقل…لم تتحرّك رمّانة من مكانها، ولم يصدر منها أيّ صوت، وضعت والدتها يدها على جبين رمّانه…قالت ملتاعة:
رمّانة باردة يا بنات!
الحاجّة صبحة: فال الله ولا فالك…البنت تعبانة ونايمة…اتركنها تنام شويّه وبعدها رايحة تقوم مثل الفرس الأصيلة.
وضحة: حسرتي عليك يا رمّانة.
التفتت إليها والدتها وقالت لها:
اخرسي يا بنت…دايما “مثل الغراب ما ينعق إلا بالخراب”….روحي اعملي إبريق شاي.

ماتت رمّانة دون أن يدري بها أحد، تاركة خلفها ثلاثة أطفال بمن فيهم المولود الجديد الذي احتضنته جدّته لأبيه، واعدة بأنّها سترضعه حليب الأغنام، وسينام في حضنها، وحدها وضحة عاشت مأساة رمّانة، لكنّها لا تقوى على فعل شيء لتغيير الوضع.
بكتها أمّها وأخواتها، قال زوجها لو أنّها لم تمت حتى ترضع الطّفل!
قالت والدته: الطفل سنسمّيه عايش وسيعيش غصبا عن الجميع، سأربّيه كما ربّيتك…والبنات كثيرات…ستتزوّج غيرها.
نظرت إليها بهيّة زوجة حمدان الثّانية نظرة فيها عتاب، لم تجرؤ أن تحتجّ على ما قالته حماتها بخصوص زواجه، فمنذ أن تأكّدت من وفاة رمّانة جهّزت نفسها لتكون الزّوجة الوحيدة لحمدان…صحيح أنّها لم تفرح لوفاة رمّانة، وحزنت لمصيرها، إلّا أنّها منّت النّفس بحياة بلا ضرّة، لذا فقد قالت لحماتها:
أنا سأربّي عايش، وسأعتني به وبشقيقيه فهم مثل أبنائي، ومسحت دمعتين سقطتا على وجنتيها وهي تقول:
الله يرحمك يا رمّانة فقد كنت مثل أختي.
التفتت إليها حماتها وقالت:
روحي بلاش كذب! عايش أنا سأربّيه، وعمرك ما حبّيتِ المرحومة، وكنت تتشاجرين معها باستمرار.
ـ الله يرحمها ويسامحها، ومشاجراتي معها مثل “المصارين تتقاتل في البطن”.
حمدان: اتركونا من الكلام الفاضي، سندفن رمّانة، وبعدها ربّنا يفرجها.
جاء والد رمّانة حسن أبو بسطار ملثّما بكوفيّته، جلس مع الرّجال وعيناه تقدحان شررا، التفت إلى أبي حمدان وسأل:
كيف ماتت البنت يا أبو حمدان؟
أبو حمدان: عمرها خلص…ماتت مثل بقيّة البشر.
ـ لكنّها مبارح كانت مثل خيل السّباق.
ـ كثيرون ماتوا وهم يركضون.
ـ قصدي ماتت من الله ولّا حدا ضربها؟
ـ استغفر الله العظيم…ماتت وهي تلد يا رجل…وأمّها كانت بجانبها.
ـ على كلٍّ الآن مش وقت كلام…بعد الدّفن يصير خير…إخوتها راحوا يفتحوا قبر جدّتهم عّ شان نحط المرحومة فيه مع ستّها.
ـ وحّد الله يا رجل، حفرنا لها قبر.
ـ لا لن تقبر مع أمواتكم.
ـ لا إله إلّا الله…هذي كنّتنا ومثل بناتنا وستدفن في قبورنا.
ـ نحن أهلها وأولى بدفنها…والآن سيأتي إخوتها لحمل جثمانها.
قال شيخ المسجد: وحّدوا الله يا ناس”إكرام الميّت دفنه” وما يصير نعمل مشكلة على دفنها. وأينما دفنت فذلك لن يعيدها إلى الحياة.
أبو حمدان: يعني شو رأيكم؟ هل إحنا غلطانين يا ناس؟ المرحومة بنتنا، أمّ أبنائنا وراحت عنّا مش عن أمّها وأبوها…و”أهلك الّلي اشتروك مش الّلي باعوك”.
غضب حسن أبو بسطار والد المرحومة رمّانة من حديث أبي حمدان وقال له:
احترم حالك يا رجل، واعرف ماذا تقول، رمّانة ـ الله يرحمها- الآن في دار الحقّ وحنا في دار الباطل، وهي مش حمار ولا نعجة حتى تقول إنّي بعتك إيّاها…أيّ والله ومحمّد رسول الله، لولا ربّنا حلّل الزّواج وييجي واحد بدّه ياخذ بنتي لقطعت راسه في ساعتها.
إمام المسجد مازحا: يا حسن يا قرابتي اضحك بسرّك” الّلي تموت بنته من حسن نيّته” وانت رجل طيّب.
ـ الله يرحمك يا بعد كبدي يا رمّانة…والله لو خيّروني أموت أنا ولّا انتِ، لفديتك وتركتك تعيشي “لقطاطيم الّلحم” الّلي تركتيهم وراك…قال ذلك ودموعه تنهمر على وجنتيه عندما ركض إليه سبطه موسى بن رمّانة البكرـ 4 سنوات ـ ، ورمى نفسه بحضنه وهو يقول ببراءة الطّفولة: سيدي.
قبّل الجدّ سبطه باكيا…نزلت دموعه على رأس الطّفل…التفت إليه الطّفل غير مدرك لما جرى، ولمعنى الموت، فسأل:
ليش بتعيّط يا سيدي؟
اختنق حسن أبو بسطار بدموعه، فلم يشعر يوما في حياته أنّه كان يحبّ رمّانة وأطفالها هذا الحبّ الجارف…لم يستطع الرّد على تساؤل الطّفل…نزلت دموع غزيرة من عيون الحاضرين حزنا على طفل رمّانة الذي لا يدرك معنى الموت، ولا يعلم أنّه لن يرى والدته بعد هذا اليوم.
التفت السّبط إلى جدّه مرّة أخرى وقال بدلع طفوليّ:
أمّي ولدت وجابت ولد اسمه عايش…ولد حلو يا سيدي…تعال شوفه.
ازداد بكاء الحضور حزنا على الطّفل وأشقّائه…لم يبك رمّانة أحد منهم…لكنّهم يبكون أطفالها الأحياء…فهل هم يحبّون الموت أم يخافون الحياة؟ أم هي ضدّية الحياة وانعكاساتها؟
طلب المختار من حمدان أن يأخذ ابنه موسى من حضن جدّه وقال له:
خذ الولد وحطّه عند ستّه أو وحده من النّسوان…الله يقطع هالعيشة…والله ما عليها أسف.
حمدان يجلس على حجر أمام البيت، يلفّ سيجارة”هيشي” يشعلها…يعود ليلفّ سيجارة أخرى…تنتابه مشاعر متناقضة، لا يعرف إن كان حزينا على رمّانة أم لا! يدور شريط ذكرياته على أوقات سعادة عاشها معها…يتذكّر كيف كان يضربها بتحريض من والدته بسبب وبدون سبب…يشعر بالنّدم…يفكّر بأطفاله أبناء رمّانة…فكيف سيعيشون يتامى دون أمّهم؟ تذكّر ما كان يقوله كبار السّنّ عن الأطفال اليتامى ” اليتيم يتيم الأمّ مش الأب” دبّ الرّعب في أوصاله خوفا من الموت…حمد الله بأنّ رمّانة هي من ماتت وليس هو…أقنع نفسه بأنه سيكون لهم أبا وأمّا.
جاء أخوة رمّانة بعد أن فتحوا قبر جدّتهم…وضعوا عظامها في زاوية القبر، قرؤوا الفاتحة على روحها، تركوا أصغرهم بجوار القبر يحرس عظام جدّته…عادوا ليحملوا نعش شقيقتهم…ما أن وصلوا بيتها حتّى سأل أبوهم كبيرهم:
فتحتوا قبر ستّكم يا فالح.
– فتحناه يابا.
– احملوا نعشها يابا…خلينا نصلّي عليها وندفنها.
قال أبو حمدان: صلّوا على النّبيّ يا إخوان وخلّونا ندفنها في القبر اللي فتحناه على اسمها.
أبو فالح ساخرا: هئ هيء هئ…ليش ما لها أهل تتدفنوها عندكم.
أبو حمدان: لا حول ولا قوّة إلّا بالله.
الحاجّ عطيّة يحسم الأمر بقوله:
توكلّوا على الله…ادفنوها في قبر ستّها حسب رغبة والدها.
التفت إلى أبي حمدان وقال: خلّوا القبر المفتوح حتّى يموت واحد منكم، فالموت حقّ على كلّ النّاس.
حملوا النّعش على الأكتاف…في الطّريق إلى المقبرة سأل أبو فالح أبا حمدان:
شو سمّيتوا مقصوف العمر يا ابو حمدان.
ـ سمّيناه عايش.
ـ شو قلت؟
ـ عايش.
ـ كيف رايح يعيش بعد أمّه…سمّوه متعب لأنّه رايح يتعب ويتعب غيره.
فكّر أبو حمدان سريعا بما قاله أبو فالح حول الاسم…أعجبه اسم متعب، لكنّه لن يستجيب لاقتراح أبي فالح، فالولد لهم وليس لأبي فالح…وقرّر تسميته زعل…فردّ على أبي فالح قائلا:
عايش اسم اختارته له ستّه أمّ حمدان…لكن أنا سأسمّيه”زعل” لأنّنا زعلنا كثير على وفاة أمّه، وأكيد هو زعلان أيضا.
عندما حملوا نعش رمّانة قالت والدتها باكية:
مع السّلامة يمّه…الله يرضى عليك رضا قلبي ورضا ربّي…ارتحتِ من هالتّعاسة…وأولادك لهم خالقهم…وربّنا يقدّرنا نرعاهم.
التفتت إليها أمّ حمدان وقالت:
شو تقولي يا وليّة…عن أيّ تعاسة تتكلمين؟ والله كانت في حضن ربّها، ربنا يسامحها ويغفر لها…وأولادها في عيوننا.
قبّلت أمّ رمّانة أحفادها أبناء المرحومة وخرجت عائدة إلى بيتها، أمسكت بها وضحة وهي تبكي بصمت وقالت:
ذبحنا “ونيسة” عن روح المرحومة، الطّبخة على النّار…جاه الله عليك ما تروحي قبل الغداء.
أمّ فالح: الله يرضى عليك يا بنتي والله ما أقدر…بعد المرحومة ما عاد لي رغبة بشيء…وديري بالك على الأطفال الأيتام يا خالتي حتّى أرجع.
وضحة: في عينيّ يا أمّ فالح.
– تسلم عينيك يمّه.
لم يتقبل أحد العزاء برمّانة…فلا عزاء بالإناث، اللهمّ إلّا بعض النّساء من القريبات الّلواتي يجدن فرصتهنّ للخروج من بيوتهنّ للبكاء على أنفسهنّ قبل البكاء على المتوفّاة، أو للتّرويح عن أنفسهنّ بالبكاء، فالبكاء ليس دلالة دائمة على الحزن، لكنّه في الأحوال كلّها يغسل القلوب.
على وقع أقدام الرّجال العائدين من دفن رمّانة، سمعت وضحة أنين القمر في عليائه يضيء قبر رمانة في ليلةٍ حالكة السواد، لو أمعنت النظر في طريقك ما كنت تراها، وعتمةً ليست كأيّ عتمة، تمنّت لو أنّ الزّمن ينساها، وتتوقف عجلاته السّوداء كلّما نظرت إلى المولود ” زعل” وإخوته، فكيف ستكون حياتهم من بعد عامود البيت وعماده؟
أفاقت وضحة من هذيانها الدّاخلي على صوت والدتها تقول:
عايش جوعان يا وضحة روحي احلبي نعجة حتى نرضعه .
ـ انتِ بعدك بتسمّيه عايش يمّه؟ مهو اجداده الإثنين ما اتّفقوا على إسم يناسبه واحد يقول زعل، والثّاني يقول متعب .
ـ لا والله لن يسميه أحد إلّا أنا التي سأربّيه، وسيعيش في حضني مثل ما كان والده… والمثل يقول:” ما أعزّ من الولد إلا ولد الولد.”
ابتسمت وضحة ابتسامة محيّرة لم تعرف والدتها هل هي ابتسامة استهزاء أم شفقة أم استنكاريّة …. حملت وعاء الحليب…مشت على غير هدى وهي تفكّر بكلام والدتها. هل فعلا هي من ستربّي أحفادها أم أن بهيّة زوجة أبيهم سوف تربّيهم وكأنّهم أبناؤها؟ لكنّ جدّتهم لأبيهم سرعان ما نفضت رأسها يمينا ويسارا وقالت:
لا لن تكون زوجة الأب ” أمّا ” في يوم من الأيام، خاصّة بهيّة زوجة حمدان التي لم تنجب أطفالا، وكانت دائما تظهر غيرتها من رمّانة بسبب إنجابها ثلاثة أطفال!
سمعت تمتمة نساء يراقبنها من بعيد وهي تحلب الغنم، نظرت
إليهن ولم تعرهنّ أيّ اهتمام…واصلت عملها بنشاط حتى تخفّف من صراخ الطفل المولود، الذي لم يفهم احتياجه أحد بمن فيهم جدّتاه الّلتان تدّعيان أنّه أعزّ من الولد.
بكاء الطّفل الذي لا ينقطع كان موجعا، لم تفهم الجدّتان ولا زوجة الأب ولا العمّة الصّغيرة ” وضحة ” أنّ احتياج الطفل للأمّ أكبر بكثير من احتياجه للطّعام.
حملت الجدّة أمّ حمدان الطّفل…بدأت بإسقاط قطرات الحليب من خلال ملعقة طعام في فمه، وهي تهدهده بكلمات حزينة، وتنعى أمّه رمّانة ودموعها تتساقط على وجنتي ” زعل”…تحيط بها النّساء على شكل حلقة دائريّة يبكين لبكاء المولود.
بانت الدّهشة على وجه وضحة عندما لاحظت أنّ امرأتين يلاحقنها بنظراتهن ووشوشاتهن غير المفهومة…طلبت من ابنة عمّها المقرّبة منها” خديجة” أن تعرف مرادهنّ. ذهبت خديجة…جلست بقرب النّساء تسترق السّمع، واذا بهن يخطّطن لزواج ابن احداهن من وضحة، جاءت خديجة تخبرها بأمر النّساء، فاختلط عليها الأمر، هل هي سعيدة بأنّها كبرت وستصبح زوجة، أم أنّ الحزن خيّم على المكان، فلا مجال للفرح الآن ورمّانة دفنت منذ ساعات؟
*****************
دعا أبو حمدان إمام المسجد وبضعة رجال من الأسرة لتناول طعام”الونيسة” فاستجابوا للدّعوة، لكنّ والد رمّانة وإخوانها وأعمامها وأبناءهم لم يستجيبوا للدّعوة…بل رفضوها غاضبين.
قال أبو حمدان:
يا ليتني أعرف أسباب زعل قوم أبو بسطار؟
التفت إليه امام المسجد ضاحكا وأجاب ساخرا:
هذه عادتهم يزعلون ويرضون بلا سبب!
أبو حمدان: طيّب شو نعمل حتّى يرضوا؟
الامام: هذا مش وقته.
أحد فتيان العائلة واسمه فهد سأل ببراءة:
أبو بسطار اسمهم الحقيقي وٍلّا لقب؟
ضحك الجميع من السّؤال…قال الحاجّ عطيّة:
أبو بسطار لقب وصار اسم!
فهد: كيف؟
جدّهم الأوّل زمن الأتراك ضرب زوجته بالبسطار على راس بطنها، وكانت حامل في شهرها التّاسع…ماتت على المحلّ…وسمّوه “أبو بسطار” ومن يومها صار اسمهم “قوم أبو بسطار”.
فهد: لماذا ضربها؟
الحاجّ عطيّة: على ذمّة الرّاوي…أنه راح وكان اسمه مصطفى مع الأتراك زمن”السّفر بلّك” وحارب معهم في اليمن…ولمّا سمع أنهم يريدون نقله إلى البلقان وتلك البلاد البعيدة، هرب هو وآخرون ببنادقهم…ورجعوا مشي على رجليهم…ووصل بعد غياب أربع سنين…وشاف حاله زعيم، مع أنّ الجوع كان قاتله، وبعد ما احتلوا الانجليز البلاد بحوالي عشر سنين…سنة الزلزال الكبير، وفي ليلة ما فيها ضوء قمر كانوا قاعدين على العتمة، يسهر هو واثنين من أولاد عمّه، وفتح لهم جراب الكذب عن حرب اليمن…نادى عليها وقال:
يا كاملة اعملي إبريق شاي أو قهوة.
فردّت عليه: والله ما فيه لا شاي ولا قهوة.
فحمل بسطاره ورماه عليها، وهو يقول: الله يقطع لسانك، وربنا ما جابه إلّا على راس بطنها، وصرخت من قحف رأسها:
آخخخ … ذبحتني أنا واللي في بطني.
وسكتت، نادى عليها مرّات، وما ردّت…عفنان ابن عمّه قال له:
ذبحتها يا ملعون الوالدين، ووقعّتنا بجريمة دم.
فردّ مصطفى: الله لا يردّها…لا تخاف عليها…النّسوان”مثل القطط بسبع أرواح.”
بعدها نادى عليها عفنان ابن عمّه وما ردّت فقال له:
قم شوفها يا ملعون الوالدين…ولمّا يئس منه قام هو…تحسّس طريقه حتى لطمت رجله بساقها….مدّ يده على جبينها يتحسّسه فوجدها باردة…فقال:
ماتت يا مصطفى سوّد الله وجهك، وقّعتنا بمصيبة.
أصيب الحاضرون بالذّهول ممّا سمعوه، خصوصا الأولاد والفتيان الذين يسمعون القصّة للمرّة الأولى، شعروا بحزن على كاملة…بدا ذلك جليّا على وجوههم، رغم أنّ أحدا منهم لم ينبس ببنت شفة، تنهّد فهد تنهيدة عميقة وسأل المختار:
شو صار بعد مصطفى ما قتل زوجته كاملة؟
الحاجّ عطيّة: مثل ما سمعنا من الختياريّة الّلي قبلنا، راح عفنان ابن عمّه واستعار سراجا من الجيران…أشعله ودار فيه حول كاملة…رأى دماء نزفت من فمها…وبركة دم تحتها…حاول إغلاق جفنيها لكنّهما لم يستجيبا، وبقيت عيناها جاحظتين بشكل مخيف، حوقل وهو يحاول إغلاق فمها بمنديل عصبه من تحت ذقنِها، ويحاول شدّه بقوة على أمّ رأسها، لم ينغلق فمها تماما…لكنّه لم يبق فاغرا مثلما وجده…أحضر زوجته وهو يقول: كاملة أعطتك عمرها…تحتها دم…اكشفي عليها وشوفيها ولدت وِلّا لأ ؟
ارتجفت زوجته رعبا ممّا سمعت، لم تجرؤ على رفض طلبه، قامت متثاقلة تبسمل وتحوقل وتسأل الله الرّحمة…عندما رفعت ثوب كاملة صرخت:
يا ويلي! يا حسرتي على شبابك يا كاملة!
قال لها زوجها عفنان:
اخرسي الله يقطع لسانك…تعالي وخبريني شو شفتِ.
اقتربت منه ترتجف وقالت متلعثمة:
المسكينة مضروبة ضربة قويّة على راس بطنها…وابنها نازل وميّت بين رجليها.
ضرب عفنان كفّا على كفّ…شتم عورة والدة ابن عمّه مصطفى…خرج يبحث عنه فلم يجده…تشاور مع ابن عمّه محمود حول الموضوع، فاقترح عليه أن يذهبا لوجيه حامولتهما ومختارها – الله يرحمه كان رجلا يفهم- واسمه أمين وهو جدّ أمين المختار الحالي؛ ليخبراه بما حصل، فهو ليس غريبا.
لمّا سمع المختار القصّة اسودّت الدّنيا أمام عينيه…وقال لهما:
روحوا كتّفوا النّذل مصطفى واربطوه مع الحمير حتّى نهدّي الوضع…نهض من فراشه…امتطى فرسه…اتّجه إلى بيت عمّ كاملة في منتصف الّليل، هو رجل وفارس شهم اسمه سعيد أبو عقيلة، وكان زعيم البلد كلها، وأبو كاملة كان ميّتا ـ الله يرحمه ـ وقف أمام بيت سعيد، ونادى وهو يطرق باب البيت الخشبيّ بعصاه:
يا أهل الدّار…يا شيخ سعيد…قفز الشّيخ سعيد من فراشه وهو يقول بعد أن عرف صوت المختار أمين:
يا ساتر يا ربّ…أهلا وسهلا يا شيخ أمين…كفى الله شرّك بنصّ هالليل؟
ربط المختار أمين فرسه بنافذة البيت…اقترب من الشّيخ سعيد…وضع عقاله في رقبته وقال:
أنا دخيل عليك يا شيخ…وما بدّي النّاس يدخلوا بيننا ويفتننونا.
– ابشر يا رجل…حيّاك الله …والله لو واحد من أولادي مذبوح إلا تشرب القهوة عليه.
– الله يحيّيك هذا الأمل فيك والخير دايما في وجهك.
قصّ المختار أمين ما جرى لكاملة…وأضاف احنا جاهزين لدفع الدّيّة المحمّديّة…ورايح أجيب لكم النّذل مصطفى “مكتوف بعقال أبو زيد” واذبحوه بايديكم.
حوقل الشيخ سعيد وهو يقول:” يا جهد البلاء.” طلب من زوجته أن تحضّر القهوة… وقال:
السؤال أمانة يا أبو محمّد.
ـ تفضل اسأل؟
ـ مصطفى ذبحها هيك ولّا شاف عليها شيء؟
انتفض أبو محمّد وقال بلهجة قويّة:
لا والله…الله يرحمها كانت تعلّم النّاس الشّرف…وسمعتها مثل الذّهب…وزوجها الله لا يسلّمه نذل…صايع وكذّاب.
ـ الحمد لله…الآن اطمأنّيت.
صبّ فنجان قهوة للمختار أمين وقال:
“ربنّا جاب وربّنا أخذ.”…هذا قدرها… وأنتم يا أبو محمّد “من عظام الرّقبة” وأنا عمري ما رجعت في كلامي…اشرب قهوتك عليها…وبكرة ندفنها، وبعد الدّفن تعال مع عدد من الرّجال جاهة صلح أمام النّاس وحيّاكم الله.
قفز الشّيخ أمين من مكانه…قبّل وجنتي ورأس الشّيخ سعيد شكرا وامتنانا.
عاد فهد يسأل:
كان عندها اولاد؟ وكم كان عمرها؟
المختار: كان عمرها حوالي خمس وعشرين سنة، وخلّفت ولدين، ما اعتنوا فيهم…أخذهم واحد أفندي وربّاهم وعلّمهم…اشتغلوا في السّعوديّة، وربّنا أعطاهم…وما رجعوا للبلد.
فهد: ليش ما رجعوا؟
المختار: بلادنا بلاد إشاعات…النّاس سبّوا المرحومة وأطلعوا عليها إشاعات كثيرة…مع إنه اللي عاشوا في وقتها قالوا عنها إنّها من خيرة النّساء….ومسكينة كانت وحيدة أبوها وأمّها ماتوا قبل ما يخلفوا غيرها.
فهد: ومصطفى شو صار فيه؟
المختار: هذا كان واحد جبان وكذّاب…هجّ من البلد وما رجع…خاف النّاس يذبحوه…وسمعنا أنّه هرب عند قبيلة أردنيّة…غيّر اسمه وأصله، رعى غنم عند شيخ القبيلة، وظلّ هناك حتّى مات.

***************

قبل ان ينقضي اليوم الأول جاء حمدان المنكوب بأمّ أولاده يمسك ابنه البكر موسى باليد اليمنى، والولد الثّاني “عنتر” باليد اليسرى، وقف أمام والدته وزوجته ” بهيّة “…بدا عليه الحزن والتّعب والحيرة في عينيه على مصير أطفاله، فمن سيعتني بهم؟ . فقالت والدته:
أنا أعرف بماذا تفكّر يا ولدي والمثل يقول ” ابن بطني يعرف رطني” أنا سأربّي أولادك…لا تحمل همّ يمّه، والعروس موجودة… بكرة بتنسى رمّانة وأهل رمّانة ـ قالتها دون اكتراث بوجود بهيّة زوجته الثّانيةـ فهكذا هنّ الأمّهات رغم أنّهنّ مصدر الحنان ومنبع الإحسان والرّحمة والشّفقة، إلا أنّ الأنانية وحبّ الأولاد هما سيّدا الموقف، فهي تقرأ بعيون أبنائها عميق الشّعور والتّفكير، وتعمل جاهدة على صناعة الفرح في قلوبهم رغم الحزن والألم الذي يمزّق قلبها. وفي لحظات صمت ساد المكان، نادى أبو حمدان بصوته الأجشّ على ولده حمدان وقال:
تعال أنت وأمّك، وخلّي وضحة وبهيّة ينيّموا الصّغار. أمسكت وضحة يدي موسى وعنتر، حملت بهيّة الوليد زعل بين يديها…قبّلته على جبينه وقالت:
سوف يصبح لي ابن يا وضحة، فشكرا لله على عطاياه.
لم يعجب كلامها وضحة، فمشت وهي مطأطئة رأسها…تجرّ كتلتين من الحزن وراء ظهرها…يغطّ الأطفال في نوم عميق بعد يوم مليء بالولولات والحسرات التي تذوّقوها دون أن يعلموا كنهها.
قال أبو حمدان:
اسمع يا حمدان…المثل يقول:” ما يحنّ على العود إلّا قشره”، ولازم نشوف لك بنت حلال تعتني بالاولاد الأيتام.
أمّ حمدان: وأنا شو ناقصني؟
أبو حمدان غاضبا: ناقصك شويّة عقل….احنا نعني زوجة مش أمّ.
أمّ حمدان: أنا ما أسلّم اولاد رمّانة لبهيّة…صحيح هي زوجة أبوهم…لكنها لا تؤتمن على اولاد ضرّتها.
أبو حمدان: أستغفر الله العظيم…عيرينا سكوتك يا بنت النّاس ولّا روحي انصرفي ونامي.
أبو حمدان: شو رأيك يابا يا حمدان؟
حمدان: يا جماعة على إيش مستعجلين…رمّانة ما مضى على وفاتها غير يوم واحد.
أبو حمدان: الله يرحمها…والموت سنّة الحياة.
حمدان: أنا عندي زوجة ثانية…والاطفال الأيتام يلزمهم رعاية كبيرة.
أبو حمدان: شو قلت يا ولد؟ بهيّة عاقر…لها سبع سنين معك وما خلّفت…و”الشّجرة اللي ما تثمر قطعها حلال.”
حمدان يقول بألم:
يا ناس الرّحمة مطلوبة، رمّانة أمّ اولادي…وعيب نتكلّم بالزّواج وقبرها ترابه ما جفّ، وبهيّة بنت ناس وقايمة بواجبنا، ولازم نحترم مشاعرها كانسانة…إذا ربّنا ما أعطاها اولاد لا يعني أنّ نحاسبها على شيء ما لها يد فيه…ولازم نحترم بنات النّاس عَ شان ربّنا يستر ولايانا.
أبو حمدان: ما اختلفنا يا ناس…اتركوني أكمّل كلامي.
واصل أبو حمدان حديثه قائلا:
أمّك يا حمدان عجوز تالفة…وعندها شغل فوق طاقتها…واختك وضحة بكرة تتزوّج…وزوجتك بهيّة أخاف تتجبّر بقطاطيم الّلحم اللي تيتّموا…لأنّه ما فيه زوجة تحبّ اولاد زوجها إلّا كذب ودجل أمام النّاس، وبعد أربعين رمّانة خلّينا نطلب لك زعرورة أختها، وعلى رأي المثل:” إن ماتت أمّي تسلم لي خالتي.”
حمدان: قلت لكم عندي زوجة واولاد…سأعتني بهم…وزعرورة بالنّسبة لي مثل أختي…هكذا نظرتي إليها…فكيف أتزوّجها مع أنّني لا أريد الزّواج؟
أمّ حمدان: البنات ما انقطعن حتى نظلّ على جماعة رمّانة وزعرورة.
أبو حمدان: “الملافظ سعد” ويبدو أنّ ربنا ـ استغفر الله العظيم ـ- خلقك سعدانة، ما تعرفي كيف تتكلمّي ولا كيف تسكتي.
حمدان: يمّه…رمّانة ـ الله يرحمها ـ ماتت، وكانت من خيرة النّساء…ولا أريد واحد يتكلّم عنها إلّا بالخير.
أمّ حمدان: قبرت أهلي….أنا شو قلت قمتوا عليّ؟
أبو حمدان: اسمع يا حمدان…زعرورة كانت مثل أختك ورمّانة عايشة…وهذي نظرة كلّ الرّجال المحترمين لاخوات زوجاتهم…لكن يا بنيّي الله يرضى عليك رمّانةـ الله يرحمها – ماتت، وربّنا حلّل للرّجل الزّواج من أخت زوجته المتوفّاة…ولا يجوز لك أن تحرّم ما حلّله الله…وأنا شايف زعرورة مناسبة لك…لأنّها أفضل من يعتني بأبناء المرحومة أختها…ورمّانة- الله يرحمها- كانت مستورة و”زوجة عيلة” والله كانت فم بدون لسان…والعفريتة الّلي على يمينك ـ يقصد أمّ حمدان ـ كانت تعمل فيها العجايب، وعمرها ما ردّت في وجهها كلمة…يا عمّي سلالتهن مستورات، وامّها من قبلها تحمّلت حسن أبو بسطار وسترت عليه…مع أنّ الملائكة ما تعيش معه!
أمّ حمدان: شايفها وين ما راحت بتلف وترجع على راسي! شو عملت في رمّانة عّ شان تقول هيك يا أبو حمدان؟ أيّ والله كنت أعتبرها مثل بنتي وضحة.
قفز حمدان ووالدته على صراخ ابنه موسى وهو يقول باكيا:
ماما…وين ماما؟
وجداه في حضن عمّته وضحة تحاول تهدئته…كلاهما يبكي، انتزعه من حضنها…ضمّه إلى صدره…قبّل وجنتيه…داعبه محاولا اسكاته، التفت إليه موسى وسأله:
بابا وين ماما…بدّي انام في حضنها.
ردّ عليه باكيا: ستنام في حضني يا حبيبي.
موسى: لا…حضن أمّي أحسن من حضنك.
أمّ حمدان: هات الولد على شان ينام في حضني…فالأطفال يشمّون رائحة الأمّهات.
حمدان: ويشمّون رائحة الآباء أيضا.
وضعت وضحة عنترَ بحضنها بعد أن استيقظ هو الآخر باكيا، بكت بهدوء وهي تضمّه إلى صدرها…صورة رمّانة لا تغيب عن ناظريها، لم تتصوّر أن تكون يوما أمّا.
حمل حمدان موسى وعاد إلى فراشه….وجد زوجته بهيّة تحتضن المولود زعل وتبكي عليه، مدّد موسى بجانب زعل، وتمدّد مهموما بجانبه…قالت بهيّة:
توكّل على الله يا أبو موسى…اولادك في عينيّ، وهم أولادي أيضا.
حمدان: سنرى.
لم ينم حمدان تلك الّليلة….موسى كان يغفو قليلا…يستيقظ مذعورا ويصرخ:
وين ماما؟
حملته بهيّة ووقفت به باكية وقالت:
أيوه يا حبيبي…أنا امّك!
التفت إليها وقال: امّي رمّانة…وينها؟
بهيّة: يا حبيبي أنا امّك.
لطمها بيده الصّغيرة على وجهها وصرخ: بابا.
قبّلت بهيّة يده التي صفعها بها…قفز حمدان من فراشة احتضنه وهو يقول له:
نعم يا روح بابا.
عاد به إلى الفراش…قالت بهيّة:
يا حسرتي عليهم…بعد أيّام سينسون المرحومة وسيتعلّقون بي.
بكى حمدان على أطفاله…تذكّر رمّانة وأيّامه الحلوة معها…تذكّر بأَلَمٍ شقاءها ومعاملة والدته السّيّئة لها…تذكّر حبّه الجارف لها، والّذي لم يجرؤ أن يشعرها به يوما احتراما لعادات لا يؤمن بها، ومع ذلك لا يتمرّد عليها، فوالده كرّرها أمامه عشرات المرّات منذ طلبوا رمّانة عروسا له، وبقي يكرّرها مرّات ومرّات ” النّسوان ما لازم يشوفن وجه عَ شان ما يطمعن في الرّجل ويركبنه”! لكنّ رمّانة لم تطمع به يوما، بل كانت زوجة له، وخادمة لكافّة أبناء الأسرة، لم تتذمّر يوما…ولم تشكُ أو تحرد يوما…وها هي ماتت في المخاض بعد يوم عمل شاق…اسودّت الدّنيا بوجه حمدان…ورأى أن لا امرأة تشبه رمّانة، لكنّنا لا نعرف قيمة الانسان إلّا بعد موته”.
صحيح أنّ بهيّة “فم بلا لسان” تعمل بصمت…لكنّ هذا ليس عفو الخاطر، بل على رأي أمّ حمدان ” رقبتها مكسورة لأنّها عاقر” وهي تعلم جيّدا المقولة السّائدة” الاولاد أوتاد” وليس لها أوتاد تثبّت حياتها الزّوجيّة، لكن لم يبدُ منها إلّا كلّ خير، فعلى ماذا اعتمدت أمّ حمدان بتفسيرها لطيبة بهيّة؟ وأمّ حمدان لم تنجُ المرحومة رمّانة من لسانها أيضا، مع أنّها أنجبت، وكانت تعمل بصمت مثل”الميّة السّايبة”. بكى حمدان رمّانة بحرارة…وبكى بهيّة أيضا…لام نفسه كثيرا على عدم توفيره الحماية لزوجتيه…وهاي هي رمّانة ماتت بحسرتها…بينما تموت بهيّة في اليوم ألف مرّة من الكلام الذي تسمعه من حمويها…ومن نساء أخريات يتعاملن معها بشفقة كأنّها مسكينة؛ لأنّها لم تنجب.
بكى نفسه عندما تذكّر عدم وجود حضن دافئ يجمع أطفاله، فموسى في حضنه، عنتر في حضن عمّته وضحة…وزعل في حضن بهيّة.
************
جلس حسن أبو بسطار مع زوجته على انفراد…سألها:
كيف ماتت رمّانة؟
-ـ مثل كلّ النّاس.
ـ أعرف…لكنّني أسأل عن سبب وفاتها؟
ـ ماتت وهي تلد.
ـ أعرف…قصدي عندما ما رحتِ عندها كيف كانت؟
ـ كانت تلد.
ـ لا حول ولا قوّة إلّا بالله…كلّ النّساء الحوامل يلدن وما يموتن…ليش ماتت رمّانة؟
ـ عمرها انتهى…ليش تسأل؟
ـ بدّي أشوف إذا ضربوها وقتلوها؟
ـ لا…إنّي أخاف الله…مصارينها نزلت مع الولد…والحجّة صبحة قامت الولد منهن وردّتهن مكانهن…والمرحومة طلعت روحها قبل ما تشوف ابنها.
ـ من وين نزلت مصارينها.
ـ من رحمها مع الولد.
ـ مش معقول…شو جاب المصارين للرّحم؟
ـ هذا الّلي شفته بعينيّ الّلي بكرة رايح الدّود ياكلهن.
ـ الله يقلع عينيك كان فيك عقل!….روحي نادي الحجّة صبحة.
في الطّريق إلى بيت الحاجّة صبحة تساءلت عن سبب أسئلته، ولم تجد جوابا لذلك، إلّا أنّها كانت متخوّفة من نيّته بعمل مشاكل مع أبي حمدان وعائلته، وبالتّالي ستحرم من رؤية أطفال ابنتها المرحومة رمّانة، فدعت الله أن “يبعد المكتوب بالّلطف”.
عندما وصلت الحاجّة صبحة رحّب بها حسن أبو بسطار وسألها على استحياء وهو يشعل سيجارة:
شو الّلي نزل من المرحومة يا حجّة صبحة مع الولد؟
الحاجّة صبحة: أستغفرك يا ربّي وأتوب إليك…الله يرحمها ويحسن إليها، حرام نجيب سيرة الاموات…خصوصا الحريم.
ـ ما فيه غريب…أنا أبوها وهذي امّها…وبدّي أطمئن كيف ماتت البنت، بلاش يكون حدا قتلها.
ـ لا حول ولا قوّة إلّا بالله…ربّنا اختارها وهي تلد…وهذا نصيبها.
ـ قصدي صحيح مصارينها نزلن مع الولد مثل ما تقول المهبولة أمّها؟
ـ لا…أعوذ بالله…كيف نزلن مصارينها؟ الّلي نزل رحمها…وهذا حصل مع نسوان كثير.
ـ يا ساتر يا ربّ…شو أسباب نزول الرّحم؟
ـ والعلم عند الله…ومثل ما سمعنا من نسوان قبلنا…أنّ بعض النّساء يشتهين بعض الأشياء في فترة الوحام…وإذا لم يحصلن عليه “تصمل” أرحامهنّ وتشتدّ وتنزل مع المولود.
ـ معقول؟
ـ نعم معقول.
ـ إذا الأمور هيك بسيطة…وأرجوك أن لا تذكري هذا الكلام أمام أيّ إنسان.
ـ مش عادتي يا أبو فالح ولولا إنّك أبوها ما قلته لك.
ـ الله يبارك فيك.
أثناء مغادرة الحاجّة صبحة لبيت حسن أبو بسطار، سمعوا صوت أبي حمدان يقول:
يا ساتر.
قام حسن ورحّب به.
عندما صبّ حسن القهوة لأبي حمدان…تنهّد الأخير وقال بصوت ممطوط منخفض:
عندي طلب منكم يا أبو فالح:
ـ حيّاك الله…إذا نقدر على طلبك إن شاء الله تاخذه…اشرب قهوتك.
احتسى قهوته…لفّ سيجارة وقال:
الله يرحم رمّانة والله كانت عزيزة علينا ومثل بناتنا…لكن هذا قدر الله وهذا نصيبها في هالدّنيا…وكلنا رايحين نموت.
ـ الله يرحمها…ولا تخاف مش رايح أطالبكم بدمّها.
ـ شو صار لك يا رجل؟ ليش هو احنا قتلناها -لا سمح الله ـ عَ شان تقول هيك كلام فاضي؟
ـ هئ هئ هئ…احترم حالك يا رجل…انت في بيتي…ولّا كان عرفت أردّ عليك!
قالت أمّ فالح زوجة حسن:
صلّوا على النّبي يا اولاد الحلال…ما في داعي لهذا الكلام.
لم يصلّيا على النّبيّ… وربّما صلّيا عليه في سرّهما…لكنّهما التزما الصّمت، فسألت أمّ فالح:
شو أخبار أطفال المسعدة يا أبو حمدان…والله ما يروحوا عن بالي…والله إنّ همّهم ذبحني؟
أبو حمدان: أنا جيت عندكم عَ شان خاطرهم.
أبو فالح: يعني ناوي تحطّهم عندنا…لا تحلم بذلك…”نجوم السّماء أقرب لك” بدّك تخلص من غلبتهم ومن مصاريفهم؟
أبو حمدان: وحّد الله يا رجل…”ليش بصلتك محروقة”؟ والله لولا أنّي عارفك قليل عقل، ورافع القلم عنك ما بقيت قاعد عندك.
أبو فالح: أنا أعقل منك ومش مجنون مثلك.
– والله بينك وبين العقل سبع بحور.
ـ طيّب تكلّم وقول شو بدّك.
ـ اولاد المرحومة في عيوننا…لكن الاطفال بحاجة لأمّ ترعاهم…والمثل يقول:”إن ماتت أمّي تسلم لي خالتي”.
ـ شو قصدك؟
ـ قصدي لازم نجوّز زعرورة لحمدان…عَ شان ترعى اولاد أختها.
ـ شو هالكلام الفاضي؟ نجوّز زعرورة قبل ما يجف تراب قبر رمّانة! هذا كلام مجانين!
ـ مصيبتك أنّك لا تعرف كيف تسكت ولا كيف تحكي؟ اصبر عليّ شويّة.
ـ الله يجيبك يا طولة الرّوح.
ـ قصدي نحجز زعرورة لحمدان…وبعد أربعين رمّانة…نزوّجهم ونستر عليهم…و”يا بيت ما دخلك شرّ”.
ـ خلّيني أفكّر بالموضوع…مع أنّه بعد موت رمّانة ما اقدر أشوف واحد منكم.
حمل أبو حمدان عباءته وخرج….فهو مطمئنّ بالموافقة…فهذه عادة قوم أبي بسطار…فهم لا يختصرون الطّريق….ومع ذلك فقلوبهم طيّبة.
استيقظت بهيّة مبكّرا…حلبت الأغنام…غلت إبريق حليب…قدّمت كأسين، واحدا لحمدان والآخر للطفل موسى، حملت كأسين واحدا لعنتر والآخر لوضحة…تركت كأسا لزعل الرّضيع، عندما استيقظ زعل…ضمّته إلى صدرها…خرجت به لتجلس وإيّاه بجانب البيت…الجوّ الرّبيعيّ معتدل…الشّمس ترسل أشعّة ناعمة…الأرض مكسوّة بأعشاب أزهارها مختلفة ألوانها…حقول الحبوب تموج…زقزقة العصافير تبعث الدفء في القلوب…هي أمور عاديّة في حياة القرية…لا ينتبهون لجمالها…بل لا وقت لديهم للتّمعّن والتّمتّع بجمال الطبيعة…فهم مشغولون دائما في البحث عن رزقهم…وهم سعيدون بشقائهم…بعض أبنائهم يذهبون إلى المدرسة… وبعض الآباء يرى المدرسة مضيعة للوقت، فلا يرسل أبناءه إليها.
بهيّة على قناعة تامّة بأنّ رعايتها لأطفال زوجها تشكلّ لها رصيدا كبيرا للمحافظة على حياتها الزوجيّة…وهي سبب كافٍ لحمدان كي لا يتزوّج عليها، ويكفيه ثلاثة أبناء ذكور…سيكونون أبناء لها أيضا…وهي مقتنعة بأنّها عاقر…فزوجها أنجب ثلاثة من رمّانة ممّا يعني أنّه ليس عاقرا…هي راضية بقدرها وبنصيبها من هذه الحياة.
خرجت وضحة تحمل عنتر …احتضنته وجلست بجانب بهيّة التي تحتضن زعل، موسى يفتقد أمّه ويصرخ سائلا عنها…ركضت إليه بهيّة أمسكت يده تسحبه من حضن والده وهي تقول:
تعال يمّه يا حبيبي.
جاءت أمّ حمدان مهرولة تطلق قذائف من الشّتائم على بهيّة…انتزعت منها “زعل” وهي تقول:
ليش طالعة بالولد خارج الغرفة؟ بدّك الهواء يلفحه عَ شان يموت وتخلصي منه؟
قال حمدان: هداك الله يمّه…اتركي الولد مع بهيّة.
ـ هذي عاقر وغير مؤتمنة عليه!
بكت بهيّة بصمت وهي تحتضن موسى…تحاول أن تلهيه عن ذِكر والدته، غضب حمدان من والدته…أخذ منها زعل…أعاده إلى بهيّة وهو يقول:
تحمّليها فهي مثل أمّك.
قالت بانكسار: تحمّلت وسأتحمّل الكثير عّ شان خاطرك وخاطر الاولاد.
أمّ حمدان: ليش أخذت الولد يا حمدان منّي؟ بدّك النّسوان يطمعن فيّ في تالي عمري؟ عَ شان ترضى أنت وبهيّة والله عمري ما المس أولادك.
حمدان: لا حول ولا قوّة إلّا بالله…ما أكثر غلبتك يمّه…يكفينا ما فينا..لا داعي لكلّ هذا الجنون يا بنت النّاس.
استاءت وضحة من تصرّف والدتها، لكنها لم تجرؤ على الاعتراض، عبّرت عن استيائها بالبكاء الذي لا تملك سلاحا غيره.
أبو حمدان لم يسمع شيئا ممّا جرى، فقد خرج بالأغنام إلى المرعى…دخلت أمّ حمدان إلى غرفتها وهي تتمتم وتتوعّد بأن تحوّل حياة بهيّة إلى جحيم، ظنًا منها أنّها سبب غضب ابنها منها، وتحاول ابعاده عنها، وقفت بالباب تمسك دفّتيه بيديها وقالت:
والله ما أخليكِ تتهنّي بالاولاد… و”احنا مش أشفق من ربّك عليك”. أغلقت الباب على نفسها وصوت نحيبها وصل إلى مسامع ولدها حمدان وابنتها وضحة اللذين لم يهن عليهما غضب والدتهما…ذهبا إليها يسترضيانها ويطلبان السّماح…فقال لها حمدان:
– إهدي يمّه ما في شي يستاهل، وانتِ كبيرة بالسّن ما تقدري تقومي بالاولاد، وتتحمّلي غلبتهم الكبيرة.
– ولو يا حمدان تيجي مع زوجتك عليّ؟
– يمّه انتِ تاج راسي وطول عمري بشوفك ستّ النّسوان، ليش تكسري خاطر بهيّة وتهينيها، هي الخلفة بيدها ؟
قاطعته وضحة وهي تلفّ والدتها بذراعيها، يمّه حمدان حزين على زوجته وعلى اولاده اليتامى.
قاطعتها الأمّ:
– يعني بحبّها ؟ حبّك وجع يخلع نيعك انتِ الثّانية .. ما في عندنا رجال يحبّوا نسوانهم، بدّك النّاس يعملونا مسخرة؟
ـ يعني يمّه لمّا اتزوج حرام زوجي يحبّني؟
-ـ لا… أنت غير يمّه أنت بنت أبو حمدان وأخت حمدان و”الّلي يرشّك بالميّ نرشّه بالدّم.”
– ـ وبهيّة بنت ناس يمّه، وأهلها أحسن منّا.. وهي غالية عليهم مثل ما أنا غالية عندكم.
ـ لا تتشبّهي فيها، قلت لك إنتِ غير!
هزّ حمدان رأسه يمينا ويسارا وهو يحوقل ويطلب الهداية لأمّه، والاعانة على تحمّل مسؤولياته، أوحى لأخته وضحة بأن تبقى مع أمّه إلى أن تهدأ …خرج وفي قلبه غصّة، في عينيه دمعة قهر، وفي فمه مرارة العذاب والعناء…. ذهب لزوجته بهيّة التي تفانت في خدمة الأطفال، وأتقنت دورها كأمّ رؤوم ببراعة، لم يتوقّع حمدان من زوجته بهيّة أن تكون أمّا لأطفال لم تنجبهم، ” ففاقد الشيء لا يعطيه” هذا ما اكتسبه من تربية مجتمعه، لكنّ رمّانه أثبتت العكس، فقال لها:
– اصبري يا بهيّة ” فالصّبر مفتاح الفرج ” هذه أمّي وما أقدر على غضبها، مصيرها تحبّك لما تشوفك تعتني بالاولاد .. والله يرحم رمّانة شو صبرت وتحمّلت.
ـ عَ شانك يا حمدان، وعَ شان الأطفال اليتامى رايحة اتحمّل، ولا يكون لك فكر تسهّل على شغلك.
ضربت أمّ كامل جارتهم العجوز الباب بعصاها ونادت بصوت عالٍ…ركضت وضحة نحو الباب وإذا بالجارة تحمل في يدها صحن توت أبيض هديّة وتسأل:
– العواف يا خالتي ، وين امّك ؟
– تفضلي يا خالتي أدخلي…امّي موجودة.
نادت موسى وعنتر قائلة:
– تعالوا يا ستّي كلوا توت، هاي التّوتة كان سيدكم يسرق منها وياكل هو وأولاد الجيران ويعبّوا جيابهم!
ضحكت وضحة وبهيّة وراح الأطفال يلتهمون التّوت بمتعة.
– كلوا يا ستّي… كلوا يا حسرتي على امّكم رمّانة، يا ويلي عليها ماتت وما فرحت في واحد منكم .
توقف موسى عن الأكل وبعض من التّوت داخل فمه لا يستطيع ابتلاعه، ولا يستطيع اخراجه، كأنّ الزّمن توقّف، تذكّر صوت أمّه وحركاتها، ضحكتها ومداعبتها لأولادها، تذكّر كيف كانت تطعمهم بيديها وهي تهدهدهم كلّ باسمه؛ لتفتح شهيّتهم للطّعام. دوّت في داخله صرخة فسقطت دمعة، هرولت بهيّة تلتقط التّوت من فمه خوفا من أن يختنق به، فخرج منه صوت مبحوح:
بدّي ماما وينها؟
– حضنته بهيّة وهي تقول:
أنا امّك يا حبيبي.
-ـ لا ماما رمّانة وينها؟
صرخت العجوز: لا تنسيه امّه عَ شان يترحّم عليها…التفتت إليه وقالت له:
قول يا حبيبي الله يرحمها!
قالت بهيّة:
يا خالتي هذا طفل وحرام عليك تفتحي مواجعه.
قاطعتها أمّ حمدان وهي تمشي نحوهم:
– شايفه يا امّ كامل بدها تتحكم بالاولاد من اليوم، وبدها تنسيهم امّهم وكلّ أهلهم، عَ شان تستفرد فيهم!
تبادلن القبلات…جلسن وأمّ حمدان لم تهدأ… لم تكفّ عن توبيخ بهيّة.
قالت وضحة: يمّه احنا بإيش وانتِ بإيش… خلّي الاولاد بحالهم، ويخلف على بهيّة الّلي قايمة فيهم .. ربّنا ما أعطاها اولاد، وشاء لها أن تربّي اولاد زوجها.
نفضت أمّ كامل يديها…جحظت عينيها تلميحا لأمّ حمدان بأن تستمرّ بالتّوبيخ…فهي شرّيرة ولا يحلو لها غير المشاكل بين النّاس، وهذا ما يعرفه عنها جميع أبناء القرية، لكنّ بهيّة لم تردّ عليها…حملت الأطفال بهدوء…عادت إلى غرفتها تطبطب على ظهر موسى وعنتر وتقول:
لما يرجع بابا عَ شان تروحوا على دكان أبو صالح وتشتروا حلاوة.
فرح الأولاد وجلسوا ينتظرون والدهم .

مرّ اليوم ثقيلا… الحماة لا تكفّ عن الثّرثرة، والأطفال لا يكفّون عن البكاء شوقا لوالدتهم رمّانة. وضحة تتلوى غيظا من تصرّفات أمّها، تفكّر بمصيرها الذي يخبئه لها الزّمن، هل سيكون مصيرها مثل بهيّة؟ أم تموت كما ماتت شقيقتها فاطمة ورمّانة زوجة أخيها؟ أسئلة تطحن ذاكرتها…نبضات قلبها تزداد عندما تفكّر بالمصير المشؤوم للفتاة، منذ أن فتحت عينيها على الدّنيا. لم تعد تحبّ أنوثتها…لا تريد أن يرى أحد بروز صدرها؛ كي لا ينتبهوا أنّها في سنّ الزّواج .
– ليتني لم أكن أنثى…لو كنت ذكرا لكنت الآن حرّة، ولا يتحكّم بي أحد، ولا أنتظر مستقبلا مجهولا محفوفا بالمخاطر والآلام . ولن يكون لي حماة تشبه أمّي ومثيلاتها من المسنّات الثّرثارات الشّرّيرات.
سمعت صوت أجراس الغنم تقترب…عرفت أنّ والدها عاد من المرعى، مشت بخطى سريعة نحو المطبخ؛ لتعدّ الغداء لوالدها…في داخلها شيء من الرّاحة والغبطة بوجود والدها في البيت. فأمّها لا تتطاول كثيرا ولا تجرؤ على إهانة بهيّة بحضرة كبير الأسرة، ليس حبّا ببهيّة؛ ولكن كي لا تفتح عيونه عليها ويكون مصيرها كمصير بهيّة.
تعدّ وضحة الطّعام بصمت تساعدها بهيّة…موسى وعنتر يمسكان طرف ثوب بهيّة كأنّهما يخافان أن يفقداها كما فقدا والدتهما. فهما يشعران بالاطمئنان معها حين يكون والدهما خارج البيت، مشاعر الأمومة خيّمت عليها منذ موت رمّانة، فتعلّق بها الأطفال اليتامى.
دخل أبو حمدان يصرخ وقد لفحته الشّمس، فمالت بشرته إلى السّواد أكثر ممّا كانت عليه.
– وضحة، بهيّه، أمّ حمدان، تعالن احلبن الغنم…اعملن الّلبن والجبن ولا تنسين أن تطعمن الاطفال وخاصة المولود ” زعل “.
ذهبت وضحة وبهيّة وبقيت الجدّة مع الأطفال ترعاهم. جلست مع زوجها وهو يتناول وجبة العشاء… صحن من اللوبياء قطفتها لها جارتهم أمّ علي من حاكورة منزلها، وأهدتها لهم كما هي العادات. الأطفال ينظرون إلى صحن جدّهم…يلعقون لعابهم الذي يسيل على شفاههم تلذّذا، قطع الجدّ لكلّ واحد منهم قطعة خبز وأطعمهم بيده. لاحظ الفرح والسعادة تخرج من عيونهما…كرّرها مرّات ومرّات، استشاطت الجدّة غضبا من الأولاد وصرخت بهم:
قوموا روحوا عند زوجة أبوكم تطعمكم، جدّكم تعبان… اتركوه يتهنّا بأكله!
– قال أبو حمدان: ليش تحبّي النّكد يا أمّ حمدان أنا مبسوط عليهم؟ اتركيهم ياكلوا معي فالبركة تحلّ بوجودهم.
لم يعجبها كلام زوجها…أدارت له ظهرها…عقدت حاجبيها وبان عليها عدم الرّضا، فسألها:
– مالك برمتِ بوزك يا أمّ حمدان؟ … نسيتِ يا حرمة انّه” ما أعزّ من الولد إلا ولد الولد.”
صحّحت جلستها…فتحت يديها لأحفادها كي تجلسهم في حضنها…ضمّتهم …ذرفت دمعتي رياء مسحتها بوجنتي موسى وعنتر…لم يجرؤ أيّ منهما أن يمسحها خوفا منها.
ذهبت إلى المطبخ…أحضرت صحنا آخر من الّلوبياء جلست تطعم أحفادها بيديها وأبو حمدان يراقب المشهد…ابتسم فرحا وهو يرى حفيديه يأكلان.
عاد حمدان من عمله وما أن سمع الأطفال صوت الباب يفتح حتى أسرعوا لاستقبال والدهم، الذي أصبح كلّ حياتهم بعد موت والدتهم . احتضنهم يشمّ رائحة رمّانة تتصاعد من مسامات بشرتهم السّمراء، يتأبّط الحزن مساحات قلبه. تنهيدة طويلة تصاحبها كلمة آه وموجة من الحنين تخرج من روحه.
– سأله موسى:
بابا… بابا شو جبت لي معك؟
ـ عيون بابا اطلبوها وأنا أعطيها لكم.
ـ ماما بهيّة قالت بدّك تاخدنا على دكّانة أبو صالح نشتري لنا حلاوة.
بهت حمدان وشعر أنّ الدّنيا تلفّ وتدور به عندما سمع عنتر يقول ماما بهيّة، سعادته كبيرة كونهم اعتادوا على بهيّة واطمأن بأنّها تحسن معاملتهم .
– قال أبو حمدان:
تعال يابا يا حمدان بدّي أحكي معك موضوع مهمّ.
– حاضر يابا بس آخذ الاولاد للدّكان.
– تعال أوّل وبعدين بتروح تجيب حلو لنا كلنا.
– خير يابا… شو فيه؟
– إن شاء الله خير، يابا يا حمدان أنا رحت عند دار حسن أبو بسطار وحجزت لك زعرورة.
حمدان غاضبا شو تقول يابا؟ بدون ما تاخذ رأيي؟
– اقعد واسكت يا ولد…وطّي صوتك بلاش تسمع بهيّة وتقيم قيامتنا. .. خلّيها تعتني بالاولاد لبين ما تتزوج خالتهم.
– يابا أنا بهية بتكفيني وهي مش مقصّرة بالاولاد.
– يا بنيّي بكرة بتزهق منهم وبتصير تتجبر فيهم وبتوريهم نجوم الظّهر. ما بتلاقي أحنّ على الاولاد بعد أمّهم إلّا خالتهم، واحنا جرّبنا نسب دار أبو بسطار ـ مع أنّي ما أطيقهم ـ لكنهم يتناسبوا.
لا تطيقهم وتريدني أن أتزوّج بنتهم؟-
ـ المثل يقول:”خذ من الرّدي ولا تعطيه”!
*************
التقى حمدان الدّكتور ممدوح بن سعيد أبو عقيلة، الذي درس الطّب في لندن، مبعوثا بتوصية من الملك فيصل الأوّل، وعمل في بغداد إلى نهاية الحرب العالميّة الثّانية…بعدها عاد إلى البلاد…بنى بيتا، افتتح عيادة في حيفا وتزوّج حيفاويّة…بعد النّكبة افتتح عيادة في في مدينة بشمال ما بات يعرف بالضّفّة الغربيّة…بقيت عيناه ترسمان حيفا وبحرها…اختلى حمدان بالطّبيب ليشرح له قصّة وفاة رمّانة الّتي تؤرّقه…فقال الطّبيب:
ولادة المرأة وهي جالسة القرفصاء خطيرة جدّا…واحتمالات سقوط الرّحم مع المولود بهذه الطّريقة كبيرة أيضا…ولا علاقة لذلك بما تشتهيه بعض النّساء في فترة الوحام…يجب التّخلّص من هذه العادة الموروثة الجاهلة والخطيرة…ما المانع أن تلد النّساء في المستشفيات؟ ففي ذلك حماية للوالدة وللمولود.
حمدان: من يشرف على الولادة في المستشفيات؟
ـ تقوم قابلة قانونية متعلّمة بالإشراف على عمليّة الولادة حيث تستلقي المرأة على سرير خاصّ لعمليّة الولادة…وإذا تعسّرت الولادة يتدخّل الطّبيب.
حمدان: كيف تفسّر وفاة رمّانة؟
ـ رحمها نزل مع المولود لجلستها الخاطئة أثناء الولادة…وهذا سبب وفاتها.
حمدان: يعني لو ولدت في مستشفى كان ما حصل هذا؟
ـ طبعا لا يحصل في المستشفيات…ولو أحضرتم لها قابلة متعلّمة وقانونيّة في البيت، لما حصل لها ما حصل؛ لأنّه يستحيل أن تقبل القابلة ولادة المرأة وهي تجلس القرفصاء.
حمدان: كيف نستطيع إقناع النّاس بالتّخلّي عن هذه العادة؟
ـ بالتّعليم…أرسلوا البنات والأبناء إلى المدارس كي يتحرّروا من قيود الجهل.
قرّر حمدان أن يرسل أبناءه إلى المدارس…وأن يحرّض الآخرين على تعليم أبنائهم… وسيتابع أبناءه ليدرسوا في الجامعات…كي يعيشوا حياة سعيدة…بل سيدفعهم لدراسة الطّب كي ينقذوا حياة المرضى! فمأساة رمّانة يجب أن لا تتكرّر.
في المساء تباحث حسن أبو بسطار مع زوجته وأبنائه حول طلب ابنتهم زعرورة لحمدان…فقالت زوجته:
أمّ حمدان “القرود تتعوّذ منها” لكن عَ شان اولاد”المسعدة”ما يضيعوا ما فيه عندي مانع، وحمدان رجل محترم.
فالح: عَ إيش مستعجلين عّ زواج زعرورة بعد شهرين يصير عمرها خمستعشر سنة.
أمّ فالح: اسم الله عليك يمّه اللي من جيلها خلّفن ولدين وثلاثة…البنت مش صغيرة!
زميتان: هل تحبّون سماع الصّحيح؟ أنا انبسطت عّ وفاة رمّانة عَ شان نخلص من قرف أمّ حمدان.
أمّ فالح: يا خيبتك يا زكيّة…شو صار لك يا زميتان؟ مبسوط لموت أختك؟ ليتني ما سمعت هالكلام منك.
قبل أن يبدي أبو فالح رأيه سمعوا صراخا ينطلق من بيت مختارهم الشيخ أمين…قفزوا من مكانهم…ركضوا يستطلعون الأمر…وجدوا المختار يتنفّس بصعوبة…يضع يديه على صدغيه ويقول متألّما:
آآآآخ… ولا يستطيع الكلام.
طلب حسن أبو بسطار أن يشعلوا النّار وأن يأتوه بالمنجل؛ كي يكوي به قدمي المختار…وضع المنجل في النّار حتى احمرّ، وأصبح يطلق شررا من شدّة الحرارة، رفع قدم المختار…كوى كعب القدم بالمنجل على شكل صليب، وهو يبسمل ويقول:
النّار تشفي كلّ الأمراض.
كوى القدم الثّانية بنفس الطّريقة…رائحة الّلحم الآدمي المحترق استدعت القطط الأليفة والضّالة الجائعة التي جاءت تموء طالبة الطّعام.
لم يتحرّك المختار ولم يئنّ…غطّاه حسن بعباءته وهو يقول:” داواك مسعود وشرّك ما يعود.” وقال للحضور:
الآن يعرق جسمه…ويقوم مثل الحصان.
شربوا الشّاي…تسامروا…ضحكوا…لكنّ المختار لم يستيقظ…رفعت زوجته العباءة عن وجهه…وجدت فمه فاغرا وعينيه جاحظتين…تحسّست جبينه…وجدته باردا فصرخت بصوت عالٍ:
يا حسرتك يا نجمة! مات عامود البيت!
تحسّس حسن أبو بسطار وجه المختار…أغمض عينيه…أغلق فمه وهو يقول:
الله يرحمه…خلص عمره.
هرع أبناء القرية إلى بيت المختار…جاء الدّكتور ممدوح صحبة حمدان إلى القرية لزيارة الأخوة والأقارب…رأيا هدير أهل القرية قرب بيت المختار المتوفّى… اتجها إلى المكان…تجمّع الأطفال حول سيّارة الطّبيب بينما ترجّل الطّبيب وحمدان…ذهبا وسط الجمهور… حظي الطّبيب بترحيب خاصّ كونه يعيش خارج القرية؛ ولأنّه ابن مختار وابن حامولة أخرى.
يدور الحديث حول ترتيب جنازة المختار لتكون مهيبة تليق بحامولته” أبو بسطار” وهيبتها بين الحمايل الأخرى…بعض الشّباب يتساءلون عن أسباب وفاة المختارالمفاجئة! بينما حسن أبو بسطار يقول:
لو كان له حظ وبقيّة حياة سمعت بمرضه من بدايته.
سأله أبو حمدان:
لو عرفت شو تقدر تعمل؟ عمره انتهى والله يرحمه.
حسن: سؤالك غريب يا ابو حمدان…لو عرفت من البداية كان قدحته على بطنه و”يا شرّ ما شافك حدا.”
ضحك بعض الشّباب وقالوا:
ألا يكفي ما حفرته على كعبيه بالمنجل؟
التفت الطّبيب ممدوح إلى مجاوريه…استفسر عن قضيّة الكيّ بالمنجل، ولمّا سمعها اسودّت الدّنيا في وجهه وقال:
يا اخوان…النّار لا تشفي أحدا…بل هي تعذيب مؤلم للمريض فوق الآلام التي يعانيها من المرض…إذا مرض أحدكم ـ لا سمح الله ـ انقلوا المريض لعيادة طبيب أو إلى المستشفى.
ضحك حسن أبو بسطار وسأل باستهزاء:
شو يقدر الطّبيب والمستشفى يعملوا للّي انتهى عمره؟
الدّكتور: “لكلّ داء دواء يا إخوان” وربّنا ما خلق داء إلّا وخلق له الدّواء.
حسن: وحّد الله يا رجل…كلامك ما يعبّي الرّاس.
طلب محمّد بن المختار من الدّكتور ممدوح أن يأتي معه لمعاينة جثمان والده للوقوف على أسباب الوفاة…قال الطّبيب:
لمعرفة أسباب الوفاة يجب تشريح الجثّة عند الطّبّ الشرعيّ.
قال حسن أبو بسطار ساخرا: يعني تريد تقطيع الرّجل وهو ميّت؟ يا عيب الشّوم! شو هالكلام الفاضي؟
شعر الدّكتور ممدوح بالاحراج…هو يعرف أنّه وسط جماعة يؤمنون بالخرافات والشّعوذة…لا يعترفون بالعلم…وعليه أن يداريهم…تمنّى لو أنّه لم يعد إلى القرية هذه الّليلة…لم يردّ على حسن أبو بسطار…تنهّد وسكت وهو يتحسّر في داخله على أيّام العزّ بحيفا.
انبعث صراخ مفزع من الغرفة التي يرقد فيها المختار وسط قريباته الّلواتي جئن لتوديعه الوداع الأخير…وقع بعضهن تحت أقدام الأخريات وهن يتدافعن هاربات من الغرفة، قالت ابنته عائشة بأنّها رأته بعينيها يتحرّك، وأيّدتها أخريات…عندما سمعت نجمة شخير زوجها تعوّذت وبسملت وحوقلت وسقطت مغشيّة عليها. قفز الحضور من أماكنهم ليستطلعوا الأمر…الدّكتور ممدوح لم يتحرّك من مكانه إلا بعد أن سمع حديثهم بأنّ الميّت قد عاد إلى الحياة…قدّم الإسعافات الأوّليّة لنجمة حتى عادت إلى وعيها…رأى وجه الفقيد أزرق يميل إلى السّواد…لم يكشف عليه، لكنّه حاول جس نبضه ليتأكّد من وفاته…فوجئ بأنّ المريض ليس ميّتا وإنّما في غيبوبة! عاد إلى سيّارته…حمل منها حقيبته الطّبّيّة التي تحوي بعض المعدّات وبعض الأدوية….حقنه في الوريد…تململ الرّجل قليلا…التفت إلى أبنائه وقال:
أبوكم لا يزال حيّا…ويجب نقله إلى المستشفى فورا.
لم يصدّق الأبناء ما سمعوه لولا أنّهم رأوا أباهم يتحرّك.
سأل الدّكتور: هل توجد سيّارة كبيرة نستطيع تمديده فيها ونقله إلى المستشفى؟
محمّد: هناك شاحنة صغيرة لمحمود العيسى.
الدّكتور: أحضروها بسرعة.
حمّلوه في مؤخّرة الشّاحنة على فرشة صوفيّة…غضب حسن أبو بسطار من الدّكتور، لم يصدّق أنّ المختار لم يمت…وقال:
فحصته بيدي هذه وكان بارد مثل الثّلج لا يتنفّس…هذا الدّكتور يكذب…يريد أن يقبض شويّة مصاري…يا عمّ اعطوه ربع دينار وخلّوه يروح عند قرايبه. لم يكترث به الدّكتور…ساق سيّارته أمام الشّاحنة بجانبه حمدان، ومحمّد ابن المختار يجلس خلفهما.
في المستشفى ركّبوا على ذراع المختار “الكلوكوز”، فحصه الأطبّاء عملوا صورة أشعّة لرأسه…أعطوه حقنة لتمييع الدّم…وضعوه تحت المراقبة الطّبّيّة…خرج طبيب…أخبر أبناء المختار أنّ والدهم مصاب بجلطة دماغيّة خفيفة…ونسأل الله له الشّفاء وسأل:
من كواه على كعبي قدميه بهذه الطّريقة الوحشيّة؟ وضعنا له “كريمات” على الحروق الغائرة في كعبيه؛ كي لا تتقيّح وتؤذيه كثيرا.
قال ذياب بن المختار أمين:
الله لا يربحك يا أبو فالح.
الطّبيب: من هو أبو فالح هذا؟
ذياب: أبو فالح هو الشّخص الذي كوى أبي.
الطّبيب: قدّموا شكوى ضدّه عند الشّرطة.
في هذه الأثناء خرج الدّكتور ممدوح وقال لزميله الطّبيب:
القضيّة أبعد ممّا تفكّر يا دكتور فيّاض…التفت إلى أبناء المختار وقال لهم: بإمكانكم المغادرة الآن…لا داعي لوجودكم…سنعتني به كما يجب.
طلبوا أن يدخلوا لرؤيته…غير أنّ الدّكتور ممدوح قال لهم:
لا داعي لذلك….دعوه وحده أفضل له ولكم.
عادوا جميعهم إلى بيوتهم في الشّاحنة باستثناء ابنه ذياب الذي قال:
أنا سأبقى هنا…لن أترك أبي وحده.
بعد أن أخذ الدّواء مفعوله…صحا المختار من غيبوبته…فتح عينيه، سأل بلسان ثقيل:
وين أنا؟
اقترب منه الدّكتور ممدوح باسما وقال له:
الحمد لله على سلامتك يا عمّي…أنا الدّكتور ممدوح بن سعيد أبو عقيلة…هل تتذكّرني؟
ابتسم له المختار دون كلام.
خرج الطّبيب يسأل عن ذياب ابن المختار….أخبره أنّ تحسّنا كبيرا طرأ على صحّة والده…وأنّ بامكانه الآن أن يراه ويجلس بجانبه!
في القرية أصبحت عودة الأموات إلى الحياة حديث النّاس، يتهامسون بين مصدّقين وغير مصدّقين…بعضهم لا يجرؤ على الحديث في الموضوع خوفا من “خطّاف الأرواح” الذي يحوم في المنطقة…حسن أبو بسطار هو الوحيد الذي لم يصدّق بأن المختار أبا محمّد لم يمت، أو أنّه مات وعاد إلى الحياة…بل زاد على ذلك باتّهامه الدّكتور ممدوح بأنّه نصّاب يتعامل مع الجنّ غير المؤمنين؛ لتخريب القرية…واقترح أن يذهب عدد من عقلاء حامولة أبو بسطار إلى عقلاء حامولة الدّكتور؛ ليطلبوا منهم أن يكفّوا شرّ ابنهم عنهم…وأن يمنعوه من التّدخّل بشؤونهم، منوّها إلى ما قاله الدّكتور حول معرفة أسباب الوفاة من خلال تشريح جثمان المتوفّى، وأضاف:
يشهد الله إذا لقينا المختار أبو محمّد ـ الله يرحمه ـ مشرّح مثل ما قال ممدوح ملعون الوالدين إلّا أكوّر بطنه بهالشّبريّة.
نجمة زوجة المختار تعيش حالة رعب غير مسبوقة، صحيح أنّها حزينة على وفاة زوجها عامود الحامولة، فخسارتها بفقدانه كبيرة جدّا، لكن أن يعود من الموت فهذا ما لا يمكن تصديقه…فهي أوّل من رأى عينيه الجاحظتين وفمه المفتوح على غير العادة…كما أنّها تحسّست برودة جسده بيديها، أمّا أن يعود من الموت فهذه كارثة أكبر من الموت نفسه! وهذه دلائل على أمور لم تستطع استيعابها…فربّما تلبّست جسده أرواح شرّيرة ستفتك بالأسرة كلّها…ارتجف جسدها وارتجّ صوتها عندما دار بخلدها أنّه سيعود إلى البيت حيّا…وأنّها ستنام وإيّاه في فراش واحد…صلّت قيام الّليل ودعت الله أن يكون خبر حياته كاذبا! فلّله ما أعطى ولله ما أخذ.
قالت نجمة لأبنائها: يمّه الله يرضى عليكم…جهزّوا حالكم وادفنوا أبوكم، لا تتركوه على لسان النّاس.
محمّد: يمّه أبوي حيّ يرزق…وجهّزي حالك عَ شان نروح نزوره في المستشفى.
الأمّ: يا ويلك يا طول ليلك يا نجمة! أنا مش رايحة؛ لأنّي أخاف من المستشفيات ومن الأموات.
محمّد أمين: يا اخوان….لن نسمح بالإساءة لأحد في بيتنا…الدّكتور ممدوح لم يخطئ…وقد أنقذ حياة والدنا…وهذا فضل له لن ننساه ما حيينا.
أبو فالح: أبوك مش لكم وحدكم يا محمّد…أبوك أبو الجميع ـ الله يرحمه ـ شو كان محترم!
محمّد: أبي لم يمت يا أبا فالح.
أبو فالح: هئ هئ هئ “نقول ثور..يقول: احلبوه” أبوك يا عمّي كويته بالمنجل ما تحرّك ولا قال آخ…كيف يكون عايش؟
محمّد: سنذهب لزيارته في المستشفى الآن.
استعدّوا جميعهم للمشاركة في زيارة المختار…بل تنافسوا بالصّعود على الشّاحنة…فقال محمّد بن المختار:
يا إخوان…شكرا لكم وبارك الله بكم…لن يسمح الأطبّاء بزيارته إلّا بعد أن تتحسّن صحّته…فاستريحوا هداكم الله. ولا تتعجّلوا الأمور.
أبو فالح: أنا رايح أزور المختار، ومش بحاجة لتصريح منكم. بدّي أشوف عايش وِلّا لأ….مع أنّي متأكّد من وفاته لكن “إذا جماعتك انجنّوا عقلك ما ينفعك”.
كان أبو فالح أوّل من وصل المستشفى، وجد المختار جالسا على سريره وبجانبه ابنه ذياب، يساعده في تناول طعامه…وقف عند باب الغرفة التي تحتوي خمسة أسرّة، يرقد على كلّ منها مريض وبجانبه عدد من ذويه…أمعن النّظر في وجه المختار الذي يعاني من ثِقَلٍ في لسانه، وضعف في حركة جانبه الأيمن…حتّى أنّ فمه مال إلى الجانب الأيمن هو الآخر…سأل ذيابَ:
انت ذياب أمين وِلّا أنا غلطان؟
ذياب: نعم أنا ذياب.
أبو فالح يبسمل ويقول:
والله لولا معرفتي بأنّ الله يخلق من الشّبه أربعين لقلت أنّ هذا العجوز المصدّي الّلي بجانبك يشبه المرحوم أبوك.
المختار يدرك ما يجري حوله…لكنّه لا يسطيع الرّد….هو مستاء من أبي فالح…لكنّه لا يعتب عليه.
ردّ ذياب: تفضّل يا أبو فالح…هذا أبي بلحمه وشحمه.
جفّ فم أبي فالح…لم يعد قادرا على تحريك لسانه…تقدّم إلى السّرير، رفع عن قدمي المختار، ليرى الكيّ على كعبيه؛ كي يتأكد أنّه هو المختار أمين محمّد أمين أبو بسطار لا غيره….وجد قدمي المختار ملفوفين بالشّاش الأبيض، فسأل:
مين لفّ رِجْلين الرّجل هكذا؟
ذياب: وضع الدّكتور ممدوح دواء على مكان الحريق ولفّها…لأنّ كعبي الوالد محفورين بالنّار بطريقة همجيّة.
حاول أبو فالح حلّ الّلفافات الطّبّية….تناول المختار عصاه بيده اليسرى وضربه على ظهره وهو يقول ببطء: خسيس.
صاح أبو فالح بأعلى صوته وهو يهرب:
يا ويلي….قلت من البداية أنّ هذا جنّ مش بشر.
تعثّر بعباءته على عتبة الغرفة فوقع على وجهه…شعر بألم في ركبته اليمنى…لم يستطع الوقوف على قدميه…حمله الممرّضون إلى غرفة العيادة…في صورة الأشعّة تبيّن أنّه مصاب بكسرٍ تشعيريّ في عظم ركبة رجله اليمنى.
عندما وصل محمّد بن المختار وإخوانه المستشفى لزيارة والدهم…وجدوا العشرات من أبناء البلدة قد سبقوهم…اقتحموا المستشفى عنوة…لم يستطع الأطبّاء القيام بعملهم…طلب منهم الدّكتور ممدوح أن يدخلوا اثنين اثنين لمشاهدة المختار والخروج سريعا، لكنهّم لم يستمعوا له…بل إنّ حسن أبو بسطار قال لابنه زميتان: اسمع يا ولد…كلّ المصايب الّلي وقعت علينا من ملعون الوالدين!
زميتان: مين هو ملعون الوالدين هذا؟
ـ ممدوح الزّفت…هو الّلي حطّ رجلي في الجفصين ـالجبس ـ وهو من قلب الدّنيا…فاخلعه كم من عصا على راسه عَ شان عقله يرجع له!
خرج زميتان من عند والده كالثّور الهائج، صاح بأعلى صوته:
وينك يا ممدوح يا ملعون الوالدين.
حصل ذلك وأبناء المختار يدخلون المستشفى لزيارة والدهم…أمسكوا به يردّونه، لكنّه لم يرتدع…فلم يجد أبناء المختار مناصا من ضربه دفاعا عن الطّبيب الذي أنقذ حياة أبيهم.
استدعت إدارة المستشفى الشّرطة؛ لتوفير الحماية للمستشفى وللأطبّاء وللمرضى أيضا، اعتقلت الشّرطة عددا من أبناء القرية…هرب قسم آخر، قال أبو فالح لضابط الشّرطة:
عليكم براس الحيّة!
ـ من تقصد؟
ـ ممدوح بن سعيد أبو عقيلة.
ـ هل تعني الدّكتور؟
ـ لا تصدّق إنّه دكتور!هذا يكذب على النّاس ويستغلّ اسم المرحوم والده.
انصرف الضّابط ولم يكمل الحديث مع حسن أبو بسطار ظنّا منه أنّه يهذي…جاء الدّكتور، أمر بتحرير أبي فالح من المستشفى على أن يراجع المستشفى بعد ثلاثة أسابيع لفكّ الجبس عن ركبته.
في البيت لم يستوعب حسن أبو بسطار أن تكون رجله في الجبس، لا يستطيع ثنيها… عبث بالجبس ليزيله عن رجله…استعان بأبنائه الّذين استعملوا مقصّ ومنشار الأشجار…أصيب بأكثر من جرح في ساقه أثناء عملية إزالة الجبس….لم يستطع بعدها تحريك رجله من شدّة الألم… لفّت أمّ فالح ركبته بكوفيّة قديمة مهترئة وسخة…شعر بقليل من التّحسّن…لكنّه لم يكن راضيا عن ذلك…قرّر أن يكوي نفسه بنفسه…أحضروا له نبتة “القدحة” الجافّة…عمل منها أربعة أشكال مخروطيّة متشابهة…ارتفاع كلّ منها حوالي ١٥ ملم….ثبّت اثنتين منها أسفل الرّكبة، واثنتين أعلاها…أشعل بها النّار…اشتعلت ببطء كما السّيجارة…أخذت كلّ واحدة منها تحفر بنارها قاعدة لها. كان يحكّ جلده حولها بسبّابته بطريقة دائريّة؛ ليخفّف الألم قدر المستطاع، زوجته تساعده في ذلك وسط شتائمه المتواصلة لها.
عاد حمدان من عمله مهموما…رأى ابنه موسى ممدّدا على الفراش يئنّ ويقول بصوت خافت: بابا…ركض باتّجاه موسى…جثا على ركبتيه يتحسّس وجهه…وجد حرارته مرتفعة…ازداد موسى بكاء، قالت بهيّة وهي تبكي:
أمّك وأبوك كووه على بطنه.
بكى حمدان كما الأطفال حزنا على موسى ابنه البكر، صرخ في وجه زوجته بهيّة وهو يسأل غاضبا:
كيف سمحتِ لهما بكيّ موسى على بطنه؟
ـ هؤلاء والداك يا حمدان ولا أستطيع مقاومتهما، أو تجميع أهل القرية عليهما لحماية الطّفل منهما…توسّلتُ إليهما باكية لكنّهما لم يستجيبا لي، بقيت أبكي وحدي…وانضمّت إليّ وضحة أيضا، وقد حاولت هي الأخرى حماية موسى دون جدوى.
حمدان: لماذا كووه؟
بهيّة: أصيب الولد بإسهال…أسقيته كاس لبن وسلقت له حبّة بطاطا…قبل أن تنضج أمسكت به أمّك…وضعته في حضن أبوك…أشعلت بابور الكاز…حطّت على راسه مسمار نمرة عشرة…حتى احمرّ من شدّة الحرارة…كوته على بطنه وأبوك مثبت يديه ورجليه….صراخ الولد وصل للسّماء، لكنهم ما حلّوا عنه إلّا بعد ما انتهوا من فعلتهم.
كشف حمدان على بطن ابنه الّذي يئنّ من شدّة الألم…وجد عشرات الحروق بطبعة المسمار…كما وجد عدّة حروق بطول المسمار! حمل الولد وذهب به لوالديه…سألهم:
ليش طابخين موسى يمّه؟
ـ استغفر الله العظيم…شو هالحكي الفاضي يا حمدان؟
أبو حمدان: عيب عليك يا حمدان تحكي مع أمّك بهالطّريقة! وِلّا مثل ما قال المثل “جزاء المحسنين الشّنق”! الولد مريض يا ابني وطبّبناه.
قال حمدان ساخرا:
الله ينفعنا بطبّكم…لكن أبوس رجليكم لا تطبّبوا أولادي…خلّيهم يموتوا بدون حرق أفضل ممّا تحرقوهم وهم أحياء…وأقسم إذا تكرّرت عملية الكيّ هذه لأرحل فيهم إلى بلاد ما تعرفوها وعمركم ما تشوفونا.
أبو حمدان: لا ردّك الله لا انت ولا أولادك من بعدك…” والله صار للخرا مره ويحلف عليها بالطّلاق”.
أمّ حمدان: عندما كان عمرك سنتين…أصبت بإسهال شديد…سقيتك لبن ما نفع…غليت لك جعدة ما نفع…قرأت قرآن على راسك ما نفع، عملت لك حجاب عند الشّيخ ما نفع…قطعت العشم وقلت الولد راح عينك عينك….ربنا يعوّضنا عوض خير عنه…لكن ربّنا سبحانه في مكانه بعث لنا الحجّة أمّ حسين، أمّها للحجة صبحة الّلي بتعرفها يا حمدان…ومن أوّل ما وقعت عينها عليك قالت:
الولد مش مبسوط يا موت قلبي….ولّعنا بابور الكاز، حطّت على راسه مسمار حتى صار أحمر مثل طيز السّعدان بعيد عنكم…ولطعتك على بطنك أكثر من عشرين مرّة….وأنت تصرخ من الوجع، وأنا أبكي من قحف راسي خوف عليك…يا عمّي الوالد قلبه شقي…والله يومها ما نزل روحي غير الميّة…وظلّيت نايم للمغرب…وقمت تطلب أكل….وتشافيت وتعافيت وما شاء الله عليك.
أفاقت أمّ فالح زوجة حسن أبو بسطار على صوت أنين زوجها، حاولت إزاحة الغطاء عنه، ولكنه كان يعضّ على طرفه بأسنانه وجسمه يرتجف، وكأنّ صاعقة كهربائية مسّته. تحسّست جبهته المبلّلة بالعرق فوجدت حرارته عالية، نادت على ابنها فالح وقالت له:
تعال يمّه أبوك ساخن وينتفض.
فالح: سلامتك يا با…شو فيه؟
أبو فالح لا يستطيع الكلام ويؤشّر بطرف إصبعه إلى رجله.
– فالح: يابا هذا بسبب الكيّ بالنّار اهدا والصّبح بتكون بخير،
– هاتِ يمّه دلو ماء وفوطة عشان اعمله كمّادات لتخفيض الحرارة .
وضع كمّادات ماء على رأسه وبالكاد اقتنع أن يترك طرف الغطاء؛ ليضع بقية الكمّادات على رقبته ويديه وبطنه، ولا زال أنينه يعلو ويتلوّى من شدّة الألم . كانت نظراته المتوسّلة تزيد من شفقة زوجته عليه، لكنّها لا تستطيع أن تفعل له شيئا سوى عمل كمّادات.
أزاح فالح الغطاء عن رجلي والده؛ ليضع بعض الكمّادات فوجدها منتفخة…لونها أحمر مائل للأزرق. حاول أن يكشف على الكيّ، لكنّ والده صاح من الألم، فعرف فالح أنّ الحروق والجروح المحيطة بها هي السبب. طلب من والدته أن تمسك يديه ليفكّ الرّباط.
وجد الرّباط ملتصقا بالجروح التي تقيّحت وتعفّنت، تنبعث رائحة نتنة كريهة منها، لون رجله من عند الرّكبة حتى أصابع القدم أزرق يميل إلى السّواد . فزع فالح ووالدته من المنظر…راحت أمّ فالح تلطم على صدرها وتقول:
– يا ويلي ويا سواد ليلي، وين أروح؟ ولمين نلجأ؟
– فالح يومئ لوالدته أن تهدأ كي لا تثير مخاوف والده…لكنّها لم تفهم عليه، أو بالأحرى لم تستطع السّيطرة على أعصابها…فقالت غاضبة:
– أي هو من قليل يتوجّع؟ الله يعينه.
– فالح: يمّه إهدي وخفّفي عنه ما تزيدي الطين بلّه.
ـ يا ويلي رجله بدها قطع .. يا ويلي بدّه يصير يمشي على عكازة والله يعلم يعيش وِلّا…!
أمسك يدها وأخرجها من الغرفة… طلب من أخيه الأصغر أن يحضر الطّبيب ممدوح إن كان موجودا في القرية.
– جاء الطبيب كشف عن رجل حسن أبو بسطار وقال :
– يجب أن تنقلوه إلى المستشفى فورا.
جعر أبو فالح كضبع هرم جريح في غابة مهجورة وقال:
– لا…لا…لا المستشفى لأ … لا يابا يا فالح الله يرضى عليك تكرمني آخر عمري وما تخلّيهم يتعلموا عليّ.
لا يزال الدّكتور ممدوح يحافظ على هدوئه…لسان حالة يلعن التّخلف الذي تربّى عليه أبناء قريته، حاول طمأنة أبي فالح وزوجته وإقناعهم بأنّه يمكن إنقاذه من الموت إن ذهب إلى المستشفى، وإعطاؤه المضادّ الحيويّ المناسب، وعمل عملية بسيطة لإزالة الالتهاب والأنسجة الميتة جرّاء الحروق، فلم يفلح، لملم أدواته…أغلق حقيبته وقال:
– أنا عملت واجبي كطبيب، لكن لا سلطة لديّ لنقله إلى المستشفى بالقوّة…وإذا حصل له أيّ مكروه فأنتم تتحمّلون عواقب ذلك.
فالح: انتظر يا دكتور هذا أبونا واحنا مسؤولين عن حياته.
الدّكتور: إذا يجب أن ينقل إلى المستشفى.
أمّ فالح: باطل عليك يا أبو فالح.
الدّكتور : إهدئي يا حاجّة… إنقاذ حياة زوجك في المستشفى فقط.
فتح حسن أبو بسطار عينيه… فغر فمه…شهق شهقة وصمت، صرخت زوجته: مات أبو فالح يا ناس.
أسرع الطّبيب إليه… فحص نبضه…وجده طبيعيّا…لكنّه متسارع، فعرف أنّه مغمى عليه. أسعفه حتّى عاد إلى وعيه، أصرّ على نقله إلى المستشفى ليس لسوء وضعه الصّحيّ فحسب، ولكن بسبب الوضع النّفسيّ والإرباك الذي يحيطه بسبب انفعالات زوجته.
طلب من أولاده أن يسرعوا بنقله وإلّا سيفقدون والدهم . ذهب الولد الأصغر مسرعا لإحضار سيّارة لنقله…تولّى آخر تهدئة أمّه وإقناعها بالتّوقف عن صيحات الجنون، وابنه الأكبر راح يقنع والده بضرورة نقله إلى المستشفى، وأنّه سيتعافى إن سمع كلام الطبيب، فرفض الوالد رفضا قاطعا. دخلت عليه زوجته والحزن يملؤها وعيونها حمراء من كثر البكاء، فقال لها:
مالك يا أمّ فالح عيونك مثل عيون السّعدان؟
قالت: حتى وأنت على فراش الموت تسبني؟
ـ موت؟ أنا أموت؟ مين قال هذا؟
قاطعه أولاده : لا يابا ما تموت انت بس تعبان من الحروق الّلي حرقت حالك فيها!
أمّ فالح: اسمع يا أبو فالح ترى الجمعة الّلي قبل اللي مرّت، سمعت شيخ الجامع يقول لازم الواحد يوصي قبل ما يموت وإلّا يؤثم ! فوصِّ قبل ما تروح خلينا نلتقي بالجنّة أنا وايّاك.
-ـ هو إنتِ بدَك تلحقيني عَ الجنّة؟ ما يكفي منكده عليّ عيشتي بالدّنيا لاحقتيني هناك؟ بدّيش أوصّي عَ شان ما تتهنّي بعيشتك من بعدي .
الطّبيب يضرب كفّا على كفّ ويحوقل. والأولاد يتوسّلون والدتهم بأن تكفّ عن كلامها الذي يزيد من مرض أبيهم.
حمل الأولاد والدهم إلى السّيّارة وهو يصيح رافضا الذّهاب إلى المستشفى، والزوجة تصرخ تودع زوجها الذي لن يعود البيت حسب اعتقادها وهي تطالبه بالوصيّة.
وصل حسن أبو بسطار محمولا على عربة المستشفى، بعد فحصه حوّلوه إلى غرفة العمليّات لسوء حالته… قرّروا قطع رجله اليمنى التي باتت تتآكل بفعل الغرغرينا .
صاح رافضا القطع وهو يقول: على جثتي!
جاء الطبيب المسؤول وطلب من أحد أبنائه أن يوقّع على الموافقة لإجراء عمليّة القطع، فوقّع فالح بلا تردّد بعد أن اقتنع بكلام الطّبيب ممدوح .
أغلقت غرفة العمليات ومن خلف الباب كان “جعير” أبي فالح يملأ زوايا المستشفى، راح يهدأ رويدا رويدا إلى أن خيّم الصّمت على المكان .
بعد ساعة خرج الأطباء من غرفة العمليات سأل أحدهم:
من هذا المتوحّش الذي حرق رِجْلَ المريض؟
طأطأ الأولاد رؤوسهم وقال كبيرهم:
أبي الذي فعل ذلك بنفسه .
قال الدّكتور ممدوح: حمدا لله على سلامته، كان وضعه صعبا جدّا والآن هو في العناية المركّزة…سيبقى تحت مراقبة الأطبّاء لمدّة يومين .
– هل سيعيش أبي؟ سأل زميتان.
الطّبيب: الحياة والموت لا يعلمهما إلّا الله…نحن نعمل ما نستطيعه، كان وضعه سيّئا…سوف يكون بخير غدا. خذوا رِجله المقطوعة وادفنوها. بامكانكم أن تذهبوا الآن إلى بيوتكم…وزيارته غدا، نحن نعطيه دواء مهدّئا؛ ليستوعب فقدان رجله، فليس سهلا على شخص مثله، أفنى عمره في فلاحة الأرض أن يخسر واحدة من رِجْليه.
في الغرفة المجاورة كانت الاستعدادات تجري لتحرير المختار أبي محمّد من المستشفى، بعد أن تحسّن وضعه الصّحّيّ كثيرا.
قال الدّكتور: بقي عليه عمل “مساج” يومي لمدّة أسبوعين سيعود بعدها كما كان قبل المرض.
مرّ المختار صحبة أبنائه بغرفة حسن أبو بسطار للاطمئنان عليه…لكنّ حسن لم يحبّ رؤيته، فهو غير مصدّق أنّ المختار لم يمت، كما أنّه محرج من مقابلته، لأنّه هو من كواه بالنّار على كعبي قدميه، وهو من أعلن وفاته أيضا…سلّموا عليه …تمنّوا له الشّفاء العاجل…عندما تركوه قال ذياب لوالده:
حفر أبو فالح كعبيك بالنّار، وربّنا انتقم منه بقطع رِجله.
المختار: عيب يا ذياب…”لا شماتة في المرض.”
ذياب: ما جرى لأبي فالح ليس مرضا…وإنّما “تياسة”!
المختار: لا أريد أن أسمع كلاما كهذا… فاسكت يا ولد.
في البيت لم تجرؤ نجمة زوجة المختار أمين على تدليك رجله ويده اليمنى وفكّه السّفلي، كما أوصى الأطبّاء…قالت لابنها البكر:
اسمع يا محمّد…الله يرضى عليك يمّه أنا ختيارة تالفة…لا أستطيع تدليك طويل العمر، دبّر حالك معه، أو اطلب من زوجتك تدلكه…فهي مثل بنته.
أنقذت زوادة شقيقة المختار أمين الموقف عندما جاءت لعيادته بعدما سمعت شرحا لحالته من ابنه محمّد فقالت:
هات يا عمتي يا محمّد صحن زيت بلدي…غمست أصابع يدها بالزّيت…شرعتّ تدلّك فكّ شقيقها السّفلي وهي تبسمل…انتقلت بعدها لجانبه الأيمن…شعر براحة وارتخاء؛ فغفا وهو سعيد بذلك.
تظاهرت زوجته نجمة بأنّها مشغولة بإعداد العشاء لزوادة شقيقة المختار الضّيفة…لكن ابنها محمّد طلب منها أن تستريح…قام ونحر خروفا قِرى لعمّته، ولما توافد المهنئون بسلامة المختار نحر عددا آخر من الخراف عشاء لهم.
بناء على تعليمات الدّكتور ممدوح وضعوا المختار أمين في غرفة منفصلة، من يأتي للتّهنئة يصافحه بدون تقبيل…يذهب بعدها للجلوس في “المضافة”، فقط شقيقته زواده هي من تجلس بجانبه بشكل مستمّر، حتّى أنّها وضعت فراشها على بعد متر من فراشه.
بعد أن صافح حمدان ووالده المختار أمين وهنّآه بالشّفاء، اصطحبهما ذياب إلى “المضافة” تنحنح أبو حمدان…سأل أبناء المختار:
شو أخبار أبو فالح؟ صحيح قطعوا رِجله؟
أجاب صقر بن المختار: نعم صحيح.
أبو حمدان: لا حول ولا قوّة إلّا بالله…وكيف حاله بعدها؟
صقر: يكفيك شرّه.
أبو حمدان: تعبنا وحنا نحذره…كان عندما يسمع عن واحد مريض يروح ويكويه بخاطره وغصب عنه. وهاي شطارته أخذت رِجله!
ضحك الحضور على ما قاله أبو حمدان…الذي أضاف:
الرّجل قلبه طيّب…لكنّه لا يحلّل ولا يحرّم يا عمّي”العقل زينة”.!
حمدان: ربّنا يشفيه.
في بيت حسن أبو بسطار اختلف أبناؤه حول المكان الذي سيدفنون فيه رِجل أبيهم المقطوعة، حسم فالح الموضوع عندما قال:
نحفر قبرا جديدا ندفنها فيه، وبعد عمر طويل سندفن الوالد في القبر ذاته.
قال زميتان ساخرا: جميل لمّ شمل جسد الوالد في القبر.
ضحكوا عندما سمعوا ذلك…لكنّ والدتهم نهرتهم عن ترديد هكذا كلام؛ لأنّه يسيء لهم ولأبيهم. عاد زميتان يستفزّ اخوته فسألهم:
هل سندفن رِجل الوالد ضمن مراسيم جنائزية؟ وهل سنصلّي عليها صلاة الجنازة؟
فالح يستشيط غضبا…هجم على زميتان يريد أن يضربه…لكنّ زميتان هرب برشاقة ملحوظة.
أمّ فالح: روح يمّه يا فالح هات إمام المسجد عَ شان تغسلوا رِجل أبوك وتصلّوا عليها!
ضحك فالح وهو يقول:
” شرّ البليّة ما يضحك.”لا حول ولا قوّة إلّا بالله.
لا تفارق البسمة وجه المختار أمين…فهو هادئ بطبعه…راضٍ بحظوظه في هذه الحياة…يبتسم للجميع وكأنّه يوصلهم رسالة بأنّ وضعه الصّحّيّ على ما يرام…لمّا أخبروه بأنّهم ظنّوه قد مات عندما أصابته الجلطة الدّماغيّة ضحك وقال:
ما حدا يموت قبل ما ينتهي عمره.
زاره الدّكتور ممدوح في بيته ليطمئنّ عليه…نهض من فراشه بقوّة الشّباب لاستقبال الدّكتور…بانت الفرحة على وجه الطّبيب عندما رأى هذا التّقدم السّريع على صحّة المختار فقال:
ما شاء الله عليك يا أبا محمّد…أنت على خير ما يرام.
المختار: شكرا لك يا دكتور…هذا بفضل علمك وجهدك.
الدّكتور: أنا في خدمتكم يا أبا محمّد…وأتمنى عليكم أن تأخذوا من يمرض إلى الطّبيب أو المستشفى…وأن تبتعدوا عن كيّ المريض بالنّار…فالكيّ تعذيب للمريض ولا يشفيه.
المختار: الكيّ بالنّار عادة موروثة متأصّلة…نأمل أن نستطيع الخلاص منها…عندما كواني أبو فالح ما كنت بوعيي وِلّا كان ما سمحت له.
الدّكتور: يا عمّي علّموا البنات والأبناء…فبالعلم تنهض الأمم.
المختار: أنا والحمد لله وبعض الأشخاص علّمنا الأولاد حتى خلّصوا المدرسة…وهم يعملون الآن مدرّسين وموظّفين..وما كان عندنا قدرة ماليّة نعلّمهم في الجامعات في بلدان أخرى.
الدّكتور: تعليم البنات مهمّ كتعليم الأبناء.
المختار: كلامك صحيح…أنا بنتي فاطمة علّمتها للصّف السّادس، وما كمّلت بعدها لأنّه ما فيه مدرسة بنات إعدادية في القرية…وما فيه مواصلات للمدينة…والعادات لا تسمح بتنقلّ البنات من بلد لبلد. وطلعت من المدرسة مع أنها كانت شاطرة كثير…وبعدها تزوّجت الأستاذ سعيد بن أخوك محمّد.
الدّكتور: أبو فالح رجل مسكين…لا يميّز الخير من الشّر، لو تأخّر عن المستشفى يومين آخرين لخسر حياته.
المختار: ليش قطعتوا رِجله يا عمّي؟
الدّكتور: قطعنا رِجله انقاذا لحياته…لو لم نقطعها لامتدّت “الغرغرينا” إلى بقيّة جسمه وقتلته…وصل المستشفى ورِجله مثل غصن الشّجرة المشلول اليابس…عندما وقع في المستشفى وكسر تشعيريّا من الرّكبة وضعنا له الجبس، لو تركه لمدّة أسبوعين لتشافى، لكنّه عندما عاد إلى بيته قصّ الجبس…جرح رِجله في أكثر من موضع…وقام بكيّ رجله أكثر من مرّة…ولفّها بطريقة غير صحيحة، إلى أن تقيّحت الجروح والمكاوي…وتعفّنت.
ـ كيف وضعه الأن؟
ـ لا خطر على حياته…لكنّ الرّجل لا يؤمن بالطّب…يشتم الأطّباء والممرّضين…ولا يحترم أحدا…سنعطيه عكّازين يضعهما تحت إبطيه ليساعداه على التّنقّل…سندرّبه على استعمالهما…نعطيه أدوية مهدّئة …وسنعيده قريبا إلى بيته.
ذياب ساخرا: يبدو أنّ أصول أبو فالح تعود إلى عبدة النّار في الهند! نظر إليه والده نظرة فيها عتاب…فسكت ولم يكمل حديثه، لكنّ الدكتور ممدوح قال:
ما قاله ذياب فيه شيء من الصّحة! فالتطبّب بالنّار جاءنا من الهند، مع أنّ المجوس في بلاد فارس هم أوّل من قدّس النّار وعبدها.
*******
حصلت مشاجرة ليست غريبة، لكنّها بلا مقدّمات كغيرها من مشاجرات سابقة، بدأتها الجارتان غالية الفهد زوجة عيد الجمعة، مع جعبورة العيسى زوجة جحيش الضبع، فعندما خرجت جعبورة من غرفتها عند ساعات الضّحى لتجمع بيض دجاجاتها من القنّ القريب من البيت، وجدت دجاجات جارتها يتفعفلن مع دجاجاتها…وكأنّهن يغازلن الدّيك الّذي رفع عرفه مختالا أمام محظيّاته الّلواتي عبرن حدود مملكته…طاردتهنّ بالحجارة وهي تشتم أصحابهنّ متّهمّة إيّاهم بقلّة الحياء، وتدعو الله أن يميتهم لترتاح منهم ومن دجاجاتهم…
سمعتها غالية فقالت في سرّها:
الله يجيبك يا طولة الرّوح.
لكن عندما تساءلت جعبورة:
كم مرّة قلت لها ضبّي دجاجاتك؟ لكنّها لم تسمع…تمضي يومها نايمة، أو واقفة على الشّبابيك تراقب النّاس.
لم تعد غالية قادرة على الصّبر فخرجت تهدر كثور هائج، هجمت على جعبورة…أمسكت شعر رأسها وهي تسأل:
مين الّلي تظل على الشّبابيك يا داشرة يا قليلة الأصل؟
اشتبكتا وكلّ منهما تمسك شعر الأخرى، تحاول اقتلاعه من بصيلاته…تركلان بعضهما وسط صراخهما وشتائمهما التي لا تنقطع…جاءت عيشة السّلمان حماة جعبورة…حاولت الفصل بينهما وهي تقول:
الله يلعنكن ويلعن أبو الّلي ربّوكن يا قليلات الحياء.
لم تجد طريقة لتخليص شعورهنّ من بين أيديهنّ سوى أن تقوم بِعَضّ أيديهن بأسنانها…وما أن تفلت يد من وطأة الأسنان التي انغرست بها حتى تنتقل للامساك من جديد…فذهبت لإحضار عصا كي تضربهنّ بها على أيديهنّ…في هذه الأثناء عاد كليب بن جعبورة من المدرسة، حمل حجرا وأخذ يدكّ به ظهر غالية، رأته أمّه فصاحت به:
اكسر راسها يمّه.
انتقل إلى رأسها يضربه بالحجر…لم تكن ضرباته ذات تأثير يذكر فهو لا يزال طفلا في الصّف الأوّل الابتدائي.
عادت عيشة السّلمان بالعصا…ضربتهما على أصابعهنّ التي تقبض الشّعر…فانفصلن عن بعضهما البعض وهنّ يلهثن تعبا…عاد محمود العيد ابن غالية من المدرسة هو الآخر… أخبرته والدته بأنّ كليب ابن جعبورة هجم عليها مع والدته…ومع أنّ عمره يزيد عن ضعف عمر كليب إلا أنّه خرج إليه…ضربه بعصا على رأسه…نزلت دماؤه غزيرة وسقط مغشيّا عليه، فصاحت والدته من قحف رأسها:
يا قطيعتك يا جعبورة! وينكم يا دار أبو بسطار؟
عندما رأت عيشة السّلمان دماء حفيدها لم يعد لحيادها مكان…حملت حجارة وهاجمت غالية الفهد وابنها…شجّت رأسيهما …لم تعد إلّا بعد أن رأت دماءهما النّازفة…عادت تحتضن حفيدها كليب وهي تقول:
لا تخاف يا حبيبي…وانا ستّك تركت دمهم يسيل مثل دمك…الله يخزيها أمّك اللي دايما “مثل الكلب الهامل ينبح ولا يعضّ.”
لم تجرؤ جعبورة على الدّفاع عن نفسها أمام حماتها…لأنّها تعلم جيّدا أنّ زوجها جحيش يقف مع والدته دائما، سواء كانت ظالمة أو مظلومة…كما أنّها كانت ممتنة من فعلة حماتها التي أخذت بثأر دماء ابنها قبل أن تجفّ.
وضعت غالية الفهد ملء قبضتها من رماد الموقد…أغلقت به جرح ابنها…فعلت الشّيء نفسه مع جراحها…انزوت في بيتها تنتظر عودة الرّجال؛ ليتصرّفوا حيال ما حصل.
الطّقس معتدل…نسيم هواء عليل يهبّ على الحارة عندما بدأت جماعات آل أبي بسطار تتوافد على بيت جحيش الضّبع، تلبية لاستغاثة زوجته جعبورة العيسى…بعضهم يحمل في يده عصا غليظة يسمّونها “قنوة”…آخرون يحمل كلّ منهم ماسورة معدنية بسمك إنشين، لأنّها غير قابلة للكسر أثناء “الطّوش” وبعض منهم يحمل في يده فأسا أو مجرفة. لم تتّسع دار جحيش لمن توافدوا…جحيش نفسه لم يعد من عمله بعد…جعبورة فخورة بمن لبّوا استغاثتها…استمعوا لما جرى من جعبورة وابنها كليب…جعبورة تظاهرت بأنّها مسالمة لا تعتدي على أحد ولا تذكر أحدا بسوء…زعمت أنّها لا تعرف سبب الهجوم عليها وعلى ابنها كليب في البيت…وأكّدت بأنّها هوجمت دون سبب من غالية الفهد وزوجها وابنها…لم يتراجعوا عن هجومهم إلّا بعد أن شجّوا رأس كليب…وتحت مقاومتها التي أرعبتهم…حاول كليب أن يتكلّم لكنّ صوته ضاع وسط أصواتهم…خصوصا صوت يوسف الّذي تساءل:
كيف كان عيد زوجها في الهجوم وهو لا يزال يعمل في الأرض بعيدا عن البيت ولا يعلم بالمشاجرة؟
-التزمت جعبورة الصّمت ولم تجب، لكنّ دموعها بقيت تتساقط على وجنتيها لتستدرّ عطفهم.
أنهت عيشة السّلمان صلاتها على عجل بعد أن استمعت إلى رواية كنّتها جعبورة الكاذبة…حملت مسبحتها…اتّجهت إليهم بكبرياء المنتصرين…وقالت:
لا تستمعوا لرواية جعبورة…كلّها كذب في كذب…عيد الجمعة زوج غالية مش موجود أصلا…وهو رجل طيّب…ولو كان موجود ما تدخّل في مشاكل النّسوان…ما حصل هو أنّ جعبورة هجمت على غالية…وكلّ واحدة منهما أمسكت شعر رأس الأخرى…وأنا الّلي حلّيتهن من بعض…وكليب ـ الله يرضى عليه ـ عندما رجع من المدرسة فزع لأمّه…حمل حجر وضرب غالية على راسها…لكن ضربته خفيفة وما أثّرت في راسها اليابس…وعندما رجع ابنها محمود من المدرسة…وسمع أنّ كليب هجم على أمّه…ضرب كليب بعصاته وفشخه…وقامت جعبورة تصرخ وتستنجد…أنا ما “حطيتها في بير خارب” خلعت غالية وابنها محمود كلّ واحد حجر في راسه…وشفت دمهم بعينيّ…رجعت و “كأنه يا بيت ما دخلك شرّ” ومحمود لا يزال ولد…والله ندمت لأنّي ضربته…لكن الله يلعن الشّيطان…القضيّة بسيطة ما تستاهل غلبتكم…أهلا وسهلا بكم…التفتت لجعبورة وقالت لها:
اعملي شاي للضّيوف.
عندما عاد عيد الجمعة من عمله…قصّت عليه زوجته غالية وابنه محمود تفاصيل ما حدث بصدق دون زيادة أو نقصان…استمع إليهما بانتباه…عاد يسأل:
مين الّلي فشخكم جعبورة أم عيشة؟
غالية: شو الفرق عيشة أو جعبورة؟
عيد: الفرق كبير!
محمود: عيشة الّلي فشختنا.
أبو محمود موجّها حديثه لزوجته:
مزبوط كلام محمود يا غالية؟
ـ نعم مزبوط.
ـ معناه راحت عليكم…عيشة بنت عمّنا وما ناخذ حقوق منها.
غالية تتساءل ساخرة: وابنها جحيش وين رايح من غير شرّ؟
أبو محمود: “المرأة خيرها لزوجها وشرّها لأهلها!” وعيشة السّلمان من بناتنا.
سمع أبو محمود هدير جيرانه من آل أبي بسطار…ميّز صوت محمّد بن المختار أمين من بين الأصوات الأخرى وهو يقول لهم:
فشخة كليب بسيطة…الّلي فشخه محمود جمعة…وهو ولد غير مسؤول عن تصرّفاته، وأبوه رجل عاقل…والحجّة عيشة فشخت محمود وامّه…يعني الزّيادة عندهم مش عندنا…ما بدنا الأمور تتطوّر…أنا الآن باروح عندهم عَ شان أنهي المشكلة…واتركونا من قلّة الحياء.
عندما اقترب محمّد أمين من بيت أبي محمود رفع صوته قائلا: يا ساتر.
قفز أبو محمود إلى الباب وهو يقول:
أهلا وسهلا أبو أمين…تفضّل.
دخل محمّد بيت أبي محمود بعد أن صافحه، طرح تحيّة المساء على أمّ محمود…صافح محمودا وقبّل وجنتيه…جلس وهو يحوقل ويتعوّذ بالله من الشّيطان الرّجيم….سأل أبا محمود عن المشكلة بعد أن اطمأن بأنّ جراح محمود ووالدته ليست صعبة.
ردّ عليه عيد الجمعة وهو يضحك:
أهلا بك…قضيّة بسيطة، لا تستحق الحديث و” النّسوان والاولاد أساس المشاكل” لكن ربنا ستر…ما بدها سوالف كثيرة، ولا شو قال فلان أو علنتان…اشرب قهوتك عليها واحنا نظل جيران وأقارب وحبايب.
ضحك محمّد أمين وقال:
ربنا يكثّر خيرك، ويكثّر النّاس الطّيبين مثلك.
عاد جحيش من عمله…عندما رأى رأس ابنه كليب ملفوفا بمنديل أمّه، وعلم أنّ رأسه مجروحا من محمود عيد حمل عصاه وصاح:
طاب الموت …والله لألعن محمود وأبوه وأبو الأساس تبعه.
أمسك به الآخرون…خرج محمّد أمين من بيت أبي محمود مسرعا وقال لجحيش.
اخرس يا قليل الحياء.
لكن جحيش لم يخرس فتقدّم منه…بصق على وجهه وصفعه على رأسه…فسكت خوفا لا أدبا.
جلس محمّد بن المختار أمين وسطهم غاضبا من سخافة جحيش، الحاضرون متضامنون مع ابن المختار…انتظروه حتّى يتحدّث، جاءت عيشة السّلمان والدة جحيش وقالت لابن المختار:
اسمع يمّه يا محمّد…لا تؤاخذنا بجحيش، ربنا يساعده على عقله الّلي عمره ما ريّحه…يمّه الّلي تشوفه صحّ اعمله…وانس جحيش.
محمّد أمين: عيد الجمعة رجل طيّب…الحق له..وما تركني حتى أتكلّم في الموضوع…رحّب بي وفات كلّ شيء وهو يضحك ويقول:
احنا جيران وقرايب وحبايب…وقبل ما نشرب القهوة…طلع “نهيق” جحيش! صحيح انّه الّلي سمّاه جحيش ما غلط.
سكت قليلا وأضاف: الآن نروح لعيد الجمعة، ونعتذر له قبل ما يخبر قرايبه…ومرحبا به شو يرضيه أنا جاهز…وجحيش الزّفت لازم يبوس راس عيد ويطلب السّماح منه.
قبل أن ينهي كلامه تفاجأوا بعيد الجمعة يدخل عليهم باسما ويقول: السّلام عليكم.
وقفوا جميعهم احتراما له…أقسم محمّد بن المختار أمين أن لا يجلس عيد إلّا مكانه.
بعد أن جلس…صبّ محمّد أمين له القهوة بيده…فقال عيد:
يا اخوان أنا وجحيش جيران واخوان…وأنا معتاد على أعمال أخوي جحيش…واتحملها لأنّي أكثر انسان يعرفه…لكن والله إنّي مستغرب فزعتكم…وشايف الّلي حاملينه في ايديكم…على مين جايّين تتهدّدوا؟
عليّ أنا؟ تفضلوا انا بينكم!
محمّد أمين: أهلا وسهلا بك…أنت أخونا وعزيز علينا…ومين يهدّدك أو يهجم عليك يهدّدنا و”عصاتنا قبل عصاتك.”
قام جحيش وهجم على رأس عيد الجمعة يقبّله وهو يقول:
أهلا وسهلا بك يا اخوي عيد…لا عاش من يتهّدّد عليك.
نظر الآخرون في وجوه بعضهم البعض والعرق يتصبّب منهم حياء…انصرفوا إلى بيوتهم خائبين مكسوفين.
ضحك جحيش وقال:
الله يلعن الشّيطان.
ابتسم محمّد أمين وقال:
والله ما في شيطان غيرك يا قليل العقل، المثل يقول:” جارك القريب ولا خوك البعيد.” وأضاف على مسمع جعبورة: وزوجتك لو فيها عقل ما تفزّع النّاس على بيت جارها، والتفت إلى أمّ جحيش وقال لها:
أنت يا حجّة عيشة كبيرة الحارة…وكلهم مثل أولادك وبناتك وأحفادك، هجمتك على غالية وابنها خطأ كبير، واحترمي حالك ولا تعملي هيك عمايل سوداء بعد هالمرّة.ا
جحيش: أبو محمود جار عزيز وأكثر من أخ.
******
خرج حسن أبو بسطار من المستشفى ذليلا مكسور الجناح، لم يصدّق كيف عاد المختار أمين إلى الحياة بعد أن مات أمام عينيه، بينما هو يخسر رِجله في هذا المستشفى! عاد إلى بيته بعد أن اشترى له فالح كرسيّا خشبيّا يجلس عليه عندما ينهض من فراشه.
عندما نزل من السّيّارة التي أوصلته إلى بيته، توكّأ على كتفي ابنيه فالح وزميتان….بيته يبعد عن الطّريق التّرابيّ غير المعبّد حوالي مئة متر…تثاقل في مشيته…مدّ ابنه زميتان يده تحت ركبته وحمله في حضنه، كمن يحمل طفلا….غضب أبوه منه وعلا صوته يشتمه:
حاملني يا ولد شو صار لك؟ تراك تحسبني طفل بعد ما قطعوا رجلي، اتركني أمشي وحدي.
لم يتركه زميتان إلّا بعد أن أجلسه على الكرسيّ الخشبيّ في البيت، تقدّمت أم فالح لمصافحته وتقبيل يده! دفعها بعيدا وهو يقول:
كأنّك بدّك توقعيني بدل ما تسلمي عليّ…دنيا آخر وقت…تراك تفكري انّي تعبت وما عدت قادر، أنا لو بدون رِجلين أبقى قوي!
أمّ فالح: سلامتك يا أبو فالح…ربنا يعطيك الصّحة.
صبّت فنجان قهوة له…قبل أن يرتشف الرّشفة الأولى سألهم:
وين رحتوا في رِجلي المقطوعة؟
فالح: دفنّاها يابا.
ـ وين دفنتوها؟
ـ حفرنا قبر ودفنّاها فيه.
ـ وين حفرتوه؟
ـ في المقبرة بجانب قبر سيدي.
ـ صلّيتوا عَ الرِّجِل.
فالح: نعم صلّينا!
زميتان: لا تصدقه…شيخ الجامع قال ادفنوها بدون صلاة عليها، وأنّ الصّلاة على الانسان الميّت وليس على رِجله.
أبو فالح: بعد يومين لازم تاخذوني أزورها واتعرّف عَ قبري.
أمّ فالح: بعد عمر طويل.
نفر قليل من أهل القرية جاؤوا للسّلام عليه، المختار أمين وأولاده كانوا أوّلهم، عندما دخلوا بيت أبي فالح، ارتعد عندما رأى المختار كمن أصابته حمّى، ضحك المختار عندما رآه على هذه الحالة وقال:
شِدّ الهمّة يا أبو فالح.
أبو فالح: الهمّة الحمد لله عالية!
وصل أبو حمدان وحده دون حمدان….صافح أبا فالح…جلس قريبا من المختار…التفت إليه أبو فالح وسأله:
كيف اولاد رمّانة يا ابو حمدان؟
ـ الحمد لله بخير.
ـ يسألون عن أمّهم وِلّا نسوها؟
ـ بهيّة ووضحة وأمّ حمدان عوّضنهم عنها.
ـ ليش ما جبتهم معك عَ شان أسلّم عليهم؟
ـ ولا يهمّك …كم دقيقة ويكونوا مع أبوهم عندك.
ـ هل تصدّقون أنّ رمّانة ـ الله يرحمها ـ ما غابت عن بالي وانا في المستشفى، حتى في الّليل كنت احلم فيها!
المختار مازحا: انتبه لحالك…هاي كانت تحوم حواليك عّ شان تعمل لك “جمع شمل.”
أبو فالح: انت رجعت من الموت…تراك تفكّر انّك مش رايح تموت.
المختار: الموت حقّ على الجميع…وانتبه لصحتك واترك الكيّ بالنّار، لأنّه هو سبب قطع رِجلك…ولولا الدّكتور ممدوح كان دفنوك أنت ورِجلك مع بعض.
أبو فالح: ممدوح يا مختار لا يفهم شيء…وترك الدّكاترة يقطعوا رِجلي بدون سبب.
فالح: يابا ممدوح طبيب قدّ الدّنيا…ولولاه كان “عظامك صاروا مكاحل” ورِجلك راحت من الدّار ناشفة وساقطة لوحدها.
أبو فالح: اخرس يا ولد…شو هالكلام الفاضي؟
زميتان: كلام فالح مش فاضي يابا…وللي قاله المختار صحيح، لا تكوي حالك ولا تكوي غيرك…حتى لو طلب ناس منك تكويهم، لا تردّ عليهم، وانصحهم يروحوا للأطّباء.
أبو فالح ساخرا: يا حْليلك يا حسن…”ابن بولي صار يخالف قولي.”!
فالح: يابا احنا بدنا مصلحتك…الله يهديك.
ـ ليش أنا كفرت يا ولد حتّى الله يهديني؟
المختار: الأولاد ما غلطوا يا حسن…واستر حالك في تالي عمرك.
أبو حمدان: وحّد الله يا أبو فالح…و”لا تعمل من الحبّة قبّة.”
******
انتفض أبو فالح كالملدوغ….يريد أن يردّ على أبي حمدان، وإذا بحمدان يدخل ومعه طفله البكر موسى…طلب منه أن يصافح جدّه لأمّه…ركض موسى باتّجاه جدّه أبي فالح…مدّ يده مصافحا…أمسكها جدّه…قبّلها…حمل موسى ووضعه في حضنه…رفض موسى ذلك، أفلت من جدّه …ركض إلى الغرفة الثّانية يبحث عن جدّته وخالته زعرورة…احتضنته جدّته لأمّه…قبّلت وجنتيه…ركض إلى خالته زعرورة…تلقّفته بين يديها وهي واقفة…ضمّته إلى صدرها، تعلّق برقبتها وهو يقول: أن باحبّك يا خالتي.
قبّلته مرّة أخرى وهي تقول: وأنت حياة خالتك يا حبيبي.
عندما ذهبت زعرورة لتملأ تنكة الماء من البئر، بقي موسى ممسكا بثوبها كأنّه يخاف أن تهرب منه…رآهما أبو حمدان فقد كان يجلس مواجها لباب الغرفة…أراد لفت انتباه حمدان لزعرورة، وكيف تحبّ أبناءه وهم يحبّونها أيضا…فقال له:
شوف موسى يابا يا حمدان خوف يقع في البير.
قفز حمدان من مكانه…رأى موسى متعلّقا بخالته…رأى مدى عطفها وحنانها عليه…فرح بذلك…وترك موسى معها.
خرج المختار وأبناؤه من بيت أبي فالح بعد أن رأوه متعبا…مخاوفه من الموت تزداد ساعة بعد ساعة…التفت إلى أبي حمدان وقال:
سبق وحكيت معي في موضوع يا أبو حمدان وما لحقت كلامك.
أبو حمدان: أيّ موضوع؟
أبو فالح: بدنا نفرح بالاولاد، ونطمئن على الأطفال الأيتام قبل ربنا ما يأخذ وداعته.
أبو حمدان: معك حق…وانا في انتظار الجواب منك.
ـ صحيح …لكن الأحداث اللي صارت ونومي في المستشفى أخذت وقت طويل.
ـ يا سيدي”كلّ تأخيرة فيها خيرة.”
أبو فالح: زعرورة مباركة على حمدان…”:عطيّة ما من وراها جزيّة”.
ـ بارك الله فيك والله ما قصّرت…وانا رادّ جزاها مثل مهر المرحومة أختها رمّانة وحبّة فستق فوقهن.
ـ خلّونا نقرا الفاتحة.
قرأوا الفاتحة بهذه المناسبة التي تفاجأ بها حمدان؛ بدا متوتّرا فلم يقرأ مثلهم، ولم يتكلّم…عندما قالوا له :”مبارك” تمتم ولم يجب.
اتّفقوا أن تكون الخطبة بعد أسبوع…والزّواج بعد أسبوعين. ذهب زميتان بإيعاز من أبي حمدان إلى الدّكّانة القريبة واشترى “سفطي حلقوم” لتوزيعهما كحلوى بهذه المناسبة…أوصاه قائلا:
سفط للرّجال وسفط للحريم يا عمّي.
وقع حمدان في حيرة كبيرة، فهو لم يوافق ولم يعترض، فالأعراف لا تسمح له بابداء الرّأي ووالده موجود، حتّى لو كان الموضوع متعلّقا به شخصيّا ومصيريّا كالزّواج…تماما مثل زعرورة أيضا، فهي الأخرى لا رأي لها.
عندما عاد زميتان بسفطي الحلقوم…أعطى واحدا لزعرورة في غرفة “الحريم” ـ لم يكن في الغرفة غيرها سوى والدتها وشقيقتيها، وموسى بن رمّانة ـ وقال لها:
مبارك يا عروس…خطبك حمدان.
لم تتفاجأ بالموضوع…بل كانت تنتظره…ابتسمت ابتسامة خفيّة، احتضنت موسى وقالت له: اقعد يمّه!
استأذن حمدان بالخروج…سأل عن موسى…نادى عليه…قالت له أمّ فالح: تعال خذه يمّه يا حمدان.
أطلّ من الباب…رأى موسى يخبّئ رأسه في صدر زعرورة ويقول:
أنا بدّي أنام عند خالتي زعرورة!
ابتسمت زعرورة ابتسامة رضا، قبّلته وقالت:
حبيب خالتك. التفتت إلى حمدان وقالت:
تفضل اقعد شوية…اشرب كاس شاي…موسى مبسوط ومرتاح.
بقي موسى عند خالته، لم يوافق على العودة مع أبيه، بل طلب من أبيه أن يعود إلى البيت وأن يتركه.
في الطّريق إلى البيت بكى حمدان نفسه وبكى بهيّة أيضا، فهو مغلوب على أمره مثلها تماما….تذكّر أنّ بهيّة بذلت جهودا كبيرة في العناية بالأطفال اليتامي، واسترضائه كزوج…واسترضاء حمويها أيضا…وهي على قناعة تامّة بأنّ الله قد عوّضها بأبناء رمّانه ما دامت لم تنجب…لم يعرف كيف يفاتح بهيّة بما فعله والده بطلبه زعرورة، بذريعة أنّها ستربّي أطفال أختها المرحومة رمّانة.
عندما اقترب من غرفته، كان كمن ارتكب خطيئة…لام نفسه كثيرا لأنّه التزم الصّمت ولم يرفض…وجد بهيّة في وضع سيّء…وجدها أمام البيت تتقيّأ وتئنّ…لحق بها عنتر…وقف بجانبها وهو يقول لها:
ماما شو فيه؟
طلبت من حمدان أن يمسك عنتر، وأن يدخله إلى الغرفة خوفا عليه من نسيم الّليل….سألها حمدان عمّا بها فأجابت بأنها تشعر بغثيان وضعف لم تشعر بمثله من قبل…وأنّها تتقيّأ باستمرار منذ ثلاث ساعات، مع أنّها لم تأكل شيئا منذ الصّباح…بل إنّها لا تطيق رؤية الطّعام ولا شمّ رائحته…أمسك بيدها يريد إعادتها إلى الغرفة، لكنّها طلبت منه أن يتركها قليلا حتى تذهب عنها نوبات القيء.
استيقظت وضحة على صوتيهما…خرجت تستطلع الأمر…اعتقدت أنّ بهيّة مصابة بنوبة برد…غلت لها كأسا من الجعدة…لكنّ ذلك لم يساعد بهيّة في شيء….احتضنت عنتر…حملته إلى فراشه كي ينام.
جلست بهيّة على فراشها تتصبّب عرقا…قالت لحمدان:
دير بالك على الأولاد يا حمدان…زعرورة خالتهم هي أفضل من يرعاهم…تزوّجها كي لا تبقى أنت وهم وحدكم.
حمدان: شو صار لك يا بنت النّاس…لا تخافي…بكرة ناخذك للدّكتور.
ـ لا دكتور ولا غيره…الّلي كاتبه ربنا يصير.
خاف حمدان على بهيّة…بكى حظّه مع النّساء…تذكّر رمّانة، خاف أن يكون مصير بهيّة مثل مصيرها…دعا ربّه لها بالشّفاء إن لم يكن من أجله وأجلها؛ فمن أجل الأطفال الأيتام الذين ترعاهم.
حدّثها كيف طلب أبوه زعرورة له دون علمه…فباركت ذلك عن طيب خاطر، وقالت له:
تزوّجها وان شاء الله تتهنّا بها، فهي أفضل من يعتني بالأيتام.
وأضافت بأنّها فقدت شهيّتها للطّعام…وأنّ قواها قد خارت دون سبب تعلمه!
في الصّباح جاءت أمّ حمدان توبّخ بهيّة ، اتهمتها بالعهر غيرة وحسدا عندما سمعت أنّ حمدان سيتزوّج زعرورة…تقيّأت بهيّة من جديد…لم تنتبه لحماتها…قالت:
حسبي الله ونعم الوكيل.
غضب حمدان من والدته…طلب منها أن تترك بهيّة بحالها فهي مريضة…طلب من بهيّة أن تستعدّ؛ ليأخذها إلى الطّبيب، لكنّها رفضت بشدّة وقالت:
شو يقدر الطّبيب يعمل…لا شيء يؤلمني…فقط معدتي تنقبض وتقفز من مكانها كأنّها تريد الخروج من فمي.
وضحة متعاطفة مع بهيّة…تغلي لها الجعدة والمريميّة والشّاي والبابونج…لكنّها تتقيّأ كلّ ما يدخل جوفها. ذهبت وضحة إلى بيت الحاجّة صبحة…استأذنت منها أن تقطف ليمونة من الشّجرة الّتي أمام بيتها…فسمحت لها بقطف ثلاث ليمونات وليس واحدة…قطعت إحداها قطعا صغيرة على شكل هلال…قدّمتها لبهيّة في صحن مع قليل من الملح، غمست وضحة قطع الّليمون بالملح…التهمتها بشهيّة، عصرت لها الّليمونتين المتبقّيتين…طلبت من شقيقها حمدان أن يذهب ويشتري ليمونا على اعتبار أنّه مفيد لحالة بهيّة…ذهب وعاد بصندوق ليمون يزن أكثر من خمسة عشر كيلو غرام. أعطت وضحة عنتر نصف حبّة ليمون…كانت سعيدة وهي تراه ينتفض مغمضا عينيه من حموضة الّليمون، فرحت بتجعيدات وجهه الطّفوليّة البريئة وهي تتثنّى مع شفتيه بفعل الحموضة…وضعت نقطة من عصير الّليمون في فم زعل….فتح فمه وتجعّد وجهه من حموضتها، فضحكت هي وبهيّة من ذلك.
عندما عاد موسى من بيت جدّه لأمّه بصحبة خاله زميتان، اقترب من بهيّة وهي تئنّ…وضع يده على جبينها وسألها ببراءة:
مين ضربك يمّه؟
ابتسمت له…قبّلت جبينه وأجابته:
لا تخاف يمّه …أنا بخير.
اقتصرت خطبة حمدان وزعرورة على الأهل فقط…لم يحضرها من خارج الأسرتين سوى المختار أمين بحكم الجوار مع والد العروس، وكونه كبير الحامولة الذي لا يليق غيابه عن مناسباتها…رفضت أمّ فالح الغناء في الخطبة لأنّ حدادها على رمّانة مستمرّ…لكنّ أمّ حمدان أطلقت زغرودة وهي تقول:
هذه الزغرودة لطرد النّحس وليس للفرح!
اعتذرت بهيّة لحمدان عن عدم تمكّنها من حضور حفل الخطبة بسبب وضعها الصّحّيّ وقالت له:
مبارك يا حبيبي…ربنا يهنّيك ويسعدك والله لو انّي قادرة لرحت معكم ورقصت وغنّيت.
لكنّ حمدان أصرّ على حضورها كي لا يفسّروا عدم مشاركتها بطريقة خاطئة…فلا أحد يستطيع إقناعهم بمرضها….تحاملت على نفسها وذهبت معهم…أجلستها أمّ فالح بجانب زعرورة…تركت مكانا لحمدان كي يجلس بينهما…لم يعجب ذلك أمّ حمدان، فأمسكت يد بهيّة وسحبتها بقوّة وهي تقول:
ليش قلّة الحياء؟ لا يجوز لك أن تاخذي دورك ودور غيرك! اليوم الخطبة لزعرورة!
لم توافق أمّ فالح على ذلك…حاولت إقناع أمّ حمدان بالابتعاد عن بهيّة، لكنّ بهيّة ابتعدت طواعية…جلست وحدها دون أن تبدي أيّ معارضة…عندما وزّعوا “حامض حلو” في بيت أبي حمدان ملأ موسى وعنتر أيديهما الصغيرة وقدّموها لبهيّة وهما يقولان:
تفضّلي يمّه.
احتضنتهما وقبّلتهما بحنان…أجلست عنتر في حضنها، وموسى على يمينها تطوّقه بيدها، لم تتركهما إلّا عندما جاءتها نوبة قيء..خرجت مسرعة إلى الخارج… رأتها أمّ حمدان تتقيّأ فقالت:
إن شاء الله روحك تطلع….ليش هالعهر؟ بعدك ما شفتِ الضّرّة يا قليلة الحياء!
استاء حمدان ووضحة من حماقة والدتهما…قالت وضحة:
صلّي على النّبي يمّة…ولحقت ببهيّة وصوت والدتها يلاحقها:
النّبي لا يحفظك ولا يحفظها.
طلب حمدان من وضحة أن تعود وبهيّة إلى البيت…فلا داعي لاستمرار وجودهما…التفت إلى زعرورة التي كانت تبكي وسألها عن سبب بكائها؟ فأجابت متسائلة:
ليش امّك تتصرّف هكذا؟
تنهّد تنهيدة عميقة وقال: ربنا يعينها على عقلها.
بعد صلاة المغرب جاء الدّكتور ممدوح وزوجته ريتا، وشقيقه رضوان مع زوجته سلمى وابنه سعيد إلى بيت أبي حمدان، استقبلوهم بطريقة لائقة…قال أبو حمدان:
أهلا وسهلا…شرّفتونا…الحريم يقعدن مع الحريم.
قال الدّكتور: لا أحد غريب يا أبا حمدان…يجلسن معنا…فنحن أهل.
ـ أهلا وسهلا يا عمّي…البيت بيتكم…أنت ورضوان وزوجته وابنه عارفينكم…لكن المشمّرَة الّلي جنبك مين هي؟
ـ هاي زوجتي يا أبو حمدان…اسمها ريتا.
ـ أهلا وسهلا يا عمّي يبدو انها أجنبيّة… تحكي عربي؟
ضحكوا وقالت ريتا: أنا عربيّة يا عمّي…أهلي من واد النّسناس في حيفا…تزوّجني الدّكتور ممدوح قبل النّكبة بسنتين.
ـ الله يرحم أيّام العزّ بحيفا ويافا.
جاءت أمّ حمدان ورحّبت بالضّيوف…احتضنت ريتا وسلمى…قبّلتهما وهي تضحك…وقالت:
أهلا وسهلا فيكم وفي كلّ من يبارك لحمدان.
الدّكتور: بماذا يبارك؟
أمّ حمدان: حمدان خطب زعرورة بنت حسن أبو رِجل مقطوعة.
الدّكتور: لكن حمدان متزوّج.
ـ نعم متزوّج لكن زوجته عاقر.
عندما رأى حمدان سيّارة تقف أمام بيتهم…استأذن من زعرورة وأهلها …قاد ولديه موسى وعنتر معه في حين عاد زعل بصحبة جدّته، دخل غرفته ليطمئنّ على بهيّة عندما عرف أنّ السّيّارة سيّارة الدّكتور ممدوح….وجدها تئنّ تعبة…ذهب إلى “المضافة” ليصافح الضّيوف ويجالسهم.
عندما صبّوا القهوة للضّيوف وضعوها أمامهم، قال الدّكتور ممدوح:
يا عمّ أبو حمدان جئنا نطلب يد ابنتكم وضحة للأستاذ سعيد بن أخي رضوان على سنّة الله ورسوله.
قال أبو حمدان: أهلا وسهلا بكم…. وقبل أن ينهوا كلامهم سمعوا من يقول يا ساتر قرب باب البيت…خرج حمدان لاستقبالهم…فإذا هم:
رشيد أبو بسطار وابنه إسماعيل وأخوه عفّاش.
قالت أمّ حمدان لريتا وسلمى: تفضّلن معي نقعد في الغرفة الثّانية.
صبّ حمدان القهوة لهم…وضعوها أمامهم…طلب أبو إسماعيل يد وضحة لابنه إسماعيل….ولمّا أجابه أبو حمدان بأنّ هناك من سبقهم وطلبها…اعتبروا ذلك احتيالا عليهم…رفضوا احتساء القهوة وخرجوا غاضبين.
فقال أبو حمدان: “طريق تاخذ ما تجيب.”
رأت ريتا بهيّةَ وهي تتقيّأ…قالت:
الدّكتور موجود دعوه يفحصها!
سمع حمدان كلام ريتا…استأذن من الطّبيب كي يرافقه لفحص بهيّة…وضع الطّبيب سمّاعته على صدرها الأيسر من فوق الملابس، فقال: نبضها ممتاز.
انتقل لفحص أعضاء أخرى بعد أن سمع عوارض المرض من بهيّة وحمدان، عاد يفحص مرّة أخرى…بعدها قال:
مبارك.
حمدان: ما هو المبارك؟
الدّكتور: السّيّدة حامل.
ـ ماذا تقول؟
ـ أقول السّيّدة حامل.
ـ كيف تحمل وهي عاقر؟
ـ من قال لكم أنّها عاقر؟
أطلقت وضحة سيلا من الزّغاريد احتفاء بذلك…تفتّح وجه بهيّة وتساقطت دموعها فرحا…نهرت أمّ حمدان وضحة لأنّها زغردت، وتساءلت عن سبب زغاريدها…ولمّا أخبرتها بما قاله الطّبيب عن حمل بهيّة قالت:
يبدو أنّ الدّكتور مجنون…فكيف ستحمل بعد سبع سنوات عقم؟ هذا واحد كذّاب…لا تصدقوه.
وعندما سمع أبو حمدان بالخبر قال:
سبحان الله ” لولا الغيرة ما حملت الأميرة.”
بعدها قال رضوان لأبي حمدان:
شو ردّك على طلب الدّكتور؟
ـ أيّ طلب.
ضحك رضوان وقال: طلب يد وضحة للأستاذ سعيد.
ـ يا عمّي نسبكم يشرّفنا…أعطوني يومين أشوف رأي أهل الدّار.
رضوان: حيّاك الله.
سمع أهالي القرية زغاريد وضحة…اعتقدوا أنّ هناك سهرة غناء بمناسبة خطبة حمدان على زعرورة…عدد من النّساء جئن ليشاركن في السّهرة، ومن ضمنهنّ والدة بهيّة التي سقطت مغشيّا عليها من شدّة الفرح عندما سمعت بخبر حمل بهيّة.
تساءلت النّساء عن سبب وجود الدّكتور…أجابت أمّ حمدان بفخر:
طلب وضحة للأستاذ سعيد بن أخوه رضوان.
تغامزت بعض النّساء وتهامسن بأنّ الزغاريد بسبب طلب العروس، وأنّ حمل بهيّة لا يتعدّى كونه اشاعة كاذبة…أكّد ذلك ما قالته أمّ حمدان بأنّها لا تصدّق حمل بهيّة…فسألتها جعبورة العيسى:
إذا مش مصدقة ليش زغردتي؟
ـ والله يا خيتي لا زغردت ولا على بالي…هاي مقصوفة العمر وضحة اللي زغردت.
تغامزن أكثر وقالت الحاجّة صبحة:
الدّنيا آخر وقت…البنات يزغردن لمّا يطلبهن واحد قبل ما يعرفن انهم أعطوهن وِلّا لأ.
سمعتها أمّ حمدان فقالت لها: عيب يا حجّة…بنتي مش مثل ما قلتِ، واحنا نعرف كيف نربّي بناتنا.
قالت ريتا: فليكن أن زغرودة وضحة كانت بسبب طلبتها…أين الخطأ؟ أليس من حقّها أن تفرح؟ وماذا تردن منها؟ هل تردنها أن تبكي؟
وضحة تجلس بجانب ريتا…همست لها:
والله لولا أبوي طرد إسماعيل أبو بسطار لبكيت بحقّ وحقيقة.
سألتها ريتا: كم عمرك يا وضحة؟
ـ ١٦ سنة.
ـ هل تعلّمتِ في المدرسة؟
ـ نعم أنهيت الصّف السّادس.
ـ لماذا لم تكملي دراستك؟
ـ مدرسة بنات القرية ابتدائية فقط ، ولا يسمحون للبنات أن يدرسن خارج القرية؟
ـ هل يسمحون للأبناء أن يكملوا دراستهم خارج القرية؟
ـ البعض يسمح والبعض الآخر لا يسمح.
ـ لأيّ صفّ درس شقيقك حمدان؟
ـ للصّف السّادس.
ـ لماذا لم يواصل تعليمه؟
ـ لا أعرف، فهو أكبر منّي…لكنّني سمعت أنّهم أخرجوه من المدرسة ليعمل في الأرض؛ وليزوّجوه.
ـ هل لك إخوة غيره؟
ـ نعم لي ثلاثة متزوّجون ويسكنون بعيدا من هنا مع زوجاتهم وأبنائهم، ولي تسع أخوات، واحدة منهنّ ماتت في المخاض هي وجنينها، والأخريات متزوّجات.
لم يغمض جفن لبهيّة تلك الّليلة فرحا، حمدت ربّها كثيرا…رأت نفسها وكأنّها تولد من جديد…تنفض غبار سنوات ذلّ سبّبها لها أمر لا خيار لها فيه…بدأت تلوم نفسها لأنّها لم تحاول الذّهاب إلى طبيب من قبل….صحيح أنّ العادات لا تسمح بذلك، لكنّها لو عرضت الأمر على زوجها لما عارض، وكان بإمكانهما أن يذهبا إلى الطّبيب دون أن يعرف أحد من القرية…عادت تفكّر بأنّ الله أنعم عليها بالحمل ثوابا لها لرعايتها الصّادقة لأطفال ضرّتها المرحومة رمّانة…لقد أحبّتهم من قلبها…رعتهم برموش عينيها، وبالتّأكيد سيكون حبّها لأبنائها أكبر، هي غاضبة ممّا قالته حماتها غير المصدّقة لحملها…لكنّها دعت الله أن يهديها…دعت كثيرا للدّكتور ممدوح…فقد أدخل فرحة كبيرة إلى قلبها بعد أن كانت خائفة بأنّه سيتوقّف عن الخفقان…بقيت ترسم خططها في كيفيّة تربيتها لابنها القادم، تمنّته ابنا ذكرا…لكنّها عادت تلوم نفسها على هكذا تفكير، فهي راضية قانعة بما كتبه الله لها…وقالت “الّلي تلد البنت تلد الولد.”
حمدان هو الآخر راودته أفكار كثيرة…سعادته بحمل بهيّة كانت كبيرة، فعلى الأقلّ سيريح نفسيّتها، وسيخرس الألسن الجارحة التي تكرّر دائما على مسامعها:”الشجرة الّلي ما تثمر قطعها حلال.” يضاف إلى ذلك أنّ بهيّة زوجة صالحة…تعطيه حبّا، توفّر له هدوءا، تعتني بأطفاله الأيتام، تتحمّل تعدّيات والدته غير المبرّرة. تمنّى لو أنّ حمل بهيّة بان قبل خطبته لزعرورة، لكنّه عاد يقول بأنّ تعدّد الزّوجات ليس حراما ولا عيبا، فكلّهم معتادون عليه، حتّى النّساء لا يعترضن عليه أيضا، وبهيّة باركت خطبته لزعرورة هي الأخرى، وقد يكون هذا لصالحها، لأنّها ستتفرغ لتربية وليدها القادم، وستترك رعاية أطفال المرحومة رمّانة لخالتهم زعرورة.
عندما استأذن الدّكتور ممدوح هو ومرافقوه بالانصراف، قال لهم أبو حمدان بأنّ عشاءهم على النّار، ولم يقبل منهم عذرا كي يسمح لهم بالمغادرة…تشاور حمدان مع والدته ومع زوجته بهيّة وشقيقته وضحة حول العشاء، فقالت بهيّة بأنّ “المسخّن” يحتاج إلى إعداد مسبق…اقترحت أن يذبح لهم خروفا، لشوائه في الطّابون أو على الصّاج، وحبّذت الأخير اختصارا للوقت، وهذا ما حصل.
استمعت ريتا لقصّة بهيّة مع الحمل من وضحة؛ فاستغلّت انشغالهم بإعداد العشاء وذهبت تجالسها؛ لتهنئتها بالحمل، وتتسامر معها. عندما رأت ريتا بهيّة تتقيّأ وعدتها بأن تأتيها غدا بدواء سيمنع التقيّؤ إلى حدّ كبير…أبدت بهيّة مخاوفها على جنينها إذا ما استعملت أيّ دواء، لكنّ ريتا أكّدت أنّها ستتشاور مع زوجها الدّكتور ممدوح حول دواء مناسب لبهيّة…فسألتها وضحة:
هل أنت طبيبة يا ست ريتا؟
ريتا: أنا صيدلانيّة ولست طبيبة.
بهيّة: يعني أنّك تعملين بالأدوية؟
ـ نعم…أحضّر بعض الأدوية، ونبيع بعض الأدوية التي نستوردها من دول أجنبيّة تقوم بتصنيعها.
وضحة: أين درست الصّيدلة؟
ـ في الجامعة الأمريكية في بيروت.
بهيّة: متى؟
ـ تخرّجت منها قبل النكبة بثلاث سنين.
ـ أين تعملين الآن؟
ـ أنا مالكة الصّيدليّة الوحيدة في المدينة.
وضحة: الصّيدليّة ملكك أنت أم لأهلك؟
ـ الصّيدليّة ملكي أنا وممدوح…ومن بقي من أهلي حيّا بعد النّكبة هاجر إلى لبنان، وهم يعيشون الآن في مخيّم برج البراجنة.
بهيّة: ليش ما رحتِ معهم؟
ـ أنا وزوجي ممدوح هاجرنا إلى شمال الضّفة…تركنا بيتنا وعيادة الدّكتور…تركنا كلّ شيء…خرجنا بملابسنا التي نرتديها فقط.
نزلت دمعتا حزن من عيني بهيّة وهي تستمع لكلام ريتا عن النّكبة.
بكت ريتا وهي تتذكّر أخاها الطّبيب الياس الذي استشهد قبل أن يمضي شهر على زفافه…كان شريكا لزوجها ممدوح في العيادة، وكلاهما كانا يعملان في مستشفى حيفا الحكوميّ. وازدادت بكاء وشريط مرابع الطّفولة والصّبا في حيفا يدور في رأسها.
******
بعد مغادرتهم بيت أبي حمدان…طلبت ريتا من زوجها الدّكتور ممدوح أن يناما في بيت شقيقه رضوان في القرية، فأولادهما الآن نائمون في بيت عمّهم أيضا…اقترح عليهما رضوان أن يناما في الشّقّة التي خصّصوها لابنه الأستاذ سعيد كي يتزوّج ويعيش فيها، وهي عبارة عن غرفتي نوم، صالون، مطبخ، برندة وحمّام. والشّقة فراشها موجود فيها…قال لهم:
ناموا كلّ واحد منكم على فرشة…لكن تخوت ما عندنا.
ضحكت ريتا وقالت:
النّوم على الأرض صحّيّ أكثر من النّوم على الأسِرَّة.
ريتا سعيدة جدّا بحياة القرية…الطّبيعة جميلة…الهواء نقيّ…لا ضوضاء ولا عوادم سيّارات…لا يقطع هدوء القرية سوى نهيق بعض الحمير، نباح الكلاب وعرير الصّراصير…لكنّه يحدث أحيانا وليس بشكل مستمر…الأشجار المثمرة تملأ بطاح القرية وشعابها…أطفالها سعداء بانطلاقهم في فضاء القريّة مع أقرانهم الأطفال…ابنها البكر جمال ابن العاشرة وشقيقته دعد ابنة السّادسة سعيدان جدّا بامتطائهما الحمير خصوصا حمار عمّهما محمود، أمّا شقيقهما تامر ابن الثّامنة فيكتفي بالنّظر إلى قطعان الأغنام…ويبدي إعجابه بالدّيك وسطوته على الدّجاجات في القنّ القائم على الجهة الشّرقية من بيت عمّه.
اقترحت ريتا على زوجها ممدوح أن يبنيا بيتا في القرية، يسكنانه ويعيشان فيه مع أبنائهما….أيدّ أطفالهما اقتراح والدتهما بطريقة تظاهريّة…حتّى أنّ تامر طلب منهما أن يتركاه للعيش في واحد من بيوت أعمامه…فهم يحبّونه ويرحّبون به دائما، وهو يحبّهم أيضا.
وافق الدّكتور على اقتراح زوجته دون تردّد، قال لها بأّنّ اخوته قد تركوا له من حصّته في الميراث ما يزيد على عشرة دونمات، تقع على قمّة الجبل في القرية، مقابل تنازله لهم عن حصّته في الأراضي الزّراعيّة التي يعتاشون منها….وقد وصف الدّكتور قمّة الجبل بأنّها المكان الأفضل للبناء.
صباح اليوم التّالي ذهب صحبة زوجته وأبنائه إلى قمّة الجبل، من تلك القمّة رأوا سهولا ممتدّة تعجّ بمقاثي البطّيخ والشّمام، حقول الخضار الصّيفيّة، جبالا تتزيّن بأشجار الكرمة، التّين، الزّيتون والّلوزيّات، تشي بمناظر خلّابة يصعب حصرها، فلكلّ جبل، سهل، منحدر، وقرية رونق منفرد، تتّحد لتشكّل معا فسيفساء تأسر العقول والقلوب…الشّمس تتوارى خلف غيوم بيضاء، ثمّ لا تلبث أن تبتسم للطّبيعة…قالت ريتا:
هذه الجنّة التي كنت أحلم بها بعد جنّة حيفا…فقمّة جبل الكرمل ومنحدراته لا يضاهيها مكان في الكون.
جمال: ماما… أين جبل الكرمل.
ـ جبل الكرمل هو الجبل الّذي تنام حيفا في حضنه يا ولدي.
الدّكتور ممدوح: منذ الّلحظة سأتّفق مع صاحب جرّافة ليوسّع طريق المشاة التي تصل إلى قمّة الجبل، كي تصلح لعبور المركبات. …الطّريق ليست طويلة…طولها أقلّ من مائتي متر… تخترق أراضي آخرين سيستفيدون من توسيعها….سيفتحها على حسابه الخاصّ دون مساهمة أحد، فهو يعرف أوضاعهم المادّيّة البائسة…وفتح الطّريق سيحيي أرضهم…كما أنّه قرّر إحضار مهندس لتخطيط بيت لائق.
ذهب الدّكتور ممدوح ـ بعد التّشاور مع أخيه رضوان ـ إلى قرية مجاورة للاتّفاق مع صاحب جرّافة كي تعدّ الطّريق إلى الأرض… وجدا الجرّافة ـ كما قال صاحبهاـ معطوبة تنتظر التّصليح، وهذا يحتاج أسابيع…لكنّه نصحهما باستئجار حفّارة “كمبريسة” فوافقا.
ريتا عادت بدواء لبهيّة…قادت سيّارتها بنفسها حتى وصلت بيتها…أهل القرية استغربوا أن يروا امرأة حاسرة الرّأس تقود سيّارة، قدّمت الجرعة الأولى من الدّواء لبهيّة بيديها…تردّدت بهيّة بابتلاع الدّواء، تشجيع وضحة لها ساعد ريتا على إقناعها…ابتلعت الدّواء بعد أن بسملت وطلبت من الله الشّفاء، هي ليست خائفة على نفسها، بل على جنينها…لم تسمح وضحة لريتا بالمغادرة قبل أن تحتسي القهوة والشّاي…بعد هنيهات شعرت بهيّة بتحسّن ملحوظ…عادت إليها البسمة…نهضت من فراشها…جلست مع ريتا ووضحة…شكرت ريتا من قلبها…عندما غادرتهم احتضنتها وقبّلتها بامتنان شديد.
ما أن بدأت الكمبريسة عملها، حتى خرج كثيرون من بيوتهم لاستطلاع الأمرعلى الصّوت المزعج الذي ينبعث منها…ذهب بعضهم لاستطلاع الأمر…طلبوا من العامل أن يتوقّف عن العمل بعد أن سألوه عمّن أتى به للعمل هنا!
أسمعوه كلاما قاسيا عن الدّكتور ممدوح، فكيف يأتي بمن يعمل بأرضهم دون علمهم؟
لم يفهم الدّكتور ممدوح سببا لمعارضتهم على إعداد الطّريق لمرور السّيّارات، لكنّ شقيقه رضوان قال له بأنّ الطّريق تمرّ من أراضي جماعة أبو بسطار…فتساءل الدّكتور غاضبا:
هل من تمرّ الطّريق من محاذاة أرضه يتملّكها؟ ما هذا الجنون؟
طمأنه رضوان بأنّ القضيّة بسيطة، وأنّ جماعة أبي بسطار معتادون على معارضة كلّ شيء، لكنّهم في النّهاية يعودون ويرضخون للصّحيح….اقترح رضوان أن يذهبا بصحبة العامل إلى المختار أمين فهو رجل عاقل، ويعرف كيف يقنعهم.
ما أن وصلوا بيت المختار حتّى هبّ لاستقبالهم بحفاوة، كأنّه يردّ الجميل للدّكتور ممدوح الذي أشرف على علاجه، ويرى أنّه مدين بحياته لبراعة الدّكتور…استمع المختار للعامل وهو يسرد له ما حصل معه، وكيف أوقفوه عن العمل وسط شتائم لاذعة يخجل من تكرارها أمامهم…سأله عن أسمائهم فلم يعرفها، فطلب منه أوصافهم، فقال المختار بأنّ هذه الأوصاف تنطبق على جحيش الضّبع وزميتان بن حسن أبو بسطار…أرسل ابنه ذياب لاستدعائهما. عندما حضرا كان الغضب باديا على وجه المختار…لكنّه معتاد على الحديث بهدوء، سألهما إن كانا هما من أوقفا العامل عن عمله؟ فاعترفا بذلك بعفويّة بائنة، برّرا فعلتهما بأنّهما أوقفاه عن الاعتداء على أرضهما.
سألهما المختار:هل كان يعمل في الطّريق أم في الأرض؟
زميتان: بغضّ النّظر فالطّريق والأرض لنا.
ـ كيف عرفت أنّ الطّريق لكم؟
ـ إن لم تكن لنا فلمن تكون؟
ـ هذه طريق عموميّة ليست ملكا لأحد، ومن حقّ الجميع أن يمرّ بها.
ـ لكن ليس من حقّه أن يخرّبها!
ـ الدّكتور يريد تعميرها وليس تخريبها.
ـ نحن لا نمانع على مرور الدّكتور أو غيره من المرور بها، لكن لن نسمح له بتخريبها.
ـ قلت لكم أنّ الدّكتور يعمّر ولا يخرّب؟
ـ وهل التّعمير يكون بالحفريّات؟
ـ نعم الحفريّات من أجل تسوية الأرض لتصلح لمرور السّيارات.
ـ لا يوجد عندنا سيّارات لتمرّ بها.
قال المختار: اسمعوني جيّدا…اذا ما عندكم اليوم سيّارات …بكرة أولادكم يصير عندهم…الدكتور يريد أن يبني بيتا في أرضه…ويريد أن يدخل موادّ البناء بالسّيارة حتى مكان البناء.
جحيش: نسمح له بشرط أن لا يعتدي على أرضنا.
المختار: الطّريق محصور بين سلسلتين حجريّتين ولن يتعدّى الدّكتور حدودهما.
زميتان: واذا تعدّى؟
ـ سأعطيك من أرضه عشرة أمتار مقابل كلّ متر.
جحيش مستهزئا: هئ هئ هئ استفدنا والله!
المختار: الله يهوي على راسك سخط يسخطك فوق السّخط اللي أنت فيه! شو النّاس ما هي معجبتك تتمسخر عليهم؟
ضحك الحضور باستثناء جحيش الذي لم يعرف لماذا ضحكوا؟ التفت زميتان إلى المختار وسأل:
هل أفهم من كلامك أنّك ستسمح للدّكتور بتخريب الطّريق بحجّة مصلحتنا، مثلما قطع رِجل أبوي؟
ابتسم الدّكتور وقال: لا حول ولا قوّة إلّا بالله.
المختار: أبوك هو من كوى رجله وتركها تتعفّن…ولولا أن الدّكتور قطعها لانقاذ حياته كان دفنتوه مع رِجله.
زميتان: لو ما قطعها ومات لارتاح وأراحنا!
المختار: يبدو أنّك لا تفهم الكلام…وأنا أقول لكم بأنّني سمحت للدّكتور يفتح الطّريق…ومن له مطالب بهذا الخصوص فليراجعني أنا…وممنوع الحديث مع الدّكتور بهذا الموضوع…التفت إلى العامل وقال له:
اذهب لعملك يا عمّ.
العامل: يلزمني شخص يساعدني.
قال المختار لجحيش وزميتان: ما رأيكم تشتغلوا معه؟
زميتان: كم الأجرة اليوميّة؟
المختار: أجرة العامل ربع دينار.
جحيش: اتفقنا.
حبكها المختار بطريقة ذكيّة نالت اعجاب الدّكتور ممدوح، وإن لم يستوعبها شقيقه رضوان….بعد أن انصرفوا قال الدّكتور ممدوح للمختار بأنّ لديه مخطّطا للنّهوض بالبلدة؛ لتكون النّموذج لبقيّة القرى…فقال له المختار:
بارك الله فيك يا عمّي….كيف؟
الدّكتور: سيكون بيتي عيادة طبّيّة مجّانيّة مفتوحة أمام جميع أبناء القرية، سنعمل على فتح مدارس لمحو الأمّيّة…وتطوير مدرستي البنات والاولاد لتشمل المراحل التّعليميّة جميعها، سنفتح الشّوارع ونعبّدها…سنستصلح الأراضي الزّراعيّة…سنعمل على ربط القرية بالمدينة من خلال شركة باصات نملكها….الخ.
المختار: هذه أمور جيّدة وأتمنى لك التّوفيق.
الدّكتور: لانجاز ذلك نحن بحاجة إلى تكاتف وتعاضد الجميع.
ـ كيف يا عمّي.
ـ سأعتمد عليك في دعوة الخيّرين من أبناء البلدة لاجتماع نشرح فيه ما نريده…واذا ما اقتنعوا سنباشر العمل فورا.
ـ متى تريد الاجتماع؟
ـ ما رأيك بمساء الجمعة القادم؟
ـ توكّل على الله.
قبل أن يخرج الدّكتور وشقيقه رضوان من بيت المختار…تعالت أصوات تنبئ بمشاجرة عند الطّريق حيث تعمل الكمبريسة…خرج المختار يستطلع الأمر…رأى حشدا من الرّجال، طلب من الدّكتور أن يقلّه بسيّارته إلى الموقع….أبناء المختار محمّد، خميس، ذياب وصقر سبقوه إلى المكان….استطاعوا السّيطرة على المشاجرة قبل وصول والدهم والدّكتور…كانت الدّماء تنزف من رأس زميتان بن حسن أبو بسطار، ومن رأس قريبه محمّد شتيوي…عصب كلّ منهما رأسه بكوفيته…عندما عرض عليهما الدّكتور تنظيف الجروح وتعقيمها، سخروا منه…بل إنّ محمّد شتيوي قال له:
من يوم ما دخلت البلد دخل الشّيطان معك!
نهره محمّد بن المختار أمين بلهجة قاسية…التفت إلى الطّبيب يعتذر، قال المختار لابنه محمّد:
اترك العمّال يعملون والحقوني إلى البيت.
استمع المختار إلى المشكلة، فوجد أنّ محمّد شتيوي ـ الذي لا يملك شيئا في الأرض المحيطة بالطّريق ـ قد جاء يصيح ويشتم طالبا وقف العمل…فأخبره زميتان بأنّ المختار هو من سمح بالعمل، لكنّه بقي يشتم ويهدّد ويتوعّد، وعندما قال له زميتان:
هذه أرضنا واحنا أحرار بها.
ردّ عليه: انت جاهل ولا تعرف مصلحتك…والله لو أبو فالح يستطيع المشي لجعل نهاركم ليل!
عندما ازداد الكلام بينهما هجم محمّد شتيوي على زميتان، شجّ رأسه بالعصا، فردّ عليه زميتان بحجر استهدف رأسه.
استغرب الدّكتور ممدوح ما سمع…لكنّ المختار تنهّد وقال:
” التّياسة لا تباع ولا تشترى، لكنّها موجودة في روس البشر.”
وبّخ المختار محمّد شتيوي بشدّة…أسمعه كلاما قاسيا، وهو يصيح به متسائلا عن افتعاله مشكلة لا ناقة له فيها ولا جمل…لكنّه ردّ:
الحق مش عليكم…الحق عن اللي دافع عن أرضكم.
المختار: أرضنا مكانها وما بدها دفاعك! وأمره بأن يقوم لمصافحة زميتان وإنهاء المشكة التي لا تستحق الاهتمام.
عاد زميتان إلى عمله…وانصرفت الحشود.
امتعض الدّكتور ممّا حصل لكنّه لم يقل شيئا…التفت إليه شقيقه رضوان وقال: ” من يعمّر في بلاد خاربة لا يحصد إلّا التّعب والشّقاء.”
فقال الدّكتور: البلاد لا تصلح إذا لم يصلح أهلها…هؤلاء ضحايا للجهل والفقر …وهذا يدعونا إلى مضاعفة الجهود ونشر التّعليم، وإذا ما نجحنا في بناء الإنسان، فإنّنا سننهض بشكل تلقائيّ.
المختار: الله يرضى عليك يا عمّي والله كلامك جواهر.
عندما انصرف الدّكتور ممدوح من بيت المختار أمين أبو بسطار، سأله شقيقه رضوان:
لماذا تتشاور مع المختار أمين بكل صغيرة وكبيرة، ولا تتشاور مع المختار محمّد؟ أنسيت أنّه أخوك؟
ضحك الدّكتور ممدوح وقال:
من قال لك بأنّني لا أتشاور معه؟ محمّد أخي الكبير…يأتيني في المدينة بشكل مستمرّ، ونتشاور فيما يخصّ العائلة والحامولة والقرية وحتى الوطن…ولجوئي للمختار أمين بالتّنسيق مع أخي أبى سعيد، وبناء على نصيحته، لأنّ مشاكل البلد في غالبيّتها تأتي من جماعة أبو بسطار، وأنت شاهد كيف حلّ المختار أمين مشكلة الطّريق، ولو تدخّل فيها أبو سعيد لما حلّت بهذه البساطة…باختصار نريد كسب ودّهم…كي تسير أمورنا وأمور القرية بهدوء، والمختار أمين رجل هادئ عاقل، فقد خبرته أثناء مرضه وعلاجه في المستشفى.
رضوان: يبدو أنّ حنكة أبو سعيد ونصيحته في مكانها.
الدّكتور: لا تتكلّم بذلك مع أحد…كي لا يشيع الأمر…ويصل لقوم أبي بسطار…وإذا ما وصل فسيفتعلون مشاكل ليست في مصلحة أحد.
رضوان: “سرّك في بير.”
**********
صاح المنادي بأنّ حسن أبو بسطار قد توفيّ، فمنذ قُطعت رِجله وهو في وضع سيّء، لم يتقبّل ما جرى له…ولم يحاول التّأقلم مع وضعه الصّحّيّ الجديد…صبّ غضبه على زوجته وأبنائه…بذلوا جهودهم لاسترضائه وكسب ودّه، لكنّ ذلك لم يجدِ معه نفعا…منذ خرج من المستشفى وهو يشتم الدّكتور ممدوح بشكل دائم متهمّا إيّاه بالمسؤوليّة عن قطع رِجله…لم تغب رِجله المقطوعة عن مخيّلته لحظة واحدة…يسأل عنها…كيف دفنت بدونه…يدور في ذهنه أنّ الدّيدان قد أكلتها…يتحسّس مكانها، وعندما لا يجدها يضرب كفّا على كفّ، ويطلق شتيمة جارحة للدّكتور ممدوح…تساءل أبناؤه إن كان أصيب بالخرف! لكنّ والدتهم تؤكّد أن هذه هي طباعه منذ تزوّجته قبل أكثر من أربعين عاما، وتحمّلت الكثير منه خصوصا وأنّها حملت بابنتها البكر من الّليلة الأولى لزفافها عليه…توالت في الانجاب سنة بعد أخرى…وما هان عليها ترك أطفالها…فالرّجل كلّما تقدّم في العمر ازداد شراسة وبذاءة في الكلام.
رأى زميتان أنّ بقاءه في البيت مع والديه سيقوده إلى الجنون…سيخسر زوجته وأولاده، فالوالد يكيل شتائم مقذعة لزوجات أبنائه….حمل زميتان زوجته وأطفاله…سكن في غرفة عند أنسبائه ـ أهل زوجته ـ في غرفة كانوا يستعملونها مخزنا للتّبن…لامه شقيقه فالح وشقيقاته على ذلك…لكنّ فالح ما لبث أن لحق به، فبقيت والدتهما وشقيقتهما زعرورة تكابدان وحدهما.
حاول حسن أبو بسطار التّخفيف عن نفسه بالعزف على الرّبابة…يعزف ويغنّي أشعارا حزينة…تنهمر دموعه غزيرة، وهو يغنّي قصيدة جحيش بن مهاوش النّشّال السّرحانيّ التي قالها حول عقوق أبنائه له، ويقول فيها:

قال الذى يقرأ بليا مكاتـيب ….. يللى تلومون العمى من عناكم
ياعيال ياللى تشرفون المراقيب ….. تريثوا لى واقصروا من خطاكم
خوذوا كلام العود مابه تكاذيب . ….. مثل السّند مظلوم للى وراكم
ياعيال لاصرتوا ضيوف او معازيب …. ترى الكلام الزين ملحة قراكم
ترى النمامه من كبار العذاريب …… وهرج البلايس ما يطول لحاكم
المذهب المذهب ترى المذهب الطيب …. ترا ردا المذهب يبور نساكم
ياعيال ما سرحتكم باللواهيب …… ياعيال ماعمر المعزب ولاكم
ياعيال ماعذبتكم بالمشاعيب …… ولاسمعوا الجيران لجة بكاكم
ياما توليت الخلايق تقل ذيب ….. من خوفتى يقصر عليكم عشاكم
احميت رجلينى بحامى اللواهيب … وخليت لحم الريم يخالط عشاكم
واليوم هذى لحيتى كلها شيب ….. وهذا مكان تويضعى فى ذراكم
ياعيال بعتونى بصفر العراقيب ….. ماهى حقوقى سود الله قراكم
قمت اتوكا فوق عوج المطاليب .. وقصرت خطانا يوم طالت خطاكم
ياعيال من حقى عليكم مطاليب ….. عطونى القرضه جزاء ما وتاكم
المنسب الطيب على المنسب الطيب .. المنسب الطيب يزكى خفاكم
خوالكم بالطيب تروى المغاليب .. ياعيال مدرى هالرداء منين جاكم
ياعلكم فى حاميات اللواهيب ….. ياللى على الوالد كثير لغاكم
قصيتكم واسميت وادى سلاحيب .. لقيت بالصبخاء مدافيق ماكم
الناس تدرى بالردى والمعاييب ….. لاقبل حديكم قيل جاكم بلاكم
مانى بفاضحكم بوسط الاجانيب ….. بفعالكم يدرون كل اقرباكم
وش علمكم يا تاركين المواجيب ….. لو تتبعون الجد محد شناكم
شفت الجفاء والحيف والغلب والريب .. اهبو هبيتو ابدد الله نماكم
عسى نساكم ماتولد ولاتجيب …… تغيب شمس الصبح ويظلم سماكم
صيور ماهو عاويين بيننا الذيب …… وبالقبر ماسمع طيبكم من رداكم
تسمعه أمّ فالح فتبكي هي الأخرى…ولا تعلم إن كانت تبكي نفسها أم تبكي معه أو عليه…لامتها النّساء على رحيل أبنائها تاركين والدهم في هذا الوضع الصّحّيّ الحرج…فردّت عليهنّ وكأنّها تشمت بزوجها وتدافع عن أبنائها…كانت تقول:
“مثلما تدين تدان” و”مثلما تزرع تحصد” .
هي تعي ما تقول جيّدا فقد كان حسن أبو بسطار عاقّا بوالده! وتفتّحت عيون أبنائه على هذا العقوق…فعندما أقعده الهرم…لم يهتمّ به ابنه حسن…يأكل ويقدّم بقايا طعامه لوالده…الرّجل شره…يأكل وحده أوّلا، وما يتبقّى من الطّعام يتركه لوالده ولزوجته وأطفاله…حتّى أنّ خالته فرهودة حمدت ربّها لأنّ شقيقتها أمّ حسن ماتت وهو طفل، ولم يطل بها العمر لترى عقوق ابنها.
عادت أمّ فالح بذاكرتها إلى أيّام الشّباب، وقتها كانت زعرورة رضيعة، عندما حمل زوجها حسن أبو بسطار والده الهرم العجوز ووضعه في المغارة المجاورة…لم تسكت على ذلك حينها، طلبت منه أن يخاف الله بوالده…فهذا العقوق عواقبه وخيمة، ولا يجوز لأيّ كان أن يخرجه من البيت الذي بناه بعرق جبينه…لم يكتف حينها بشتمها بل صفعها على وجهها…أبناؤه وبناته رأوا ذلك بعيونهم، المغارة رطبة …رائحتها نتنة… تعشّش فيها بعض الحشرات…قامت أمّ فالح بتنظيفها…أبدت عجزها لأبي حسن…وعدم موافقتها على ما فعله زوجها الذي هو ابنه…الوالد العجوز يعي ذلك جيّدا…أمّ فالح تقدّم له الطّعام….تحرص على نظافته… وتوفير كلّ ما تستطيعه له…لم تعد لديه شهيّة للطّعام…كتم همومه في صدره حتى وافته المنيّة.
قليلون من شاركوا في تشييع حسن أبو بسطار، لم يشارك صقر بن المختار أمين رغم أنّهم جيران…عندما سأله أبوه عن ذلك، قال بأنّ “إكرام الميّت دفنه” والرّجل لا يستحق التّكريم…والمشاركة في الجنازة تكريم للأحياء من أهل الميّت، وأبناء حسن لا يستحقون التّكريم أيضا؛ لأنّهم تخلّوا عن والدهم في عجزه.
عند المقبرة تهامس عدد من المشيّعين حول رِجل أبي فالح التي دفنت قبله…عندما أنزلوه في القبر…جمع فالح عظامها ووضعها فوق رأسه…فكانت نادرة لمن رأوا ذلك…سمعهم عيد الجمعة وهم يتندّرون بذلك ويقولون:”رِجله فوق راسه” فقال لهم:
“اذكروا محاسن موتاكم.”
فقال جحيش الضّبع ضاحكا:
من محاسن الفقيد أنّه كان يكوي الآخرين بالنّار، حتى اكتوى بناره، وخسر رِجله.
ضحكوا على ذلك، لكن عيد الجمعة قال لهم:
“لا شماتة في الموت” كلّنا سنموت عاجلا أم آجلا.
في بيت العزاء أخبر المختار أمين الدّكتور ممدوح بأنّ الاجتماع المقرّر لوجهاء القرية قد تأجّل إلى مساء الجمعة القادم بسبب وفاة أبي فالح…ترحّم الدّكتور على أبي فالح، بينما قال شقيقه رضوان ساخرا: الله يرحمه فقد عاش مؤذيا ومات مؤذيا!
نظر إليه الدّكتور نظرة عتاب وقال:
رحمه الله فهو ضحيّة للبيئة التي عاش فيها.
عند النّساء قالت أمّ فالح للحاجّة صبحة:
الله يرحمه”الميت ما يجوز عليه غير الرّحمة”.
الحاجّة صبحة: موته كان رحمة له ولغيره.
أمّ فالح: والله يا حجّة له وحشة.
ـ احمدي ربّك…الّلي خلصتِ منه.
نظرت زعرورة إلى والدتها نظرة عتاب، لكنّها لم تتكلّم شيئا. ما هان عليها أن يذكر والدها بسوء، وعندما تمادت الحاجّة صبحة في حديثها التفتت إليها زعرورة وقالت:
من أرادت أن تجلس بأدب أهلا بها، ومن لا يعجبها ذلك فالباب واسع!
غضبت الحاجّة صبحة وسألت: من تقصدين يا بنت؟ صدق من قال”من خلّف ما مات” وحسن خلّفك ومات!
تصدّت لها نجمة زوجة المختار أمين وقالت:
زعرورة ما أخطأت يا حجّة…واحنا في بيت عزاء….ما فيه داعي للكلام الفاضي.
غضبت الحاجّة صبحة وغادرت الجلسة…لم يكترث بها أحد…شكرت زعرورة زوجة المختار على موقفها.
************
زعرورة هي المتضرّر الأكبر من وفاة والدها، صحيح أنّها ارتاحت من شتائمه….لكنّ زواجها سيتأخر بسبب وفاته…على عكس خطيبها حمدان…فلديه زوجته بهيّة ينتظر وإياها مولودهما الذي انتظرته بهيّة كثيرا…عندما جاء حمدان إلى بيت أبي فالح للتّعزية مصطحبا معه ابنه موسى…أمسكت به خالته زعرورة، وضعته في حضنها، تريده أن يتعلّق بها، ففي ذلك تسريع لزواجها…لكنّ قرار الزّواج ليس بيدها، ولا بيد خطيبها حمدان، فأشقّاؤها يقرّرون عنها، وأبو حمدان يقرّر عن حمدان…بعد مغيب الشّمس بقليل نام موسى في حضن خالته زعرورة…عندما جاءت وضحة تلهث إلى بيت أبي فالح…أسرّت بأذن حمدان أنّ بهيّة في حالة مخاض…ترك حمدان الجلسة…لم ينتبه لموسى…انطلق إلى بيت الدّكتور ممدوح يستدعيه للإشراف على الولادة.
جاء الدّكتور ممدوح وزوجته ريتا مع حمدان، فهو يعرف عادات أهل قريته جيّدا… سيفحص بهيّة وبعدها سيقرّر، فإن كانت ولادتها متيّسرة سريعة سيترك ريتا عندها مع النّساء الأخريات، ولن يتدخّل في الولادة إلّا إذا تعسّرت، وكان هناك ما يهدّد حياة الأمّ أو وليدها أو كليهما معا….في بيت حمدان طلب منه الدّكتور أن يخلي غرفة بهيّة ممّن فيها من النّساء والأطفال…طلب من حمدان أن يدخل معه هو وريتا…تردّد حمدان في الدّخول…لكن الدّكتور قال له:
لماذا أنت متردّد يا حمدان؟ ادخل أمامنا فهي زوجتك!
ـ لكنّها امرأة في حالة مخاض يا دكتور!
ـ أليست زوجتك يا رجل؟
دخل حمدان يقدّم قدما ويؤخّر أخرى…بهيّة متشوّقة لترى جنينها الذي سينزل من أحشائها…لكنّها خائفة من مصير المرحومة رمّانة، صورة رمّانة وهي في المخاض لم تفارقها منذ أن علمت بحملها، لم تتكلّم ذلك مع أحد، لكنّها كانت تمنّي النّفس بإنجاب طفل حيّ؛ ليبقى بعدها إن قضت نحبها! وتحلم بأن تنجب طفلا تحضنه وترضعه من صدرها مفاخرة بأمومتها أمام كلّ من اتهموها بالعقم.
عندما رأت بهيّة الدّكتور ممدوح وزوجته ريتا…انفرجت أساريرها…فقد يكونان سببا في تسهيل عمليّة المخاض والحفاظ على حياتها وحياة جنينها.
فحصها الطّبيب وقال:
تحتاج ساعات حتى تلد…أتوقع أن تنجب في ساعات الصّباح الأولى…الّليل طويل وأقترح أن ننقلها إلى المستشفى…أمّ حمدان تسترق السّمع خلف باب الغرفة…عندما سمعت بالمستشفى رفعت صوتها قائلة:
يا فضيحتك يا زكيّة! الله أعلم إن كانت هذه المرأة حامل أم هي كاذبة، وإذا ولدت في المستشفى ستكون “فضيحتنا بجلاجل”.
وضعت وضحة يدها على فم أمّها لا تريدها أن تستمر في كلامها، ولا تريد الطّبيب وزوجته أن يسمعا حديثها الّلامعقول…قالت بهيّة متوسّلة إلى الدّكتور:
أرجوك يا دكتور…اتركني في بيتي…وان شاء الله ربّنا ييسّر الأمور…انفرجت أسارير حمدان عندما سمع كلام بهيّة.
قالت ريتا: ما داموا “يخافون” من المستشفيات دعها تلد في بيتها…سأبقى معها لأساعدها إذا اقتضت الضّرورة…حقن الدّكتور بهيّة بحقنتين إحداهما لتسكين الآلام، والثّانية لتعجيل طَلْقِ الولادة…خرج إلى المضافة حيث يجلس أبو حمدان.
عندما جاءت الحاجّة صبحة والدة بهيّة، صرخت بصوت عالٍ تسأل أمّ حمدان عاتبة؛ لأنّها تركت بهية ممدّدة وهي في حالة مخاض، فلماذا لا تجلسها القرفصاء حتّى تتمكّن من الولادة بسهولة ويسر؟ فأجابتها ريتا:
استريحي يا حاجّة…لا يجوز أن تجلس المرأة القرفصاء في حالة الولادة، لأنّ احتمال سقوط رحمها في هكذا حالة كبيرة جدّا.
ردّت الحاجّة صبحة بسخرية:
نعم يا اختي؟ مين حضرتك؟ من وين هالشّطارة؟
وضحة: هذه الصّيدلانيّة ريتا، زوجة الدّكتور ممدوح يا خالتي، والدّكتور هو من قال هذا الكلام.
ـ هلا والله! الدّكتور الّلي قطع رِجل أبو فالح، وقضى عليه صار يفهم في الولادة؟ يا عيب الشّوم! قمن يا نسوان كي نساعدها على الجلوس.
حملت ريتا حقيبة يدها تريد المغادرة، غير أنّ وضحة أمسكت بها، وهي تؤكّد لها أنّ الأمور ستهدأ بعد قليل.
قامت أمّ حمدان لتساعد الحاجّة صبحة على مساعدة بهيّة كي تجلس القرفصاء، غير أنّ بهيّة قالت:
وحّدي الله يا حاجّة…أنا مرتاحة.
في حين أمسكت بهما وضحة وهي تقول:
لا تتدخلن في ولادة بهيّة، ولا تدّعين العلم بالولادة، وتذكّرن ما فعلتن بالمرحومتين أختي فاطمة ورمّانة! غضبت الحاجّة صبحة…ابتعدت عن بهيّة…أخرجت مسبحتها وبدأت تحرّك شفتيها بكلام غير مفهوم…اقتربت منها أمّ حمدان وقالت:
لا تزعلي يا حجّة…حقّك عليّ…هاي وضحة بعدها بنت لا حبلت ولا ولدت، ولا تعرف كيف تلد النّساء…عندما يشتدّ الطّلق على بهيّة، سنعمل كما تريدين.
ذهبت وضحة وأخبرت حمدان بما تقوله والدتها والحاجّة صبحة، طلب حمدان من والدته ومن الحاجّة صبحة أن تأتيا إلى المضافة لأمر هام…وهناك أمرهما أبو حمدان بلهجة حادّة بعدم التّدخل مطلقا بولادة بهيّة…جلستا في زاوية المضافة غاضبتين خائبتين…لم تشرب الحاجّة صبحة القهوة…غادرت بعد هنيهة وهي تطوي خرقتها على فمها وأنفها دلالة على غضبها.
عندما اشتدّ الطّلق على بهيّة عضّت على يدها كي لا يعلو صراخها… اقتربت منها والدتها…أمسكت بيدها تهدّئ من روعها، تدعو الله بتيسير الولادة…ضحكت ريتا وقالت:
اقترب الفرج…لحظات وإذا بالمولود يصرخ…أمسكت به ريتا…قطعت سرّته…وضعته على صدر أمّه وهي تقول:
مبارك إنّه ولد ذكر.
ابتسمت بهيّة ووالدتها…حمدتا الله…بكت بهيّة فرحا…حملت طفلها بحنان زائد…قبّلت جبينه…وضعت وجهه على خدّها الأيمن وهي تحوطه بيدها اليمنى، كأنّها تخاف أن يهرب منها…توقّف عن البكاء، كلّما حاولن إبعاد وجهه عن وجه أمّه كان يعاود الصّراخ، مادّا يديه الصّغيرتين كأنّه يحاول الإمساك بها.
ركضت وضحة تحمل البشارة لحمدان بالمولود الجديد، علا صوت المؤذّن ينادي لصلاة الفجر في نفس اللحظة.
سألت أمّ حمدان: هل رأيت الولد بعينيك يا وضحة؟
ـ نعم …ألم تسمعوا صراخه؟
أمّ حمدان: والله ما كنت مصدّقة انها حامل!
أبو حمدان: الله يسخطك.
قالت وضحة: وددت أن أطلق زغرودة فرح عندما رأيته وسمعت صراخه، لكنّ أمّ بهيّة رفضت وقالت:
لا تجوز الزغاريد ولم يمض يوم على وفاة أبو فالح.
عندما دخل أبناء رمّانة على بهيّة…ابتسمت لهم…احتضنتهم، قبّلتهم…وضعت في جيبي موسى وعنتر بضع حبّات “حامض حلو”
وضعت زعل على جانبها الأيمن، عندما رأى المولود الجديد في حضن بهيّة…مدّ يده مزمجرا وهو يقول:
“ددّه” وكرّرها مرّات، فضحكوا جميعهم وبهيّة تقول له:
أخوك يمّه يا حبيبي.
بارك الدّكتور ممدوح لهم بالمولود الجديد…استأذن بالانصراف هو وزوجته….بارك أبو حمدان لحمدان بالمولود الجديد وقال:
سمّوه ممدوح على اسم الدّكتور…هذا دكتور يستحقّ كلّ خير.
فرح حمدان باقتراح والده… فقد تذكّر عندما جاءه ابنه البكر وسمّاه حمدان على اسم والده…لكنّ الوالد أصرّ على تسميته اسما مركّبا “موسى حمدان” لانّه ولد في موسم النّبي موسى، كانت الأسرة مخيّمة بجانب مقام النّبي موسى على طريق القدس أريحا، عندما جاءهم خبر ولادة المرحومة رمّانة…فأراد أبو حمدان أن يكون الولد مباركا باسم النّبيّ موسى، فغلب الجزء الأوّل من الاسم على الجزء الثّاني.
دخلت أمّ حمدان غرفة بهيّة متدثّرة بوجه شيطان، فقالت لها والدة بهيّة:
مبارك حفيدك يا أمّ حمدان.
ردّت بامتعاض: مبارك على أهله.
ـ أنت من أهله.
ـ لا هذا ابن حمدان وبهيّة.
ـ حمدان ابنك يا بنت النّاس.
ـ مش نافع لا ولد ولا بنت…والمفعوص الجديد مبارك عليك وعلى بنتك.
غضب حمدان من كلام والدته وقال لحماته:
اتركيك منها “فالطّبع غلب التطبّع.”
خرج ليذبح خروفين عقيقة لممدوح الصّغير.
ما بين العصر والمغرب كان الطّقس معتدلا…نسيم غربيّ عليل يهبّ من الجهة الغربيّة…العصافير تزقزق فرحة…نوّار البرقوق ينعقد ثمارا صغيرة…السّماء صافية…غيوم بيضاء تجوب سماء القرية، قادت ريتا سيّارتها تحمل بدلة مولود جديد، علبة شوكلاتة فاخرة من صناعة أجنبية وسيّارة دمية لكلّ واحد من أبناء رمّانة، قدّمتها هديّة لبهيّة ومولودها الجديد. عندما أخبروها باسم الولد “ممدوح” رفعت رأسها كفرس جموح مفاخرة بزوجها وقالت:
ان شاء الله”يعيش وينقل اسمه” ليحفظه الله لكم، ونسأل الله أن يكبر ويتعلّم الطّبّ كممدوح.
قالت بهية: والله لو كان المولود طفلة ما سمّيناها إلّا ريتا على اسمك، ولا يمكن أن ننسى فضلك وفضل الدّكتور علينا.
ريتا: شكرا لك ..لم نفعل إلّا واجبنا وما يمليه عليه ضميرنا.
عندما أطلّت على المولود الجديد رأته ملفوفا بقطعة قماش، لا يتحرّك فيه إلّا رأسه…أفلتته من “لفاعه”…ابتسمت له وهو يمدّ أطرافه مبتهجا بخلاصه من قيد يعيق حركة جسده الغضّ…حذّرت بهيّة من مغبّة تقييد الطّفل بهذه الطّريقة…ومن مغبّة الأغطية الزّائدة عليه. ضحكت حتّى بانت نواجذها عندما سمعت مخاوف أمّ حمدان، من أن ينمو الطّفل كسيحا إذا لم يجرِ تدليكه بزيت الزّيتون ولفّه، وافقتها الرأي بتدليك الطّفل على يد أمّ أو جدّة مجرّبة، أمّا “تلفيعه” بهذه الطريقة فلا…وأضافت بأنّ أبناءها لم “يُلَفّعوا” مطلقا…وحبوا ودرجوا في سنّ متقدّمة مقارنة بأقرانهم من الأطفال، وأطرافهم سليمة وقويّة ومعافاة…ركّزت على تلك القضيّة كثيرا…وهي تردّد لازمتها:”حرام أن تفعلوا بأطفالكم هكذا!”…التفتت إلى بهيّة قائلة:
اسمعيني جيّدا يا بهيّة…اتركي طفلك طليقا بلا قيود، وسترين كيف سينمو بجسد وعقل سليمين. عندما جاء حمدان للتّرحيب بها أعادت عليه نفس الكلام…فوافقها دون نقاش.
جاءت الحاجّة صبحة لعيادة بهيّة…دخلت تتدثّر بكبرياء سطوة اكتسبتها خلال عشرات السّنين…جلست بجانب بهيّة التي كانت ترضع طفلها الذي لم يتجاوز عمره أسبوعين…بثقة زائدة طلبت من بهيّة أن تعطيها الطّفل لتفحصة…فتحت ريتا فمها مدهوشة ممّا سمعت، لم تستوعب ما قالته السّيّدة العجوز! فأيّ فحص تعنيه وتريده؟ أم أنّها قالت ما لا تقصده؟ ناولتها بهيّة الطّفل والعجوز تجلس بما يشبه الزّاوية القائمة، مسندة ظهرها إلى الحائط…بسملت على الطّفل وهي تردّد:
ما شاء الله!
حوّطتك بالله من عيني وعين خلق الله
من دار لك باله يشغل حاله في باله
كرشته غطا عينيه
مانيش أقدر من ربّه عليه.
ثمّ تثاءبت أكثر من مرّة وهي تحمد الله بين المرّة والأخرى، دلالة عن أنّ العين الحاسدة قد هربت من الغرفة…ونظراتها مركّزة على ريتا، كأنّها توحي بأنّها حاسدة… لكنّها في الواقع خائفة من اعتراض ريتا وردّة فعلها على ما تقوم به من ” رعاية تطوّعيّة ” للأطفال خصوصا المواليد الجدد، وما تحظى به من تقدير وسط رجال ونساء القرية…كانت تفتح فمها وهي تتثاءب كفرس النّهر، فيظهر ما تبقّى في فمها من أسنان وأضراس، وهو عبارة عن نابين في فكّها العلوي…وضرس أكله التّسوّس في فكّها السّفليّ، وكلّما تثاءبت كلّما تطاير رذاذ من لعابها باتّجاهات لا يمكن حصرها.
مدّدت الطفل على ساقيها…طلبت زيت زيتون وقامت بتدليكه وهي تخرج من شفتيها ما يشبه القبلة الطّويلة المموسقة…رفعت الطّفل بيديها وهو يصرخ…نظرت تحت لسانه وقالت بلهجة الواثق:
هذا الّلي حسبت حسابه!
طلبت بأن يشعلوا بابور الكاز…أخرجت من جيبها مسمارا طويلا، وقالت سنكويه تحت لسانه!
قفزت ريتا من مكانها وسألت:
من ستكوين؟
ـ الولد.
ـ لماذا؟
ـ ألم تري ما تحت لسانه، انظري؟
ـ لا شيء غريب تحت لسانه.
ـ هذا الشّريان الذي يميل لونه إلى الاخضرار تحت لسان الطّفل سنكويه؛ ليخرج الدّم الفاسد منه! وإن لم نفعلها في هذا العمر المبكّر سيكبر الولد أخرسا.
ريتا: هل أنت مجنونة يا امرأة؟ من قال لك هذا؟ إذا كويتِ الولد تحت لسانه فربّما تقطعين الشّريان الرّئيسيّ الّذي يرتكز عليه الّلسان، عندها ستتسبّبين بخرس هذا الطّفل البريء.
الحاجّة صبحة تضحك ضحكة الواثق بنفسه وتقول:
صلّي على النّبيّ يا وليّة…كويت غالبيّة أبناء وبنات القرية ولم يتضرّر ـ بفضل الله ـ أحد منهم.
ريتا: هل أنتم مجانين في هذه القرية؟ ما علاقتكم بالنّار؟ ألم تتّعظوا من نيران أبي فالح…ألا تذكرون كيف كوى رِجله ولفّها فتقيّحت وتعفّنت وشلّت، حتّى قطعوها له في المستشفى؟
كانت الحاجّة صبحة تلفّ الطّفل في هذه الأثناء…تقدّمت منها ريتا…أخذت الطّفل…ضمّته إلى صدرها وصاحت بصوت عال:
يا حمدان!
التفتت إلى وضحة وطلبت منها أن تنادي حمدان. عندما جاء حمدان قالت له: أبناؤكم وديعة من الله بين أيديكم…احمِ طفلك يا حمدان، لا تدع هذه العجوز تكويه بالنّار….ما هذا الجنون؟ اتّقوا الله في أبنائكم.
هدّأ حمدان من روع ريتا وقال لها:
لن أسمح لأحد بكيّ ابني أو تقييده بالّلفاع. وأشكر لك اهتمامك، كما أشكرك على ما أفدتينا به من معلومات كنّا نجهلها.
الحاجّة صبحة: يعني سمعت يا حمدان منها؟
ـ نعم سمعت.
ـ خطيّة ابنك في رقبتك ورقبتها.
حملت نفسها وخرجت وهي تقول:
“اللي ما يسمع منك اتركه عنك.”
تضامنت أمّ حمدان مع الحاجّة صبحة، خرجت هي الأخرى وهي تقول:
الله يعينّا على تالي هالعمر.
وحدها وضحة من استوعبت قانعة بما قالته ريتا…بهيّة وأمّها لم تعترضا على شيء، لأنّهما واثقتان من ريتا، فهي تنصحهما وتعرف ما تقول…هذا ما ثبت لهما بالتّجربة في التّعامل معها ومع زوجها الدّكتور ممدوح.
عندما سمع أبو حمدان تعليمات ريتا قال مندهشا:
أبوك يا العلم!
************
عندما انتهت “الكمبريسة” من تجهيز الشّارع الموصل إلى أرض الدّكتور ممدوح، حضر المهندس…وضع علامات لأساس البيت، طلب أن يحفروا في الصّخر ما لا يقلّ عن نصف متر؛ لوضع جسور من حديد، حسب المواصفات الّتي طلبها.
أحد البنّائين من أبناء القرية، الّذي اتفق معه الدّكتور لتنفيذ عملية البناء لم يوافق على الحفريّات ولا على الجسور الحديدّية، قال بأنّ كلّ بيوت القرية أقيمت أساساتها على وجه الصّخور، والبيوت القديمة منها لم يستعمل الاسمنت والحديد فيها بتاتا، بنيت من الحجارة والشّيد “الجير” فقط، وهي قائمة منذ مئات السّنين، ولا تزال بقوّتها وبهائها، لكنّ الدّكتور والمهندس أصرّا على فعل ذلك، فرضخ لطلبهما غير مقتنع، وهو يردّد:
” لا تهدِ من أحببت إنّ الله يهدي من يشاء.”
الكمبريسة تحفر وعمّال الحديد يجهّزون الحديد حسب تعليمات المهندس، فالبنّاء عارف النّمس لا يتعامل مع الحديد، ولا يعرف كيفية تجهيز أعمدة الحديد وأساساته، هو يعرف فقط أن يمدّ قضبان الحديد على شكل مربّعات لا اعوجاج فيها، يثني طرفي القضيب على شكل حذوة الفرس، يضعه على طرف حائط الغرفة المنوي عقدها…العمّال الذين يعملون في البناء حوالي عشرة أشخاص، يتمّ اختيارهم بالتّنسيق مع المختار أمين، رضوان شقيق الدّكتور كان يراقب العمّال ويعمل معهم أيضا…يعدّ لهم طعام وجبتي الفطور والغداء في بيته، يحضرها لهم في مكان العمل، فشقيقه الدّكتور ممدوح أعطاه مبلغا من الدّنانير لهذه المهمّة، ويوصيه دائما بأن يكرم العمّال، وألّا يرهقهم في العمل.
خطّطوا مكانا لحفر بئر لتجميع مياه الأمطار، حفروا “بالكمبريسة” بئرا واسعا وعميقا، وما أن انتهوا منه حتى أحضر المهندس بالتّنسيق مع الدّكتور صهاريج ماء أفرغت حمولتها في البئر لبدء البناء.
أصبحت أرض الدّكتور “مزارا” لأبناء القرية بشيبها وشبّانها، ذكورها وإناثها، كلّ منهم يريد استطلاع عمل “الكمبريسة” الّتي تدخل القرية للمرّة الأولى، ولاستطلاع أساسات البناء التي تحفر في الصّخر للمرّة الأولى أيضا في القرية، النّساء كنّ ينتظرن انصراف العمّال من الورشة؛ ليخرجن هنّ الأخريات جماعات لاستطلاع “عجائب” البناء الّتي يتحدّث عنها الرّجال، يقفن على قمّة الجبل، يمعنّ النّظر إلى كلّ الاتّجاهات، يرين أماكن بعيدة…تسحرهنّ الطّبيعة بجمالها الأخّاذ، وحدها نسرين اليافاويّة زوجة ربحي عيسى أبو عقيلة كانت تجلس على الأرض، تنظر حزينة إلى الغرب، تراقب شمس الأصيل التي تغوص فيما وراء البحر…وجهها القمحيّ منكمشة خلاياه فتبدو أكبر من عمرها بعشرات السّنين…تبكي أحيانا وتضحك أحيانا أخرى، انتبهت إليها وضحة…جلست بجانبها تسألها عن سبب جلستها وشرودها، فتجيب بصوت ناعس حزين:
أجلس هنا لأشمّ رائحة البحر والبرتقال!
ـ أيّ بحر؟ وأيّ برتقال يا نسرين؟
تنهمر دموعها وتقول: رائحة بحر وبرتقال يافا!
كيف تشمّين هذه الرّائحة وهما على مسافات بعيدة؟
ـ هل ينسى المرء قلبه يا وضحة؟ قضيت بداياتي على شاطئ البحر، وفي بيّارة أبي وبيتنا الذي ولدت فيه هناك. وهما لا يغادران قلبي وعقلي…كان الله في عون والديّ الّلذين يعيشان ظروفا صعبة في المخيّم.
قالت ذلك ودموعها تنهمر سخيّة…بكت وضحة معها على فردوس مفقود…شاركتها جلستها، إلى أن جاء يوم أصبحت فيه وضحة تشمّ هي الأخرى رائحة بحر وبرتقال يافا الّتي تراها في عينيّ نسرين!
مساء الجمعة التقى حوالي ثلاثين من مخاتير ووجهاء ومتعلمي القرية في بيت المختار أمين، بناء على طلب الدّكتور ممدوح، تكلّم الدّكتور ممدوح معبّرا عن سعادته بعودته للسّكن في قريته، وعن استعداده لمعالجة المرضى من أبناء القرية مجّانا، وسنعمل على إنشاء مركز صحّي يعمل يوميّا، شرح لهم عن ضرورة تطوير مدرستي البنات والاولاد، فتح طرقات القرية وتحويلها إلى شوارع، شراء حافلة لنقل المواطنين إلى المدينة القريبة وبالعكس، العمل على إيصال الكهرباء إلى بيوت القرية، تأسيس ناد وجمعيّة خيريّة، زراعة الأشجار المثمرة.
استند المختار فرج أبو العلّيص وقال:
والله أنا فكّرت أنّ الدّكتور دعانا لبناء مسجد بدل من هالكلام الفاضي.
الدّكتور: القرية فيها مسجد يا مختار…يكفيها، وتنقصها الأشياء الّتي ذكرتها لكم.
المختار فرج: لكن حارتنا ما فيها مسجد.
الدّكتور: القرية صغيرة ولا تحتاج أكثر من مسجد.
ـ تقوى الله أهمّ من كلّ شيء…وإذا رضي ربّنا علينا، هاي أكبر نعمة، وكلّ قضايانا تصبح بسيطة.
إمام المسجد: والله كلامك صحيح يا مختار.
المختار أمين: يا جماعة ما يقوله الدّكتور صحيح…المسجد الموجود يكفينا.
المختار فرج: هذا كلام فاضي.
الدّكتور: يا إخوان الجامع يتّسع لمائتي مصلّ على الأقلّ، ولا يصلّي فيه أكثر من عشرة أشخاص، تعليم أبنائنا مهمّ كي يعبدوا الله عن علم، الكهرباء تبعث الحياة في البيوت، الرّعاية الصّحية ضروريّة لكي يستطيع الإنسان العمل والإنتاج والوصول إلى المسجد للصّلاة فيه، وعندما تزدهر القرية سنبني مساجد وليس مسجدا واحدا.
المختار فرج: يا عتبي عليك يا دكتور! شو شايفنا لا نعرف الصّلاة؟ أو مصابين بالسّلّ حتّى تتكلّم عن رعاية صحّيّة؟
الدّكتور: أنا لم أقل ما تقوله يا مختار، ومعاذ الله أن أشتم أحدا من النّاس من قريتي أو من غيرها.
قال مجنون القرية الذي كان يقف على نافذة الغرفة:
هل تعلمون أنّكم مجانين؟
ضحكوا جميعهم لكنّ المختار أمين سأله:
مين المجنون فينا يا عارف؟
ـ كلّ المخاتير مجانين.
ضحكوا مرّة أخرى وقال الحاجّ أمين:
والله يبدو أنّك العاقل الوحيد.
قال الأستاذ راتب: يا إخوان…إذا ما تحقّق ما يقوله الدّكتور ممدوح، ستتطوّر قريتنا بشكل لافت، ستتحسّن المداخيل، سيتعلّم أبناؤنا، ستسهل الحياة علينا.
المختار فرج: كيف نحققه يا أستاذ…هذا يلزمه ميزانيّة دولة؟
الدّكتور: تحقيقه سهل جدّا…مثلا نحن نتعاون في فتح الشّوارع وتصليحها، والحكومة ستعبّدها، نجمع من كلّ صاحب بيت خمسة دنانير اشتراك في الكهرباء، والحكومة ستدفع الباقي، يساهم كلّ واحد منّا بعشرة دنانير؛ لنشتري حافلة ركّاب، وستعود أرباحها إليه وهكذا، المهمّ أن تتوفّر النّوايا الحسنة.
المختار فرج: إذا معتمدين على الحكومة” الحكومات حبالهن طويلة”
ويظهر يا دكتور أنّ عودتك للقرية وراها إنّ!
الدّكتور: طبعا، أنا عائد للعيش بين أهلي، وسأخدم قريتي قدر ما أستطيع.
محمود العفش: هل تريد أن تخدم قريتك وأهلك أم ستخدم نفسك؟
ـ لا حول ولا قوة إلّا بالله! كيف أخدم نفسي يا محمود؟
ـ هئ هئ هئ لا تعتقد أنّنا حمقى! فنحن نعرف الأمور قبل أن يفكّر بها أصحابها.
المختار أمين ضاحكا: حسب رايك يا محمود شو أفكار الدّكتور؟
ـ الدّكتور يريد أن يضيء بيته الذي يبنيه بالكهرباء، وسيعمل جزءا منه عيادة كبيرة، وسيعبّد الشارع حتى يستطيع الوصول إلى بيته بسهولة، ويريد توسيع المدارس كي يعمل فيها أبناء اخوته الأساتذة، وكلّ ذلك سيكون على حساب أهل البلد يا مختار.
الدّكتور يردّ ضاحكا: تعبيد الشّارع الموصل إلى بيتي سيكون على حسابي الخاصّ، وإذا وصلت الكهرباء إلى القرية فبيتي واحد من بيوتها، وإذا لم تصل سأشتري مولّد كهرباء خاصّ لبيتي، وأعدكم أنّني سأعالج المرضى من أبناء القرية جميعهم مجّانا دون مقابل كما أفعل الآن.
المختار أبو سعيد: يا إخوان، هدف الدّكتور مساعدتكم، وأيّ أموال ستجمعونها ستكون في عهدة لجنة تنتخبونها أنتم، ولن يكون فيها أيّ شخص من عائلتنا أو حامولتنا، مع أنّنا أوّل من يدفع وآخر من يعصي، وأتعهّد لكم سلفا بكلّ ما يطلب من حامولتي.
المختار أمين: والله انكم أكابر أبا عن جدّ. لكنّنا لا نستغني عن الدّكتور، فوجوده بركة، وسيستفيد أعضاء الّلجنة من علمه.
الدّكتور: أنا لن أكون في أيّ لجنة، فوقتي لا يسمح لي بذلك، لكنّني لن أبخل على الّلجنة أو غيرها بشيء أعرفه وأستطيعه.
المختار فرج: إذا اقتنعنا بتشكيل لجنة، فيجب أن أكون رئيسها.
الدّكتور: لا مانع لدينا، ولا شروط لنا على أيّ شخص في القرية، فقط نشترط على أنفسنا كما قال أخي أبو سعيد أن نكون أوّل من يطيع، وآخر من يعصي، ولن نشارك في أيّ لجنة، فنحن على قناعة بأمانة وقدرة أيّ شخص تختارونه.
محمود العفش: هل تريدون توريطنا لوحدنا؟
المختار أبو سعيد: بل نريد توريط أنفسنا معكم.
المختار فرج: هاي كبيرة يا أبو سعيد…وما هي مقبولة من عاقل مثلك.
المختار أمين: أنا شايف بعضكم مثل ما قال المثل:”صحيح لا تاكل، ومكسّر لا تاكل، وكل حتى تشبع” شو يرضيكم يا فرج أنت ومحمود؟
المختار فرج: احنا راضيين وما بدنا غير سلامتكم. لن نوافق على لجان أو غيرها.
المختار أبو سعيد: لن نجبر أحدا على شيء، من يوم غد الدّكتور سيعمل على إصدار ترخيص من دائرة السّير لشركة باصات للقرية، ومن يريد المشاركة أهلا به، وإذا لم توافقوا على المساهمة ستكون الشّركة لي ولإخواني…وأرباحها لنا دون غيرنا.
محمود العفش: قولوا هذا الكلام من أوّلها…عندما قلت أنّ لكم أطماعكم لم يصدّقني الآخرون.
المختار أمين: أبو سعيد لم يخطئ، فقد قال”من يريد المشاركة أهلا به، وإذا لم توافقوا سيشتري الباصات هو وإخوانه”. والخيار لكم.
محمود العفش: نوافق على الحصول على ترخيص لشركة باصات بشرط أن يكون المختار فرج مشاركا في كلّ خطوة.
الدّكتور ممدوح: لا مانع لدينا…لكن يجب أن تختاروا لجنة لمتابعة قضايا القرية، ومنها رخصة شركة الباصات.
المختار أمين: أقترح تشكيل لجنة من مخاتير الحمايل الثّلاثة، مع أربعة شباب متعلمين.
محمود العفش: نفهم أن يكون المخاتير في لجنة، والمتعلمّون لماذا؟
المختار أبو سعيد: أنا لن أكون في الّلجنة، مع أنّني معكم قلبا وقالبا.
الدّكتور ممدوح: هناك أمور بحاجة إلى تسجيل وفتح ملفّات، وهذا يتطلّب أشخاصا يجيدون القراءة والكتابة، وأنت واحد منهم يا محمود، وأنا أرشّحك لتكون في الّلجنة.
ابتسم محمود لاقتراح الدّكتور، رأى نفسه شخصيّة مهمّة، قد تكون منافسا قويّا للدّكتور وللمخاتير…لم يتكلّم شيئا وبقي في انتظار رأي الآخرين به…لم يتكّلم أحد فعاد الدّكتور يسأل:
ما رأيكم يا إخوان؟
فأجابوا بالإيجاب…سمّوا الأعضاء الآخرين، فرح محمود بذلك والتزم الصّمت…لكن المختار أمين قال:
الّلجنة لن تكتمل إلّا بوجود المختار أبو سعيد فيها.
أبو سعيد: يا أبو محمّد أيّ شخص في الّلجنة يمثّلنا، ونحن حامولة أبو عقيلة سنفسح المجال لغيرنا…فتوكّلوا على الله، وتأكّدوا أنّ نوايانا سليمة.
المختار فرج: هاي أنا مش فاهمها! أو شايفين حالكم أحسن من النّاس، أو عندكم شيء مخبّأ؟
الدّكتور: كي لا تذهب بكم الظّنون بعيدا…سيكون ابن أخي الأستاذ سعيد رضوان معكم.
محمود العفش: لماذا المختار أبو سعيد لن يكون معنا؟
المختار أبو سعيد: حيّاكم الله سأكون معكم مع أن صحّتي لا تساعدني.
المختار فرج: هيك الكلام الصّحيح.
الدّكتور: انتخبوا من بينكم رئيسا للّجنة وأمينا للصّندوق.
محمود العفش: ألم نتفق سلفا أنّ المختار فرج هو رئيس الّلجنة؟ هل نسيتم ذلك؟
المختار أبو سعيد: فليكن المختار فرج الرّئيس…اختاروا أمينا للصّندوق.
الدّكتور ممدوح: أقترح المختار أمين لأمانة الصّندوق.
لم يعترض أحد…التزموا الصّمت، فقال الدّكتور ممدوح:
غدا سنذهب إلى محام كي يستصدر لنا ترخيصا لشركة باصات باسم القرية.
المختار فرج: “رِجلي على رِجلك” أنا رئيس الّلجنة.
الدّكتور: حيّاك الله يا مختار، وبإمكانك أنت وحدك أو برفقة أيّ شخص من أعضاء الّلجنة الذّهاب إلى محام بدوني.
المختار فرج: يعني ورطتنا وتريد الانسحاب!
الدّكتور: استغفر الله العظيم…ما الذي يرضيكم يا إخوان؟
المختار فرج: يرضينا أن تكون معنا.
الدّكتور: حاضر…مرّوا عليّ في المستشفى في العاشرة من صباح غد، وسنذهب معا إلى محام.
المختار فرج: اتفقنا.
*************
استأذن الدّكتور وشقيقه المختار بالانصراف، أفكار كثيرة تجول في رأسه، فهو يدرك جيّدا ظروف القرية ومشاكلها، يعزو ذلك إلى الجهل المتراكم أجيالا، فناس القرية طيّبون بالفطرة، لكنّهم يشكّكون بكلّ شيء؛ لأنّهم خدعوا كثيرا…هو يرى واجبا كبيرا عليه في تطوير قريته، فالأقربون أولى بالمعروف، يعي جيّدا بأنّ عليه أن يتحمّل الكثير، وأن يمضي ساعات وأيّاما في توضيح المصلحة العامّة، لكنّ وقته لا يسمح له بقضاء وقت طويل في الاستماع إلى تفاهات يصعب استيعابها، عاد إلى بيته يائسا يفكّر بعدم العودة إلى القرية…استقبلته زوجته ريتا باسمة…رأته مهموما حزينا…حاولت التّرويح عنه، حدّثها عن مجريات الاجتماع في بيت المختار أمين، وعن يأسه من محاولات الإصلاح، ضحكت وقالت:
هذا أمر طبيعيّ ورائع…المهمّ أنّكم خرجتم بالاتفاق على تشكيل لجنة، ولا داعي لليأس، “فرحلة الألف ميل تبدأ بخطوة واحدة” وإذا أنت انسحبت من محاولات الإصلاح، وانسحب غيرك ممّن يدركون الأمور فمن سيعلّق الجرس؟ أنت مخطئ تماما إذا اعتقدت بأنّ أيّ اقتراح منك سيكون جاهزا للتّنفيذ، هؤلاء أناس طيّبون عانوا ويعانون كثيرا، وهم ضحايا للجهل والفقر الذي فُرِض عليهم…لم تكن أمامهم خيارات ومساعدتهم واجبة.
وصل المختار فرج ومحمود العفش إلى المستشفى في السّابعة صباحا…سألا عن الدّكتور ممدوح فأخبرهما الحارس بأنّه لم يصل بعد، التفت المختار إلى محمود وقال بأنّه على قناعة تامّة بأنّ الدّكتور لن يحضر حسب الموعد؛ لأنّه يفكّر بالذّهاب وحده إلى المحامي، فبالتّأكيد له مصالح شخصيّة، وإذا بالدّكتور يطرح عليهما تحيّة الصّباح…ابتسم المختار وقال:
ابن حلال والله…قبل قليل قلت لمحمود الدّكتور دقيق في مواعيده.
الدّكتور: أهلا بكما لكن موعدنا عند السّاعة العاشرة.
المختار: “من سرى باع واشترى”.
الدّكتور: المحامي لا يفتح مكتبه الآن…يضاف إلى ذلك أنّني سأعمل جولة على المرضى في المستشفى…تفضّلا إلى مكتبي…أو اذا كان لديكما عمل ستقضيانه في المدينة…لكن تعالا معي لنحتسي القهوة.
أحضر الدّكتور لهما القهوة في مكتبه بيديه…استأذن منهما كي يقوم بجولته اليوميّة على المرضى…بقيا في مكتبه يغتابان أهل القرية بصوت مرتفع…لم يذكرا أحدا بخير…سمعهما الدّكتور ممدوح وهما يشتمانه ويشتمان أخاه المختار أبا سعيد…حتى المرحومين والده وجدّه لم ينجوا من الشّتيمة أيضا، عند التّاسعة أرسل الدّكتور من يأتي بالحمّص والفلافل فطورا له ولضيفيه، في التّاسعة والرّبع تناول وإيّاهما الفطور، خرج معهما إلى مكتب المحامي وحيد النّورس القريب من المستشفى…شرح للمحامي موضوع ترخيص شركة باصات للقرية…طلب منهم المحامي أن يوقّعوا على تفويض له لمتابعة الموضوع بعد أن أخبرهم أنّه سيتقاضى عشرة دنانير بدل عمله…طلب الدّكتور من المختار ومن محمود أن يوقّعا بصفتهما عضوا لجنة …التفتا إلى بعضهما…رفضا التّوقيع والمختار يقول:
ما كان أملنا فيك هيك يا دكتور! هل تريدنا أن نوقّع على ترخيص لشركة باصات، أم لتوقع بنا للحكومة؟
احمرّ وجه الدّكتور غضبا…فكّر أن يمزق الورقة ويخرج دون استئذان، لكنّه تعوّذ بالله من الشّيطان الرّجيم…أمسك القلم ووقّع…أخرج من جيبه خمسة دنانير ودفعها للمحامي…استأذن بالعودة إلى عمله، لكنّ المختار فرج أمسك به وهو يقول:
الآن سنوقّع بعد توقيعك!
ضحك المحامي والطّبيب وقالا بصوت واحد:
تفضّلا ووقّعا.
اقترح عليهما الدّكتور أن تعقد الّلجنة اجتماعا تقرّر فيه دعوة أهل القرية؛ ليشرحوا لهم مهمّة الّلجنة؛ ولتحديد قيمة السّهم في شركة الباصات؛ ولجمع مبلغ مالي لتمديد الكهرباء إلى القرية، والعمل على استصلاح الطرقات تمهيدا لتعبيدها.
تعهّد المختار فرج بأن يدعو لاجتماع في بيته بصفته رئيس الّلجنة، وأضاف وهو مختال بنفسه كطاؤوس يفرد ريشه، بأنّه يعرف كيف سيقنع أهل القرية بدفع ما يترتّب عليهم.
************
قرّر سعيد رضوان ووالده بعد التّشاور مع المختار أبي سعيد والدّكتور ممدوح أن يكون زفافه على وضحة يوم الجمعة القادم، حيث سيكون القمر بدرا…أخبرا أبا حمدان والد وضحة بذلك عن طريق الدّكتور ممدوح والمختار أبي سعيد…لم يمانع أبو حمدان بذلك…وقال بأنّه سيجري حفل زفاف حمدان على زعرورة في الأسبوع الذي يلي زفاف وضحة.
حاول حمدان أن يتحايل على الموضوع بتأجيل زفافه بحجّة أنّه لم يمض عام على وفاة أبي فالح والد زعرورة، فهو يريد أن يمضي أطول وقت يستطيعه مع بهيّة التي أصبح طفلها ممدوح يحبو ويقول: “بابا وماما”، وبهية امرأة طيّبة ترعى أبناء المرحومة رمّانة كما ترعى طفلها ممدوح، صحيح أنّ لوضحة دورا هي الأخرى في رعاية الأطفال الأيتام، وزواجها سيلقي أعباء جديدة على بهيّة، لكنّ ذلك أفضل من الضّرّة.
لم تنطل حيلة حمدان على والدته التي سألت غاضبة:
هو أنت حادِد على أبو فالح وِلّا خايف من بهيّة؟
ضحك أبو حمدان وقال: أبو فالح الله يرحمه مات واستراح، وحياة يجب أن تستمر…لا أعتقد أنّ أولاده سيعارضون زواج أختهم، على كلّ أنا سأتكلّم معهم لأسمع رأيهم.
أمّ حمدان:”يا حيف على هيك رجال.” “الّلي شورهم مش من روسهم.”
أبو حمدان: روحي نامي في غرفتك يا أمّ لسان طويل، لأنّه”نوم الظالمين عبادة” ولا تجبريني أشتمك.
أمّ حمدان: أيوه! أنا شو قلت؟
أبو حمدان: قلتِ وجع يخلع نيعك…”لسانك مثل لسان الحيّة”ما تعرفي تضبّيه ولا تعرفي تتكلمّي مثل البشر.
ليلة حنّاء وضحة جاءتها ريتا باسمة كعادتها في الصّباح الباكر، استأذنت من أبي حمدان كي تصطحبها معها إلى الصّيدليّة؛ لتشتريا بعض مستلزمات العروس الثّانويّة، لم يمانع أبو حمدان…أوصاهما أن تعودا قبل صلاة العصر. ركبت وضحة بجانب ريتا في سيّارتها، رأت الدّنيا تضحك لها، حلمت بأنّها ستقود سيّارة مثل ريتا.
في المدينة اشترت ريتا لوضحة فستان سهرة طويل فاتن، قميص نوم شفّاف، وملابس داخليّة مغرية…اصطحبتها معها إلى صالون تجميل للسّيّدات…مشطّتا شعورهما…أوصت ريتا صاحبة الصّالون أن تعطي رعاية خاصّة لوضحة كونها عروس، شعرت وضحة برهبة، خافت من والدها…قالت لها ريتا بأن لا تخاف، لأنّها لم تقترف ذنبا…وأنّها ستحتفظ لها بالفستان حتى تصل بيت العريس، أوصتها بأن تقول أنّ ريتا هي الّتي وضعت لها المكياج في الجزء الخلفي من الصّيدلية، عندما وقفت وضحة أمام المرآة الكبيرة التي يظهر جسدها فيها كاملا…لم تصدّق نفسها أنّها بهذا الجمال وهذا الطّول الفارع…رأت شعرها الأسود الفاحم يتدلّى متموّجا بطريقة ساحرة…ابتسمت لنفسها…شعرت بأنوثتها الزّائدة عندما قالت لها ريتا مازحة:
يا بختك يا سعيد بن سلمى ورضوان!
ضحكت وضحة على استحياء ونبضات قلبها تزداد خفقانا…اشترت لها ريتا موادّ تجميل، شرحت لها عن كيفيّة استعمال بعضها…وعدتها بأن تشرح لها عن البقيّة بعد الزّواج…قالت لها بأنّها هي من ستضع لها الحنّاء على يديها وقدميها هذا المساء بطريقة لافتة…همست لها بأنّها ستضع لها دائرة من الحنّاء حول سرّتها، ستجعل سعيدا يفقد عقله هياما بها، لكنّ وضحة ردّت ضاحكة:
أريده عاشقا عاقلا وليس مجنونا… فضحكت معها ريتا.
وجه وضحة كان يختلف لونه حسب اختلاف مشاعرها….فهو متورّد عندما ترى وجهها ينضح حياة…يميل إلى الاصفرار عندما يجول بخاطرها أنّ والدها سيغضب منها وسيوبّخها إذا ما رأى مكياجها…يحمرّ حياء أمام تواضع وإنسانية ريتا…شكرت ريتا بكلمات بسيطة رقيقة نابعة من القلب…غير أنّ ريتا أكّدت لها بأنّها تعتبرها مثل أختها الصّغرى…انتبهت ريتا لتقلّبات وضحة…جزعت من عادات التّزمّت…كرّرت قولها بأنّ المرء يفكّر بعقله لا بحذائه…لكن عليه أن ينتعل حذاء الجرأة في الدّفاع عن حقوقه، فالمطالبة بالحقوق ليست وقاحة…بل فضيلة واجبة.
عادتا إلى القرية بعد أن تناولتا طعام الغداء شواء في أحد مطاعم المدينة…نزلت وضحة من السّيارة… مشت بجانب ريتا على استحياء، لفّت جانب وجهها الأيمن بطرف خرقتها البيضاء حياء…عندما رأتها بهيّة قالت:
ما شاء الله! تبارك الخالق…قمر…يليق بك الجمال يا عروس.
أطلّت أمّ حمدان…وضعت أصابع يدها اليمنى فوق عينيها كما السّيف، إبهامها يرتكز على صدغها…نظرت وضحة تتأمّلها، اقتربت قليلا، بسملت وسألت:
هل هذه وضحة؟
ضحكت ريتا وبهيّة في حين ارتجفت وضحة خائفة.
جلست أمّ حمدان القرفصاء أمامهن وقالت:
يا سواد وجهك يا زكيّة! شو أقول للنّسوان؟ مين عمل فيك هيك يا مقصوفة العمر؟
قالت ريتا باسمة: قولي للنّساء بنتي عروس مزيونة! وارفعي راسك بها…فمن حقّ المرأة أن تتزيّن دائما، فما بالكم بيوم زفافها؟ وأنا من قمت بتزيينها فهذه عروسنا، وما الخطأ الذي تحتجّين عليه؟
في هذه الأثناء دخل حمدان…صافح ريتا ورحّب بها…حمل طفله ممدوح… قبّله وهو يقول لريتا:
هذا ممدوحنا …ما هي أخبار ممدوحك؟
ريتا: ليحفظ الله ممدوحكم وممدوحنا بخير.
انتبه حمدان إلى والدته التي تتذمّر فسألها عمّا بها؟
أجابت: ليش مش شايف شو صار؟
ـ لا…”خير يا طير”؟
ـ من ورا بنات هالوقت ما فيه خير.
قال لها غاضبا: دخيلك يمّه لا تنكدي على وضحة يا بنت النّاس…كلها هالليلة عندك وبعدها رايحة …مش رايحة تشوفيها غير ضيفة.
ابتسمت ريتا لموقف حمدان…شعرت وضحة براحة تامّة…تورّد وجهها…حملت ممدوح…قبّلته وهي تسأله:
وين بابا؟ التفت الطّفل إلى أبيه ضاحكا.
استأذنت ريتا بالانصراف كي ترافق من سيأتين بالحنّاء.
في بيت العريس قال المختار أبو سعيد:
احترموا العادات…ليذهب بالحنّاء أمّ العريس، وواحدة ثانية والعريس ومعه رجل آخر.
ريتا: ما رأيك سأذهب أنا وأمّ سعيد مع أمّ العريس، وأنت وممدوح مع العريس.
اعتذر أبو سعيد عن الذّهاب معهم متذرّعا بأنّه سيبقى في البيت لاستقبال المدعوّين! اقترح أن يذهب رضوان والد العريس مكانه.
في بيت العروس توافدت قريبات العروس، خالات وعمّات، زوجات الأخوة…بنات العائلة…وضحة تجلس على فرشة من الصّوف تسند ظهرها إلى الحائط…النّساء يتغامزن عليها…فهذه هي المرّة الأولى الّتي يرين فيها فتاة من بنات القرية “ممكيجة” بكريمات الزّينة، وتنبعث منها رائحة عطور لم يعهدنها من قبل.
استقبلت بهيّة النّساء الّلواتي أتين بالحنّاء بزغرودة…رحّبت بهنّ…طلبت من نساء العائلة أن يفسحن مكانا لهنّ…لفتت ريتا التي يتطاير شعرها على كتفيها أنظار النّساء…أخذن يتساءلن عمّن تكون…جلست بجانب وضحة وهي تقول:
أنا ريتا زوجة الدّكتور ممدوح.
قالت خالة العروس ساخرة: ما شاء الله عليك! حسبتك العروس!
تجاهلت ريتا سخريتها وبقيت تثني على جمال وضحة…وأمّ سعيد تعجن الحنّاء…تروّد بأغاني الحنّاء الشعبيّة الممطوطة المتداولة في القرية، امرأتان تردّدان خلفها. وسط زغاريد بعض المسنّات.
أمسكت ريتا الطّبلة… وقفت ودقّت عليها دقّات إيقاعيّة لافتة، انتبهت الأخريات لها…طلبت من وضحة أن تقوم وترقص، لم تستجب لها وضحة…فالعادات لا تسمح لها في مثل هذه المناسبة سوى بالبكاء ولو تمثيلا حزنا على فراق الأهل! أمّ حمدان كانت تجلس قريبا من ابنتها كبوم هاجمه صقر جارح…تفرك عينيها محاولة البكاء، لكنّ عينيها لم تطاوعاها…أمسكت ريتا يد وضحة تسحبها للوقوف كي ترقص معها…ساعدتها بهيّة التي كانت تصبّ القهوة للنّساء…غنّت والدة العريس:
قومي ارقصي يا وضحة يا امّ الشّعر المحنّا
لو الله عوّض علينا ذبيحة للنّبي منّا
فوق راسك يا وضحة صحنين قزاز
يا هيبة على سعيد هيبة استاذ
رقصت بهيّة مع وضحة التي كانت تتمنّع…وريتا ترقص وهي تدقّ على الطّبلة.
عندما انتهت أم سعيد من عجن الحنّاء، اقتربت من وضحة وبدأن يغنّين:
مدّي ديّاتك يا وضحة مدّي
مثل خيّاتك يا ميمتي يمّه
تقدّمت ريتا من وضحة…استأذنت كي تقوم هي بوضع الحنّاء على يدي وضحة….أخرجت من حقيبتها كفوفا بلاستيكيّة تتخلّلها “جراحات” بأشكال مختلفة، وضعت كفّي وضحة بها…حملت حنّاء ووضعت قليلا منه على الأماكن المفتوحة بالكفّين وسط دهشة الأخريات…قالت انتظري قليلا حتى يجفّ…ألبست قدميها جوربين مفتوحين بنفس طريقة الكفّين…وضعت الحنّاء على الفتحات…بعد بضعة دقائق سحبت الكفوف والجوارب…فركت الحنّاء لتظهر رسومات ورديّة لافتة على كفّي وضحة وظاهر قدميها….ازدادت دهشة النّساء وكلّ منهنّ تطلب من ريتا أن تضع لها حنّاء بنفس الطّريقة…قالت ريتا:
سأترك الكفوف والجوارب عندكنّ، واستعملنها بنفس الطريقة التي استعملناها…لكن بعد أن أستعملها أنا الآن لأنّنا سنغادركم بعد قليل.
بعض النّساء اللواتي تسابقن على تلطيخ أيديهن بالحنّاء شعرن بالنّدم؛ لأنّهنّ استعجلن الأمر، ولم يعد بامكانهنّ وضع الحنّاء بطريقة ريتا.
نظرت وضحة إلى ظاهر قدمها فرأت الورود المرسومة بالحنّاء، حلّقت في أجواء الفرح…رأت السّعادة تهطل عليها من يدي ريتا. شكرت ريتا التّي همست لها بوضع دائرتي حنّاء صغيرتين على صدرها…التفتت ريتا إلى الحاجّة زكيّة…مازحتها قائلة:
ما رأيك يا حاجّة ؟ هل تسمحين لي بوضع الحنّاء على يديك وقدميك كما العروس؟
ردّت عليها بلغة عاتبة: لمين أحطّه يا حسرة…بدّي يمّه حنّا أحطّه على شقوق يديّ ورِجليّ.
ريتا: لا تزالين في عزّ الشّباب! اهتمّي بنفسك كي لا يتزوّج أبو حمدان عليك!
ضحكت وقالت: ان شاء الله يتزوّج اليوم…شو أعمل له؟
في بيت العريس…بعد صلاة العصر مباشرة وصل المختار فرج، ومعه رجلان من مسنّي القرية…بعد أن احتسوا القهوة العربيّة المرّة، قال المختار فرج موجّها حديثه للمختار أبي سعيد:
جئناكم مكلّفين من عايد الثّني…بعد ما حاولنا معه وما قدرنا، الرّجل
يقول “جحا أبدى بلحم ثوره”!
أبو سعيد: أيوه…ما فهمت عليك.
المختار فرج: يريد وضحة زوجة لابنه ويهديكم السّلام ويقول لكم: شو الّلي خسرتوه حيّاكم الله…سيدفعه لكم.
أبو سعيد: اذا كانوا يريدون وضحة…ليش ما خطبوها قبلنا؟
فرج: حاولت معهم قدر استطاعتي والله وكيلكم ما قدرت…وقالوا :”ابن العمّ ينزّل عن ظهر الفرس.”
أبو سعيد: متى صاروا اولاد عمّها؟
ـ قوم أبو بسطار كلّهم اولاد عمّ.
أبو سعيد: أخاف الله لا يلتقي مع أبو حمدان في الجدّ السّابع أو الثّامن.
فرج: لكنّهم أبناء عمومة.
الدّكتور ممدوح: هل نحن غرباء في هذه القرية؟
فرج: “أنتم من عظام الرّقبة”، لستم غرباء…لكن هذي عاداتنا.

أبو سعيد: خطبنا وضحة قبل تسعة أشهر…وسهرتنا لها ثلاث ليال، ليش سكتوا كلّ هالوقت! كلامهم غير معقول.
لم يصدّق الدّكتور ممدوح ما تسمع أذناه…قال:
سعيد يريد وضحة وهي تريده…وأهلها موافقون…فهل يجوز هذا الكلام؟ كيف تفكّرون؟ في كلّ الأحوال… لن نتنازل عن وضحة إلّا إذا قالت بأنّها لا تريد سعيدا، ولا ترغب بالزّواج منه. اذهبوا واسألوا وضحة وأهلها أيضا…وما تقوله مقبول علينا.
فرج: “كلام القرايا غير عن كلام السّرايا” يا دكتور وانت رجل عاقل…البنات ما أحد ياخذ رايهن.
الدّكتور: اسألوا أباها واخوانها.
فرج: هذي أمور لا سؤال فيها…ولا نريد مشاكل في القرية.
رضوان: لن نتنازل عن وضحة و”أعلى ما في خيلهم يشدّوا ويركبوا.”
غضب فرج من كلام رضوان…انتظروا قليلا ليسمعوا ردّ أبي سعيد، وعندما لم يتكلّم خرج ومن معه… لحق به الدّكتور ممدوح، أخذه جانبا وقال له:
أنت رئيس لجنة إصلاح القرية…لا نريد مشاكل…أتمنّى عليك أن تحلّ القضيّة بهدوء.
فرج: أنت عزيز عندي يا دكتور…عايد الثّني مشكلته بسيطة، و”العقدة الّلي تقدر تحلها بيديك، أفضل من ما تحلها بثمّك”
الدكتور ممدوح: ما فهمت عليك.
فرج: سأرضيه بعشرة دنانير…ونغلق الطّابق.
الدكتور: إذا كانت القضيّة تحلّ بعشرة دنانير…خذ عشرين.
وضع فرج العشرين دينارا في جيبه وغادر وهو يقول:
اعتبرها محلولة.
ـ متى سنسمع منك الجواب؟
ـ بعد صلاة المغرب سنأتي للسّهرة…ويكون الجواب معي.
عندما عاد الدّكتور يتأفّف من هكذا عادات، قال أخوه المختار أبو سعيد: المختار فرج وعايد الثّني حراميّة…نصّابين…لا تسألوا عنهم ولا تكترثوا بالموضوع.
عندما سمع الدّكتور ذلك لامَ نفسه لأنّه تعجّل وأعطى المختار فرج عشرين دينارا…لم يخبر أحدا بذلك…قال في نفسه:
“غلب بستيرة ولا غلب بفضيحة” وتساءل عن امكانية صلاحيّة المختار فرج ليكون رئيسا للجنة إصلاح القرية؟
واصلت النّساء الرّقص والغناء في الجانب المخصّص لهنّ فهذه فرصتهنّ الوحيدة لإطلاق مواهبهنّ الغنائيّة…. عجنّ الحنّاء…طلبن من ريتا أن تضع لهنّ الحنّاء على أيديهنّ وأقدامهنّ بالطّريقة الموضوع فيها على يديها…ضحكت وقالت لهن:
إذا أردتنّ ذلك فانتظرن حتّى أحضر الكفوف والجوارب الخاصّة بذلك…لم يفهمن ما تقصده…بعضهنّ فسّرنه بأنّه تعالٍ منها عليهنّ. بعض النّساء يتلصلصن على الرّجال الذين يدبكون الدّبكات الشعبيّة التي تهزّ الأرض تحت أقدامهم بمصاحبة النّاي، الشّبّابة والمجوز، هنّ يرين الرّجال لأنّ مكانهم مضاء “بالفنيارات” بينما هم لا يرونهنّ لأنّ مكانهنّ مضاء “بلامبات الكاز”التي تنطفئ مع كلّ هبّة نسيم، الشّباب يعرفون جيّدا أنّ النّساء ينظرنهم…لذا فهم يتسابقون إلى ساحة الدّبكة، كأنّهم يعرضون أجسامهم على النّساء…بعض الأمّهات ينظرن الصّبايا العازبات لتختار كلّ منهنّ عروس المستقبل لابنها…أمّهات البنات العازبات يوصينهنّ بالجلوس والرّقص بحذر كبير، كي لا تأخذ الأخريات عنهنّ أفكارا مغلوطة…وبالتّالي فإنّ فرصهنّ في الزّواج ستكون قليلة…نسرين اليافاويّة وريتا الحيفاويّة فراشتان تحومان في فضاء الحفل، نجمتان خطفتا أنظار النّساء… رقصتا بدلال لم تعرفه نساء القرية…وإن عرفنه فإنّهن لا يرقصنه أمام النّاس…تمايلن كالغجريّات…أتين بتسجيل غنائيّ راقص لفنّانين لبنانيّين…فيروز، صباح، نصري شمس الدّين ووديع الصّافي…سحبن شابّات ليدبكن ويرقصن معهما…بعضهنّ تجاوب والبعض الآخر انزوين على أنفسهن…رقصت نسرين وريتا ودبكتا كفرسين أصيلتين جامحتين…تساءلت بعض النّسوة عن ريتا هل هذه المرأة صيدلانيّة أم راقصة غجريّة؟ لكنّهن حسدنها هي ونسرين على رشاقتهما وجرأتهما…تمنّين لو أنّهن يجدن الرّقص مثلهما.
تذكّرت نسرين أيّام العزّ في يافا فبكت، لم تعرف النّساء سبب بكائها، ولم يحاولن سؤالها عمّا يبكيها.
عند الرّجال جرت مبارزة بين زجّالين، واحد منهما يتغزّل بالفتاة سمراء البشرة والثّاني ببيضائها… وممّا قالاه:
لاتلوم الجاهل لاتلوم والله الجاهل مظلوم
السمرا والبيضا خصمان واقع بينهن عنف هجوم
قالت البيضا انا الرّزّ دايما ع المنسف معروم
قالت السمرا أنا اللحم بطلع من فوقك مرجوم
قالت البيضا انا الفنجان بصلح في المظايف دوم
قالت السمرا انا البن وانت بلاي ماتسوين
السمرا والبيضا خصمان واقع بينهن عنف هجوم
قالت البيضا انا الحمام ومنزلي في اعلى كروم
قالت السمرا انا الصقر وبطلع من فوقك بنجوم
يا سمرا فكّي عنّي كلامك والله مجنّني
وانا عليك بغني حطّي حالك بالطابون
فالت السمرا انا الحرّه ويا بيضه انت صفره
بتحطي بودره مع حمره وجهك اصبح خمسين لون
لاتلوم الجاهل لاتلوم و الله الجاهل مظلوم
السمرا والبيضا خصمان واقع بينهن عنف وهجوم
يا واردة ع النّبع
يا واردة عّ النبع
ما تسقيني من الجرّة
ما تسقيني من الجرّة
و حياة عينك يا سمرة
و حياة عينك يا سمرة
ما بوخذ غيرك بالمرة
ما بوخذ غيرك بالمرة
كانت المبارزة لافتة للنّساء فبشراتهن إمّا سمراء أو بيضاء…لكنّ زجل الغزل يشعرهنّ بأنوثتهنّ…تماما مثلما هم الشّباب أيضا الذين يأخذ كلّ واحد منهم يرسم في مخيّلته الفتاة التي يعشقها حسب مواصفاته…بعض المتزوَجات يشعرن بالحسرة لأنّه لم يكن لهنّ خيار في زواجهنّ، فتلعن كلّ واحدة منهنّ من كانوا سبب زواجها.
الرّصاص يلعلع في سماء الحفل السّاهر…تمنّى الدّكتور ممدوح على الجميع بأن لا يطلقوا الرّصاص…فربمّا رصاصة طائشة تقلب الفرح إلى مأتم…لم يستمع إليه أحد….بل إنّ شقيقه أبا سعيد قال له:
اترك الشّباب مبسوطين يا دكتور.
المختار فرج يمسّد شواربه فرحا وهو يسمع أزيز الرّصاص…اعتقد أنّ كثافة النّيران هذه تحمل في طيّاتها رسائل تهديد وتحذير لمن يحاول الاعتداء على حامولة العريس…لكنّ مجنون القرية فهم المعنى جيّدا…ففي مثل هذه الحالات يظهر النّفاق والرّياء الاجتماعيّ على أشدّه….وعائلة العريس عائلة ميسورة الحال، ولها أفضال على القرية وأهلها. جاء إلى العرس…صافح الدّكتور ممدوح والمختار أبا سعيد وهو يقول لهما:
الله يمسّي مصريّاتكم بالخير!
ضحك الحضور على ما قاله المجنون الذي أضاف:
أنا جائع…سأدبك بعد أن أتعشّى.
أشفق الدّكتور عليه…طلب من أحد أبناء العائلة أن يصطحبه إلى حيث يجري نحر الخراف…وقال له:
اشوِ له على صاج الخبز حتى يشبع.
بعد أن تناول طعامه…عاد يجلس بجانب الطّبيب، وما لبث أن غفا…أحضروا له بطّانيّة بناء على طلب الدّكتور وغطّوه.
استيقظ بعد أقلّ من ساعة…ذهب إلى حلقة الدّبكة….تناول الشّبّابة، نفخ فيها لحنا طويلا تصاحبه أغاني “الأوف” استمعوا إليه طربين…دبك معهم وهو يعزف على الشّبابّة.
سأل الدّكتور ممدوح:
لماذا تطلقون عليه مجنون القرية؟ ومنذ متى لاحظتم شروده الذّهني.
قال أبو السّعيد: منذ ماتت والدته قبل حوالي عشرين عاما…كان في الخامسة من عمره، تزوّج أبوه امرأة ثانية…ظلمت أطفال الأولى فهرب من البيت…وبقي مشرّدا في الطّرقات…وأبناء جيله يقولون:
عارف مجنون…والله أعلم إن كان مجنونا أم لا.
الدّكتور: هذه حالة اكتئاب بسيطة…سأعالجه منها.
قال ابن عمّ عارف: جازاك الله كلّ خير يا دكتور.
ـ أين أبوه؟
توفّي بعد أمّ عارف بسنتين.
ـ هل لعارف أخوة؟
ـ نعم له أخت شقيقة تصغره بعامين.
ـ أين تعيش.
ـ في بيت عمّها عمران الخرّاط…تكفّل بها منذ وفاة والدها.
ـ لماذا لم يتكفّل بعارف مثلما تكفّل بها؟
ـ عمّهم رجل فقير، لا يقوى على اعالة أسرته…وتكفلّ بنت أخيه حفاظا على الأعراض…ولم يستطع متابعة عارف … فضاع في الطّرقات، وعاش حياة صعبة.
بعد أن تعب عارف من الدّبكة عاد ليجلس بجانب الدّكتور الذي أثنى على حسن آدائه في العزف وفي الدّبكة…وسأله:
متى تعلّمت الدّبكة يا عارف.
عارف: الدّبكة ليست صنعة حتّى أتعلّمها…كنت أشارك في الدّبكات منذ طفولتي.
الدّكتور: ما شاء الله عليك…أنت دبّيك ماهر…ما رأيك أن تنام عندنا الّليلة كي تساعدنا في الإعداد لوليمة الزّفاف…وسأعطيك أجرتك.
عارف: حيّاك الله …سأساعدكم بدون أجرة.
الدّكتور: من حقّك أن تأخذ أجرتك.
عارف: النّاس يساعدون في الأعراس “عونة”.
الدّكتور: بارك الله بك…شكرا لك يا طيّب…إذا الّليلة سننام أنا وأنت مع من ينامون هنا.
عارف: يشرّفني ذلك.
أمضى الدّكتور ليلته وهو يتحدّث مع عارف، في محاولة منه لاستكشاف شخصيته، والوقوف على حالته النّفسيّة…خرج بانطباع بأنّ عارف يعاني من الاضطهاد والقمع…وإذا ما وجد من يهتمّ به فإنّه يعقل ويدرك أكثر بكثير ممّن يعتبرون أنفسهم عقلاء…عرض عليه أن يعمل مع العمّال في بنائه قيد الانشاء…فوافق بفرح طفوليّ على أن يبدأ العمل ثاني أيّام العرس…أوصى الدّكتور العمّال خيرا بعارف، وحذّرهم من مغبّة مخاطبته بمجنون القرية كما هم معتادون، كما طلب منهم أن يتركوه يعمل بالطّريقة التي تريحه.
يوم الزّفاف جهّزوا فرس المختار أبي سعيد الأصيلة للفاردة؛ ليمتطيها العريس من بيته إلى بيت أهل العروس …يمشي حاجزا بين الرّجال الذين يتقدّمون الفاردة، والنّساء الّلواتي يمشين خلف الفرس، أثناء العودة من بيت أهل العروس تمتطي العروس الفرس يحيط بها والدها وإخوتها…يمشي اثنان منهما بمحاذاة العروس …يضع كلّ منهما يده قريبا من ساق العروس، ليثبّتها على ظهر الفرس، أو يلتقطها قبل أن تسقط إذا جفلت الفرس…عندما انطلقت الفاردة علت زغاريد النّساء، أخرج البعض مسدّساتهم يطلقون الرّصاص…جفلت الفرس عندما أطلق رضوان صلية قريبة من أذنها اليمنى…هربت مبتعدة عن الفاردة…شدّ سعيد لجامها…وقفت على قائمتيها الأخيرتين تصهل، ثبت سعيد على الفرس، فهو معتاد منذ نعومة أظفاره على ركوب الحمير والبغال والخيول…حاول تهدئة الفرس…لكنّها لم تهدأ إلّا عندما تقدّم منها فارسها المختار أبو سعيد…وضع يده على جبينها ورقبتها…تحدّث معها كما يتحدّث عاشق مع عشيقته.
أعجبت ريتا بفروسيّة سعيد…أضمرت في نفسها أن تتعلّم ركوب الخيل…فالفروسيّة رياضة محبّبة. لكنّها خافت أن تسقط وضحة عن الفرس…همست للدّكتور بأن تأتي بسيّارتها كي يحضروا العروس فيها…ركبت سيّارتها…سبقت الفاردة…وصلت بيت أبي حمدان…همست لوضحة بأن تركب معها في السّيّارة بدل الفرس…رفضت وضحة اقتراح ريتا…وهي تقول بأنّها لا تتنازل عن حقها في يومها الّذي تنتظره مرّة في العمر، الفتيات الأخريات لسن أفضل منها…ولا يجدن امتطاء الخيل مثلها… هذا اليوم لا يتكرر حيث تكون العروس أعلى من كلّ المشاركين في الفاردة…تنظر الرّجال والنّساء من خلف “الغمغام” الشّفاف الذي يغطّي وجهها…دهشت ريتا من موقف وضحة…لكنّها كانت سعيدة بذلك…وأصبحت أكثر إصرارا على تعلّم ركوب الخيل.
لفت انتباه ريتا جمال الثّوب المخمليّ الحريريّ المطرّز الذي ترتديه وضحة، رغبت في أن يكون لها واحد مثلها…قالت لها وضحة مازحة:
راحت عليك…فأنت متزوّجة منذ سنوات…هكذا ثياب للعرائس فقط! لكنّها عادت تقول من جديد:
لا تهتمّي عزيزتي ريتا، سأطرّز لك واحدا مثله.
عندما وصلت الفاردة… خرجت من البيت يمسك حمدان بيدها اليمنى، والعريس سعيد باليد اليسرى …انطلقت عدّة صليات من رصاص وداع العروس لبيت أهلها وسط زغاريد النّساء، امتطت وضحة الفرس كخيّال متمرّس، مشت الفاردة على مهلها.
في بيت العريس جلس سعيد على يمين العروس…والدته بجانبه، وأمّ حمدان بجانب ابنتها العروس…وهذا خروج على عادات القرية ابتكرته ريتا، فالعادة أن لا يدخل العريس عند العروس إلّا في ساعات المساء…يضعن “غمغاما” شفّافا على وجهها…يرفعه العريس عن وجهها إلى رأسها…وهذه إشارة إلى العفّة…فهذا الوجه لم ينكشف على رجل سوى العريس….يصافحها فتقبّل يده…لكنّ ريتا أصرّت على جلوس العريس بجانب العروس فور وصولها إلى بيته…أمسكت ريتا بيدي العروسين وقالت ضاحكة:
أرونا كيف يرقص العروسان.
وقف سعيد على استحياء والنّساء يصفّقن ويردّدن خلف ريتا:
هزّي يا نواعم
هزّي يا نواعم بخصرك الحرير
خلّي الشّعر النّاعم مع الهوى يطير
ميلي بخصرك ميلي وريتك تسلميلي
يلبقلك تميلي وانت حلوي كتير
عرفوني حبيتك ودلّوني عا بيتك
رحت وما لقيتك زعلت كتير كتير
رح زورك عشيّي انا وامّي و بيّي
ومنعمل سهريّي مثلها ما بصير
هزّت وضحة خصرها…لكنّ سعيدا بقي واقفا تعلو وجهه حمرة الحياء، فغنّين له:
هزّ خصرك هزّ
يا بو بدله حرير هزّ
قفزت إليه ريتا تمسك يده اليسرى ووضحة تمسك اليد اليمنى، وقالت له:
لا تستحِ يا الله هزّ…وبدأت تهزّ خصرها هي الأخرى…فحرّك سعيد جسمه بالدبكة الشعبيّة فدبكتا معه، وقامت الأخريات للدّبكة أيضا.
عصر اليوم الذي بدأ عارف العمل فيه قال رضوان لأخيه الدّكتور بأنّ عارف يعمل باخلاص شديد، ويقوم بعمل لا يقوى عليه اثنان…لم ألاحظ عليه ما يشير بأنّه مجنون…وأثنى على الدّكتور الذي اختاره للعمل.
سأل الدّكتور: أين ينام عارف؟
رضوان: ينام في مغارة الحصينيّات…التي تقع على طرف القرية الغربيّ.
أوصى الدّكتور رضوان بأن يعطي عارف رعاية خاصّة، وأن يقدّم له ثلاث وجبات طعام يوميّا على حسابه…وأعطاه كيسا مليئا بالملابس المستعملة ليرتديها عارف أثناء العمل.
في منتصف يوم الخميس جاء الدّكتور إلى ورشة البناء…اصطحب عارف معه إلى المدينة…اشترى له ملابس جديدة، تناول معه طعام الغداء في أحد المطاعم…أخذه إلى مكتبه في المستشفى…طلب منه أن يستحمّ بحمّام في المستشفى، وأن يستبدل ملابسه بملابس جديدة، بقي يحادثه حتّى ساعات المساء، كلّما مرّ طبيب أو ممرّضة أو موظف يقدّم الدّكتور عارف له وهو يقول:
ابن عمّي الأستاذ عارف.
شعر عارف بانسانيّته المفقودة لأوّل مرّة في حياته…في طريق عودتهم إلى القرية سأله الدّكتور:
هل أنت سعيد بعملك يا عارف؟
ـ نعم أنا في غاية السّعادة…ولا أستطيع أن أعبّر عن شكري لك.
ـ هل تحبّ العمل؟
ـ نعم…وسأواصل عملي.
ـ لماذا لم تعمل من قبل؟
ـ لا أحد يسمح لي بالعمل معه…بعض من كان يحتاج عملا ليوم أو بعض يوم، كان يشغّلني مقابل وجبة طعام وبضعة قروش.
ـ لماذا كنت ترضى بذلك؟
ـ لا خيارات أمامي يا دكتور…لقد جعلوا منّي متسوّلا للقمة الطّعام منذ طفولتي المبكّرة…قالها وهو يبكي.
ربت الدّكتور على كتفه وهو يقول:
لن تتسوّل بعد اليوم يا عارف، وسأجد لك عملا…فقط عليك أن تتقبّل ما أقوله لك.
عارف: أمرك مطاع يا دكتور.
في اليوم الثّاني عيّن الدّكتور عارف ضمن طاقم حرّاس المستشفى، قال لرئيس الحرس بأنّ عارف ابن عمّه…طلب منه أن يعطيه رعاية خاصّة، أخبره أنّ عارف سينام في غرفة الموظّفين الذين يداومون نصف الّليل الأوّل، وينامون في المستشفى…أوصى مديرة المطبخ بأن تقدّم الطّعام لعارف ثلاث وجبات يوميّا.
طلب من عارف أن يتعامل مع النّاس بلطف…سجّله في مدرسة مسائيّة لمحو الأمّيّة…وقال له:
لا تعد إلى قريتنا يا عارف إلّا بعد أن تحقّق ما تريد…فأنت شابّ لديك قدرات هائلة…وفي قريتنا لا يعترفون إلّا بمن يثبت نفسه.
رأى عارف الدّنيا ربيعا يزهر أمامه…كما رأى الدّكتور ممدوح ملاكا على شكل إنسان…وضع نصب عينيه أن يعمل المستحيل ليكون كما يريده الدّكتور وأكثر…بكى سنوات عمره الماضية، بكى بحرقة وهو يتذكّر طيف والدته المريضة وهي على فراش الموت توصي والده:
عارف ونعمة أمانة في رقبتك يا عبد الرّحمن.
تابع الدّكتور ممدوحُ عارفَ بشكل يوميّ، وجد فيه الإنسان الطّيب الّذي ينشد حياة كريمة…أخبره معلّم محو الأمّيّة أنّ عارف ذكيّ جدّا…ولديه رغبة جامحة بالتّعلّم.
شعر عارف بنقلة نوعيّة في حياته…لم يستوعبها سريعا…ما عاد ينام ليله مثلما كان يفعل سابقا…يخرج من مدرسة محو الأمّيّة…يتجوّل في شوارع المدينة…رأى بشرا يختلفون عن أهل قريته…يراقب الأمور…ينتبه لكلّ صغيرة وكبيرة…يبتعد عمّن يراهم من أبناء القرية…دعاه ممرّض ذات يوم لمشاهدة فلم سينمائيّ، كانت صدمة حضارية له…الفلم هنديّ مترجم إلى العربيّة…فيه غناء ثنائيّ لشابّة حسناء وشابّ وسيم…يغنّيان ويرقصان في منطقة جميلة ملأى بالورود…حاول متابعة التّرجمة قدر استطاعته…لم يتمكّن من قراءة التّرجمة جميعها…لكنّه فهم أنّ الفلم رواية عشق، قرّر أن يسرع في تعلّم القراءة والكتابة…خصّص ساعة كلّ مساء لقراءة كلمات لم يتعلّمها في الكتاب المقرّر لمحو الأمّيّة…يتهجّى الحروف كما الأطفال…والكلمة التي تصعب عليه يسأل أحد موظّفي المستشفى عنها، أنهى الكتاب الأوّل…اشترى من مكتبة كتب القراءة المقرّرة للصّفوف الثّانية، الثّالثة والرّابعة في المدارس…قرأها بإتقان في أقلّ من شهر…بعدها اعتاد شراء الصّحيفة اليوميّة…يقرأ بعضا منها يوميّا…كان يكتب ما يقرأه إلى أن تعلّم القراءة والكتابة بطلاقة خلال شهرين…فرح به الدّكتور ممدوح عندما رآه يقرأ الصّحيفة، طلب منه أن يقرأ شيئا على مسمعه…بعدها سأله إن كان بإمكانه أن يكتب ما يقرأه؟ فأجاب بالإيجاب…أعطاه ورقة وأملى عليه رسالة افتراضيّة لمخاتير القرية…فرح كثيرا عندما لم يجد عنده أخطاء إملائية. فقرّر أن ينقله من الحراسة إلى العمل على بدّالة هاتف المستشفى.
************
بعد سقف الطّابق الثّاني من بيت الدّكتورممدوح، أصبح البيت مرئيّا من كافّة حارات القرية، من يخرج من بيته وينظر قمّة الجبل، يرى البيت من زاوية مختلفة
ـ حسب المكان والجهة التي يتواجد فيها ـ فالبيت مكوّن من طابقين…كلّ طابق من شقّتين، يفصل بين الواحدة والأخرى بيت الدّرج، زوايا البناء الأمامية في كلّ منها برندة ترتكز على عامود رخاميّ، واجهتان من كلّ منهما مفتوحتان، حجارة البناء من الحجر الأبيض الصّلب، ليست من صخور القرية الحثّانيّة كما البيوت الأخرى، ارتفاع الحجارة لا يزيد عن اثنين وعشرين سنتميتر كما أوصى المهندس المشرف، كلّ مدماكين يعلوهما مدماكان من حجر أحمر الّلون ارتفاعه عشر سنتيمترات، منتصف البيت حيث بيت الدّرج من حجر أسود مسمسم بارز، شبابيك البيت عتباتها العليا دائريّة. كلّ شقّة مكوّنة من ثلاث غرف نوم واسعة، صالون مفتوح على البرندة، مطبخ، صالة وحمّامين، هذا نمط بناء ليس معروفا في القرية التي تتكوّن بيوتها من غرفة واحدة، أو غرفتين متلاصقتين، الأثرياء منهم بيوتهم من غرفتين أو ثلاث غرف، تحتهما مخازن…سطوحها برندة مكشوفة أمام الغرف العليا.
العمّال يواصلون بناء سور يحيط بالأرض على ارتفاع متر ونصف، وآخرون يواصلون تعمير البيت من الدّاخل، وضعوا أبوابا وشبابيك خشبيّة، الباب الرّئيس من الحديد، الحدّاد، النّجّار والبلّيط من أبناء المدينة، فهذه مهن لم يتعلّمها أحد من أبناء القرية…عندما وصل البلاط المزخرف بنقوش مختلفة، كان فرجة لأبناء القرية، فبيوت القرية لا تعرف البلاط باستثناء بيت المختار أبي سعيد الذي ورثه عن جدّه سعيد الأوّل، وهو مبنيّ في القرن الثّامن عشر، زمن العهد العثمانيّ، على نمط القلاع الشرقيّة…قصر عظيم، في غرف نومه بلاط قيشانيّ أتوا به من الشّام حسب الرّوايات الموروثة المتواترة، أمّا بقيّة البيوت فأرضيتها ممدودة بطبقة بسيطة من الباطون.
وافقت أمّ فالح على زواج زعرورة بعد وفاة أبي فالح بتسعة شهور، أقنعت أبناءها بذلك بعد استشارة المختار أمين…برّرت موافقتها قبل مرور عام على الوفاة بأنّ زعرورة سترعى أبناء شقيقتها المرحومة رمّانة…لكنّها اشترطت على أبي حمدان بأن يتمّ الزّفاف بهدوء وبدون سهرات أو غناء أو أيّ احتفالات، وافقها أبو حمدان وهو يقول:
يكفي حمدان احتفالات وسهرات…فقد احتفلنا به مرّتين في زواجة على المرحومة رمّانة وعلى بهيّة… شكرها بعد أن اتّفق معها بأن يأتي هو وحمدان لأخذ العروس إلى عشّ الزّوجيّة بعد صلاة المغرب يوم الجمعة القادم… استأذن بالانصراف، لكنّ زعرورة دخلت باكية وقالت:
أنا لست خطيفة حتى يكون زواجي بهذه الطّريقة المهينة…ولن أوافق على ما اتفقتما عليه مهما كان الثّمن.
أمّ فالح تردّ غاضبة: اخرسي…قطع الله لسانك.
أبو حمدان: لا داعي لهذا الكلام…سأتفاهم مع زعرورة، ولن أوافق على شيء ترفضه….اسمعي يا عمّي…بالنّسبة لنا لا مانع لدينا من اقامة حفل زفاف…لكن هذا شرط أمّك وأشقّائك؛ لأنّه لم يمرّ عام على وفاة أبوك ـ الله يرحمه ـ.
زعرورة: هل الحداد لمدّة عام فريضة أم سنّة؟ ومن ابتدع هذه العادات السّخيفة؟ إذا كنتم مصرّين على ذلك فليتأجّل الزّواج حتّى ينتهي العام.
أمّ فالح: يا فضيحتي في تالي عمري! لا تؤاخذني يا اخوي يا أبو حمدان.
أبو حمدان: أنا بدّي أعرف…رفض زعرورة للزّواج هذا الأسبوع لأنها تريد سهرات وأغاني وزفاف، أو ما بدها حمدان.
زعرورة: حمدان خطيبي وعلى راسي… واولاده في عينيّ، لكن لن أتزوّج كخطيفة.
في هذه الأثناء وصل حمدان…سمع ما قالته زعرورة ففرح بموقفها، سأل عن أسباب حديثهم بصوت عالٍ، فشرحت له أمّ فالح الموضوع…التفت إلى زعرورة وقال:
زعرورة معها حق…فمن حقّها أن تتزّوج باحتفال كبقيّة الفتيات.
أمّ فالح: يا خيبتك يا أمّ فالح…واولاد “المسعدة” مين يقوم فيهم؟
حمدان: الأولاد بألف خير…وبهيّة ترعاهم مثل أمّهم وزيادة.
أبو حمدان: حمدان بدل من “تكحيلها خلع عينها.” أنا سأحلّ الموضوع مع فالح والمختار أمين.
بعد أن غادر حمدان وأبوه أمسكت أمّ فالح شَعْرَ زعرورة وقالت:
والله لولا المخافة من الله ما تركت في راسك شعرة واحدة يا قليلة الحياء…مستعرسة! بدّك ترقصي وتغنّي وتفرجي النّاس علينا؟ شو شايفة حالك أحسن منّي؟ أنا يوم تزوّجت أبوك ـ الله يرحمه ـ ما حضر عرسنا عشرة أشخاص…وما فتحت ثمّي بكلمة.
زعرورة: أنت تريدين الحداد على المرحوم حزنا عليه أم لأسباب أخرى؟ يوم دفنه وأيّام العزاء فيه لم تذكريه بكلمة طيّبة.
أم فالح: والله ما شفت معه يوم فرح احكي عنه…لكن هذي عادات أهل البلد….ولولا”عقلي مثل الميدان ، الخيل تطارد فيه” لتركتم عنده وانتو “قطاطيم لحم” ورجعت لدار أبوي.
زعرورة: ليتك عدت لبيت أبيك قبل أن تلدينا! فلم نشعر يوما أن لنا والدين!
أمّ فالح: اخرسي…وضبّي لسانك…بلاش اخوتك يزعلوا منك ويقصّوه!
ذهبت زعرورة إلى المطبخ وهي تقول غاضبة:
لم أخطئ بحقّ أحد، ومن يغضب منّي بلا ذنب اقترفته لا ردّه الله.
في بيت المختار أمين نقل أبو حمدان ما اتّفق عليه مع أمّ فالح بخصوص زواج حمدان من زعرورة، وكيف رفضت زعرورة ذلك الاتّفاق. استمع المختار لأبي حمدان…أرسل ابنه “صقر” ليأتيه بفالح وزميتان شقيقي زعرورة….عندما حضرا قال المختار:
عندما توفّي المختار سعيد أبو عقيلة ـ الله يرحمه ـ والد المختار أبو سعيد الحالي، وكان من الرّجال المعدودين، ليلتها كانت ليلة الحنّاء لبنت بنته عيشة على جمعة الخليل…والمختار أبو سعيد رجل عاقل مثلما تعرفون…ترك أبوه في المستشفى…وقال لاخوته:
لا تعلنوا الوفاة… عَ شان عرس عيشة وجمعة ما يتعطّل.
وبعدما زفّوا العروس والعريس وانبسطوا أعلن عن وفاة أبوه ودفنّاه بعد صلاة العصر…واهل البلد قالوا وقتها:
من هذا البيت طلعت عروس وجنازة في يوم واحد.
التفت إلى أبي حمدان وسأل:
حصل هذا يا ابو حمدان وِلّا نسيته؟
ـ لا والله ما نسيته.
فالح: الله يرحمه…والله عين العقل ما تصرّفه المختار أبو سعيد.
المختار أمين: يعني ما أخطأ أبو سعيد؟
فالح: طبعا لم يخطئ الرّجل.
المختار: إذن ليش رافضين الأغاني والسّهرة والزّفّة في عرس أختكم زعرورة على حمدان، وأبوكم مات قبل تسعة أشهر؟
زميتان: أمّي قالت انّك وافقت على ذلك.
المختار: امّك يا عمّي قالت لي اتّفقنا نزوّج زعرورة بدون فرح، لأنّه ما مرّت سنة على وفاة أبوها، وأنا قلت:
مبارك ان شاء الله…يعني فكرك كان يلزم أقول غير ذلك؟
فالح: شو قصدك يا مختار؟
المختار: قصدي من مات الله يرحمه…ومن يتزوّج ربنا يسعده…واذا بدنا ننتظر سنة حداد على كلّ ميّت، لن يتزوّج أحد من اولادنا…وانا رأيي أن يتمّ زواج زعرورة وحمدان بسهرة وأغاني مثل بقيّة البشر.
فالح: احنا ما عندنا مانع…العرس لحمدان…ليسهروا ويغنّوا كيفما يشاؤون.
المختار: اذا…اقنع أمّك واختك بذلك…واتركونا من الهبل.
عندما سمعت زعرورة من فالح بأنّ زواجها سيكون بسهرة وأغان وزفاف، كما اقترح المختار أمين…دعت للمختار بطول العمر، ودعت لفالح بأن يحفظه الله ويوفّقه…لكنّ والدتها قالت:
دنيا آخر وقت…والله ما عدت اعرف راسي من رجليّ…كيف بدّي أفتح عينيّ أمام النّسوان؟
فالح: ما الدّاعي لهذا الكلام يمّه؟
ـ أبوك ما مرّت سنة على وفاته.
ـ أبوي ـ الله يرحمه ـ أراح واستراح عندما مات…وانت فرحتِ لوفاته…وكنت دائما تتمنّين الخلاص منه…فافتحي عينيك وافرحي بزواج زعرورة.
ـ خلّي زعرورة تتزوّج وتفرح مثلما تريد…وانت واخوك هربتوا مع نسوانكم… وانا خلّوني قاعدة في هالدّار مثل العفريتة.
زميتان: لن تبقي وحدك يمّه…بكرة أنا وزوجتي واولادي راجعين للبيت.
في اليوم التّالي ذهبت زعرورة لزيارة وضحة في بيتها…فرحت وضحة كثيرا بالزّيارة…استقبلتها بالأحضان، جلست زعرورة على “كنبات” فاخرة، لم تشاهد مثلها من قبل…فهكذا أثاث لا يوجد إلّا في بيت المختار أبو سعيد وبيوت اخوانه…رأت غرفة نوم وضحة وقالت:
ربنا يسعدك ويتمّم نعمه عليك…وإن شاء الله ربّنا يرزقك البنين والبنات…وأضافت على استحياء:
أريد مساعدتك لي في قضيّة مهمّة يا وضحة بشرط أن تبقى سرّا بيني وبينك لا يعلمه أحد.
ـ ابشري بأيّ مساعدة أستطيعها.
ـ أريد منك أن تتوسّطي لي عند ريتا كي تضع لي الحنّاء كما وضعته لك.
ضحكت وضحة وقالت: هذا ما كنّا سنفعله…وسأشتري لك قميص نوم مثل قميصي…فأنت وحمدان عزيزان على قلبي.
زعرورة: بارك الله بك…والآن اسمحي لي بالمغادرة.
وضحة: لن تغادرينا قبل أن تتناولي معي طعام الغداء.
فوجئت زعرورة بكلّ ما رأته في بيت وضحة…أكلت بعينيها كلّ جديد تراه…”غرفة نوم فاخرة…كنبات…طاولة سفرة، كراسي…ملاعق، شوك…وسكاكين…أواني زجاجيّة…الخ، قالت لوضحة:
متى سنعيش مثل هذه العائلة؟
وضحة: هؤلاء متعلّمون…ويعرفون معنى الحياة…ويدلّلون زوجاتهم وبناتهم وأبناءهم.
زعرورة: ولماذا لا نتعلّم مثلهم؟
وضحة: الدّكتور ممدوح وزوجته ريتا يخطّطان لرفع مستوى التّعليم في القرية. وسأبوح لك بسرّ وهو أنّ ريتا تعلّمني سياقة السّيّارة، وسيشتري لي سعيد سيّارة عندما أحصل على رخصة السّياقة، كما أنّ ريتا وزوجي سعيد يساعدانني في الدّراسة والاستعداد كي اجتاز امتحان الثّانويّة العامّة “المترك” في العام القادم…وبعدها سأعمل مدرّسة.
زعرورة: ربنا يوفقك ويسعدك…وليتك تقنعين حمدان كي يسمح لي بالدّراسة مثلك.
وضحة: سأحاول معه.
جرت سهرة وليلة حنّاء وزفاف لزعرورة كما جرت لوضحة، لكن ببذخ أقلّ…فالامكانيّات المادّيّة لأسرة العريس لا تسمح بمجاراة أفراح عائلة أبي عقيلة الثّريّة…الفرحة كانت بادية على وجوه الجميع باستثناء حمدان…فلم يقتنع يوما بأنّه سيكون زوجا لزعرورة، لأنّه يراها أختا له…تذكّر عندما كانت طفلة يوم زواجه من شقيقتها المرحومة رمّانة…وداعبها كطفلة بريئة مثلما كان يداعب شقيقته وضحة، فارتجف جسده وسقطت دموعه سخيّة، لكن لا خيارات أمامه سوى اتمام هذا الزّواج.

**********
التقى الدّكتور ممدوح مخاتير ووجهاء القرية في بيت المختار أمين، اقترح عليهم العمل على فتح مرحلة اعداديّة في مدرستي البنين والبنات. مؤكّدا على ضرورة أن ينهي الأبناء والبنات الدّراسة حتّى نهاية المرحلة الثّانويّة على الأقلّ…وذكّرهم بأنّ من يحصل على شهادة المترك سيحصل على وظيفة براتب مجزٍ…اعترض المختار فرج على قضيّة تعليم البنات وعملهنّ…وصف ذلك بأنّه عمل مشين يلحق العار بذوي المتعلّمة! وأنّ تعليم البنات سيحول دون زواجهنّ! استغرب الدّكتور ذلك وقال:
زوجتي ريتا تعلّمت الصّيدلة بجامعة في بيروت، وأهلها في حيفا…وهي تعمل الآن في صيدليّتنا في المدينة، فهل هذا عيب بحقّي وبحقّها أو بعائلتينا؟ فاتّقوا الله في بناتكم.
المختار فرج: إذا كنت تقبل الخطأ لزوجتك فنحن لا نقبله.
الدّكتور: أيّ خطأ؟
امام الجامع: تعليم البنت سترها…”العرض لا يحمى بالسّيف”.
الاستاذ راتب يسأل الامام ساخرا: كيف تحمى الأعراض يا شيخنا؟
الامام: بالزّواج فالزّواج سترة.
الدّكتور: ما علاقة الأعراض بالتعليم والمدارس يا اخوان؟
المختار فرج: استغفرك يا ربّ واتوب اليك….يا دكتور…هل تريد بناتنا أن يمشين فارعات دارعات؟
الدّكتور: من قال لكم ذلك؟ تعليم البنت درع لها، يحميها من نوائب الدّهر…ومن الذّئاب البشرية أيضا.
المختار أمين: صلّوا على النّبي يا اخوان…الدّكتور ممدوح ما أخطأ.
المختار فرج: هئ هئ هئ…يا حليلك يا فرج…إذا كلّ هالغلط الّلي قاله مش غلطان…يبقى شو الغلط؟
الدّكتور غاضبا: هل تعتقدون أنّ مدرسة البنات تضر البلد؟
المختار فرج يستهزئ: يا عمّي اللي مش سائل عن زوجته بدّه يسأل عن بنات النّاس؟ شو هالهبل؟
المختار أبو سعيد: الله يجيبك يا طولة الرّوح…اسمع يا فرج..تحملناك كثير…ضبّ لسانك أحسن لك….شو شفت على زوجة الدّكتور؟ اذا ما بدّك تعلم بناتك…ربنا لا يردّك ولا يردهن.
فرج: الله يستر على خلقه…أنا ما شفت على زوجة الدّكتور إلّا كلّ خير…لكنها تسوق سيّارة…ولا تغطّي راسها…والتعليم يا الرّبع كارثة على البنات…المعلمات الموجودات في المدرسة واحدة منهن شعراتها مثل “الكدسة” …وواحدة تنورتها لعند ركبتها…وواحدة رقبتها مثل رقبة الدّيك الممعوط…يا عمّي…ملابسهن! الله يحمينا، بدكم بناتكم يلبسن مثلهن؟
الاستاذ سعيد رضوان ساخرا موجّها حديثه للمختار فرج:
حسب رأيك يا مختار من يستر البنت أكثر قيادتها لسيّارة أم “تخييلها” على حمار أو بغل؟
المختار فرج: والله ما بقي غير أن تقولوا لنا اتركوا بناتكم يمشين على حلّ شعرهن….استغفرك يا ربّي.
المختار أمين: مين قال اتركوا بناتكم يمشين على حلّ شعرهن يا فرج؟ ما الفرق بين بناتك وبناتنا؟ وِلّا شايف حالك أشرف منّا؟
المختار فرج: الحديث معكم وجع راس عَ الفاضي…والبنت اذا كبرت ما لها غير الزّواج…و”عليّ الطّلاق من شاربي ولّا النّسوان ما فيهن خير” لو تفتحوا كلّ يوم مدرسة ما سمحت لبناتي يدرسن فيها.
المختار أبو سعيد: ربنا يساعد زوجتك واولادك اللي عايشين معك.
غادروا بيت المختار أمين والكلّ غاضب من الكلّ.
في اليوم التّالي شرح الدّكتور بوجود المختارين أبي محمّد وأبي سعيد أمام المحافظ قضيّة تعبيد الشّارع؛ لأنّ القرية على وشك شراء حافلة…مبيّنا أهمّيّة ذلك لنقل الطّلاب والعمّال والمرضى والمتسوّقين من أسواق المدينة.
أثنى المحافظ على الفكرة…شكر القائمين عليها، لكنّه قال بأنّ تعبيد الشّارع من اختصاص وزارة الأشغال العامّة.
ردّ عليه الدّكتور: نعلم ذلك جيّدا…كتبنا كتاب تعبيد الشارع موجّها لمعالي وزير الأشغال العامّة…لكن لأهمّيّة الموضوع ولسرعة التّنفيذ ارتأينا أن تتكرّم عطوفتكم برفعه إلى الوزاة؛ كي تأخذه على محمل الجدّ…أخرج الطلب من حقيبته ممهورا بخاتم المخاتير وتوقيعهم، استلم المحافظ الطّلب ووعدهم خيرا.
شكروه… وهمّوا بالانصراف…إلّا أنّ الدّكتور طلب من المحافظ توصية لمديريّة التّربية والتعليم؛ لفتح المرحلة الاعداديّة في مدرستي البنات والبنين في القرية…مبيّنا له عدد الطّالبات والطّلاب الذين أنهوا الصّف السّادس الابتدائيّ…وأنّ البنات لن يكملن تعليمهنّ إن لم توجد مدرسة لهنّ في القرية؛ بسبب العادات التي لا تسمح بانتقال البنات من منطقة لأخرى…في حين أنّ غالبيّة البنين سيتركون الدّراسة لعدم قدرة ذويهم على توفير نفقات تعليمهم…أخرج من حقيبته الطّلب الموجّه إلى مدير التّربية والتّعليم بهذا الخصوص وقدّمه للمحافظ.
قرأ المحافظ الطّلب بتمعّن وقال:
أحيّيكم على اهتمامكم بتعليم أبنائكم وبناتكم…لكن لا ميزانيّات لدى وزارة التّربية والتّعليم لبناء مدارس…ومع ذلك نستطيع فتح المرحلة الاعداديّة إذا وفّرتم غرفا صفّيّة لتأجيرها لوزارة التّربية والتّعليم، وأنا أتكفّل بتوفير قيمة الأجرة…وكتب في ذيل الطّلب لمدير التربية والتّعليم:
” نتمنى على سعادتكم الاستجابة لهذا الكّتاب إذا ما وفّر الأهالي غرفا مستأجرة لذلك، وأنا أتكفّل بتوفير أجرتها” وقّع على ذلك ووضع خاتم المحافظة…وأعاد الطلب إلى الدّكتور.
شكره الدّكتور وهو يقول: سنعمل جهودنا لتوفير غرف لتأجيرها كمدرسة.
في مكتب مدير التّربية التفت إليهم المدير بعد أن قرأ الطّلب وقال:
لديّ تعليمات من معالي الوزير بتقليص النّفقات، وافتتاح صفّ دراسيّ جديد يعني تعيين معلمّين جدد، لكنّني سأعتمد على توصية عطوفة المحافظ، تدبّروا أمركم بخصوص استئجار الغرف الدّراسيّة، وعندما تجدون الغرف أخبرونا فورا كي نكشف عليها، ونوقّع عقد الايجار قبل بداية العام الدّراسي؛ كي نحضر الأثاث المدرسيّ من مقاعد وغيرها…سنفتح هذا العام صفّين اعداديّين واحدا في مدرسة البنات، والثّاني في مدرسة البنين…واذا ما كانت هناك غرف فسنفتح الصّف الاعدلديّ الثّاني في العام القادم، والثّالث في الذي يليه.
خرجوا سعداء من مكتب التّربية والتّعليم، أعادهم الدّكتور إلى بيوتهم بعد أن تناولوا الشّواء في أحد مطاعم المدينة…وجد المختار أمين المختار فرج في بيته….بعد أن ابتعد الدّكتور وشقيقه أبو سعيد قال فرج:
للدّكتور أهداف في فتح المدارس لا أعرفها…لكنّني متخوّف منها، فالرّجل متعلّم واخوانه أكثر أبناء جيلهم علما…وأبناؤهم وبناتهم متعلّمون…فماذا يريد؟
المختار أمين: وحّد الله يا فرج… رجال هذه العائلة أكابر أبا عن جدّ، فجدّهم الأوّل سعيد تعلم في الآستانة وكان “قمندار” وفتح بيته لشيخ مصريّ لتعليم بنات وأبناء القرية، وحفيده سعيد هو من تبرّع بأرض وبناء مدرسة الذّكور…يا عمّي هؤلاء متعلمّون ويحبّون العلم…ويخدمون القرية والمنطقة باستمرار…ويحبّون الخير لغيرهم كما يحبّونه لأنفسهم. لذلك هم أغنى أبناء القرية.
فرج: يا خوفي أنّ الدّكتور سرق عقلك بعد ما عالجك في المستشفى، وأخاف الله أنّك توافقه على الشّرّ قبل الخير.
ـ فضل الدّكتور عليّ لن أنساه ما حييت…فلولا علمه لدفنتموني وأنا حيّ… لكن أين الشّرّ الذي عمله الدّكتور حتّى تتّهمني بالموافقة عليه؟
ـ هل هناك شرّ أكثر من تعليم البنات بدل تزويجهنّ وسترهنّ؟
ضحك المختار أمين وقال: يا رجل أوّل عربي دعا لتعليم البنات كان الرّسول عليه الصّلاة والسّلام قبل 1400 سنة، والتعليم ” لا هو عيب ولا حرام.”
فرج: طيّب من وين لنا غرف لتأجيرها للمدرسة مثلما طلبوا؟
ـ أبو خميس عنده ثلاثة غرف قريبة من مدرسة الذّكور… يسكنها هو وزوجته…سنتدبّر أمرنا معه…سأقنعه بأن يسكن مع أبنائه؛ ليخدموه في شيخوخته، ومن أجرتها سيبني بيتا جديدا.
ـ ومدرسة البنات…كيف ستدبّرونها؟ أسأل الله أن لا تجدوا بيتا للاستئجار؛ حتى ربّنا يستر هالبلد واهلها من جنونكم.
ـ سأفكّر بأمرها هذه الّليلة…وبالتأكيد الدّكتور مشغول بالموضوع نفسه…وسيتشاور مع اخوانه حول ذلك.
في اليوم الثّاني ذهب المختار أمين لبيت أبي خميس بعد صلاة الفجر مباشرة…فوافق على تأجير البيت بدون نقاش وهو يقول:
“لو صبر القاتل على المقتول مات لحاله” والله كنّا نفكّر بالعيش مع ابننا سالم آخر العنقود.
طلب منه أن يذهبا سويّة إلى الدّكتور ممدوح ليخبراه بذلك.
عندما خرجا من بيت خميس رأيا سيّارة الدّكتور تقف أمام بيت المختار أمين…حثّا الخطى للّحاق به قبل أن يستدير ويغادر، سبقهما المختار فرج عندما رأى سيّارة الدّكتور…سأل الحاجّ أمين:
خير يا دكتور؟
ـ انتهت إجازتي…سأعود إلى عملي في المستشفى… لا وقت لديّ، هل وجدتم غرفا لتأجيرها للمدرسة؟
الحاج أمين: نعم الحاجّ أبو خميس وافق على تأجير بيته القريب من مدرسة الذّكور والمكوّن من ثلاث غرف.
الدّكتور: بارك الله بك يا أبا خميس…إذن ستذهبون معي لاعلام مدير التّربية بالموضوع…ماذا بالنّسبة لمدرسة البنات؟
المختار أمين: سنعمل جهدنا لايجاد غرف لذلك.
الدّكتور: إذا لم تجدوا سنتبرّع ببيتنا القريب من بيت أبي خميس؛ وهو مكوّن من خمسة غرف…حوله ثلاث دونمات أرض…سنتبرع بها لمدرسة البنات…وسنسجّله وقفا لذلك.
فرج ساخرا: هيء هيء هيء…اكتملت الآن…شو صار لكم يا جماعة الخير؟ هل جننتم؟ مين يضع البنزين بجانب النّار؟
المختار أمين: بارك الله بك يا دكتور وبأمثالك…الكرم والطّيب ليس جديدا عليكم…فآباؤكم وأجدادكم ـ رحمهم الله ـ كانوا سبّاقين لعمل الخير دائما…وأبوك
ـ رحمه الله ـ هو من تبرّع بمدرسة الذّكور.والتفت إلى المختار فرج…وقال له ساخرا:
” ثلثين الولد لخاله” ربّنا ـ سبحانه وتعالى يرحم خالك حسن أبو بسطار…فقد أورثك “الشّطارة” وما ينقصك سوى منجل كي تكوي به النّاس!
المختار فرج: البناية التي يتكلّم عنها الدّكتور قريبة من مدرسة الاولاد…وبكرة يتحرشّوا في البنات، والنّاس تذبح بعضها.
الدّكتور: هل تخافون على البنات في المدرسة وهي وسط القرية، ولا تخافون عليهنّ وعلى بقيّة النّساء وهنّ يعملن في حقول البراري؟
فرج: العمل في الأرض مش عيب.
الدّكتور أنا ما قلت أنّه عيب…لكن هل التّعليم عيب؟ يا اخوان تعليم البنات حرز منيع لهنّ.
المختار أمين: المدرسة ستفتح أبوابها أمام الجميع، ولن نضع سيفا على رأس أيّ شخص ليعلّم ابنته أو ابنه.
الدّكتور: لن تنهض قريتنا ولا وطننا إلّا بتعليم البنات والأبناء، ونتمنّى على جميع أهلنا أن يرسلوا أبناءهم للمدارس. وسنعمل على فتح صفوف لمحو الأميّة، لمن فاتهم التّعليم من الذّكور ومن الاناث في المدارس بعد الدّوام المدرسيّ.
ضرب فرج كفّا على كفّ وقال:
“منه العوض وعليه العوض” عليّ الطلاق لن أبقى في لجنة الاصلاح، فالبلد خربت من يوم دخلها الدّكتور ممدوح.
تركهم وغادر دون استئذان…لم يحاولوا ثنيه، بل إنّ المختار أمين قال:
“الله يبعده ويسعده” أمضى عمره لا يفهم شيئا.
ذهب المختار أمين مع الدّكتور لابلاغ مدير التربية والتّعليم عن حلّ مشكلة الغرف المدرسيّة المطلوبة، وعدهم المدير بأنّ مسؤولا من قسم الأبنية سيزور القرية لمعاينة الأبنية، وبعدها سيوقّعون عقد الايجار…ولمّا أخبره الدّكتور بأنّه واخوانه يتبرعون لمدرسة البنات ببناء من خمس غرف حولها ثلاث دونمات أرض، وسيسجّلونها في الأوقاف باسم وزارة التّربية والتعليم، فغر مدير التّربية فمه؛ لأنه تفاجأ بهذا الكرم…لم يتفوّه بكلمة واحدة…حتّى أنّه لم يشكر الدّكتور…قال:
الآن سأذهب معكم لرؤية الأبنية…وسأكتب إلى الوزارة بذلك.
ردّ عليه الدّكتور أنّ بامكانه أن يذهب مع المختار أمين، وأنّه ذاهب هو إلى عمله في المستشفى.
جمع المختار فرج العلّيص أبناء حامولته، أجلس بجانبه ساعده الأيمن محمود العفش، شرح لهم بأنّ هناك تنسيقا بين المختار أمين والدّكتور ممدوح لتخريب القرية، وأنّ الأمور زادت عن امكانيّة احتمالها أو السّكوت عليها، بالمطالبة بفتح صفوف اعداديّة في مدرستي البنات والبنين، وهذا يعني أن البنات لن يتزوّجن، وسيخرجن عن طوع ذويهنّ، وأنّ الأرض ستترك إذا ما تعلّم الأبناء والبنات…لهذا فإنّه لن يعود رئيسا للجنة الاصلاح، وأنّ الحامولة لن تساهم في شركة الباصات، ولن تساهم في مشروع الكهرباء أو غيره، استمعوا إليه وغالبيّتهم لا يستطيع تمييز الخطأ من الصّواب، لكنّ بعض الجهلة هلّل وكبّر لنباهة وحرص المختار!
أشعل محمود العفش سيجارة…سحب منها نفسا عميقا…دار بعينيه على جميع الحضور، لكنّه لم يتفوّه بكلمة واحدة.
استأذن الأستاذ عابد أبو سبيل بالكلام…بسمل وحمدل وحوقل وصلّى على الرّسول وآله وصحبه أجمعين وقال:
يقول الله تعالى: ” وتعاونوا على البرّ والتّقوى ولا تعاونوا على الاثم والعدوان”
ففتح المدارس، استصلاح الشّوارع، تمديد الماء والكهرباء، استصلاح الأراضي، كلّها أمور لصالح القرية وأهلها، يجب علينا أن نتعاون جميعنا لتحقيقها، وشكرا للدّكتور ممدوح الذي بادر لهكذا مشاريع، ولا يليق بنا كحامولة أن نقف ضدّ تعمير القرية، فهذا ليس لصالحنا.”
سخط المختار فرج…نفرت عروق رقبته من مكانها غضبا، وقال، أعوذ بالله من هيك أفكار…لم يترك عابد إلّا أن يقول بأنّ تعليم البنات حق وواجب.
الأستاذ عابد: يقول صلّى الله عليه وسلّم:” من كانت له ابنة فعلّمها وأحسن تعليمها، وأدّبها فأحسن تأديبها، كانت له سترا من النّار.” فهل تريدنا يا مختار أن نطيعك ونعصي الله ورسوله؟
قال محمود العفش: ما يقوله الأستاذ عابد صحيح…نحن مع قريتنا وأهلها…والمختار فرج عمل ما عليه وشاخ…وتكفيه “المخترة” وأقترح أن نضع الاستاذ عابد مكانه في الّلجنة، فهو متعلّم ويعرف ما يريد، وأتمنّى أن تكون مساهماتنا في مشاريع القرية أكثر من بقيّة الحمايل.
لم يتوقّع المختار من محمود العفش تحديدا أن يتكلّم بهذه الطّريقة الصّادمة، غضب…زمجر…هدّد وتوعّد..صاح بهم يطردهم من بيته، ذهبوا لمواصلة الاجتماع في بيت محمود العفش….هناك شرح لهم الأستاذ عابد عن فائدة مشاريع تطوير القرية…طالبهم بالمساهمة في شركة الباصات…على أن يأتوا بمساهماتهم مساء اليوم التّالي…في الصّباح شاهد الأهالي عمّال وزارة الأشغال العامّة يرصفون الشّارع تمهيدا لتعبيده…سارع مندوبو الحمايل بجمع الأموال من الرّاغبين بابتياع الأسهم…في المساء بلغت قيمة المبالغ التي جمعتها حامولة “أبو العلّيص” ألفين وخمسمائة دينار…وهذا المبلغ يفوق المتوقّع بضعفين…أكبر المساهمين كانت الحاجّة رسميّة العطا التي أحضرت خمسين دينارا، بعد أن سمعت بوجود أرباح…وهي أرملة لها ثلاث بنات وولدان…جميعهم متزوّجون، وأوضاعهم الاقتصاديّة جيّدة.
حمل الأستاذ عابد أبو سبيل وعارف العفش المبلغ مع قائمة باسماء المساهمين، وبجانب كلّ اسم المبلغ الذي ساهم به…ذهبا إلى بيت المختار أمين…أخبراه بأن لا تتعامل الّلجنة من هنا فصاعدا مع المختار فرج…فهو لم يعد يمثّل الحامولة بعد كلّ الأضرار التي ألحقها بها…وقال محمود العفش بأنّ الحامولة أجمعت على استبدال فرج بالاستاذ عابد.
رحبّ بهما المختار أمين…اقترح عليهما أن يذهبا بصحبته إلى بيت المختار أبي سعيد للقاء الدّكتور ممدوح.
وصل االدّكتور ممدوح قبل أن يحتسوا القهوة…نقلوا إليه ما جرى مع المختار فرج…قدّموا إليه المبلغ المالي…شكرهم وقال:
المبلغ يستلمه الحاج أمين فهو أمين الصّندوق.
قال الحاجّ أمين: شكرا على ثقتكم الغالية…لكن أمانة الصّندوق تحتاج إلى شابّ متعلّم ونشيط…أقترح أن يكون الأستاذ عابد أو الأستاذ سعيد رضوان.
الدّكتور: فليكن الأستاذ عابد…أعطه الايصالات وكلّ أوراق الّلجنة يا حاجّ أمين…وأقترح إيداع المبلغ في البنك باسم لجنة الاصلاح، وأن ينوب عنها ثلاثة أشخاص بالتّوقيع للبنك…وأن لا يصرف أيّ مبلغ إلّا بتوقيع اثنين منهم.
عابد: أقترح أن تكون أنت يا دكتور رئيس الّلجنة.
الدّكتور: شكرا لك…أنا لن أبخل على القرية بشيء أستطيعه دون أن أكون عضوا في الّلجنة، وأقترح أن تكون رئاسة الّلجنة للمختار أمين.
عابد: ومن هم الثّلاثة الذين سيوقّعون للبنك؟
الدّكتور: لتجتمع الّلجنة…ولتختر من تريد…ورأيي أن أن تكون أنت ومحمود والمختار أمين.
في الّليلة الثانية كان مجموع ما جمعته حامولتا أبو بسطار وأبو عقيلة ثلاثة آلاف دينار لكلّ منهما….ممّا دفع حامولة أبو العلّيص أن تجمع خمسماية دينار أخرى لتتساوى معهما….بحثت الّلجنة كيفيّة شراء الباصات…ذهبوا إلى أحد مستوردي السّيّارات فأخبرهم أنّ ثمن الباص الواحد جديدا غير مستعمل و”موديل” سنته هو سبعة آلاف دينار…لكنّ مدير شركة باصات المدينة عرض عليهم باصين سارا على الشّارع عامين بثلاثة آلاف دينار لكلّ منهما…بعد التّشاور قرّرا شراء الباصين المستعملين….اقترح الدّكتور عليهم أن يدفعوا من المبلغ المتبقّي اشتراكا لشركة الكهرباء وسلطة المياه لانارة بيوت القرية وتزويدها بالمياه…لسرعة الانجاز مع عدم المسّ بحقوق المساهمين، والمباشرة فورا بجمع المشاركات من بيوت القرية.
مهندس شركة الكهرباء قال لمديرها أنّ تكلفة تمديدة خطوط الكهرباء إلى القرية هي ثلاثة آلاف دينار، يدفع أهالي القرية ثلثها، والباقي تدفعه الحكومة.
سألوه: هل هذا يعني أنّه بعد دفع الألف دينار، ستضاء بيوت القرية بالكهرباء؟
مدير الشّركة: بعد دفع الألف دينار سنمدّد خطوط الكهرباء إلى القرية…التّمديدات الدّاخلية في البيوت يقوم بها أصحاب البيوت أنفسهم…وصاحب البيت يدفع مبلغا مقابل ربط الكهرباء من أعمدة الشّركة إلى بيته، حسب قرب أو بعد البيت عن العامود.
ـ من يقوم بالتّمديدات الدّاخلية؟
ـ هناك فنّيّون مرخّصون من الشّركة يقومون بها.
ـ كم تكلفتها؟
ـ حسب مساحة البيت، وبناء على عدد النّقاط التي يريدها أصحاب البيت…الفنّيّون يعرفون ذلك وسيشرحونه لكم…لكن التّكلفة ستتراوح بين عشرة وثلاثين دينارا للبيت الواحد.
مع بداية العام الدّراسيّ جرى احتفال بافتتاح المرحلة الاعداديّة في مدرستيّ الذّكور والاناث، حضرها المحافظ، قائد شرطة المدينة ومدير التربية والتعليم…ألقى المحافظ كلمة شكر فيها المختار محمّد سعيد أبو عقيلة واخوانه لتبرّعهم السّخيّ ببناء من خمس غرف، تحيطه أرض مساحتها ثلاث دونمات لمدرسة البنات، واستذكر المرحوم والدهم الذي تبرّع ببناء مدرسة الذّكور، كما شكر الحاج أبو خميس لتأجيره ثلاث غرف للمدرسة…واختتم كلمته قائلا:
“لولا تعاونكم مع مديريّة التّربية ما كان ليتحقّق هذا الانجاز العظيم، وهذا يبرهن على حبّكم للتّعليم ودوره في بناء الانسان والوطن، وستكون خطوتكم التّعليميّة هذه حافزا للقرى المجاورة.”
شكر الأستاذ عابد المحافظ ومدير التربية باسم القرية، وشكر الدّكتور ممدوح الذي لولا نشاطه وحرصه على المصلحة العامّة ما تحقّق شيء…نوّه إلى مشروعي الكهرباء والماء، وأنّ القرية دفعت ما يترتّب عليها، ويبقى التّنفيذ على عاتق الجهات ذات الاختصاص. كما دعا كلّ من لا يجيد القراءة والكتابة من مختلف الأعمار أن يلتحقوا بدورات محو الأمّيّة بعد صلاة العصر مباشرة، الرّجال في مدرسة البنين، والنّساء في مدرسة البنات.
في بيت المختار أبي سعيد الّذي دعا الضّيوف والمخاتير وأعضاء لجنة الاصلاح، والهيئتين التدريسيّتين إلى وجبة الغداء، تعهّد المحافظ بأنّه سيتابع قضيّتي الماء والكهرباء لتنفيذها بأقصى سرعة.
حضر حفل الافتتاح والغداء مخاتير القرية باستثناء فرج أبو العلّيص…وعندما سأل المحافظ عنه تجاهلوا الاجابة…ولمّا كرّر السّؤال أجاب محمود العفش:
الله يعينه على عقله…دائما غضبان ولا يوافق على أيّ شيء.
***********
عاد عارف إلى قريته بعد غياب خمس سنوات متتالية، لم يسأل عنه أحد سوى شقيقته نعمة…تتذكّره ترثي لحالها وحاله…فهي لا تعلم عنه شيئا…لا تعلم إن كان حيّا أو ميّتا…لا تستطيع أن تسأل عنه؛ لأنّهم دائما يقولون لها بأنّه مجنون يدور في الطّرقات على غير هدى، هي راضخة لزوجة عمّها التي تتعامل معها كجارية تخدمها وتخدم بناتها وأبناءها، تقدّم لها عدد من الخطّاب، لكنّ عمّها كان يرفضهم بحجّة عدم صلاحيّتها للزّواج كما كانت تقول زوجته…لم يأخذ رأيها يوما بخاطب، ويدعو الله أن يميتها؛ ليرتاح منها “موت الوليّة من حسن النّيّة”.
عاد عارف يقود سيّارة…بجانبه زوجته نوّارة وطفلهما عبد الرّحمن…فقد أحبّ ممرّضة من المدينة …وأحبّته هي الأخرى…طلبها له الدّكتور ممدوح…عندما سألوا عن والديه قال لهم الدّكتور ممدوح بأنّهما توفيّا وهو طفل، وأقاما حفلا ساهرا في بيت والديها، عارف لم يكذب على نوّارة في شيء…حدّثها عن حياته بالتّفصيل المملّ…والدّكتور ممدوح هو الآخر شرح لها كلّ ما يتعلّق بعارف…عرض عليها أن يخبر والديها بذلك…لكنّها قالت له بأن يترك ذلك لها.
عاد محمود يرتدي بدلة وربطة عنق…يقود سيّارته بنفسه…قصد بيت المختار أمين…عندما رآه المختار وأبناؤه…فركوا عيونهم ليروا هذا الشّخص جيّدا…قال المختار:
سبحان الله…ربّنا يخلق من الشّبه أربعين…هذا الرجل يشبه عارف المجنون.
سمعه عارف فقال: بل أنا عارف يا مختار بشحمي ولحمي، لم أكن مجنونا في يوم من الأيّام، لكنّ ناس هذه القرية دمّروا حياتي، فابتعدت عنها وبنيت نفسي، وأعود إليكم لأعيش بينكم كما يعيش البشر…رحّب به المختار هو أبناؤه وعانقوه…أشار عارف إلى زوجته وابنه معرّفا بهما…جلس في بيت المختار وقال له:
جئتك يا مختار لأمرين اثنين راجيا مساعدتك وهما:
أريد شقيقتي نعمة كي تذهب وتعيش معي، وأريد أن تفرز لي نصيب أبي من الأرض التي ورثها عن أبيه، فأنا أريد أرضي؛ لأبني بيتا على جزء منها وأزرع الباقي، وأريد شقيقتي نعمه لأعوّضها عن سنوات الحرمان والبؤس التي عاشتها…أنا بألف خير…بامكانكم سؤال الدّكتور ممدوح عنّي، فهو يعرف كلّ شيء كونه من أنقذني وساعدني؛ لأكون أنا كما أنا عليه، سأعود غدا لأصطحب شقيقتي معي، أنا لم أعتد على أحد…ولم أؤذ أحدا، بل العكس هو الصّحيح، فالآخرون اعتدوا عليّ كثيرا، وأسأل الله أن يسامحهم…لكنّني لن أتنازل عن حقوقي، وإذا ما رفض عمّي ذلك فالقضاء بيننا.
وعده المختار بأنّه سيبذل جهوده لتحقيق طلبه، ويأمل أن ينهي ذلك في أقلّ من أسبوع…استأذن بالانصراف على أمل العودة مساء بعد غد لاصطحاب شقيقته معه، وليسمع جواب عمّه.
ذهب المختار أمين إلى بيت عمران الخرّاط عمّ عارف، حدّثه عمّا رآه وسمعه من عارف…تفاجأ عمران بما سمع…تمنّى أن يكون صحيحا، قال للمختار أمين:
سأذهب غدا إلى المستشفى لأتأكّد من صحّة هذا الكلام…فإن أعجبني الوضع فليأخذ أخته، والأرض مكانها سنفرز له نصيبه.
المختار أمين: سأذهب معك أيضا.
سمعت نعمه كلام المختار أمين عن شقيقها عارف، طارت فرحا. صمّمت هي الأخرى أن تذهب لتعيش مع أخيها، فهي تشتاقه، وما عادت تطيق الحياة في بيت عمّها…صباح اليوم التّالي اعترضت طريق ريتا وهي في طريقها إلى المدينة، توسّلت إليها أن توصلها إلى مكان أخيها عارف حيث يعمل في المستشفى.
من رأى لقاء نعمه وشقيقها عارف بكى حتى لو كان قلبه حجرا…ريتا لم تحتمل الوضع فجلست على الأرض تبكي، هجمت نعمة على عارف تحضنه وهي تقول بلهفة ملتاعة:
أخوي …حبيبي عارف…أنا نعمة، وينك يا خيّي؟
قالتها وسقطت مغشيّا عليها، أسعفها طبيب…أخذتها نوّارة زوجة عارف…اشترت لها ملابس جديدة…عادت بها إلى البيت لترى عبد الرحمن ابن شقيقها عارف الذي يحمل اسم والدها…ضمّته إلى صدرها وهي تبكي فرحا.
في المساء سألت ريتا زوجها الدّكتور ممدوح:
هل تلاحظ أنّ النّساء في قرانا هنّ المنتجات؟ يزرعن…يحصدن يحلبن، يعملن الحليب لبنا وجبنا وسمنا، يحملن ويلدن ويرعين الأبناء والزّوج…يطبخن، يغسلن وينظّفن؟ فلماذا لا يعمل الرّجال؟
الدّكتور: رجالنا سباع!
ريتا: لم أفهم عليك!
الدّكتور: في عالم الأسود ينام الأسد يومه وليله…الّلبؤات هنّ من يصطدن الطّعام…يزأر الأسد ويطردهن مع الأشبال حتّى يأكل ويشبع…فيعود لينام…ورجالنا أسود.
ضحكت ريتا ممّا قاله زوجها…ونادى المنادي من أعلى مئذنة الجامع بأنّ المختار فرج أبو العلّيص قد مات!

جميل السلحوت:
– جميل حسين ابراهيم السلحوت
– مولود في جبل المكبر – القدس بتاريخ 5 حزيران1949 ويقيم فيه.
– حاصل على ليسانس أدب عربي من جامعة بيروت العربية.
– عمل مدرّسا للغة العربية في المدرسة الرشيدية الثانوية في القدس من 1-9-1977 وحتى 28-2-1990
– اعتقل من 19-3-1969 وحتى 20-4-1970وخضع بعدها للأقامة الجبرية لمدة ستة شهور.
– عمل محررا في الصحافة من عام 1974-1998في صحف ومجلات الفجر، الكاتب، الشراع، العودة، مع النّاس، ورئيس تحرير لصحيفة الصّدى الأسبوعية. ورئيس تحرير لمجلة”مع النّاس”.
– عضو مؤسس لإتحاد الكتاب الفلسطينيين، وعضو هيئته الإدارية المنتخب لأكثر من دورة.
– عضو مؤسس لإتحاد الصحفيين الفلسطينيين، وعضو هيئته الإدارية المنتخب لأكثر من دورة.
– – عمل مديرا للعلاقات العامة في محافظة القدس في السّلطة الفلسطينيّة من شباط 1998 وحتى بداية حزيران 2009
– عضو مجلس أمناء لأكثر من مؤسسة ثقافية منها: المسرح الوطني الفلسطيني
– منحته وزارة الثقافة الفلسطينية لقب”شخصية القدس الثقافية للعام 2012.
– أحد المؤسسين الرئيسيين لندوة اليوم السابع الثقافية الأسبوعية الدورية في المسرح الوطني الفلسطيني والمستمرة منذ آذار العام 1991وحتى الآن.
– جرى تكريمه من عشرات المؤسسات منها :وزارة الثقافة، محافظة القدس، جامعة القدس، المسرح الوطني الفلسطيني، ندوة اليوم السابع، جمعيّة الصداقة والأخوّة الفلسطينيّة الجزائرية، نادي جبل المكبر، دار الجندي للنّشر والتّوزيع، مبادرة الشباب في جبل المكبر، ملتقى المثقفين المقدسي، جمعية يوم القدس-عمّان، جامعة عبد القادر الجزائريّ، في مدينة قسنطينة الجزائريّة.
صدرت له الكتب التالية:
– شيء من الصراع الطبقي في الحكاية الفلسطينية .منشورات صلاح الدين – القدس 1978.
– صور من الأدب الشعبي الفلسطيني – مشترك مع د. محمد شحادة منشورات الرواد- القدس1982.
– مضامين اجتماعية في الحكاية الفلسطينية .منشورات دار الكاتب – القدس-1983.
. – القضاء العشائري. منشورات دار الاسوار – عكا 1988
– المخاض – مجموعة قصصية للأطفال .منشورات اتحاد الكتاب الفلسطينيين- القدس.1989.
– حمار الشيخ.منشورات اتحاد الشباب الفلسطيني -رام الله 2000.
– أنا وحماري .منشورات دار التنوير للنشر والترجمة والتوزيع – القدس 2003.
– معاناة الأطفال المقدسيين تحت الاحتلال مشترك مع ايمان مصاروة، منشورات مركز القدس للحقوق الاجتماعية والاقتصادية – القدس آب 2002
– عش الدبابير رواية للفتيات والفتيان ،منشورات دار الهدى – كفر قرع،تموز 2007
الغول – قصة للأطفال منشورات مركز ثقافة الطفل الفلسطيني- رام الله2007
– كلب البراري- مجموعة قصصية للاطفال، منشورات غدير – القدس في اواخر كانون اول .2009
– ظلام النهار-رواية، دار الجندي للنشر والتوزيع- القدس –ايلول 2010
– جنّة الجحيم-رواية – دار الجندي للطباعة والنشر- القدس-حزيران 2011
– هوان النعيم. رواية- دار الجندي للنشر والتوزيع-القدس-كانون ثاني-يناير-2012
– كنت هناك-من أدب الرحلات-منشورات وزارة الثقافة الفلسطينية-رام الله-فلسطين-تشرين أول-اكتوبر-2012
– برد الصيف- رواية- دار الجندي للنشر والتوزيع –القدس- آذار-مارس- 2013
– العسف-رواية- دار الجندي للنشر والتوزيع-القدس-2014
– أميرة- رواية- دار الجندي للنشر والتوزيع القدس 2014

أعدّ وحرر الكتب التسجيلية لندوة اليوم السابع في المسرح الوطني الفلسطيني – الحكواتي سابقا – في القدس:
– يبوس. منشورات المسرح الوطني الفلسطيني – القدس 1997
– ايلياء. منشورات المسرح الوطني الفلسطيني – القدس تموز 1998
– قراءات لنماذج من أدب الأطفال. منشورات المسرح الوطني الفلسطيني – القدس كانون اول 2004
– في أدب الأطفال .منشورات المسرح الوطني الفلسطيني – القدس تموز 2006
– الحصاد الماتع لندوة اليوم السابع. دار الجندي للنشر والتوزيع-القدس كانون ثاني-يناير- 2012
– أدب السّجون. دار الجندي للنشر والتوزيع-القدس-شباط-فبراير-2012
نصف الحاضر وكلّ المستقبل.دار الجندي للنشر والتوزيع-القدس-آذار-مارس-2012
– أبو الفنون. دار الجندي للنشر والتوزيع-القدس نيسان 2012
– حارسة نارنا المقدسة- دار الجندي للنشر والتوزيع-القدس- أيار 2012
– بيارق الكلام لمدينة السلام- دار الجندي للنشر والتوزيع- القدس –حزيران 2012
– من نوافذ الابداع- دار الجندي للنشر والتوزيع-القدس- نيسان 2013
– نور الغسق- دار الجندي للنشر والتوزيع-القدس – نيسان 2013
– مدينة الوديان- دار الجندي للنشر والتوزيع-القدس-2014

التعليقات

جميل السلحوت

جميل حسين ابراهيم السلحوت
مولود في جبل المكبر – القدس بتاريخ 5 حزيران1949 ويقيم فيه.
حاصل على ليسانس أدب عربي من جامعة بيروت العربية.
عمل مدرسا للغة العربية في المدرسة الرشيدية الثانوية في القدس من 1-9-1977 وحتى 28-2-1990

أحدث المقالات

التصنيفات