في بلاد العم سام- من أدب الرحلات

ف

جميل السلحوت

في بلاد العمّ سام
“من أدب الرّحلات”

الاهداء

إلى سبطي الغالي باسل بن لمى ومعتصم
آملا أن يعيش وأبناء جيله طفولتهم بكرامة كبقيّة أطفال العالم
في وطن حرّ سعيد.

منشورات مكتبة كل شيء-حيفا
2016

“البلوز” واستقبال الحفيدة لينا
لم تكن بي رغبة لزيارة أمريكا هذا العام 2015، فالانزلاق الغضروفيّ أسفل ظهري يؤلمني ويرهقني ويعيق حركتي، لكنّ شوقنا اللا محدود لرؤية حفيدتنا لينا بِكر ابننا قيس وزوجته مروة جنّح التّونسيّة العربيّة، دفعنا بقوّة أنا وزوجتي لحضور ولادة هذه الحفيدة، فغادرنا الوطن الذّبيح والقدس الشّريف في 11 أيّارـ مايو ـ 2015 إلى شيكاغو مرورا بمطار Newark في نيوجرسي، لنصل شيكاغو قرابة منتصف الّليل حسب توقيتها، بعد أن أمضينا أربعا وعشرين ساعة في المطارات والأجواء، منها خمس عشرة ساعة طيران.
احتجت حوالي أسبوع حتّى تتأقلم ساعتي “البيولوجيّة” مع توقيت شيكاغو الذي يتقدّم على توقيت القدس بثماني ساعات.
وجدت قيس وزوجته قد أعدّا لنا برنامجا ثقافيّا يحرصان فيه على اسعادنا قدر المستطاع، يتضمّن حضور حفلات مسرحيّة، موسيقيّة، غنائيّة هادفة، وآخر لزيارة متاحف شيكاغو ومعالمها الثّقافية….وقد زرت في سنوات سابقة بصحبة شقيقي داود متحف شيكاغو، والمتحف البحري الذي يحوي مختلف أنواع الأحياء البحرية من أسماك صغيرة مختلفة حتى الحيتان وأسماك القرش. ومع أنّ مروة كانت في أيّام حملها الأخيرة إلّا أنّنا ذهبنا لحضور حفل غناء من أغاني “البلوز” Blues الشّهيرة مساء 17 أيّار 2015، وهي أغاني للحرّية أبدعها السّود الأمريكيّون في جنوب الولايات المتحدة أثناء الحرب الأهليّة الأمريكيّة.
وفي الحيّ الرّاقي شمال مركز شيكاغو Downtown مباشرة، هناك شارع كامل يعجّ بالمطاعم والمسارح التي تقدّم هذه الفنّ، اختار لنا قيس ومروة أقدم مسرح يقدّم هذا الفنّ، فيه قاعتان صغيرتان، لا تتّسعان لمئة شخص، في آخره مطعم صغير يقدّم ساندويشات صغيرة، أو صحنا من الدّجاج المسحوب، والمشوي على طريقة BBQ Wings”، الطّاولات مرتفعة وعرضها لا يزيد عن ثلاثين سنتميتر، حفاظا على التقاليد القديمة.
وصلنا المكان في التّاسعة مساء، مع أنّ الحفل يبدأ في العاشرة على خشبة المسرح، كان شاب أسود يغنّي وخلفه أربعة موسيقيّين، الموسيقى تراثيّة وطربيّة، صوت “المغنّي” ليس كما يجب، وقد نوّه لذلك بقوله بأنّه سيشغل وقت الفراغ حتّى يأتي المطرب المحترف في العاشرة والنّصف، شرع يغنّي قائلا:
زوجتي مجنونة…من منكم له زوجة مجنونة مثلها؟
والعجيب أنّ نساء ورجالا رقصوا وهم يصرخون ويرفعون أيديهم تحيّة له.
في تلك الّليلة توفي في لاس فيجاس أسطورة أغاني البلوز الأمريكي الأسود بي. بي. كينج B.B.King عن عمر يناهز تسعة وثمانين عاما.
ميلاد الحفيدة لينا
صباح يوم الخميس 21 أيّار ـ مايو ـ2015 وفي الخامسة وتسع وأربعين دقيقة حسب توقيت شيكاغو أطلقت لينا ابنة قيس ومروة صرختها الأولى معلنة قدومها إلى هذه الحياة. ولدت في مستشفى Hinsdale Hospital وهو مستشفى يقع وسط أشجار كثيفة ومتقدّم بطريقة لافتة…له حديقة جميلة فيها نوافير عجيبة، في الغرفة التي توضع فيها الوالدة يدخل الزّائر، فيجد أمامه متّسعا بعرض يزيد قليلا عن المتر، خلفه حاجز، في آخره سخّان كهربائيّ لتحضير القهوة والشّاي، وبجانبه ثلاجة فيها عصائر مختلفة…بجانب سرير الوالدة هناك كنبات مريحة، احداها تفتح لتشكّل سريرا ينام عليه المرافق إن وجد. طبيبات من تخصّصات مختلفة زرن الوالدة للاطمئنان عليها، والمولودة لفحصها…زارتها طبيبات: قلب، عيون، أمراض داخلية، مفاصل، سمع. وغيرها.
لينا الطفل الوحيد الذي احتضنته في حياتي وهو ابن ساعات، غمرتني بالسّعادة التي ملأت قلبي ووجداني.
وكما يبدو فإنّ المستشفيات الأمريكيّة على مستويات مختلفة، تماما مثلما هو التّأمين الصّحي أيضا، والتأمين الصّحّي لقيس ومروة مع شركة من أضخم شركات التّأمين الصّحّيّ في أمريكا، ومع ذلك، فهي لا تغطّي سوى 90% من التّكلفة، وهذا يعني دفع 4500 دولار بعد التّأمين لتغطية تكاليف الولادة.

أمور لا تصدّق
ومن غرائب هذا المستشفى أنّ ممرّضة جاءت تشرح لمروة أنّهم احتفظوا لها بالمشيمة كي تطبخها وتأكلها لفوائدها العظيمة! وقبل أن تشرح عن كيفية طبخها، أخبرتها مروة أنّها لا تريد ذلك، فقالت:
إذن خذوها لتبيعوها فهي غالية الثّمن! وسنعطيكم عناوين تشتريها!
فضحكنا من العرض وقالت مروة:
خذيها أنت لتأكليها أو تبيعينها.

تصوير وخمسة وخميسة
في أمريكا متخصّصون لتصوير الأطفال في أسبوعهم الأوّل، والسّيّدة المختصّة بتصوير الأطفال تبدي سعادتها بالأطفال العرب كون عيونهم واسعة ويفتحونها، كما يوجد على رؤوسهم شَعَر –حسب رأيها- وهي تمضي ساعات في تصوير لينا عبّرت عن سعادتها الأموميّة بلينا، في حين كانت مروة والدة لينا تردّد باللغة العربيّة “خمسة وخميسة” وفهمت لاحقا منها أنّها تعويذة تردّدها النّساء في تونس؛ لطرد العيون الحاسدة عن الأطفال، فضحكنا كما لم نضحك من قبل، وبقيت أردّد خمسة وخميسة من باب المزاح، وتذكّرت والدتي وهي ترقي أحفادها ومنهم قيس والد لينا، حيث كانت تملأ قبضتها ملحا، تحوم بها حول الطّفل وهي تردّد:
حوّطتك بالله من عيني وعيون خلق الله
من دار لك باله يِشْغل حاله في باله
كرشته غطا عينيه مانيش أقدر من ربّي عليه.
غير أنّ الفرق بين رقية “كنّتي” مروة، ورقية والدتي، أن أمّي كانت ترقي الذّكور ولا ترقي الاناث، لايمانها بأن لا أحد يحسد الاناث.
25 حزيران 2015

مكتبة حفيدتي لينا
لحفيدتي الرّائعة لينا المولودة في شيكاغو صباح 21 أيار – مايو- 2015 مكتبة بيتيّة، ليس بفضل والديها، ولا بفضل جدّيها لأبيها الّلذين يزعمان بأنّهما كاتبان، ولكن بفضل عمل والدتها، فزميلات والدتها التي تعمل في برمجة الحاسوب، اخترن هديّة لزميلتهنّ والدة لينا بمناسبة ولادتها للينا مجموعة من كتب الأطفال في سنّ مبكّرة، أيّ من أوّل يوم لولادة الطفل حتّى الاحتفال بدخوله العام الثّاني من عمره أو يزيد، وهذا يعني أنّ ثقافة اهداء الكتب سائدة، ولم تكتف زميلات مروة – وهنّ أمّهات أيضا بتقديم الهديّة فقط- بل شرحن لها أن تقرأ بهدوء لابنتها يوميّا، فالأطفال يسمعون ويفهمون حتّى وهم أجنّة في أرحام أمّهاتهم. وأوصينها أن تحتفظ بالكتب؛ حتى تكبر لينا وتنظر الرّسومات المرافقة لكتب الأطفال التي سمعتها وهي في المهد! وهذه الكتب الأنيقة مطبوعة على ورق مقوّى كما الكرتون، ويصاحبها رسومات جميلة مفروزة الألوان.
وتبيّن لي أنّ قيس ومروة كانا يُسمعان لينا قطعة موسيقيّة كلاسيكيّة هادئة وهي جنين في رحم أمّها، وبعد أن خرجت إلى الحياة الدّنيا كانت تصغي لتلك القطعة الموسيقيّة، بهدوء وبنظرات ثابتة لمصدر الموسيقى، حاولنا تغيير الموسيقى بغيرها ضمن تذاكي الكبار على الصّغار، فلم تتقبّل ذلك باكية…كرّرنا ذلك مرارا لنرى ردّات فعل لينا هل كانت عفويّة أم مقصودة؟…وأصبحنا على قناعة بأنّها مقصودة.
لا أخفي عليكم أنّني ذهلت ممّا سمعت ورأيت بهذا الخصوص، فلم أكن أعلم أنّ على الآباء أن يقرّأوا لأطفالهم منذ الأيّام الأولى لولادتهم، فأنا شخصيّا وأزعم أنّني حرصت على تنمية ثقافة المطالعة عند أبنائي منذ كانوا أطفالا، فكنت أقرأ لكلّ منهم ـ وأوّلهم ابني البكر قيس والد لينا ـ عندما يبلغون الثّالثة من أعمارهم، وأشعر بالرّضا عن نفسي، بل كنت ولا أزال أفاخر بذلك، لأنّ سنّ الثالثة مبكّر لا يعرف فيه الأطفال الأبجدية ولا يتعلّمونها. وأذكر أنّني كتبت وقرأت واستمعت وحاضرت حول “كيفيّة نشر ثقافة المطالعة في بلداننا نحن العربان” لكن هذه هي المرّة الأولى التي أسمع فيها أنّ تنمية ثقافة الطفل حول المطالعة تبدأ من ساعة ولادته، فشكرا للينا “حبيبة جدّها” التي علّمت جدّها لأبيها شيئا لم يكن يعلمه أو يعرفه…وسأردّ لها هذا الجميل في العام القادم، عندما سأزورها ومعي مجموعة كتب للأطفال بالّلغة العربيّة هديّة لها…وسأقرأ لها هذه الكتب بلسان عربيّ مبين…وأتمنى أن يطول بي العمر لأفي بوعدي للينا.
وأعتذر لحفيديّ الحبيبين كنان وبنان ابني ابنتي الغالية أمينة لجهلى بمعلومة القراءة للأطفال منذ ولادتهم، ولو كنت أعرفها لفعلتها معهما.
4 تمّوز 2014
يوم مولدي في شيكاغو
ولدتُ في 5 حزيران 1949 كما هو مسجّل في شهادة ميلادي، وهذا التّاريخ أصبح يشكّل مأساة في تاريخ شعبي وأمّتي ووطني الذّبيح، ففي نفس اليوم والشّهر من العام 1967 شنّت اسرائيل حربها العدوانيّة، فانهزم النّظام العربيّ الرسميّ، واحتلّت اسرائيل ما تبقىّ من فلسطين التّاريخيّة، وهو ما يعرف بالضّفّة الغربيّة بجوهرتها القدس، وقطاع غزّة، كما احتلّت سيناء المصريّة والجولان السّوريّة، وبما أنّني أنحدر من أصول بدويّة “عرب السّواحرة” فإنّ الاحتفال بذكرى ميلاد الأشخاص لم يكن ثقافة معروفة عند الغالبيّة العظمى من أبناء جيلي، ومن يكبرونني أو يصغرونني قليلا في العمر من أبناء قريتي، لذا فإنّني لم أعط هذه المناسبة أيّ اهتمام، أو بالأحرى لم أجد من يحتفل أو يتذكّر يوم مولدي، بمن في ذلك والدي ـ رحمه الله ـ وأمّي ـ أطال الله بقاءها ـ ففاقد الشّيء لا يعطيه.
لمّا اندلعت حرب 5 حزيران 1967 وهو يوم الذّكرى الثّامنة عشرة لميلادي، كنت طالبا على مقاعد امتحان التوجيهي في قاعة المدرسة العمريّة المحاذية للمسجد الأقصى من الجهة الشماليّة في القدس القديمة، وبقي علينا اختباران وقتئذ وهما التّاريخ والفلسفة، لكنّ تلك الحرب جعلتني أتذكّر ذلك اليوم بشكل دائم، ليس لأنّه ذكرى ميلادي، بل لأنّ نكبة شعبي وأمّتي الثّانية وقعت في مثل ذلك التّاريخ…ومع ذلك فإنّني لم أفكّر يوما بالاحتفال بيوم مولدي، فكيف أحتفل بيوم بتاريخه اغتصبت القدس الشّريف عروس المدائن، وجنّة السّماوات والأرض بلا منازع؟ صحيح أن لا علاقة لي أو للأيّام بالهزيمة، فهي خطيئة يتحمّلها النّظام العربيّ الرّسميّ، لكن هذا اليوم يشكّل عليّ وعلى أبناء شعبي وأمّتي لعنة تاريخيّة لا فرح فيها.
في مثل هذا اليوم من العام 2015، كنت في بيت شقيقي داود في “بريدج فيو” في شيكاغو، لم يخطر ببالي ولو للحظة واحدة أنّ هذا اليوم ذكرى مولدي، جاءني الابن الحبيب قيس مساء، سألني بأدب جمّ إن كنت أرغب بمرافقته، فوافقت…قبل أن نصل بيته ببضع دقائق، اتّصل بزوجته طالبا منها أن تكون جاهزة هي وأمّ قيس، فسألته:
إلى أين المسير؟
أجابني بأنّنا سنتناول عشاءنا في أحد المطاعم.
اعتبرت الأمر عاديّا…لكنّ زوجتي قالت بأنّ قيس وزوجته قد أعدّا هذا المساء مفاجأة سارّة لي بمناسبة “ذكرى مولدي” فضحكت دهشة من هكذا مفاجأة! مع أنّني سعدت لاهتمام قيس وزوجته الزّائد بي وبوالدة قيس، وحرصهما على اسعادنا، وفاجأتني مروة بطقم عطور فاخر.
اختار قيس لنا مطعما أرجنتينيّا، يتم الحجز فيه مسبقا لكثرة روّاده، ويتميّز بأنّه يضاء بالشّموع والهدوء، وتجري فيه مناسبات احتفاليّة…ويشتهر بأنّه يعدّ طعامه على نار هادئة، والمطاعم الأرجنتينيّة في أمريكا من أشهر المطاعم التي تقدّم لحوم البقر، لأنّ البقر جزء مهمّ من الاقتصاد الأرجنتينيّ، على رأس الطّاولة كانت حفيدتي الرّائعة لينا ابنة الأسبوعين، ترقد في مخدعها بهدوء تام على ظهر مقعد مخصّص لذلك، لم تستيقظ من نومها إلّا بعد أن عدنا إلى البيت، فهل قصدت أن توفّر لنا أجواء رومانسيّة؟ على الأقلّ هذا ما تخيّلته!
على الطّاولة خلفنا كانت ستّ نساء يحتفلن بعيد ميلاد احداهنّ، غنّين لها صحبة نوادل المطعم Happy Birthday to you ضحكن وأطفأن الشّموع بصخب بائن…سأل قيس ضاحكا:
ما رأيك أن نطلب من النّادل أن يأتي بالشّموع لنغنّي لك بنفس الطّريقة؟
فأجبته بالنّفي وهدّدت بالخروج من المطعم إن فعلها.
المطعم يقدّم طعامه لكلّ شخص بأواني نحاسيّة شكلها يشبه كانون النّار في بلادنا…الطّعام لذيذ ولا يمكن تذوّقه إلّا في المطاعم أو البيوت الأرجنتينيّة، فلكلّ شعب عاداته وأطباق طعامه الخاصّة.
26 حزيران 2015

عزومة أمريكيّة
في جامعة دومينكان الأمريكيّة التي تعلّم فيها قيس الاقتصاد والتّجارة الدّوليّة، كان البروفيسور جالابريسي Calabrese الذي ينحدر من أصول ايطاليّة ريفيّة، أحد أساتذته، حيث درّسة مادّة ” ثقافات الشّعوب” لأنّ من يدرس الاقتصاد عليه أن يتعلّم ثقافات الشّعوب، ليعرف كيف يتعامل معهم عندما يدخل مجالات العمل، وقد أعطى هذا الرّجل رعاية خاصّة لقيس، وهو من وجّهه لدراسة الاقتصاد أثناء دراسته السّنة التحضيريّة الأولى في الجامعة، وهو من وجّهه أيضا في سنته الثّالثة لاختيار الموادّ التي تؤهله للتّخرج بشهادتي بكالوريوس “اقتصاد وتجارة دوليّة” وارتبط بصداقة مع قيس الذي لا يزال يحمل جميله، ولا ينسى فضله عليه، وقد أعجب هذا البروفيسور بأخلاق قيس واجتهاده، وهذه واحدة من الأسباب التي دفعته لدعوتنا أنا وزوجتي عام 2002، لتناول طعام الغداء معه في أحد مطاعم شيكاغو، ووجّه لنا عدة أسئلة عن كيفية تربيتنا لقيس.
وهذا الرّجل أيضا دائم التّواصل مع قيس، كان سعيدا بأنّ قيس أصبح أبا، واتّصل بقيس ليأتي للتّهنئة بميلاد لينا ابنة قيس، ولما علم بوجودنا أنا وأمّ قيس قرّر أن يدعونا لغداء وللاحتفال بلينا في بيته، وكان ذلك يوم الأحد 6 حزيران 2015، حيث لبّينا دعوته في بيته الرّيفيّ في قرية تدعى ” Sugar Grove” وهي واحدة من ضواحي شيكاغو…والرّجل المولود عام 1942 منفصل عن زوجته ويعيش وحيدا في بيت واسع جميل، في هذه القرية التي تحيط الورود شوارعها وبيوتها التي تختبئ خلف الأشجار، وجدناه قد دعا رجلا وامرأة من جيرانه لتعريفنا عليهم، وليشاركوا في استقبالنا.
الرّجل اسمه جيمس James، في بداية السّبعينات من عمره، تقاعد من عمله في قسم المحاسبة في احدى الشّركات، ويقضي أيّامه يدرس للحصول على شهادات البكالوريوس التي يحبّها، وحتّى تاريخه كان قد حصل على ثلاث عشرة شهادة بكالوريوس.
المرأة أستاذة جامعيّة متقاعدة في الثمانينات من عمرها، لها خمسة من الأبناء والبنات، متزوّجون وهي تعيش وحدها، بعد تقاعدها احترفت الرّسم والنّحت، وتشارك في “غالري” لعرض فنونها مرّة كلّ شهرين. حزنتُ على متقاعدينا الذين في غالبيّتهم لا يعملون شيئا سوى انتظار حتفهم.
كانوا ثلاثتهم سعداء بقدومنا، فرحوا كثيرا بالحفيدة لينا، ضحكوا لها وداعبوا وجهها بأصابعهم.
في استقبالنا كلب
من غرفة داخليّة كان كلب يصدر أصواتا خفيفة ناعمة…واذا بصاحب البيت يستأذن قائلا:
الكلب يريد أن يرحّب بكم…ويقول لكم: مرحبا Hello!
لم يكن لدينا خيار الرّفض…ذهب الرّجل وأتى بالكلب الذي ألقى نظرة سريعة على لينا في مخدعها دون أن يلمسها…دار على الموجودين باستثنائي أنا وزوجتي فقد علم من صاحبه أنّنا لا نطيق الكلاب، يضع قائمتيه الأماميّتين على ركبتي الشّخص فاتحا فمه لاهثا…يتحسّس الشّخص رأس الكلب مداعبا…وينتقل إلى الذي يليه. عاد الكلب بعدها إلى غرفته، ولم نعد نسمع “نويصه”.
“الوليمة”
طبخ الرّجل لنا بيديه طنجرة “معكرونة” وبجانبها وعاء سلطة اسمها Coleslaw مكوّنة من “ملفوف، جزر، مايونيز، خردل، فلفل أحمر غير حارّ، قشطة وبهارات” على طاولة السّفرة أسماء المدعوّين مكتوبة؛ ليعرف كلّ منهم أين يجلس…مكاني كان على رأس الطّاولة، يقابلني صاحب البيت، على يساري زوجتي، وعلى يسارها قيس وزوجته، والضّيف والضّيفة على يميني.
الملاعق والشّوَك والسّكاكين من الفضّة، الصّحون من الكريستال، شرشف الطّاولة والمناديل لكلّ واحد من الحرير، وكلّها تحمل نفس الرّسومات. أواني الفضّة والذّهب تقدّم للضّيوف فقط. حمل كلّ منّا صحنه؛ ليأخذ الكمّيّة التي يريدها، وأنا في عداء تاريخيّ مع المعكرونة التي لا أستطيع تناولها مهما كانت الظّروف، ويبدو أنّني مشبع منها من كثرة ما أكلت في طفولتي المعكرونة العربيّة “الرّشتاية”. وضعت في صحني قليلا من السّلطة، وبعض حبّات زيتون، وقطعتي خبز.
المفاجأة
كانت المفاجأة في احترام التّقاليد، فلم يكن اختياري للجلوس على رأس الطاولة عفويّا…بل لاختيار واحد من أمرين قبل تناول الطّعام وهما:
الصّلاة والدّعوات أو القاء كلمة، فاخترت الثّانية لأعبّر عن شكري لصاحب البيت. وأنا أستذكر دعاء الضّيف للمضيف في تراثنا الاسلاميّ ومنه:” أكل طعامهم الأبرار، وصلّت عليهم الملائكة الأخيار، اللهم بارك لهم في أموالهم وأولادهم، كثر اللهمّ خيرهم، اللهمّ اطعم من أطعمنا واسق من سقانا. اللهمّ آمين.”
“كنّتي” مروة لم تشاركنا الطّعام لأنّ ابنتها لينا بدأت تبكي، فاعتنت بابنتها، وبعد أن أنهينا طعامنا تناولتْ قليلا من المعكرونة احتراما للعادات الأمريكيّة وأصول الضّيافة.
26 حزيران 2015
الذّبح الحلال في أمريكا
يشترك شقيقاي داود وراتب مع بشير موسى الشّرايعة “أبو بشّار” من عرب التّعامرة، وشخص باكستانيّ اسمه يوسف خان في مسلخ اسلاميّ في ولاية انديانا الأمريكيّة المجاورة لمدينة شيكاغو في ولاية إلينوي، وهذه الولاية لا جمارك فيها، لتسهيل الهجرة والاستثمار والسّكن فيها، يقع المسلخ في منطقة زراعيّة مفتوحة، فيه بركسات لحفظ الحيوانات فيها، وفيه بناء يحوي مكاتب وأماكن للذّبح والسّلخ، ثلّاجة ضخمة لحفظ الّلحوم، وهي مقامة ومصمّمة حسب مواصفات وزارة الصّحة الأمريكيّة، ومكاتب إداريّة، وأمامه براميل من معدن لا يصدأ توضع فيه جلود ورؤوس وأمعاء ومعدات ورئات الحيوانات التي تذبح، لتأتي سيّارات خاصّة تحملها وتلقي بها في مكبّ نفايات خاصّ، لأنّ الأمريكيّين لا يأكلونها.
الذّبح في المسلخ لا يتمّ إلا بوجود طبيب بيطريّ موظّف في وزارة الصّحة الأمريكيّة، يفحص الحيوان المراد ذبحه وهو حيّ، يفحصه بعد السّلخ، يراقبه أثناء الذّبح، ويجب على الجزّار المسلم أن يكون متدرّبا ومتمرّسا على ذبح الأنعام، ويمنع عليه أن يحزّ رقبة الحيوان أكثر من مرّة واحدة، لذا ففي المسلخ سكاكين حادّة جدّا وبأحجام مختلفة، وبالنّسبة لذبح الأبقار فهناك مسدّس خاصّ، له رصاص خاصّ، يطلق منه رصاصة على جبين العجل المراد ذبحه، والذي يكون محشورا بين قواطع حديديّة، فيصاب بالدّوّار دون أن تجرحه، لكنّها تعيق قواه للحظات يتمّ ذبحه فيها. ومن يخالف شروط الذّبح فعقابه غرامة ماليّة عالية، قد تصل إلى سحب ترخيص المسلخ، ومنعه من ممارسة عمله. اقشعرّ بدني عندما تذكّرت ما بثّته إحدى القنوات التّلفزيونيّة عن ذبح البقر في إحدى الدّول العربيّة الشقيقة، حيث كان الجزّارون يحشرون الأبقار المراد ذبحها في مكان محاط بالحديد، وينهالون عليها ضربا بالنّبابيت والمواسير الحديديّة حتى تنهار قواها وتسقط فيذبحونها.
الأنعام في أمريكا رخيصة الثّمن قياسا ببلادنا، فالأمريكيّون لا يأكلون لحوم الضّأن والماعز، ومن يربّونها منهم في مزارعهم الشّاسعة التي يربّون فيها الأبقار، فإنّها تكون للزّينة فقط، ويشتريها مهاجرون من الشّرق الأوسط ، أذكر أنّ أمريكيا أعلن عن وجود خمسة وعشرين خروفا عنده تتراوح أوزانها بين 30 و 50 باوندا، ووضع رقم هاتفه، اتصل به أخي داود واشتراها جميعها منه بألف ومئتي دولار. وهناك مزارعون يرتادون المسلخ ومعهم بضع عشرات من الماشية يبيعونها بدون وزن، وبسعر رخيص. ذات يوم جاء مزارع بأربعة ظباء يزن الواحد منها أكثر من ثلاثين باوندا، طلب مئة دولار ثمنا لها جميعها، فاشتراها منه أخي دواد، وفي نفس اليوم جاء مزارع آخر معه حيوان “الّلاما” فيه لحم صاف يزيد على المئة كيلوغرام، عرضه للبيع بمئة وعشرين دولارا…لم يبتعه داود منه؛ لأنّ ثلاجة البيت لا متّسع فيها.
هناك تجّار للماشية، عندهم القدرة لتلبية مطالب زبائنهم من مسالخ وملاحم وغيرها بأعداد الماشية التي يريدونها ولو كانت بالآلاف. وهم يبيعونها بالوزن حيّة بسعر دولار وعشرة سنتات للباوند الواحد.
أمّا الأبقار فيترواح سعر الواحدة منها بين المائتين والأربعماية دولار. ومعروف أنّه لا يوجد تسمين للماشية في أمريكا، فالماشية تعيش على الأعشاب الخضراء المتوفّرة على مدار العام، وفي المناطق التي تتساقط فيها الثّلوج شتاء، يطعم المزارعون ماشيتهم أعشابا يابسة، تتراوح بين البرسيم وقشّ الحبوب.
الصّيّادون
في أمريكا مواسم للصّيد، تحدّد فيها أماكن الصّيد ضمن مواصفات تضعها الجهات المسؤولة بناء على دراسات، وهناك من يهوون الصّيد، ومن الصّيّادين في تلك المنطقة من يأتون لسلخ وتقطيع صيدهم في المسلخ، ويتقاضى المسلخ 70 دولارا على كلّ غزال.
في المحميّات التي يسمح الصّيد فيها حرّاس قنّاصون، بامكان من لا يجيد الصّيد أن يستعين بأحدهم…يقلّه معه في السّيارة، يمرّان بقطعان الغزلان، يشير الزّبون إلى الظّبي الذي يريده، فيقنصه الصّياد بخرطوشته المزوّدة بناظور برصاصة واحدة.
عادات غريبة
الشعوذة وقراءة الطّالع
يبدو أنّ الشّعوذة والهبل والاستهبال موجودة عند كلّ شعوب الأرض، ولها سوقها الرّائجة، وإن اختلفت الأساليب حسب اختلاف الثّقافات، ففي شيكاغو يملك أخي راتب “مزرعة طيور” تبيع الدّجاج، الدّيك الرّومي، طائر الفرّ والشّنّار، الحمام، والأرانب، وهناك من يأتي لشراء حمامة سوداء اللون، أو بيضاء، يكسر رقبتها ليقتلها ويحملها في كيس، وجاء أحدهم يطلب ديك دجاج سمين، طلب ذبحه وقال أنّه لا يريد منه سوى الرّجلين، وتبيّن أنّهم يأخذون هذه الطّيور لقارئي الطّالع والمشعوذين الذين يمارسون طقوسهم في مكاتب تضع لافتات عليها للتّعريف بها. وبعد الالحاح منّي بالسّؤال عن هذه الظّاهرة تبيّن أنّ القانون الأمريكيّ يسمح بممارستها، شريطة أن يسجّل من يمارسها عند السّلطات المختصّة ليدفع الضّرائب، وخوفا من النّصب والاحتيال! وكأنّ هذه المهنة ليست نصبا واحتيالا!
عيادات ومستشفيات للحيوانات
شاهدت ومن خلال اللافتات عشرات العيادات الطّبّيّة والمستشفيات الخاصّة بالحيوانات، وهي تعطي شهادات التّطعيم للكلاب وغيرها من الحيوانات البيتيّة، وهناك شركات “برمجة حاسوب” تتعاقد مع المستشفيات والعيادات البيطريّة، فترسل رسائل ألكترونيّة لأصحاب الحيوانات لتذكيرهم بموعد تطعيم الحيوان الذي يقتنونه.

المثليّة الجنسيّة
ذهبنا أنا وزوجتي صحبة ابني قيس وزوجته وابنته الرّائعة لينا لنتناول طعام الافطار الرّمضانيّ في مطعم تركيّ في منطقة Lake view، المطعم ليس كبيرا وباذخا كغالبيّة المطاعم في أمريكا، مع أنّه يقع في أحد أحياء شيكاغو الأكثر رقيّا، وقريب من مركز المدينة. تناولنا طعامنا ودخلنا في شارع مجاور في طريقنا إلى Down town، مركز المدينة لنتجول فيه قليلا قبل عودتنا بالسّيّارة إلى البيت، كانت أصوات متظاهرين وأعلام تحمل ألوان قوس قزح مرفوعة بجانب العلم الأمريكيّ، بعض المحلّات تضع لافتات على واجهاتها تعلن فيه عن حسومات بنسبة تتراوح 10% و 30% احتفاء بقرار محكمة العدل العليا الأمريكيّة القاضي باقرار زواج المثليّين في الولايات المتّحدة الأمريكيّة. فأسرعنا هاربين من الشّارع.

أكْلُ الجلود
ممّن يتردّدون على المسلخ أيّام السّبت والأحد مسلمون من الصّومال، اثيوبيا ونيجيريا، يشترطون أن تكون ذبيحتهم كبيرة في السّن، لأنّ الماشية صغيرة السّن لا تصلح للأكل، وطعم لحومها غير لذيذ – حسب رأيهم-! وما أن يذبح الجزّار لهم ذبيحتهم حتى يقومون بشقّ بطنها، واستخراج ما فيه، فيقوم بعضهم بتنظيفه، ويقوم الآخرون بحرق الصّوف أو الشّعر عن الجلد وفركه، ثمّ يطلبون من الجزّار تقطيع الذّبيحة على المناشير الكهربائيّة قطعا كبيرة. فيقطعون الشّاة أو الماعز أربع قطع فقط، كلّ نصف قطعتين. في حين يقطعون البقرة قطعا كبيرة لا تقل الواحدة منها عن أربعة كيلو جرام.
حاولنا أن نشرح لهم عن سلخ الجلود ـ ظنّا منّا أنّهم لا يعرفونها ـ لكنّهم أكّدوا أن جلد الذّبيحة يعطي لحمها مذاقا لذيذا لايعرفه من لا يتذوّقها، وأوضحوا لنا أنّهم يطبخون القطع الكبيرة كما هي! ذكّرني أخي داود ببلادنا حيث يوجد من يطبخون رؤوس الأغنام وأرجلها ويأكلونها، وهي مغطّاة بالجلد أيضا.
فاكهة الطّيور
كنت وشقيقي داود في منطقة ريفيّة في ولاية انديانا، فلفت انتباهنا لافتة على مدخل شارع فرعي مكتوب عليها:” عسل طبيعيّ للبيع”، دخلنا الشّارع حتى وصلنا بيت شيخ أمريكيّ، يجلس هو وزوجته أمام البيت، أخبرناه أنّنا نريد شراء العسل، فاصطحبنا إلى مخزن ـ يبعد عن بيته حوالي خمسين مترا ـ مليء بالبراميل الخاصّة بحفظ العسل ـ كما هو مكتوب عليها ـ وكلّ برميل منها له غطاء محكم، في أسفله صنبور ينزل منه العسل، في زاوية البيت أوان بلاستيكيّة تتراوح سعتها بين الباوند والخمسة باوندات ـ الباوند يساوي 450 غراما ـ والّلافت وجود آلة تغلق الوعاء وتختمه.
لفت انتباهي وجود شجرتي تفّاح ومثلهما درّاق، تقعان بين البيت والمخزن، تتدلّى ثمارها كبيرة الحجم النّاضجة، والطّيور تعشّش وتغرّد على هذه الأشجار، استأذنت الرّجل بقطف حبّتي درّاق عن الشّجرة، فقال:
بامكانك أن تقطف ما تشاء، لكن إيّاك أن تأكلها، فهذه مخصّصة للطّيور وليست للبشر! واذا ما أردت أن تأكل الدّرّاق فبامكانك شراؤه من السّوق، أو تلك بيّارتي وأشار إلى بيّارة تبعد عن بيته حوالي 500 متر ففيها درّاق للاستهلاك البشريّ، وما بين البيت والبيّارة أرض مزروعة بالذّرة البيضاء تعود لنفس الرّجل. عندما ابتعدنا قليلا سألت شقيقي داود عن الأشجار المخصّصة للطّيور والأخرى المخصّصة للبشر فأجابني:
هذه عادات ناتجة عن ترف العيش…أكلنا حبّتي الدّرّاق، فكانتا لذيذتين ورائحتهما فوّاحة تفتح الشّهيّة.
في حيّ”أون لون” في شيكاغو كنّا نجلس على شرفة بيت السّيد عفيف محمود مصطفى، وهو لاجئ من قرية دير ياسين الشّهيرة، وصديق لأخي داود، وأمام بيت جاره الذي ينحدر من أصول بولنديّة شجرتا إجاص ثمارها ناضجة، وملأى بالطّيور، فأخبرنا عفيف أنّهم لا يقطفون ثمارها لأنّها مخصّصة للزّينة وللطّيور!

في هيوستن عند ابن العمّ والحضارة
وصلنا أنا وزوجتي مدينة شيكاغو الأمريكيّة منتصف ليلة ١٢ أيّار ٢٠١٥، لزيارة ابننا قيس، وأشقّائي داود، راتب وفاطمة، وتميم ابن شقيقي المرحوم عمر، وحمزة علي يوسف دخيل ابن شقيقتي يسرى، صباح اليوم التّالي هاتفني ابن العمّ محمّد موسى السّلحوت، مسستفسرا عن أحوال الأهل والأقارب بشكل خاصّ، وأخبار قريتنا ومدينتنا القدس ووطننا فلسطين بشكل عامّ، وأصرّ كما هي عادته أن نزوره في مكان إقامته في مدينة هيوستن في ولاية تكساس الأمريكيّة، فاعتذرنا له لأنّ مروة زوجة ابني قيس كانت على وشك أن تضع مولودتهما البكر، فقبل عذرنا مؤقّتا، وصباح يوم ٢١ أيّار أنجبت مروة الحفيدة لينا، التي كانت فرحتنا بها كبيرة. وبعد أقلّ من أسبوع اتصل بنا ابن العمّ محمّد موسى السلحوت، ليضعنا أمام الأمر الواقع عندما قال:
“لقد حجزت لكم تذكرتين لزيارتي ما بين ١١ و١٩ حزيران.
شكرته على ذلك وانتظرنا الموعد، وابن عمّي هذا أنهى الثّانوية العامّة في العام الدراسيّ ١٩٦١ـ١٩٦٢، وتعاقد للعمل كمدرّس في السّعوديّة، وبينما كان يستعد للعودة إلى أرض الوطن في العطلة المدرسيّة الصّيفيّة عام ١٩٦٧، اندلعت حرب حزيران ١٩٦٧، ووقع ما تبقى من فلسطين” الضّفة الغربيّة بجوهرتها القدس، قطاع غزّة، صحراء سيناء المصريّة، ومرتفعات الجولان السّوريّة” تحت الاحتلال. فترك أبن عمّي السّعوديّة وسافر إلى الولايات المتّحدة الأمريكية، ليلتحق بجامعة هيوستن ويدرس الهندسة الكهربائيّة، في الجامعة تعرّف على جويس التي كانت تدرس علم الاجتماع، وتزوّجا، وعملا ونجحا نجاحا لافتا، وجويس تنحدرأصولها من الرّيف الايطاليّ، وعاداتها قريبة أو تتماثل مع العادات العربيّة، فهي امرأة محافظة كريمة معطاءة تهتمّ بتثقيف نفسها، أمّا ابن عمّي والذي يعتبر واحدا من أعيان الجالية الفلسطينيّة والعربيّة في هيوستن، فإنّه مستوعب للثّقافة الأمريكيّة، ومنخرط في الحياة الأمريكيّة، لكنّه في الوقت نفسه لم يتخلّ عن العادات والتّقاليد العربيّة، فمع الأمريكان هو أمريكي حتّى النّخاع، ومع العرب هو عربيّ حتّى البداوة، تماما مثلما هي زوجته أيضا مستوعبة إلى حدّ كبير للثّقافة والعادات العربيّة، وكلاهما متعاطفان مع القضايا العربيّة وخصوصا القضيّة الفلسطينيّة إلى أبعد الحدود.
ابن عمّي محمّد موسى ابراهيم السلحوت وزوجته الأمريكيّة جويس، يسكنان في أرقى أحياء هيوستن south side place في بيت واسع أنيق تتوسّط مدخله حديقة صغيرة جميلة في وسطها نافورة ماء، وفي جزئه الخلفيّ الشّيء نفسه، وهذا الحيّ الرّاقي والهادئ يقع قريبا منه مركز هيوستن الطبّي ـ أكبر مركز طبّي في العالم، وفيه جامعة هيوستن أيضا. وفيه أيضا حيّ سكنيّ راق، فيه أكثر من ٤٠٠ شقّة سكنيّة، وهذا الحيّ كما بقيّة الأحياء الأمريكيّة الرّاقية، منظّم بطريقة لافتة، فطرقاته تحيط بها الورود وأشجار الزّينة، والأشجار الحرجيّة المعمّرة، وفيه بركتا ماء تتوسطها نافورتان، وفيه بركة سباحة، وناد رياضيّ، ويقوم شباب فلسطينيّون باستئجارعدد من الشّقق فيه، يؤثّثونها، ويقومون بتأجيرها لعرب يرتادون مركز هيوستن الطّبّيّ للعلاج، وهم في غالبيّتهم من دول البترول العربيّ، فيسكنونها هم وأسرهم التي ترافقهم، والّذي يتجوّل في طرقات هذا الحيّ سيلتقي وسيرى العشرات منهم، رجالا ونساء محجبات أو منقّبات وأطفالا يتريّضون في الحيّ، ويتمتّعون بجمال الطّبيعة فيه.
ابن عمّي وزوجته، حريصان على اكرامنا وتكريمنا بطيبة زائدة، وبديا لي وكأنّهما في سباق لتكريمنا، بحيث أنّهما يصطحباننا يوميّا للافطار في مطعم والعشاء في مطعم آخر، من أرقى مطاعم هيوستن، ولا يدخلاننا المطعم الواحد مرّتين، وهما معنيّان بتعريفنا على مختلف الأطعمة لدى شعوب مختلفة. كما أنّهما متّفقان على برنامج سياحيّ لزيارتنا، لنرى أكثر شيء يمكن لزائر أن يراه في هذه المدينة الضّخمة، التي يبلغ عدد سكانها خمسة ونصف مليون نسمة، ويبلغ عدد سكان ضواحيها حوالي ستّة ملايين شخص.

وكالة ناسا أكبر مركز للعلماء
هذا اليوم الجمعة ١٢ـ ٦ـ ٢٠١٥ هو اليوم الثّاني لزيارتي أنا وزوجتي مدينة هيوستن الأمريكيّة، في ضيافة ابن عمّي محمّد موسى السلحوت الذي رافقني وزوجتي هذا اليوم إلى مقرّ وكالة ناسا الأمريكيّة، وهذا المقرّ عبارة عن مدينة علميّة مختصّة بعلوم الفضاء، يبلغ عدد العاملين فيها ثلاثة عشر ألفا وماية شخص، والدّخول إليها بتذكرة ثمنها ٢٧ دولارا أمريكيّا. على يمين مدخلها تربض مركبة الفضاء الأمريكيّة “ديسكفري” على ظهر طائرة بوينج ٧٢٧، ويدخل الزّائر بطريقة منظّمة إلى بهو عظيم، حيث الصّور والمعروضات والمجسّمات التي تشرح تطوّر علوم الفضاء الأمريكيّة، ويخرج المرء من الجهة الخلفيّة إلى فضاء لافت حيث تقف حافلات كهربائيّة، تتألف كلّ منها من أربع مقطورات مفتوحة جوانبها، لتسير بهدوء وسط هذه المدينة، وفي كلّ منها دليل يشرح عن هذه البنايات، يمرّ المرء برقعة فيها عدد من الأبقار ذات القرون الطويلة الممتدّة على جانبي رأسها، والتي تشتهر بها ولاية تكساس الأمريكيّة، وفلسفة وجود الأبقار في هذا المكان لاثبات أنّ لوكالة ناسا اهتماماتها في الثّروة الزّراعيّة أيضا. قريبا من مزرعة الأبقار هناك فضاء واسع فيه عدد من الظّباء التي تتنقلّ بحرّيّة تامّة، دون أن يعكّر صفو حياتها أحد…وتستغرق هذه الجولة ثلاث ساعات، تتوقّف فيها الحافلة ثلاث مرّات:
المرّة الأولى: في غرفة المراقبة التي يتابع فيها العلماء مسار السّفن الفضائيّة طوال الوقت، وهناك مقاعد مريحة للزّائرين مرتّبة بما يشبه قاعات المسارح. تتصدّرها شاشات العرض التي تتقدّمها أجهزة المراقبة، ويقف على يسارها رجل مسنّ أنيق يشرح بتواضع عن دور هذه القاعة، التي نقلت شاشاتها نزول أوّل انسان على سطح القمر، حيث قام رائد الفضاء الأمريكي أرمسترونج برفع العلم الأمريكيّ على سطح القمر.
المرّة الثّانية: توقفت الحافلة لمدّة ثلاث دقائق دون أن ينزل الزّائرون منها؛ ليستمعوا إلى شرح عن سفينة الفضاء الأمريكيّة “تشليزنجر” التي انفجرت قبل بضع سنوات بعد انطلاقها بعشر دقائق، وفيها اثنا عشر رائد فضاء أمريكيّ، حيث يكون على يمين الحافلة أشجار تحت كلّ واحدة منها لوحة نحاسيّة تحمل اسم واحد من هؤلاء الرّواد تخليدا لدورهم العلميّ.
المرّة الثّالثة: عند صاروخين من الصّواريخ التي تحمل السّفن الفضائية إلى الغلاف الخارجيّ للكرة الأرضيّة. وبجانبها براكس هائل في داخله يتمدّد صاروخ عملاق، في مقدّمته مركبة فضائيّة عملاقة، وفي آخره ثلاثة عوادم”أكزستات”دائريّة، قطر الواحد منها يزيد عن مترين. وكلّ هذه الصّناعات العلميّة العملاقة مفتوحة للجمهور ومسموح تصويرها هي والمدينة العلميّة كاملة. وهذه المدينة العلميّة الواسعة لا يرى الزّائر فيها أحدا، لأنّ العلماء والموظّفين موجودون في أماكن عملهم، وحول كلّ بناية موقف ضخم لسيّارات العاملين.
تجوّلنا في هذه المدينة العلميّة ـ رغم حرارة الجوّ المشبع بالرّطوبةـ مبهورين بهذا التّقدّم العلميّ الهائل، التزمت الصّمت فيها وأنا أفكّر بحال أمّتي التي تفوّقت على العالم بعدد هزائمها، وبالاقتتال الدّاخليّ فيها، وبعض القتلة يعتقدون أنّ الدّماء التي يريقونها ستوصلهم الجنّة.
في المسرح
مساء السّبت ١٣ حزيران ٢٠١٥، اصطحبنا ابن العمّ وزوجته جويس إلى مسرح قديم صغير، لحضور مسرحيّة جميلة استغرق عرضها ساعتين ونصف، وسبق لجويس وابن العمّ قبل أربع سنوات أن اصطحبانا أنا وابني الحبيب قيس وابنتي الحبيبة لمى لحضور عرض “أوبرا” في مدينة سانتفييه في ولاية نيو مكسيكو الأمريكيّة، وذاك هو عرض الأوبريت الوحيد الذي شاهدته في حياتي. وجويس زوجة ابن العمّ مثقّفة تطالع كثيرا، لم تجد مكانا شاغرا في المسارح الكبيرة؛ لتحجز لنا فيه أثناء رحلتنا القصيرة إلى هيوستن، والتي تستغرق أسبوعا واحدا فقط، في هذا المسرح القديم الصّغير والذي لا يتّسع لأكثر من ماية وعشرين شخصا أمور لافتة، ثلاث قاعات للحضور تحيط بخشبة المسرح من جهات ثلاثة، ولخشبة المسرح ثلاث شاشات تفتح وتغلق في آن واحد، غرفة “الكواليس” من خلف الخشبة في الجهة الرّابعة لا يتعدّى عرضها المتر، وهي مكشوفة للجمهور. وقد أذهلتني المسرحيّة باخراجها وإضاءتها، وديكوراتها، والسّرعة الهائلة في تغيير الدّيكورات، وانتقال الممثّلين من مشهد إلى آخر وتغيير ملابسهم، ولهذا المسرح ممرّان لدخول قاعات العرض فيهما غرف صغيرة، يستعملها الممثّلون لاستبدال الملابس ووضع متطلبات الدّيكور. وهذه المسرحيّة شارك فيها أكثر من خمس عشرة ممثلة وممثلا.
جاء في المنشور الذي يوزّعه المسرح عن المسرحيّة: “هذه المسرحيّة مموّلة من رجل الأعمال…..لعرضها كلّ مساء في هذا المسرح لمدّة عامين.”
محاضرة
مساء الأحد ١٤ ـ ٦ـ ٢٠١٥ كان موعدنا في إحدى قاعات مطعم فادي لالقاء محاضرة عن معاناة القدس الأسيرة، تلبية لدعوة من المجلس الثّقافي الفلسطيني الأمريكيّ، وهذا المطعم العربيّ الذي يملكه الّلبنانيّ فادي خليفة الذي يفاخر بقرابته بالفنّان الشّهير مارسيل خليفة، ويفاخر بأنّ أصولهم من اليمن، هاجر جدّهم الأوّل إلى لبنان، وتنصّر أحفاده هناك. ومطعمه هذا واسع، فيه عدّة قاعات، يغصّ بالزّبائن الذين يصطفّون على الدّور لكثرتهم، ولا يقدّم سوى المأكولات العربيّة التي يتقن طبّاخوه اعدادها وطبخها. للمطعم موقف واسع للسّيارات، ونظرا لنجاح هذا المطعم، فقد افتتح ثلاثة فروع في هيوستن، وثلاثة أخرى في مدينة دالاس التي تبعد عن هيوستن مسافة ساعتين سفرا بالسّيّارة.
كان الحضور الذي شارك فيه العشرات مميّزا، ومنهم عبلة الأمين، محمّد موسى السلحوت، ايمان الفارس، عباس يعقوبي، بكر ماضي، قاسم قاسم، حكم قاضي، د.سمير توما وآخرون، تكلّمت في المحاضرة عن المدينة المقدّسة، منذ وقوعها تحت الاحتلال الاسرائيليّ في حرب حزيران ١٩٦٧، وما تبع ذلك من هدم لحارتي الشّرف والمغاربة، ومسح ألف واثني عشر بناء تاريخيّا عن الوجود، تمّ تشريد مالكيها الذين يبلغ عددهم ستّة آلاف نسمة، هدمت بما فيها من مدارس ومساجد ومعالم تاريخيّة تشكّل ارثا للحضارة الانسانيّة، لبناء حيّ استيطاني يهوديّ مكانها، كما تحدّثت عن تهويد المدينة الذي لم يتوقف يوما منذ احتلالها، وما صاحب ذلك من حفريات استلّت أحشاء مدينة التّعدّديّة الثقافيّة التي أقلّ ما يقال عنها أنّها جنّة السّماوات والأرض، تطرّقت إلى تهويد الجهاز الصّحيّ والتّعليميّ واغلاق المدينة أمام مواطنيها الفالسطينيّين منذ نهاية آذار ١٩٩٣، والذي اكتمل عام ٢٠٠٧ بجدار التّوسّع الاحتلاليّ الذي ابتلع ٦٪ من مساحة الضّفّة الغربيّة. وانتهاك الحرّيات الدّينيّة المتمثّل بمنع المصلّين من بقية الأراضي المحتلّة للوصول إلى دور العبادة، وفي مقدّمتها المسجد الأقصى وكنيسة القيامة لآداء الصّلوات. وتحدّثت باسهاب عمّا يتعرّض له المسجد الأقصى من اعتداءات مستمرّة تهدف إلى تقسيمه، أو هدمه بالكامل لبناء الهيكل المزعوم مكانه. وتحدّثت عن سرقة تاريخ المدينة وثقافتها العربيّة ومحاولة تزييفها، كما تحدّثت عن معاناة المؤسّسات الثقافيّة وأزماتها الماليّة.
لفت انتباهي اهتمام أبناء الجالية الفلسطينيّة والعربيّة بالقدس الشّريف خاصّة، وبالقضيّة الفلسطينيّة بشكل عامّ…ممّا أدخل الفرحة إلى قلبي.
مركز هيوستن الطّبّي
يوم الاثنين ١٥ ـ ٦ـ ٢٠١٥ اصطحبنا ابن العمّ محمّد موسى السّلحوت في جولة في مركز مدينة هيوستن حيث ناطحات السّحاب، وجال بنا في مركز هيوستن الطّبّيّ، أكبر مركز طبّي في العالم، والذي يعمل فيه مائة وعشرون ألف شخص، وهو الآخر مدينة بحدّ ذاته، فيه عشرات المستشفيات والمختبرات وغيرها، وفيه فندق ينزل به المرضى الذين يؤمّون المستشفى طلبا للعلاج، ويتمّ أخذ الفحوصات منهم داخل غرفهم في الفندق؛ لتشخيص حالاتهم المرضيّة قبل أن يناموا في المستشفى، والّلافت أنّ لهذه المستشفيات فروع أخرى في ضواحي هيوستن لتخفيف الضّغط عليها، مررنا بالبناية التي يزيّن سطحها القرميد الأحمر، والتي توفّي في أحد غرفها الشّاعر الفلسطينيّ الكونيّ محمود درويش…لم نحاول دخول البناية لكنّنا ترحمنا على شاعرنا العظيم.
متحف الأطفال
انتقلنا لزيارة “متحف الأطفال” في هيوستن كنت معنيّا بزيارة هذا المتحف، لرؤية ما بداخله، وهو متحف حديث لا يتجاوز عمره السّنوات العشرة. ويوجد شبيه له في المدن الأمريكيّة الكبرى مثل نيويورك، واشنطن، لوس أنجلوس وشيكاغو، ولا أعلم إن كان له شبيه خارج أمريكا، وهذا المتحف يحوي في جنباته وبطريقة منظّمة مختلف الألعاب التي يمكن للأطفال أن يلهوا بها. وفيه جناح يعرض لهم ما يمكن أن يكونوه عندما يكبرون، فمثلا هناك مكتب لبنك أمريكا فيه موظّفات حسناوات يجبن على أسئلة الأطفال فيما يتعلق بالبنوك وعملها، وفيه قسم للحاسوب، وقسم للبقّالات الكبيرة”السوبر ماركت” وفيه مجسّم لسيّارة شرطة، ومختبر طبّيَ وغير ذلك، وفيه قاعة مسرح وعرض سينمائيّ، حضرنا فيها عرضا مسرحيّا رائعا للأطفال…أذهلني فيه تفاعل الأطفال مع الممثّلين.
جامعة هيوستن
كما زرنا جامعة هيوستن وهي الأخرى مدينة قائمة بذاتها…دار بنا ابن العمّ في جنبات الجامعة، ومررنا بكلّيّة الهندسة الكهربائيّة حيث درس، وفي هذه الجامعة درس أخي احمد الصّيدلة أيضا. كما دار بنا إلى البيت الذي سكنه هو وأخي أحمد عندما كانوا طالبين في الجامعة.
عواصف ماطرة
تساقط الأمطار في هيوستن صيفا ظاهرة طبيعيّة مألوفة، أمطار دافئة تنزل بشكل مفاجئ، لكنّ المخيف هو العواصف الماطرة التي تحذّر منها دائرة الأرصاد الجوّيّة، والدّفاع المدنيّ، فهي تحمل أمطارا غير متوقّعة…تغرق الشّوارع في دقائق معدودة…تأتي الغيوم السّوداء المحمّلة بالأمطار وتلقي بحمولتها كما فيضان الأنهار، ورغم البنية التّحتيّة المتقنة، واتّساع المجاري، إلا أنّها لا تستوعب غزارة وكمّيّات الأمطار الكبيرة… وفي هيوستن قنوات مائيّة ضخمة، عرض الواحدة منها يزيد على المئة متر، وعمقها يزيد عن السبعين مترا…تخترق المدينة من غربها إلى شرقها…عندما تغزو العواصف الماطرة المدينة فإنّ هذه القنوات قد تفيض أيضا لعدم قدرتها على استيعاب هذه الأمطار…أمّا العواصف المدمّرة فتصاحبها رياح وأمطار عاتية، سرعة الرّياح قد تتجاوز المئة وعشرين ميلا في السّاعة، وهي قادرة على اقتلاع الأشجار وحتى بعض البيوت، وقد تحمل السّيارات وتسوقها معها…وتدمّر خطوط الماء والكهرباء والهاتف….الأرصاد الجوّية الأمريكيّة ترصد العواصف قبل وصولها للأماكن المأهولة بأيّام، وتحذّر المواطنين منها.
قبل وصولنا هيوستن بحوالي ثلاثة أسابيع ضربت عاصفة ماطرة المدينة، أوقعت خسائر بشريّة ومادّيّة، وتسبّبت بقطع الماء والكهرباء والهواتف عن حارات بكاملها، لكن استعدادات السّلطات المحليّة كبيرة، فهي تعيد اصلاح ما دمّر بسرعة فائقة.
مساء الاثنين ١٥ ـ حزيران أعلنت وسائل الاعلام عن عاصفة ماطرة ستضرب هيوستن خلال الاربع وعشرين ساعة القادمة…فاتّخذ ابن العمّ محمّد موسى اجراءاته الاحتياطيّة بتموين يكفي لأسبوع…واصطحبنا إلى مطعم فاخر لتناول العشاء قبل وصول العاصفة…كان النّاس يصطفّون في محلّات السوبرماركت والمخابز؛ ليحتاطوا على مؤونة تكفيهم حتى انقشاع العاصفة….التزموا بيوتهم وكادت الشّوارع تكون خالية، تساقطت أمطار عاديّة تلك الليلة ونهار اليوم التّالي..أمضيت يومي أنا وزوجتي في القراءة والكتابة، كانت فرصة لي كي أواصل الكتابة عن انطباعاتي عمّا شاهدته في هيوستن، وكتابة أشياء أخرى. كان ابن العمّ قلقا علينا ودائم السّؤال عنّا…في المساء أعدّ لنا هو وزوجته وجبة شواء في بيته. بعدها أعلنت دائرة الأرصاد الجوّيّة والسّلطات المحليّة أنّ العاصفة انحرفت إلى ضواحي هيوستن…وأنّها لن تضرب المدينة…محطّات التّلفزة واصلت بثّها تغطّي الأماكن التي ضربتها العاصفة، وما ينتج عنها من أضرار. فهل جاء انحراف العاصفة عن مسارها استجابة لدعوات ابن العمّ الذي ردّد كثيرا: “الله لا يورّيكم إيّاها”؟
في المركز العربيّ في هيوستن
يوم الخميس ١٨ حزيران ٢٠١٥ زرنا بصحبة ابن العمّ مركز الجالية العربيّة في هيوستن وهو الأكبر من نوعه في أمريكا، افتتح في نيسان ـابريل ـ ٢٠٠١…بناؤه من طابقين مساحة الواحد منها حوإلى ٨٠٠ متر مربّع… في الطّابق الأوّل صالة مرفوعة فيها أعلام الدّول العربيّة، على يمينها صالة اجتماعات، وعلى يسارها صالة الضّيوف التي تتصدّرها لوحات نحاسيّة تحمل أسماء المؤسّسين، ولوحات تحمل أسماء أعضاء الهيئة الاداريّة، ومن ضمنهم ابن العمّ محمّد موسى السّلحوت، أحد المؤسّسين الرئيسيّين، ورئيس أوّل هيئة إداريّة للمركز. وهو صاحب فكرة انشاء المركز، وهناك مكاتب للسّكرتاريا، حيث تداوم شابّة مصريّة كما يتّضح من لهجتها.
في الصّدارة قاعة واسعة تحمل اسم رجل الأعمال الفلسطينيّ ابن قرية بيت عور قضاء رام الله الملياردير فاروق الشّامي، الذي يتنقل في أمريكا بطائرة خاصّة، ويملك مصنعا لموادّ التّجميل يصدّر إلى ١٣٢ دولة. ويتمّ تأجير القاعة لأبناء الجالية العربيّة في المناسبات المختلفة، كالأفراح والمآتم واللقاءات والمحاضرات والاحتفالات بالمناسبات الوطنيّة المختلفة، في الطّابق الثّاني غرف صفّيّة لتعليم اللغة العربيّة للأطفال وللكبار يومي السّبت والأحد من كلّ أسبوع، يرتادها العرب من مختلف أرجاء المدينة…كما فيه غرفة كمبيوتر لتعليم الأطفال والكبار أيضا…يحيط ببناء المركز أرض مساحتها ٤٥ دونما”١٠ هكتار” قرب البناء حديقة للأطفال فيها مراجيح مختلفة… في الأرض أكثر من ثلاثة ملاعب لكرة القدم…يتمّ تأجيرها أيضا، وغالبا ما يستأجرها مهاجرون مكسيكيون. يحيط بالمركز سور جميل…له مدخل…وشارع معبّد حتى باب البناء، وموقف للسّيّارات.
مطاعم هيوستن
يحرص ابن العمّ وزوجته الرّائعة جويس، أن نرى ما يسمح به وقتنا من معالم حضاريّة في هيوستن…وهما يغمراننا بكرمهما الذي يعجز القلم عن وصفه، ومن هذا الكرم حرصهما أن نتناول طعام الفطور والعشاء في مطاعم هيوستن الرّاقية والمختلفة، لنتذوّق طعام مختلف الشّعوب التي تنتشر في المدن الأمريكيّة، وكما هو معروف أنّ لمختلف الشّعوب والأمم أطباق طعامهم المختلفة التي تتناسب مع أذواقهم، وقد تناولنا طعامنا في مطاعم عربيّة، ايطاليّة، أمريكيّة، مكسيكيّة، أرجنتينيّة، صينيّة، وهناك مطاعم خاصّة بجنوب الولايات المتّحدة الأمريكيّة، مثل مطاعم تكساس الولاية التي توجد فيها مدينة هيوستن حيث نقيم…وتتميّز المطاعم الفخمة الرّاقية بأنّ روادها من الأثرياء، يظهر ثراؤهم من خلال السّيّارات الفاخرة التي يملكونها، ومن خلال الملابس الفاخرة أيضا التي تظهر جمال نسائهم وطريقتهن اللافتة في وضع موادّ الزّينة، وخدمة الزّبائن الزّائدة… وقد لاحظت أنّ ابن العمّ وزوجته معروفان من نوادل المطاعم وإداراتها؛ لكثرة تردّدهم عليها. ومن المطاعم التي تناولنا عشاءنا فيها مطعم راق للشّواء…يحرص مالكوه أن يتّخذ مقرّه طابع حياة رعاة البقر الأمريكان، وهو معروف على مستوى الولايات المتّحدة الأمريكيّة، يفاخر مالكوه أنّهم يقيمون حفلات شواء في البيت الأبيض بناء على طلب رؤساء أمريكيّين، وأنّ اليزابيث ملكة بريطانيا قد استدعت طاقما من طبّاخي هذا المطعم؛ لعمل شواء في أحد قصور الملكة في إحدى مناسباتها الاحتفاليّة.
يلاحظ أنّ هناك مطاعم تقدّم وجبتي الفطور والغداء فقط، وتغلق أبوابها في الثّالثة بعد الظهر، ومساء أمس احتسيت وابن العمّ قهوة ما بعد العشاء في مقهى معلق على مدخله الدّاخليّ منجل حصاد وعدّة الحراثة على الدّواب، وضمّة سنابل قمح جافّة.
أثناء خروجنا من أحد المطاعم في اليوم الثّاني لوصولنا هيوستن، أشارت لنا جويس زوجة ابن العمّ إلى سوبرماركت ضخم وقالت:
هذا كان مكتبة ضخمة قبل عدّة سنوات، لكنّ ابن العمّ أشار في المركز التّجاريّ المجاور لمكان اقامتنا إلى مكتبة ضخمة أيضا.
الليلة الأخيرة في هيوستن
مساء يوم الخميس 18 حزيران 2015 هذه هي ليلتنا الأخيرة في هيوستن، حيث سنغادرها إلى شيكاغو، ابن العمّ وزوجته الانسانة الرّائعة جويس، عملا حفل عشاء وداعيّا على شرفنا أنا وزوجتي، دعا إليه عددا من أصدقائه المقرّبين وهم: الدّكتور جورج الحاجّ من حيفا وزوجته الألمانيّة،” الدّكتور ميشيل كردوش من النّاصرة وزوجته المصرية هدى، رجل الأعمال عماد صقر وشقيقه الدّكتور رزق صقر رئيس جمعيّة الأطبّاء العرب الأمريكيين، وهما فلسطينيّان لاجئان ولدا في مخيّم عقبة جبر قرب مدينة أريحا.
تسامرنا وإيّاهم أكثر من ثلاث ساعات…ضحكنا…تناقشنا وتبادلنا الرّأي حول تطوّرات القضيّة الفلسطينيّة، وما يجري في العالم العربيّ من خراب ودمار…ورغم بعدهم عن أرض الوطن وسنوات الغربة الطّويلة التي عاشوها في الغربة، فالدّكتور جورج الحاجّ غادر الوطن عام 1952 إلّا أنّهم يحملون هموم وطنهم وشعبهم وأمّتهم…ويعبّرون عن حزنهم بسبب الانشقاق على السّاحتين الفلسطينيّة والعربيّة.
ودّعنا جويس زوجة ابن العمّ التي احتضنتنا بعاطفة أخويّة صادقة، فمن يعرف هذه المرأة لا يتمنّى فراقها لرقّتها وطيبتها وصدق تعاملها…وهي لا تتصنّع ذلك بل هي مفطورة عليه… يظهر ذلك على تعابير وجهها السّموح…حمّلتنا تحيّاتها لابننا قيس وزوجته وطفلته الأمّورة لينا، ولشقشقينا داود وراتب وزوجتيهما وأبنائهما في شيكاغو، ولجميع أفراد العائلة في الوطن الذّبيح.
صباح اليوم التّالي أوصلنا ابن العمّ إلى مطار هيوستن…شكرناه بعمق على حسن الضّيافة والكياسة الّتي يتحلّى بها، والحفاوة البالغة التي أحاطنا بها. وهذا ليس غريبا عليه، حقّا إن الكلمات تعجز عن شكره هو وزوجته.
كان الفراق صعبا علينا…لكنّها ضرورات الحياة التي شتّتنا، وابن العمّ هذا الذي غادرنا شابا يافعا في بداية العام الدّراسي عام 1962 للعمل كمدرّس في السّعودية…كنت وقتها طفلا لا أتجاوز الثّانية عشرة من عمري…التقيته في هيوستن عام 1984، كان لا يزال في بداية حياته العمليّة، والتقيته في لاس فيجاس عام 1999، والتقيته في سنتافييه في نيو مكسيكو ثلاث مرّات منذ العام 2006، واحدة منها كان بصحبتي شقيقي الغالي داود، وابن العمّ محمّد اسماعيل السلحوت، ومرّة كان بصحبتي ابني الحبيب قيس، وابنتي الحبيبة لمى، وها نحن نلتقي في صيف هذا العام وقد احتلّ الشّيب شعرنا…وابن العمّ قد حقّق طموحاته بجدّ واجتهاد…ولا يزال بكامل قوّته وعنفوانه ووسامته المعهودة…وكلّما التقيته أكتشف فيه صفات حميدة جديدة…فأمنياتنا له ولزوجته بالصّحّة والسّعادة وطول العمر…وقد لاحظت أنّ ابن العمّ المشهود له بالذّكاء محبوب وسط الجالية العربيّة، بل هو واحد من رموزها…تماما مثلما هو محبوب من معارفه الأمريكان وهم في غالبيّتهم من النّخبة العلميّة والاقتصاديّة…لكن الحبّ الأكبر له هو ما تختزنه قلوب عائلته في الوطن.
الطّبيعة في أمريكا
هذه هي المرّة الثّالثة والعشرون التي أزور فيها أمريكا، وفي كلّ مرّة أكتشف أشياء جديدة، أو تتاح لي الفرصة لمشاهدة أشياء جديدة، ولا عجب في ذلك، فأمريكا امبراطوريّة خرافيّة، متقدّمة علميّا، صناعيّا، زراعيّا عمرانيّا حضاريّا وعسكريّا…الخ. وهي تسيطر على اقتصاديّات العالم بقوّتها العلميّة والعسكريّة، لكنّ هذه الامبراطوريّة سبب تعاستنا وشقائنا كفلسطسينيّين وعرب، فهي تدعم اسرائيل لترسيخ احتلالها لأرضنا، ومنع شعبنا من حقّه في تقرير مصيره واقامة دولته المستقلة بعاصمتها القدس الشّريف. وهي من تسيطر على منابع البترول العربيّ، ومن دمّرت العراق العظيم واحتلته في العام 2003 وقتلت أكثر من مليون مدنيّ عراقيّ، وهي من تموّل وتسلّح وتدرّب جماعات القتل والارهاب والتدمير من المتأسلمين الجدد في سوريا والعراق وليبيا وغيرها عن طريق وكلائها في المنطقة؛ لتطبيق مشروعها “الشّرق الأوسط الجديد” لاعادة تقسيم المنطقة إلى دويلات طائفيّة متناحرة.
ما علينا فنحن لسنا في مجال الحديث عن السّياسة.
يلاحظ أنّ أمريكا التي تحرث الكرة الأرضيّة بقرنها العسكريّ، وقرنها الاقتصاديّ الهائل، فإنّها أيضا تعمل على بناء امبراطوريّتها الدّاخليّة أيضا…فالمدن والقرى الأمريكيّة منظّمة بشكل لافت، فهناك شوارع طولها مئات الكيلو مترات في المدن الكبرى تسير بخطّ مستقيم، لا ينزاح سنتيمتر واحد، وهناك الجسور التي يصل طولها إلى مئات الكيلومترات أيضا، وبعضها من طبقات، جسور فوق جسور أخرى، الشّوارع الواسعة التي يفصل بين اتّجاهيها جزر مزروعة بالورود وأشجار الزّينة…الحدائق العامّة التي تتوسّط المدن، وكلّ واحدة منها تقوم على مئات الدّونمات…الأشجار المعمّرة من بقايا الغابات….الغابات الصّغيرة حيث تعيش أعداد من الظّباء والأرانب وحيوانات أخرى دون أن يمسّها أو يعكّر صفوها أحد. الملاعب الرّياضية للغولف وغيره.
ويلاحظ أنّ حارات ضواحي المدن فيها بحيرات صغيرة تتوسّطها نوافير المياه، وبرك للسّباحة وأندية رياضيّة…وحدائق أشجار وورود تحيط بالشّوارع والبيوت.
طيور شاهدتها:
الحفاظ على البيئة وحماية الطّبيعة ثقافة سائدة، لها قوانينها التي تحميها، فالبيت الذي لا يعنى صاحبه بحديقته، ويراعي قصّ أعشاب الزّينة فيها، فإنّ البلديّة تخالفه بما لا يقلّ عن خمسمائة دولار، وتلزمه بقصّها باستمرار حفاظا على جمال الطّبيعة، وهناك حيوانات وطيور تتواجد في الأماكن المأهولة كالأرانب والإوزّ والبطّ والسّناجيب، وغيرها.
في شيكاغو رأيت أرانب تدخل حدائق البيوت وتلد فيها، ولا يجرؤ أحد على ايذائها، ورأيت أسرابا من البطّ بالآلاف تعتاد النّوم في ملاعب المدارس أو الحدائق الواسعة بأمان واطمئنان، وهناك غزلان في الغابات الصّغيرة التي تخترقها الشّوارع المعبّدة لسيّارات الزّائرين، تمشي كما تريد، ويمنع استعمال زوامير السّيّارات لعدم ازعاجها.
مشاهدات:
شاهدت في حيّ Bridgeview في شيكاغو حيث بيت شقيقي داود، وهو حيّ غالبيّة سكّانه من العرب والمسلمين، فيه مسجد ومدرسة اسلاميّة مجموعة من طيور الإوزّ تتمشّى على الرّصيف بحرّيّة تامّة، وبحانبها أرانب تقفز من مكان إلى آخر، لا تخاف من يقترب منها. وفي حيّ Schawmburg حيث يسكن ويعمل ابني قيس، أشاهد من برندة البيت وأنا أحتسي قهوة الصّباح أو المساء ـ إن لم يكن الجوّ ماطراـ شاهدت أرانب تصل عتبات البيوت، وسناجيب تتقافز على الأشجار والأرض…لفت انتباهي طائر أكبر حجما من العصافير العاديّة اسمه Red Winged Blackbird ولا يعيش إلا في أمريكا الشّمالية….ريشه ملوّن غالبيّته سوداء…منقاره رفيع بطول حوالي 2 سنتيمتر، يصفر صفرة واحدة عذبة ممجوجة مرّتين، تأتيه أنثاه…ترقص أمامه وهو يعزف لها، وبعد الوصال ينامان متّكئين على بعضهما البعض.
حمام هيوستن:
في زيارتنا أنا وزوجتي لهيوستن في ولاية تكساس، حيث ابن العمّ محمّد موسى السّلحوت، وبينما كنّا نتناول طعام عشائنا ابن العمّ وزوجته جويس، وأنا وزوجتي، في مطعم شواء شهير يحافظ على طابعه الشّعبيّ لرعاة البقر، اقتربت منّا حمامة…حاولت أن تنقر الطّعام من صحوننا…دفعناها بلطف…وضعت لها نوعا من الحلوى فيه ما يشبه السّميد…أكلت وجاء عدد آخر من الحمام…انتعف الطّعام على الطّاولة…جاء النّادل يمسح الطّاولة…لم يحتجّ عل ما فعلتُه، فقط رفع يده ليبعد الحمام عن الطّاولة…وضعت للحمام قطع خبز على الأرض تناولها وهو يمرّ من بين أرجل الزّبائن بأريحيّة تامّة.
قلت لابن عمّي: لو أنّ هذا الحمام في بلادنا، لما تجرّأ على الاقتراب من أيّ منطقة مأهولة، لأنّه يدرك تماما بأنّه سيكون وجبة طعام إضافيّة شهيّة.
21 حزيران 2015
النّظافة بين الكفر والايمان
أشعر بغصّة عندما تراودني فكرة المقارنة بين شعوبنا والشّعوب الأخرى، لأنّ المقارنة ليست لصالحنا، لذا فإنّني أبتعد عنها ما استطعت ذلك، فمثلا نحن ورثة مقولة “النّظافة من الايمان”ولدينا نصوص كثيرة من القرآن الكريم والسّنّة النّبويّة الشريفة تحضّ على النّظافة، ولدينا آلاف المؤلّفات حول الطّهارة ومتعلقاتها، ولهذا فإنّه من المفترض أن نكون نظيفين بأجسادنا، ملابسنا، بيوتنا، شوارعنا، مستشفياتنا، مدارسنا، مؤسّساتنا وكلّ مناحي حياتنا،
لكنّ المفترض شيء، والواقع شيء آخر. تماما مثلما هو الفارق بين من يتطيّبون ببول البعير، ومن يتطيّبون بالمسك والعود والرّيحان.
والوضع في “بلاد الكفّار” مختلف جدّا، وما رأيته وأراه في أمريكا يذكّرني بما ينسب للامام محمّد عبده ـ رحمه الله ـ عندما زار فرنسا وكتب عنها “وجدت فيها اسلاما ولم أجد مسلمين”. فثقافة النّظافة هي السّائدة، مثلها مثل قِيَم حميدة أخرى. لذا فإنّ النّظافة تبدأ من البيت، فالبيوت ملزمة بأن تضع قمامتها في أكياس نايلون داخل حاويات القمامة المخصّصة لكلّ بيت، والتي تأتي سيّارات القمامة لأخذها يوما بعد يوم في بعض الحارات، ويوميّا في حارات أخرى، والقاء القمامة خارج الحاويات ممنوع، ويحاسب عليه القانون، وهذا سلوك اعتاد عليه النّاس، والمحلّات التّجارية مسؤولة عن قمامتها، تضعها في حاوياتها الخاصّة، ويتّفق كلّ محلّ مع شركة نظافة لنقلها على حساب المحلّ، والمحلّات مسؤولة أيضا عن نظافة الشّارع الذي يحاذيها، ومن يخالف يعاقب بمخالفة ماليّة رادعة. والمحلّ مسؤول عن نظافة داخله، ومن مشاهداتي في محلّ يملكه شقيقاي داود وراتب، أن جاءت مفتّشة من الصّحة، تبحث عن أيّ غبار على رفوف المحلّ بغضّ النّظر عن البضاعة المعروضة عليه. كما أنّها وضعت اصبعها تحت ثلاجة ضخمة في المحلّ بحثا عن غبار.
المناطق الأمريكّية التي شاهدتها في عدّة ولايات أمريكيّة، لا يرى المرء فيها إلا الماء والخضراء والأبنية والشّوارع، فلا صخور ولا أراضي جرداء، وبما أنّ الأمطار تتساقط صيفا أيضا، فإنّ أعشاب الزّينة مثل”النّجيل” وغيرها تفور بشكل متسارع، وأصحاب البيوت مطالبون بقصّ هذه الأعشاب حول بيوتهم بشكل مستمر للحفاظ على جمال البيئة.
في مناطق سكنيّة راقية عديدة، حيث تقوم شركات اسكان عملاقة ببناء أحياء سكنيّة في المناطق لتأجيرها، مثل شركة Versailles on the lakes وهي شركة لها أحياؤها السّكنيّة في العديد من المدن الرّئيسيّة في أمريكا، وكلّ حيّ عدد شققه ما بين ثلاثمائة وخمسمائة شقّة، أبنيتها من ثلاثة طوابق، تتوزّع على عدّة أبنية، كلّ شقّة فيها واجهة مطلّة على الشّارع، تتوزّع الأبنية بطريقة منظّمة، فيبدو كلّ حيّ كأنّه مستقل بذاته، يحيط به سور، وله مدخل ببوّابة الكترونية، وعليه حراسة لمنع الغرباء من دخوله، وتخترق الحيّ شوارع منظّمة…وهناك مواقف للسّيارات أمام كلّ بناء، كما يوجد موقف تحت كلّ بناية، يتم تأجيره لمن يرغب من مستأجري الشّقق، وفي الحيّ بحيرة صغيرة فيها أسماك، وربّما اثنتان، تتوسّطها نافورة أو أكثر، هناك بركة سباحة، ناد رياضيّ، ودار ضيافة لمن يريد عمل احتفال من مستأجري هذه الشّقق. وطبعا هناك مكتب اداريّ لكلّ حيّ اسكانيّ. وتحيط الحدائق والورود والأشجار بالأبنية والشّوارع من كلّ الجهات، تتجوّل بها السّناجب والأرانب البرّيّة، وتحطّ الطّيور على أغصان أشجارها، بجانب المصاعد في كلّ بناء، ماسورة ضخمة لها باب قابل للفتح في كلّ طابق، يلقي بها ساكنو الشّقق قمامتهم لتسقط في حاوية في التّسوية تحت الأرضيّة. وممرّات الطّوابق مفروشة بالموكيت، حيث يقوم عاملون بتنظيفه بشكل دائم.
من مشاهداتي في هذه الأحياء، أنّ موظّفي النّظافة يجوبونها، في يد الواحد منهم دلو بلاستيكيّ، وفي اليد اليمنى ملقط طويل يلتقط به ورقة تذروها الرّياح، أو عقب سيجارة ألقاه أحدهم في الشّارع، ويأتي رجل آخر يحمل على ظهرة مكنسة تشفط أوراق الأشجار المتساقطة، شاهدت فتاة حسناء جاءت تحمل عصا طويلة وفي رأسها شبكة…طافت حول بركة الماء لتلتقط ورقة من على سطح الماء.
22 حزيران 2015

ثقافات نفتقدها
النّظافة ثقافة وسلوك وتربية، ومن مشاهداتي في أمريكا أنّ النّظافة ليست حكرا على حارات الأثرياء، فقد تجوّلت في حارات الفقر والجريمة، مع أنّ الفقر نسبيّ، والفقراء هم مدمنو الكحول والمخدّرات، وهؤلاء موجودون في كلّ دول العالم، بما فيها الدّول العربيّة والاسلاميّة، الفقراء ومدمنو المخدّرات في أمريكا يتقاضون دخلا مجزيا من الضّمان الاجتماعيّ، ولكي لا ينفقوه على المخدّرات فإنّه يصرف لهم من خلال بطاقة، يسمح لهم بشراء الموادّ الغذائية بواسطتها، حيث يتمّ سحب ثمن البضاعة المشتراة أوتوماتيكيّا من حساب المشتري إلى حساب البائع، من خلال ماكينة cash register مربوطة مع البنوك، لكنّ بعض المحلات ومن ضمنها محلات يملكها عرب مسلمون يفتون بتحليل سرقة “الكفّار”، يقومون بتبديل تلك المساعدات كأن يسحب من حساب صاحب البطاقة مئة دولار مثلا، ويعطيه مقابلها خمسين أو ستين دولارا نقدا؛ ليشتري بها مخدّرات. أو يبيعه بنفس النّسبة كحولا، وهذه قضايا ممنوعة، ومن يتعامل بها يتعرّض لعقوبات صارمة قد تصل إلى سحب ترخيص محلّه التجاريّ، وتغريمة مبالغ كبيرة.
النّظافة في الأحياء الفقيرة وغالبيّة سكّانها من السّود والمهاجرين المكسيك متوفّرة أيضا، فالشّوارع نظيفة، وهناك ورود وأشجار وأعشاب النّجيل على الأرصفة…وقد يشاهد المرء أحد السّكارى يلقي زجاجة على الرّصيف فتنكسر، وإذا ما شاهدته الشّرطة فإنّه سيدفع غرامة أو يسجن، لكنّ الزّجاج سريعا ما يتمّ تنظيفه من قبل المحلّ أو البيت المجاور.
الممتلكات العامّة
ثقافة الحفاظ على الممتلكات العامّة مغروسة في نفوس المواطنين؛ لأنّ القانون يحميها، فأصبحت سلوكا هي الأخرى، فمثلا مظلّات مواقف الحافلات من الزّجاج، ولا أحد يعتدي عليها، بما في ذلك في حارات الفقر وادمان المخدّرات. وكذلك الأمر بالنّسبة للمدارس، فلا أحد يدخلها بعد الدّوام…وهذه ثقافة سائدة.
حماية البيوت
للبيوت حرماتها التي تبدأ من مداخل حدائقها، ولا يجوز انتهاك هذه الحرمات مهما كانت الأسباب، ولم أشاهد بيتا واحدا على شبابيكه حماية حديديّة كما هو الحال في بلادنا، لأنّ عقوبة من ينتهك حرمات البيوت رادعة. وهناك فلسفة أخرى لعدم وضع حماية على نوافذ البيوت، وهي كي يكون دخول البيت سريعا من قبل الدّفاع المدنيّ والاطفائيّة في حالات اندلاع حريق، خصوصا وأنّ استعمال الخشب في صناعة البيوت واسع جدّا.
تمييز عنصريّ
على شاطئ بحيرة متشيغان المحاذي لمركز مدينة شيكاغو Down town شاهدت مسبحين، واحدا يتواجد فيه السّود والثّاني للبيض، مع التّنويه أنّه لا يوجد تقسيم معلن لذلك، لكن يبدو أنّه عادة متعارف عليها…والمهمّ أيضا أنّ الشّاطئ نظيف أيضا.
23 حزيران 2015
انغلاق العرب الأمريكيّين
تشير الاحصائيّات الأمريكيّة إلى أنّ عدد المهاجرين العرب ومن الدّول الاسلاميّة يتساوى مع عدد اليهود أو يزيد، لكنّ اليهود الأمريكيّين منظّمون ولهم مؤسّساتهم مثل”الايباك” التي توجّههم، وتحمي مصالحهم؛ ليشكّلوا ورقة ضغط تحسم نتائج انتخابات الكونغرس والرّئاسة الأمريكيّة، وتحافظ على استمراريّة دعم البيت الأبيض اللا محدود لاسرائيل. في المقابل فإنّ المهاجرين العرب والمسلمين في غالبيّتهم منغلقون على أنفسهم، جزء كبير منهم لا يعلم ما يدور حوله، لكنّه يدّعي أنّه علّامة عصره، تماما مثلما يحصل في الدّول العربيّة والاسلاميّة، حيث الجهل والفقر والتّخلف السّائد والانغلاق الثّقافي، ونجد من يزعم أنّنا علماء الأرض والمالكون الوحيدون للحقيقة، بل أنّنا خلفاء الله في الأرض…فالمهاجرون العرب منعزلون في غالبيّتهم عن الحياة والسّياسة الأمريكيّة، فلا يشاركون في الانتخابات على سبيل المثال، ولو أنّهم يشاركون لاستطاعوا التأثير على السّياسة الأمريكيّة، خصوصا فيما يتعلّق بالصّراع الشّرق أوسطيّ.
وانغلاق الجالية العربيّة والاسلامية يؤثّر أيضا على الأعمال التي يمارسونها، وبالتّالي على مداخيلهم الاقتصاديّة. ويلاحظ في أمريكا أنّ جزءا كبيرا من العرب يعمل في أعمال خطيرة قد تكلّفهم حياتهم، كسائقي سيّارات الأجرة، أو أصحاب المحلّات، ومنها محلّات لبيع الخمور في مناطق السّود الفقيرة، التي يعيش فيها مدمنو المخدّرات والمجرمون…وعندما تناقشهم عن أسبابهم بعدم فتح محلّات في المناطق الرّاقية، يزعمون بأنّها لا تنجح لأنّ البيض لا يشترون من الملوّنين لأسباب عنصريّة، وهذا سبب غير مقنع، حيث يشاهد المرء فيها بسهولة محلات ناجحة يملكها أفراد من جنوب شرق آسيا كالهنود والصّينيّين والكوريّين وغيرهم.
وعدم فهم المهاجرين العرب لطبيعة وثقافة الشّعب الأمريكيّ، أوصل البعض منهم إلى الافلاس، ففي أمريكا مثلا أفلست وأغلقت عشرات المطاعم العربيّة، باستثناء عدد قليل منها اثنان في شيكاغو، وواحد في هيوستن له فروع أيضا، رغم أنّ المطاعم التي تقدّم أكلات شعوب أخرى ناجحة جدّا في أمريكا، كالمطاعم الصّينيّة، الهنديّة، البرازيليّة، اليابانيّة، الايطاليّة، المكسيكيّة، الأرجنتينيّة وغيرها، فما هي أسباب نجاح بعض العرب وفشل البعض الآخر؟
فالنّاجحون مثلا حرصوا على وجود مواقف سيّارات بجانب مطاعمهم، لأنّ الأمريكيّ غير مستعدّ أن يوقف سيّارته، ويمشي مئات الأمتار أو كيلومترات ليتناول وجبة طعام، ويحرصون على نظافة المطاعم من أرضيّة وطاولات ومطبخ، وأدوات الطّعام من صحون وملاعق وغيرها، وهم حريصون حتى على نظافة الحمّامات. ومن هذا المنطلق فإنّهم يستخدمون نادلات أمريكيّات يعرفن كيف يحافظن على النّظافة، يضاف إلى ذلك أنّ صاحب المطعم النّاجح يحرص على جودة الطّعام الذي يقدّمه، ولا يغيّر في طريقة اعداده مع الأيّام.
24 حزيران 2015
القاعدة وليس الاستثناء
عندما نتكلّم عن انغلاق العرب والمسلمين في أمريكا، فإنّنا نقصد القاعدة وليس الاستثناء، ومعروف أنّ لكلّ قاعدة استثناء، فمثلا في هذه المرحلة معروف أنّ الشّعوب العربيّة والاسلاميّة، هي أكثر شعوب الأرض جهلا وفقرا، ويدورون في حلقات مفرغة من التّخلف والجهل والحرمان، تقودهم إلى الاقتتال وذبح بعضهم بعضا، وتدمير أوطانهم وغيرها، لكنّ هذا لا ينفي وجود متعلّمين ومتطوّرين ومثقفين وأثرياء بينهم، وهم لا يشكّلون طبقة فاعلة يمكنها التّغيير، مع عدم انكار دور المتعلّمين والمثقّفين في التّوعية وتعبئة الجماهير.
من استثناءات المهاجرين العرب في أمريكا وجود علماء ومفكّرين وسياسيّين لهم دور بارز في مجالهم، لكنّهم لم يستطيعوا التّأثير على الجالية العربيّة؛ لتأطيرها في مجموعة فاعلة كما هي حال اللوبي اليهودي “إيباك”. فعلى سبيل المثال الرّاحل ادوارد سعيد أنتج ثورة ثقافيّة فكريّة على مستوى العالم. وهناك من أبدعوا في مجالات أخرى كعالم الفضاء المصريّ الدّكتور فاروق الباز، اللبنانيّ شارل العشي، عالم الكيمياء الدّكتور احمد زويل الحاصل على جائزة نوبل، جرّاح القلب الشّهير مجدي يعقوب، ستيف جوبز وآخرين، المفكر د. هشام شرابي وهناك أسماء بارزة في مجالات مختلفة منها من رحل عن هذه الدّنيا، ومنهم من نتمنّى له طول العمر، أمثال: جيمس زعبي، كلوفيس مقصود، عابدين جبارة، رالف نادر، وآخرين، وهناك آلاف الأساتذة الجامعيّين من حملة شهادة الدّكتوراة في مختلف التّخصّصات. وهناك رجال أعمال عرب في أمريكا يملكون المليارات أيضا، فماذا استثمروا منها في بلدانهم؟
لكنّ السّؤال الذي يطرح نفسه هو:
هل استطاعوا التأثير على الرّأي العام الأمريكيّ لصالح القضايا العربيّة؟
وهل كان لهم دور مؤثّر وفاعل على أبناء الجالية العربيّة في أمريكا؟
ولماذا لا يوجد لوبي عربيّ فاعل في أمريكا؟
25 حزيران 2015

الوجه الآخر للمهاجرين العرب
صحيح أن أمريكا امبراطوريّة غنيّة ومتطوّرة في مختلف المجالات، وهي بلاد فرص لمن يستطيع اقتناص الفرصة التي تتاح له، لكنّها في الوقت نفسه لا تمطر ذهبا ولا فضّة، وهي نظام رأسماليّ ـ كما يعلم الجميع ـ فمن يتعب فيها يلعب، ولا مكان فيها للكسالى والمتواكلين، وفي نفس الوقت فإنّ مختلف سبل الضّياع موجودة هي الأخرى بجانب سبل النّجاح، فالمخدّرات والملاهي بأشكالها المختلفة موجودة أيضا. ففي الوقت الذي نشاهد فيه عربا متعلّمين وغير متعلمين ناجحين والثّراء ظاهر عليهم، هناك أيضا عرب ضاعوا في أمريكا وانجرفوا وراء المخدّرات والقمار وغيرها، وهناك من هاجروا طلبا للرّزق أو للعلم، لكنّهم أضاعوا أنفسهم، عندما انحرفوا وراء المخدّرات، رأيت فلسطينيّا مهاجرا إلى أمريكا منذ العام 1962، الرّجل أشيب يرتدي ملابس رثّة، ينام في أحد المساجد الذي يقدّم وجبة عشاء لأبناء السّبيل الذين ينامون فيه، الرّجل كان عاتبا على امام المسجد لأنّه قدّم له نصف دجاجة، وقدّم باقي الصّينيّة لمسلمين أفارقة، ويرى أنّه أحقّ منهم! والرّجل عندما هاجر ترك زوجته التي هي ابنة عمّه، ولمّا سألته عن عمر ابنه الذي يكنّى به” أبو فلان” قال: هذا غير موجود، وأضاف مفاخرا بأنّ له مئات الأبناء والبنات الذين أنجبهم من بائعات الهوى ولا يعرفهم! وقابلت رجلا آخر كان ثريّا في البلاد أرسلته العائلة لحضور حفل تخريج ابن شقيقته من إحدى الجامعات، فتخرّج ابن شقيقته وعاد إلى البلاد، في حين لم يعد هو إلا مرّة واحدة باع فيها أملاكه وترك زوجته وأبناءه، وأضاع كلّ ما يملك على موائد القمار والمخدّرات في أمريكا، ولا يجد قوت يومه. كما التقيت عربيّا من جنسيّة أخرى متزوّج من أمريكيّة تعتاش مع ابن وابنة من مساعدة الضّمان الاجتماعيّ، لأنّ الأب مدمن مخدّرات. والبنت والابن مدمنا مخدّرات، ويمضيان يومهما مع المنحرفين ومدمني المخدّرات.
من العرب من حاولوا الاغتناء في يوم وليلة؛ فتاجروا بالمخدّرات ويمضون أعمارهم في السّجون. ومن العرب من يتزوّجون أمريكيّات بقصد الحصول على الجنسيّة، ومنهم من ينجب من هذه الزّوجات، وبعد الحصول على الجنسيّة يطلّقها ويتخلّى عن أبنائه؛ ليضيعوا وسط صخب الحياة الأمريكيّة دون أن يسأل عنهم، ومنهم من يساكنون أمريكيّات وينجبن منهم، ولا يعترفون بأبنائهم أيضا.
هناك عرب لا طموح لديهم، فقد هاجروا من بلدانهم هربا من حياة الفقر والحرمان، عملوا وجدّوا واجتهدوا في أمريكا، منهم من حقّق طموحه بامتلاك محلّ بقالة صغير، يدرّ عليه دخلا محترما قياسا بدخله في بلاده، كأن يدخله خمسة آلاف دولار أو تزيد قليلا في الشّهر الواحد، وهذه قد تكفيه لحياة عاديّة، ولا يفكر بتطوير عمله مطلقا. والأمثلة كثيرة على تفوّق ونجاح وضياع عرب كثيرين أيضا. وفي بعض المساجد يجمعون تبرّعات سخيّة بعد صلاة الجمعة لمساعدة الأسر العربيّة والمسلمة المستورة، بسبب ضياع أربابها.
الطّلاب العرب في أمريكا
يدرس آلاف الطلّاب العرب في الجامعات الأمريكيّة، جزء منهم مبتعثون من حكوماتهم، خصوصا دول الخليج العربيّ، والطلّاب العرب يجدون أنفسهم في بيئة مختلفة، مجتمع مفتوح…الحرّيّات الشخصيّة لا حدود لها….ثقافات مختلفة وقيم تختلف عمّا تربّوا عليه، يتفاجأون بأشياء كثيرة ومنها العلاقة بين الرّجل والمرأة، فهم جاؤوا من مجتمعات تعاني الكبت والحرمان، ومنه الكبت الجنسيّ. الجامعات الأمريكيّة ترحّب بالطلّاب العرب وغير العرب، ويبقى على الطلاب اختيار الجامعة التي سيلتحقون بها، وفي أمريكا جامعات غير معترف بشهاداتها حتى في أمريكا نفسها.
في بداية العام الدّراسيّ الجامعيّ عام 2001 كنت وشقيقي داود والمهندس حسين شاكر سرور برفقة ابني قيس عند تسجيله في جامعة دومينكان في شيكاغو، وهي جامعة عريقة تأسّست عام 1899 تحت اسم جامعة Rosa وعام 1998 غيّرت اسمها إلى جامعة دومينكان، قالت لنا مديرة شؤون الطّلبة الأجانب أنّ جامعتها ترحّب بالطّلاب العرب؛ لأنّهم يرفعون اسم الجامعة باجتهادهم، وأضافت بأنّ 92% من الطّلاب العرب ينهون الشّهادة الجامعيّة الأولى دون أن يقصّروا بمادّة واحدة، يأتون إلينا وسريعا ما يتعلّمون الّلغة ويتفوّقون على الطلبة الأمريكان، فهم لا يتعاطون المخدّرات والكحول، ومن يساكن منهم فتاة فإنّه يتعامل معها كزوجة! ولا يعاشر فتاة أخرى. وواصلت حديثها متعجّبة من التّربية العربيّة الصّارمة، وردّت ذلك إلى أخلاقيّات الدّين الاسلامي.
في الواقع فإنّ الطّلبة العرب في أمريكا ينقسمون إلى ثلاثة أقسام هي:
ـ قسم جاء للدّراسة وحصر نفسه في المهمّة التي جاء من أجلها، فهو يدرس ويجتهد، والفقراء منهم يعملون لتغطية نفقات دراستهم، فهم يعملون في محطّات الوقود والمطاعم وغيرها. ينهون دراستهم ويعودون إلى بلدانهم بشهادات عالية.
ـ قسم يدرس ويجتهد ويتخرّج مبهورا بنمط الحياة الأمريكيّة، والفرص المتاحة له في أمريكا والمعدومة في بلاده…فيعمل ويحصل على الاقامة وربّما الجنسيّة إذا كانت شهادته وتخصّصه مطلوبة في أمريكا، وهؤلاء في غالبيّتهم خريجو كلّيّات علميّة، ويبدعون في أمريكا ويعرفون كيف يبنون أنفسهم، وقلّة من هؤلاء من يعود إلى بلاده.
ـ قسم ينجرف وراء الملذّات من مخدّرات وكحول ونساء، فيضيعون في أمريكا…لا يتعلّمون ولا يعملون.
من الأحاديث التي سمعتها أنّ بعض الطلاب العرب الأثرياء والمبعوثين بمنح دراسيّة، يستأجرون من يعمل لهم أبحاثهم الجامعيّة، ومعروف أنّ التّعليم في أمريكا يعتمد على البحث في غالبيّته، وهؤلاء يتخرّجون ويعودون إلى بلدانهم، ويستلمون مناصب رفيعة بناء على الشّهادات التي يحملونها، لكنّهم في الواقع غير مؤهلين.
في بحيرة جنيفا
أصرّ قيس وزوجته أن يصطحبانا ” أنا وزوجتي حليمة أمّ قيس” هذا اليوم 4 تموز 2015 لنقضي يومنا في بحيرة جنيفا Geneva Lake، وتبعد عن مركز مدينة شيكاغو حوالي 132 كم. تبلغ مساحة هذه البحيرة حوالي 21 كم مربع، ومتوسط عمق مياهها هو 19 مترا، تقع في ولاية ويسكنسن Wisconsin التي تشتهر بتربية الأبقار وانتاج الجبن، وببحيراتها التي يزيد عددها على الخمسة عشر ألف بحيرة مختلفة المساحات والأعماق. ومياه بحيرة جنيفا عذبة متجدّدة.
اسم البحيرة والمدينة
جاء اسم البحيرة والمدينة من “جنيف” عاصمة سويسرا، وقد أطلق المهاجرون السويسريون هذا الاسم على تلك المنطقة تخليدا لعاصمة بلادهم التي هاجروا منها إلى أمريكا.
حريق شيكاغو وبدايات بحيرة جنيفا
عام 1871 اندلع حريق أتى على مدينة شيكاغو وحوّلها إلى رماد، وهناك عدّة روايات حول أسباب ذلك الحريق، ويرجّحون أنّ ثورا هائجا قلب فانوسا نفطيّا، فاشتعلت النّيران في مزرعة الأبقار، وامتدّت إلى الأشجار والبيوت الخشبيّة الأخرى، واحترقت المدينة بكاملها، ممّا أجبر سكانها على الهروب منها طلبا للنّجاة بحياتهم…ووصل أثرياء المدينة إلى بحيرة جنيفا، حيث كانت أخر محطّة يصل إليها القطار في حينه، وكانت وقتئذ منطقة خالية تطغى عليها الغابات، واستقروا هناك، فكانت هذه بداية تأسيس “مدينة بحيرة جنيفا”.
في الطّريق إلى البحيرة
الطريق إلى البحيرة تحفّ جانبيه الأشجار الحرجيّة المعمّرة من بقايا الغابات التي كانت تطغى على القارّة الأمريكيّة، وما أن يخرج المرء من حدود ضواحي شيكاغو حتّى يدخل ريف ولاية ويسكنسن، وهو ريف زراعيّ تنتشر فيه مزارع تربية الأبقار الذي تشتهر بها الولاية.
بحيرة جنيفا
لم نتجوّل في “مدينة بحيرة جنيفا، وهي مدينة سياحيّة لا يزيد عدد سكانها المقيمين فيها على 7500 شخص، لأنّ غالبية بيوتها يملكها أثرياء يأتونها للاستجمام فقط، وفي أوقات متباعدة. دخلنا طرف المدينة من جهة البحيرة حيث المنطقة السّياحيّة، والمسابح، وتسمّى Rivera ومنها يكشف المرء امتداد البحيرة التي تحيط بها الأشجار الحرجيّة الكثيفة…يرى المرء من هناك قوارب على شاطئ البحيرة، عدا عن القوارب التي تمخر عباب مياهها، ومن منطقة الرّيفيرا استقلّينا قاربا سياحيّا يتّسع لخمسين شخصا، فيه مرشد يشرح عن القصور الفاخرة المقامة على شاطئ البحيرة وسط الأشجار الكثيفة، ليكتشف المرء أنّ لكلّ بيت موقفا لقاربه أو أكثر من موقف لأكثر من قارب، وهذه المواقف يجري رفعها عند بداية موسم تجمّد البحيرة ما بين كانون أوّل ـ ديسمبر ـ و آذار ـ مارس ـ من كلّ عام. ويكلّف ذلك مبلغ ثلاثة آلاف دولار كما قال المرشد.
ممّا قاله المرشد أنّهم كانوا يشترطون عند ترخيص الأبينية المحيطة بشاطئ البحيرة، أن لا يكون للبيت الجديد شبيه في البيوت المقامة، لذا فإنّ المارّ بالقارب السّياحيّ سيرى بيوتا لافتة حجما وهندسة وشكلا. يتراوح ثمن البيوت الأرخص سعرا على شاطئ البحيرة ما بين ثلاثة ونصف وأربعة ملايين دولار، في حين يزيد ثمن بعض البيوت عن العشرة ملايين دولار بكثير، وتتراوح ضريبة السّكن على هذه البيوت ما بين 40 و 60 ألف دولار في السّنة.
مصائب قوم عند قوم فوائد
مررنا بقصر فخم بناه مليونير من أصل ألمانيّ عام 1901 بتكلفة مليوني دولار في حينه، وهو مكوّن من أكثر من مئة غرفة، وقصّة هذا القصر أنّ صاحبه اشترى مساحات شاسعة من أراضي شيكاغو المحترقة بثمن بخس، ولمّا أعيد بناء المدينة اغتني من الأراضي التي باعها بأسعار مرتفعة، ممّا أثار غيرة أثرياء المدينة الذين بنوا بيوتا في مدينة بحيرة جنيفا، فاختار نكاية بهم تلّة تعلو بيوتهم جميعها، ويراهم منها ويرونه هم ايضا، وبنى قصره هذا عليها.
الثّراء للمبدعين
من اللافت أنّ هناك قصورا متجاورة وعلى مساحات شاسعة لأبناء عائلات، توارثت الثّراء عن جدّهم الأوّل، مثل عائلة Wriggley التي تعتبر من أشهر عائلات شيكاغو وأكثرها ثراء، وهم يملكون مصانع وملاعب رياضيّة وغيرها، وكانت بدايات ثرائهم صناعة ” علكة السّهم” وبعض الحلويات مثل Mars وغيرها.
من خلال ما يقوله المرشد يظهر بأنّ أصحاب هذه القصور كانوا مبادرين ومخترعين فمثلا أشار إلى قصر عظيم وقال:
هذا قصر مخترع ثلاجات حفظ الطّعام التي تجوب الشّوارع لتوزيعه على المحلّات، وذاك قصر صاحب ومؤسس صحيفة شيكاغو سن تايمز Chicago Suntimes” وذاك قصر المدير المالي لجامعة شيكاغو…إلخ.
وقصور شاطئ بحيرة جنيفا يملكها أثرياء من مختلف أنحاء أمريكا، الذين يفاخر الواحد منهم أنّه يملك بيتا في هذه المنطقة الجميلة.
والعجيب أنّهم لا يسكنون هذه القصور الفارهة، بل يقضون فيها اجازاتهم الأسبوعيّة، ويقيمون فيها احتفالاتهم ومناسباتهم كالاحتفال بعيد ميلاد أحدهم.
5 تموز 2015

أمريكا لفيف من العالم
يعرف العالم جميعه أنّ الولايات المتّحدة الأمريكيّة هي الدّولة الأغنى والأقوى في العالم، علما أنّ القارّة الأمريكيّة تعتبر “العالم الجديد” حيث اكتشفها عام 1492 الاسباني كريستوفر كولمبوس، واعتقد في حينه أنّه وصل “جزر الهند الغربيّة”.
توالت هجرات الأوروبّيّين إلى العالم الجديد، وخاضوا حروبا ضدّ سكّان البلاد الأصليّين المعروفين “بالهنود الحمر”، وقضوا على عشرات الملايين منهم.
في 4 تموز 1776 أعلن استقلال الولايات المتّحدة الأمريكيّة عن بريطانيا…وتوالت الهجرات إلى هذا البلد من مختلف دول العالم.
ونحن نسوق هذه العجالة للفت الانتباه بأنّ هذه الامبراطوريّة التي تتحكّم بالعالم حديثة العهد، وأنّ شعبها خليط من أجناس بشريّة متعدّدة المنابت والألوان والمعتقدات، ومع ذلك استطاعوا التآلف ليبنوا البلد الأغنى والأقوى في العالم.
صحيح أنّ الولايات المتّحدة بلاد شاسعة وغنيّة تبلغ مساحتها 9629091 كم مربّع، وهي أراض خصبة كانت تطغى عليها الغابات. لكنّ الذي بناها هو الانسان الذي طوّر الزّراعة، واستغل الثّروات الطّبيعيّة، وقام بتصنيع البلاد، وبحث عن أسواق جديدة.
فكيف استطاعت هذه الأجناس البشريّة المتعدّدة الأصول والمشارب والثّقافات بناء هذه الامبراطوريّة؟
فلا يكاد يوجد جنس بشريّ إلا ومنه من هاجروا إلى هذا البلد، استقرّوا فيه وأصبحوا من رعاياه، وفيه مختلف الدّيانات السّماويّة والوضعيّة والوثنيّة، وفيه الملاحدة الذين لا يؤمنون بأيّة آلهة، وفيه كلّ لغات الأرض.
والواقع أنّ الدّستور الأمريكي ضمن الحرّيّات الشّخصيّة والدّينيّة، وما يندرج تحتها من مسمّيات، وفصل السّلطات الثّلاث “التّشريعيّة، التّنفيذيّة والقضائيّة” وبنى الدّولة المدنيّة التي يسودها القانون، ويتساوى أمامه جميع المواطنين، فاللغة الانجليزيّة هي اللغة الرّسميّة، لكن من حقّ أيّ مواطن أن يتكلّم اللغة التي يريد، سواء كانت لغته الأمّ أو لغة تعلّمها، بل هناك في المؤسّسات الاقتصاديّة علاوة ماليّة لمن يجيد لغات أخرى، وضمن حرّيّة المعتقد لكلّ أتباع الدّيانات أن يبنوا دور عبادتهم، وأن يؤدّوا شعائرهم الدّينيّة كيفما يشاؤون، وأن يفتحوا المدارس الخاصّة بهم ومنها مدارس دينيّة، وأن يتعلّموا لغة آبائهم وأجدادهم، وجاءت هذه التّعدّدية العرقيّة والدّينيّة والعقائديّة واللغويّة لتشكل فسيفساء شعب يحترم بعضه بعضا، ويعرف كيف يبني دولة عظمى ويحافظ عليها.
فاستغلّوا الأراضي الزّراعيّة بشكل جيّد، وطوّروا التّعليم في مختلف مراحله، وصنّعوا البلاد، لأنّهم عرفوا جيّدا كيف يبنون الانسان.
وهذا – مع الأسف- ما لا يعرفه من يزعمون أنّهم ورثة أمجاد يتغنّون بها، ومنهم نحن العربان، فلم نعرف ولا نزال لا نعرف كحكومات وكشعوب كيف نحترم ونعترف ونقرّ بحقوق الأقلّيّات الدّينيّة والعرقيّة في بلداننا، ولم نرسّخ حتّى أيّامنا هذه مفهوم” الدّين لله والوطن للجميع” لذلك فإنّنا نعيش اقتتالا طائفيّا وعرقيّا نقتل فيه بعضنا بعضا، وندمّر أوطاننا وخيراتنا، وأضعنا أوطانا وأصبحنا اضحوكة بين الأمم دون أن ننتبه إلى ما نحن فيه. فهل كنّا سنصل إلى هذا الدّمار وهذا الخراب لو كانت عندنا دول أو دولة مدنيّة يسود فيها القانون، وتحفظ حقوق مواطنيها؟ ولماذا لا نتّحد ونحن نتغنّى بالوطن الواحد، اللغة الواحدة، الدّين الواحد، العرق الواحد، والتّاريخ المشترك؟ وهل استطعنا عبر هذا التّاريخ بناء دولة حقيقيّة، أم أنّنا بنينا تحالفات عشائريّة تتربّص ببعضها البعض؟
8 تمّوز 2015

فقراء في أمريكا
سيذهل الزّائر لأمريكا للمرّة الأولى ممّا يرى، فأن تكون في الدّولة الأغنى في العالم ستصعب عليك المقارنة مع دول فقيرة وحتى غنيّة أخرى، وممّا أذهلني هو رؤيتي لغابة من ناطحات السّحاب، تخترق الغيوم وتعتليها أثناء نزول الطّائرة التي كنت فيها في مطار “أوهير” في شيكاغو، وتكرّر المشهد أيضا في نيويورك. وكذلك رؤيتي لقطار يمرّ في شيكاغو حاجزا حركة السّيارات لأكثر من ربع ساعة، وكلّ عرباته تحمل نتاج المصانع. ولفت انتباهي الجسور التي تمتد لمئات الكيلومترات طبقات فوق طبقات؛ لتحلّ مشكلة ازدحام حركة ملايين السّيّارات. وكذلك محلّات الشّركات العملاقة التي تغطي فروعها مدن وقرى الولايات المتّحدة الأمريكيّة. وهناك الكثير الكثير الذي يذهل الزّائر لهذا البلد، لأنّه لا يرى ما يراه في أمريكا في بلدان أخرى.
وهذا الثّراء الفاحش لا ينفي وجود فقراء في أمريكا، لكن لهذا الفقر أسبابه، وإن اختلفت عن مثيلاتها في الدّول الفقيرة. فضمان الدّخل في أمريكا يقدّم مساعدات مجزية لمواطنيها الفقراء. ويستطيع المرء مشاهدة المستفيدين من ضمان الدّخل في المحلّات التجارية عندما يشترون الموادّ الغذائيّة، ويدفعون ثمنها من بطاقة المساعدة، حيث تسحب ماكينة المحلّ ثمن البضاعة مباشرة من حساب الزّبون إلى حساب المحلّ. لكنّ بعض هؤلاء المستفيدين من هذه المساعدات ينفقونها على المخدّرات والكحول، ولهم طرقهم الخاصّة للالتفاف على القانون الذي يمنع انفاقها على ذلك. وفي حارات الفقر والمخدّرات يجد المرء بسهولة من يتسوّلون سيجارة أو ربع دولار! كما توجد الجريمة التي تصل درجة القتل في عملية “تقشيط”.
أمريكا دولة القانون لا تتهاون مع مرتكبي الجرائم، بغضّ النّظر عن ماهيّة الجريمة، لذا فإنّ عدد السّجناء فيها يتراوح بين مليونين ونصف إلى ثلاثة ملايين شخص.
وأمريكا بلد الثّراء والفرص ـ لمن يعرف كيف يستغلّها ـ فيها ملايين المهاجرين غير الشرعيّين، خصوصا من المكسيك الجارة الجنوبيّة، وهؤلاء لا تقدّم الحكومة الأمريكيّة المساعدة لهم؛ لأنّهم ليسوا من رعاياها. بل إنّ وجودهم فيها غير شرعيّ، لكنّها تقبل أبناءهم في مدارسها، وتقدّم لهم وجبات الطّعام مع طلابها؛ لأنّهم لا ذنب لهم كأطفال بدخول البلد بطريقة غير مشروعة، ويختلف الوضع مع أطفالهم الذين يولدون في أمريكا، فهؤلاء مواطنون أمريكيّون… شاهدت في ولاية نيو مكسيكو وهي ثاني أفقر ولاية في أمريكا بعد ولاية المسيسبّي بيوتا من ألواح الزّينكو، أمام كلّ منها حصان غير أصيل، وهذه البيوت يسكنها المهاجرون غير الشرعيّين القادمون من المكسيك المجاورة. وفي نفس الولاية شاهدت قرى للأمريكيّين الأصليّين “الهنود الحمر” تقع على جوانب السّيول التي تتغذّى بذوبان مياه الثّلوج على رؤوس الجبال، فبيوتهم طينيّة فقيرة، وبعضهم يزرع خضروات بسيطة كملفوف السّلَطة. كما شاهدت في مدينة سانتافييه في نفس الولاية ساحة يبيع فيها الهنود الحمر صناعاتهم اليدوية البسيطة والرّخيصة والفقر ظاهر على وجوههم.
8 تمّوز 2015

شيكاغو نموذج للمدن الأمريكيّة
تأسّست مدينة شيكاغو عام 1833، وفي حينه لم يتجاوز عدد سكانها الثلاثمائة شخص، وتطوّرت حتى بلغ عدد سكّانها ما يقارب المليون عندما تعرّضت للحريق الذي أتى عليها عام 1871، وبقيت تتطوّر كثالث أكبر مدينة أمريكيّة اقتصاديّا بعد نيويورك ولوس انجلوس، حيث بلغ عام 2010 نتاجها الاقتصاديّ 532 مليار دولار، وتعتبر المدينة التّاسعة في ترتيب المدن الأغنى في العالم.
وسنأخذها كنموذج للمدن الأمريكيّة. تبلغ مساحة شيكاغو الكبرى 28 ألف كيلومتر مربع، ومساحة مركز المدينة Down Town أربعة كيلو متر، وهي منطقة ناطحات السّحاب، وتتمركز فيها مقرّات ومكاتب كبريات الشّركات، وبورصة شيكاغو. ولكي تستطيع البلديّة تقديم خدمات لائقة بالمدينة وسكّانها، فقد تقسّمت إلى بلديّات يصل عددها إلى 205 بلديّة تشكّل في مجموعها ” شيكاغو الكبرى” في حين تبلغ مساحة بلديّة شيكاغو الأمّ 600 كلم، يسكنها حوالي 2.750.000 نسمة، في حين يبلغ عدد سكّان شيكاغو الكبرى حوالي عشرة ملايين شخص. ولا يستطيع المرء أن يحدّد حدود بلديّة من أخرى نظرا لتداخلها مع بعضها البعض. يبدو أنّ التقسيم من أجل تحسين الخدمات سائد في المدن الأمريكيّة الكبرى، ففي هيوستن في ولاية تكساس فإنّ الحيّ الرّاقي الذي يسكنه ابن العمّ محمّد موسى السلحوت لا يزيد عدد بيوته عن بضع مئات، وله بلديّة خاصّة.
وتتخلّل المدينة شبكة طرق هائلة، وهذا موجود أيضا في أرجاء أمريكا كافّة، وهي شوارع واسعة ذات اتّجاهين، كما أنّ هناك شوارع على الجسور المكوّنة من عدّة طبقات، ومنها الطّرق السّريعة High way، كما أنّ هناك جسورا تسير عليها القطارات، وتخدم المدينة شبكة مواصلات هائلة، فعدا عن السّيّارات الخاصّة هناك الباصات، قطارات الرّكّاب، والميترو التّحت أرضي. والشّوارع لها صيانات دائمة، حتّى أنّ المرء يشاهد عمليّات حتّ الشّوارع وتعبيدها مع أنّه لا عطب فيها. إضافة إلى مطار “أوهير” الدّولي الذي يعتبر ثاني أكبر مطار ازدحاما في العالم، وهناك مطار “ميد واي” الدّاخليّ، ومنه انطلقت الطّائرة التي حملت القنبلة النّوويّة التي ألقيت عى مدينة هيروشيما اليابانيّة عام 1945 في الحرب الكونيّة الثّانية.
والأحياء منظّمة بشكل لافت، فلا وجود للأبنية العشوائيّة، وهناك مواقف للسّيارات أمام البيوت السّكنيّة، ومواقف عامّة في المناطق التّجاريّة. وهناك الحدائق الخّاصّة أمام البيوت، والحدائق العامّة الواسعة والتي تزيد مساحة الواحدة منها عن المئة دونم، تتوسّطها بحيرات صغيرة، تعيش فيها الأسماك، وتعشّش على جنباتها الأرانب وطيور البطّ والإوزّ. وتوجد غابات صغيرة من بقايا الغابات القديمة التي كانت تكسو القارّة الأمريكيّة، وفي هذه الغابات يعيش عدد من الغزلان التي لا ينغّص عيشها أحد، وفيها ملاعب للكرة الأمريكيّة وللغولف، وهناك حديقة”الألفيّة” التي توجد فيها نافورة “التّاج” العجيبة.
في مدينة شيكاغو عدد من المتاحف، ومنها متحف شيكاغو الموجود تحت الأرض على شكل أسواق، ويحتاج المرء ساعات طويلة ليمرّ في جنباته دون توقّف. كما يوجد متحف للكائنات البحريّة بأشكالها وأنواعها، وهناك متحف للأطفال، وفي شيكاغو عدّة مسارح منها مسرح شكسبير الذي يقدّم ليليّا مسرحيّات لشكسبير، ومن يريد أن يحضر مسرحيّة فيه عليه أن يحجز قبل عدّة شهور. وهناك حديقة الثّقافة الواسعة جدّا، وفيها مسرح مكشوف، تقدّم فيها مسرحيّات وحفلات غنائيّة مجّانيّة. وهناك عدد من الجامعات المتميّزة كجامعة شيكاغو، وجامعة نورث ويستيرن.
وفي “النّورث غاليري، والنّير نورث سايد” ثاني أكبر مجموعة للمعارض واللوحات الفنّيّة بعد نيويورك.
وفي المدينة حديقة حيوان لنكولن، والمرء يحتاج إلى يوم كامل ليزور محتوياتها، فهي تضع الحيوانات في أماكن شبيهة بالبيئة التي تعيش بها في الطّبيعة.
والنّظافة لافتة أيضا، فالشّوارع نظيفة، والحدائق نظيفة أيضا، ومن لا يهتمّ بجزّ الأعشاب حول بيته فإنّه يتعرض لغرامات عالية.
ومن الأمور اللافتة أنّ خطوط الماء والكهرباء والهاتف والغاز في غالبيتها العظمى تحت أرضيّة، والغاز يصل إلى البيوت بمواسير كشبكات المياه، وهناك حارات لا تستعمل الغاز مطلقا، بل تعتمد على التّيّار الكهربائيّ بشكل كلّيّ.
9 تموز 2015

التّعليم في شيكاغو
تغطي المدارس الحكوميّة كافّة مناطق الولايات المتّحدة الأمريكيّة، وشيكاغو ليست استثناء بالطّبع. والتّعليم ليس مركزيّا في أمريكا، لذا فإنّ البلاد مقسّمة إلى “مديريّات” تعليميّة.
كلّ مديريّة لها منهاجها الخاصّ بها، والذي يضعه خبراء تابعون لها. وتتركّز المناهج الأمريكيّة على الموادّ العلميّة التي تناسب عمر الطالب، ولا تعتمد على ضخامة الكتب وكثرة عدد صفحاتها، سبق وأن رافقت أخي داود في بداية العام الدّراسيّ المنصرم 2014-2015 إلى المدرسة لشراء الكتب المقرّرة لابنه علاء الطّالب في الصّف الثّاني عشر، وكانت ستّة كتب منها اثنان يصل عدد صفحاتهما إلى ما يقارب الثلاثماية صفحة، وما تبقى أقلّ من ماية وخمسين صفحة.
ومرحلة التّعليم الالزاميّ تشمل حتّى نهاية الصّف الثّاني عشر.
أبنية المدارس:
شاهدت في شيكاغو عشرات المدارس الرّسميّة، دخلت اثنتين منها فقط، واحدة ابتدائيّة والثّانية ثانويّة. وجميعها مدارس مختلطة. يلاحظ أنّ المدارس مقسّمّة عمريّا، فمثلا هناك مدرسة للصّفوف الابتدائيّة الثّلاثة الأولى، وهناك مدرسة من الرّابع حتّى السّادس وهكذا.
الأبنية المدرسيّة صمّمت لتخدم الطلّاب، فالنّوافذ تحتلّ واجهتين من البناء، وهذا يعني أنّ هناك نوافذ على طول واجهتين من كلّ صفّ دراسيّ، وكلّ صفّ مساحته لا تقل عن 36 مترا مربّعا، عدد طلبة الصّفوف لا يزيد عن سبعة وعشرين. والأبنيّة مكيّفة كهربائيّا، للتّبريد في الصّيف والتّدفئة في الشّتاء. وهناك الملاعب المدرسيّة الواسعة والتي تفي باحتياجات الطّلاب.
في المدارس الثّانوية شاهدت مواقف للسّيّارات تتّسع لمئات السّيّارات. وللمدارس الابتدائيّة باصات خاصّة تجوب المنطقة؛ لنقل الطّلاب من بيوتهم إلى المدرسة صباحا، وتعيدهم إليها عند انتهاء الدّوام.

وجبات الطّعام:
تقدّم المدارس الابتدائيّة وجبتي طعام لطلبتها “فطور وغداء” في حين أنّ الثّانويّة تقدّم وجبة غداء فقط، وهي مجّانيّة في الأحياء الفقيرة ومدفوعة بمبلغ رمزيّ في الأحياء الثّريّة.
حسب القانون الأمريكيّ فإن ضريبة السّكن على الأبنية تجمعها البلديّات لتنفقها على التّعليم في حدودها البلديّة، من هنا فان الطّبقيّة تبدو واضحة، ففي المناطق الثّريّة ترتفع ضريبة السّكن، وينعكس ذلك على أبنية المدارس فيها، حيث يشاهد المرء فخامة الأبنية واتّساع الملاعب والحدائق المدرسيّة.
يلاحظ أنّ التّحصيل العلميّ في مدارس الأحياء الرّاقية أعلى منه في الأحياء الفقيرة، ولذلك أسبابه ومنها مستوى التّعليم والمداخيل لأولياء الأمور، وطبيعة انعكاسه على تربية الأبناء.

أنواع المدارس:
بجانب المدارس الرّسميّة هناك المدارس الخاصّة وهي أنواع أيضا ومنها:
المدارس الكاثوليكيّة: وهي مدارس غير مختلطة، وتقوم على تربية الطّالبات والطّلّاب على القيم الكاثوليكيّة المحافظة. وهي تتقاضى رسوما مرتفعة.
المدارس الاسلاميّة:
هي مدارس تعنى بتربية طالباتها وطلّابها على القيم الاسلاميّة، وتدرّسهم مبادئ الدّين الاسلاميّ، واللغة العربيّة، ومعلّماتها وطالباتها يرتدين الزّيّ الشّرعيّ، ومن هذه المدارس مدرسة جمعيّة الأقصى في حيّ “بردج فيو” بجانب مسجد “جمعيّة الأقصى” المكوّن من طابقين واحد للرّجال والثّاني للنّساء، وكلّ طابق فيه قاعتان واسعتان للصّلاة، وتقام فيه صلاة الجمعة مرّتين لكثرة المصلّين، فالقانون الأمريكيّ لا يسمح بالصّلاة في العراء، يضاف إلى ذلك برودة الطّقس شتاء، وحرارة الجّوّ المرتفعة صيفا، والتي قد يصاحبها أمطار غزيرة دافئة، وتتقاضى هذه المدرسة 600 دولار على الطّالب شهريّا.
المدارس اليهوديّة: هناك مدارس دينيّة يهوديّة لم أشاهدها، لكنّني سمعت عنها.
مدارس خاصّة أخرى: ومنها مدرسة لمختلف المراحل الدّراسيّة موجودة في حرم جامعة شيكاغو التي تعتبر واحدة من أشهر عشر جامعات في العالم، ورسوم هذه المدرسة مرتفعة جدّا وتصل إلى خمسين ألف دولار في السّنة، ويلتحق بها الطّلبة في سنّ الثّالثة.
مدارس مونتسيوري:
هي مدارس خاصّة تحمل اسم رائدتها وصاحبة فكرتها الدّكتورة ماريّا مونتسيوري التي أسّستها عام 1907، وهي تقوم على تنمية الطّفل لما يرغب أن يكونه في المستقبل، وتعتمد على التّطبيق العمليّ والتّعليم بالتّجربة والاقناع، والابتعاد عن التّلقين، ويتحدّثون في أمريكا بأنّ كلّ من أبدعوا في العلوم الحديثة والتّكنولوجيا هم خرّيجو هذه المدارس. وهذه المدارس ابتدائيّة” حتّى الصّفّ الابتدائيّ السّادس” وغالبيّة طلابها يغادرونها إلى مدارس متقدّمة بعد الثّالث الابتدائيّ.
تنمية المواهب:
تعتني المدارس الأمريكيّة بالمواهب منذ الصّغر، وهناك مختصّون في مكاتب التّربية والتّعليم لمختلف المواهب، يجري تصنيف الطّلبة المتفوّقين في مختلف المدارس من الصّف الابتدائيّ الثّالث، حيث يجري نقل المتفوّقين الموهوبين إلى مدارس مختصّة، مثل مدارس الرّياضيّات والعلوم المختلفة، الفنون والآداب وغيرها. ويرافق الطّالب الموهوب مرافقة بسيّارة خاصّة من بيته حتى المدرسة المختصّة وبالعكس. لذا فلا غرابة ولا داعي للتّساؤل عن أسباب وجود العلماء والمبدعين في مختلف المواضيع.
الأنظمة المدرسيّة:
العقاب الجسديّ والنّفسيّ للطّلاب ممنوع تماما، لكن هناك قوانين صارمة ورادعة لحفظ النّظام المدرسيّ، وتطلع ادارات المدارس أولياء الأمور على أيّ مخالفة يرتكبها ابنهم مهما كانت بسيطة، كعدم قيامه بالواجبات البيتيّة المطلوبة منه. واذا ما ارتكب الطّالب مخالفة كاعتدائه جسديّا على زميل له، أو إساءته لاحدى معلّماته أو معلّميه، فإنّه تجري له “محاكمة” يشارك فيها إدارة المدرسة، مندوب عن لجنة أولياء الأمور، مندوب عن مكتب التّربية والتّعليم، ومندوب عن البلديّة وآخرين، ويوكل بعضّ أولياء الأمور محاميا للدّفاع عن ابنهم كما جرى مع علاء ابن أخي داود الذي تشاجر بصحبة أربعة طلاب عرب مع طالب من أصول تركيّة خارج المدرسة، وفي حيّهم السّكنيّ. كان في “المحكمة” اثنا عشر شخصا يمثّل كلّ منهم مؤسّسة لها علاقة بالتّعليم، وكان القرار بنقل الطّلاب العرب إلى مدرسة خارج نطاق مديريّة التربية والتّعليم التي تقع فيها المدرسة لمدّة عامين، واذا لم ينقله وليّ أمره فإنّه ينقل إلى مدرسة “للمارينز” في ولاية أخرى، ولا يسمح لذوية بزيارته إلّا مرّة في الشّهر، وهناك تطبّق عليه بعض تدريبات المارينز، كالرّكض ستّة كيلومترات في الخامسة صباحا، وتناول الطّعام مع المارينز في دقائق معدودة دون الاعتراض على نوعيّة الطّعام. ولا يجوز للوالدين الاعتراض أو اخراج ابنهم من المدرسة؛ لأنّه في مرحلة التّعليم الالزاميّ، وقد نقل أخي ابنه إلى مدرسة تبعد عن بيته ستين كيلومتر.
الحوافز التّعليميّة:
للطّلبة المتفوّقين حوافز تدفعهم إلى مزيد من التّفوّق، فمثلا هناء ابنة شقيقي داود الطّالبة في الصّف السّابع في هذا العم الدّراسيّ”2014-2015″ متفوّقة، وقد حصلت على شهادة “مرتبة شرف” في كلّ مادّة. أيّ على عدّة شهادات شرف، ومن الحوافز وضع علامة للطّالب المتفوّق تتعدّى العلامة القصوى، كأن يوضع له ماية وعشرة علامات من مئة. كما يجري الاحتفاء به بحضور والديه وأولياء الأمور الآخرين.
أساليب التّدريس:
التّدريس في المرحلة الثّانوية يعتمد السّاعات المعتمدة كما الجامعات، وهناك وحدات تعليميّة مطلوبة من الطالب، ولا غرابة أن تجد طالبا في الصّف التّاسع مثلا يدرس الرّياضيات مع طلبة في الصّف الثّاني عشر، لأنّه استكمل المطلوب منه في المراحل السّابقة.
هناك ارتباط وتنسيق بين كلّ مدرسة ثانويّة مع عدّة جامعات في منطقتها، ويأتي مندوبون عن هذه الجامعات؛ ليشرحوا للطّلاب عن جامعاتهم، وليشجّعوهم على الالتحاق بها. ومن هنا فإنّ بعض الطّلبة المتفوّقين في المرحلة الثّانويّة قد ينهون ما يصل إلى خمس عشرة ساعة جامعيّة وهم في المرحلة الثّانويّة.
12 تمّوز 2015

شلالات نياجرا والطبيعة السّاحرة
يوم السبت 18 تموز 2015 انطلقت أنا وزوجتي مع ابننا الحبيب قيس وزوجته مروة جنّح وطفلتهما السّاحرة لينا ابنة الشّهرين من شيكاغو؛ لزيارة شلالات نياجرا في ولاية نيويورك عند حدود كندا والتي تبعد عنّا 1000كيلو متر، اجتهد قيس بأن نزور في طريقنا مدينة ديترويت في ولاية متشيجن، حيث يوجد أكبر جالية عربيّة في أمريكا، وهذا يطيل المسافة علينا بأكثر من مائتي ميل. وفي ديترويت شاهدنا “مولات” وأسواقا تجاريّة تعلوها لافتات باللغتين العربيّة والانجليزيّة. بعد أن تناولنا طعام غدائنا في مطعم “المسجوف” الذي يملكه أخوة عراقيّون، لم يكن المسجوف مسجوفا، ولا علاقة له بالمسجوف العراقيّ الفريد من نوعه، والمعروف بجودته ومذاقه الخاصّ، واصلنا طريقنا إلى شلالات نياجرا. ومن ديترويت كان هناك جسر عبور إلى كندا، يختصر الطّريق إلى نصف المسافة تقريبا، لكنّنا لا نستطيع عبوره؛ لأنّنا لا نملك الجنسيّة الأمريكيّة، ولا نملك فيزا عبور لكندا أيضا، لكنّ اللافت أنّ الشّارع والأبنية رصيف منه يتبع كندا والآخر يتبع الولايات المتّحدة الأمريكيّة، وهذا ما شاهدناه لاحقا في أكثر من موقع في طريقنا إلى الشّلالات، حيث يشاهد المرء بسهولة العلمين الأمريكيّ والكنديّ في منتصف الجسر. الأمريكيّون والكنديّون يدخل كلّ منهم البلد الآخر بسهولة متناهية ودون تأخير. وبالتّالي لم يكن أمامنا خيار سوى الالتفاف حول بحيرة” إري” من الجانب الأمريكيّ للوصول إلى الشّلالات.
بحيرة إرِي Erie
وهي بحيرة مشتركة بين أمريكا وكندا، وتبلغ مساحتها 25 ألف كلم مربّع. ومياها عذبة.
نهر نياجرا:
ينبع من بحيرة “إري” وطوله 188 ميلا، يبلغ أقصى عرض له حوالي 2600 متر. وأقلّ عرض له هو 430 مترا، وقبل الشّلالات ينقسم إلى قسمين، قسم يتّجه إلى الأراضي الكنديّة، وقسم يبقى في الأراضي الأمريكيّة، لتتشكّل جزيرة أمريكيّة بين الرّافدين.
خمس ولايات:
المسافر برّا من شيكاغو في ولاية الينوي، يمرّ بخمس ولايات أخرى هي: انديانا، متشيجن، أوهايو، بنسلفانيا ونيويورك. وبامكان المرء أن يعبرها عبر شارع رقم 90 السّريع، وهذا الشّارع يخترق أمريكا من شرقها إلى غربها، لينتهي في ولاية واشنطن في غرب الولايات المتّحدة، ومن الحقائق التي لا يعرفها كثيرون أنّ مدينة واشنطن عاصمة الولايات المتّحدة الأمريكيّة لا تقع في ولاية واشنطن، بل هي مدينة مستقلّة بذاتها، لذا لا يوجد لها ممثّلون في الكونغرس لأنّها ليست ولاية، ولا تتبع ولاية أيضا.
الطّريق:
الطّريق السّريع يتكوّن من اتّجاهين، في غالبيّتها، كلّ اتّجاه يتكّون من أربع مسارات، وبين الاتّجاهين جزيرة يتفاوت عرضها بين أربعة أمتار وحتى ما يزيد على المئة متر، وفيها تجويف تسير به مياه الأمطار؛ لتصبّ في إحدى الأنهار أو البحيرات، وهناك عدّة عشرات من الكيلومترات يفصل فيها قاطع اسمنتيّ بين الاتّجاهين لا يزيد ارتفاعه على السّبعين سنتمتر.
لكّن الأشجار الضّخمة تحيط بجانبي الطّريق، لتشكّل ما يشبه السّور، وبعضها هو امتداد لغابات، والطّريق كلّها خضراء، لا يشاهد المرء العابر لها سوى الأشجار الحرجيّة والمثمرة، الأبنية والشّوارع، المياه والأعشاب التي يجري جزّها وتهذيبها، خصوصا في الجزر بين اتّجاهي الشّارع. وفي شرق ولاية نيويورك حيث الشّلالات يمرّ المرء بالحقول الواسعة والممتدّة المزروعة بالعنب، وكلّها “معرّشة” كما يمر بلافتات تشير إلى مصانع العصير أو النّبيذ المصنّع من العنب. وأيضا يمرّ من أطراف بعض القرى والمدن الصّغيرة التي يعتمد سكّانها على الزّراعة.
يلاحظ المرء أنّ المدن الأمريكيّة الضّخمة معدودة على الأصابع كنيويورك، واشنطن، شيكاغو، لوس أجلوس، ميامي وهيوستن.
هناك أماكن استراحة على الطّرق تبعد الواحدة منها عن الأخرى حوالي ثمانين كيلومتر. وفي هذه المحطات مطاعم ومحلات تجاريّة ومحطات وقود، وقد لفت انتباهي وجود محطّات استراحة على الجزر الفاصلة بين اتّجاهي الشّارع، حيث يوجد جسر لمرور البشر عليه من فوق الشّارع من كلا الاتّجاهين. كما يلاحظ وجود فنادق ضخمة ومعروفة عالميّا على الطّريق، مثل فنادق هيلتون وهولي دي إن وغيرها، ويزداد عدد هذه الفنادق كلّما اقترب المرء من الشّلالات.
شلالات نياجرا Niagra Falls:
عندما يقف المرء أمام شلّالات نياجرا يسحره جمال الطّبيعة، ولا أعتقد وجود مكان طبيعيّ آخر يفوق جمال هذه الشّلالات، فضفّة النّهر الشّماليّة تقع في الجانب الكنديّ، والضّفّة الجنوبيّة في الجانب الأمريكيّ، وفي كلا الجانبين تمّ استغلال المنطقة بطريقة رائعة؛ لتكون منطقة جذب سياحيّ، ولهذا فإنّ حوالي 26 مليون شخص يرتادون هذه الشّلالات سنويّا، أي بمعدّل 70 ألف شخص يوميّا، ففي الجانب الأمريكيّ جرى تقسيم المنطقة المحاذية والمطلّة على الشّلالات إلى طرقات وحدائق تظلّلها الأشجار، وفيها مطاعم ومحلّات سياحيّة وحمّامات عامّة، ويحيط بها من جهة النّهر حاجز معدنيّ قويّ ارتفاعه حوالي متر وعشرين سنتمتر؛ ليحمي النّاظرين من السّقوط في النّهر، وهناك باص كهربائيّ يقلّ الزّائرين من طرف الجانب الأمريكيَ المحاذي للشّلّالات، إلى المنطقة السّياحيّة عند الشّلال الكبير الواقع بين حدود أمريكا وكندا.
الشّلالات:
يبلغ ارتفاع الشّلالات 54 مترا في الجانب الكنديّ و56 مترا في الجانب الأمريكيّ، وتبلغ كمّيّة المياه المتساقطة في الشّلالات 670 ألف جالون في الثّانية.
الشّلالات عبارة عن شلّالين عظيمين، واحد طوله حوالي 430 مترا يقع في الجانب الأمريكيّ، وفي طرفه الشّمالي مغارة هائلة، يتمّ النّزول إليها بدرج؛ ليقف المرء بين جزء من مياه الشّلالات وبين الانجراف الصّخريّ، تتساقط المياه من ارتفاع 56 مترا، على صخور سوداء اللّون كما بقيّة الجرف النّهريّ، محدثة خريرا هائلا، وباعثة رياحا محمّلة برذاذ المياه إلى مئات الأمتار. لتنقسم إلى جداول عظيمة بين الصّخور البارزة، قبل أن تختلط بمياه النّهر القادمة من الشّلال الكبير، الذي يبعد عنها بضعة مئات من الأمتار. أمّا الشّلال الكبير الواقع بين حدود البلدين ويسمّونه حذوة الفرس ” Horse shoe ” بناء على شكله، ويبلغ طوله حوالي 760 مترا.
من طرف الجانب الأمريكيّ هناك جسر يوصل إلى مصعد ينزل بالزّائرين 56 مترا إلى ضفّة مياه النّهر، حيث المنطقة مرتّبة بأدراج للوصول إلى السّفينة التي تقلّ الزّائرين لمواجهة الشّلالات بشكل مباشر، ومن لا يستقلّ السّفينة يستحيل عليه رؤية الشّلالات كاملة، بل يرى جزءا منها فقط، وحسب الزّاوية التي يقف فيها وينظر منها.
قبل الصّعود إلى السّفينة يرتدي الزّائر ثوبا أزرق الّلون من البلاستيك الخفيف ليقيه من رذاذ الماء المتطاير من سقوط الشّلالات، والذي يشكل ما يشبه جبلا من الدّخان، في حين يرتدي الزّائرون في الجانب الكنديّ ثوبا بلون أحمر، ويصعدون في سفينة أخرى تبحر من الجهة المقابلة للسّفينة الأمريكيّة. وكلّما اقتربت السّفينة من الشّلالات كلّما ازداد رذاذ المياه، وازدادت قوّة الرّياح الباردة المنبعثة من الشّلالات، ويستحيل على المرء رؤية الشّلالات كاملة ما لم يواجهها من السّفينة. ويلاحظ وجود بناء قديم مكوّن من عدّة غرف متجاورة تحت الشّلالات في الجانب الكنديّ، كانت تستعمل لوضع أجهزة لتوليد الطّاقة الكهربائيّة في مرحلة سابقة. تمخر السّفينة عباب مياه النّهر الذي يزيد عرضه على الأربعمائة متر؛ لتصل على مسافة ليست بعيدة عن تساقط مياه شلّال “حذوة الفرس” وعلى الجانب الأمريكيّ حيث يوجد مسافة صخريّة بين الانجراف الصّخريّ ومياه النّهر هناك أعداد هائلة من طائر النّورس بين الصّخور والأعشاب والأشجار…لا تستغرق رحلة السّفينة أكثر من ربع ساعة، لتعود مرّة أخرى إلى مكان انطلاقها، تنزل حمولتها وتحمل حمولة أخرى ودواليك.
وهناك مهبط لطائرات هليوكبتر صغيرة تتّسع الواحدة منها لأربعة أشخاص، تقلّ من يريد جولة جوّية فوق الشّلالات.
بُهِت الذي آمن:
من الطّريف أنّ مسلما باكستانيّا أو هنديّا كما تشي بذلك ملابسه، عندما رأى الشّلالات ذهل، وأخذ يهتف بصوت مرتفع “الله أكبر” ويبدو أنّ صاحبنا رأى في الشّلالات معجزة إلهيّة، ولا يعلم أنّ العلم والمال في بلاد “الكفّار” قد جعلتا من هذه المنطقة ما يسرّ النّاظرين، ولو كانت في بلدان “المؤمنين” لجرى اغلاق المنطقة ومنع الدّخول إليها خوفا على حياة من يمرّ قربها، أو لأنّها مسكونة بالجنّ والشّياطين، كما تفرز عقليّة “فوائد شرب بول البعير”.
وتحت شجرة عملاقة وغير مثمرة كانت امرأة عجوز من جنوب شرق آسيا، تفرد فِراشها، تلعب تمارين اليوغا…مرّ بها سنجاب، أخذ يقفز أمامها، فتركت طقوس اليوغا، وشرعت تتحدّث مع السّنجاب وتصوّره سعيدة ضاحكة.
في السّاعة العاشرة ليلا انطلقت من الجانب الكنديّ ألعاب ناريّة أضاءت سماء الشّلالات، وأضفت عليها جمالا على جمال.
مدينة شلالات نياجرا
مدينة صغيرة، تعيش على السّياحة، تنتشر فيها الفنادق والمطاعم، ولا شيء لافت فيها.
الجانب الكنديّ:
تقف على الجانب الكنديّ الذي يزيد ارتفاعه عن مثيله في الجانب الأمريكيّ عدّة أبراج تشغلها فنادق معروفة، وكما يبدو من اللافتات الضّخمة على تلك الأبراج هناك “كازينو”أيضا، كما يوجد برج يرتفع عدّة مئات من الأمتار، وفي قمّته ثلاثة طوابق دائريّة فيها مطعم يدور مكانه، وعلى واجهته الخارجيّة مصعد كهربائيّ مكشوف يرى الصّاعد والنّازل فيه المكان.
21 تمّوز 2015

المرّة الأولى
المرّة الأولى التي دخلت فيها الولايات المتحدة الأمريكيّة كانت في 16-7 1985، بدعوة من أخي احمد، الذي درس الصيدلة في احدى جامعات هيوستن في ولاية تكساس، سافرت على متن طائرةT.w.A. من مطار تل أبيب مباشرة إلى مطار كنيدي في نيوورك، وهو مطار ضخم جدّا، له عدة مدرّجات، كنت قد سافرت من قبل من مطار ماركا في عمّان ومطار بيروت ومطار القاهرة ومطار نيقوسيا في قبرص ومطار موسكو، لكنّها تبدو مجتمعة أصغر من هذا المطار، بضع طائرات تنزل في وقت واحد، وبضع طائرات أخرى تصعد مغادرة، قبل نزولنا من الطّائرة لاستبدالها بأخرى إلى هيوستن، لفت انتباهي طائرة صاروخيّة تسير في المدرج المجاور بسرعة البرق وضجيج مرعب، وفي مؤخّرتها مظلّة ضخمة لتخفيف سرعتها، إنّها طائرة الكونكورد التي أراها للمرّة الأولى والأخيرة.
ستريب تيز:
في مطار تل أبيب، تم تفتيش أغراضي يدويّا قطعة قطعة، وبدقّة متناهية، بعد فحصها الكترونيا، وخضعت لأسئلة كثيرة، منها:
لماذا أنت مسافر للولايات المتحدة؟
من رتب لك حقيبتك؟
هل أنت مسؤول عمّا فيها؟
هل تحمل أغراضا لآخرين؟
وهل تحمل أسلحة؟
ثم اقتادوني إلى غرفة تفتيش شخصيّ خضعت فيه لعملية تعريّة كاملة إلا من سروالي الدّاخليّ، أخذوا حذائي للتّفتيش الألكترونيّ مرّة أخرى…اصطحبني رجل أمن إلى صالة المغادرين…وهذا ما يحصل دائما مع جميع العرب الذين يستقلّون طائرة من هذا المطار.
سُنّي أم شيعي:
عند ختم جوازات السفر، وفحص تأشيرة الدخول في مطار كيب كندي في نيويورك، سألني رجل الأمن: Are you soony or sheeay? فلم أفهم عليه ماذا يريد، فطلب منّي أن أنتظر قليلا، بعد أن سألني عن لغتي الأمّ، اتّصل بالهاتف طالبا أن يرسلوا شخصا يعرف العربيّة، وفي لحظات حضرت فتاة حسناء هيفاء، وسألتني باللغة العربيّة:
هل أنت سُنيّ أم شيعي؟
ولما أجبتها بأنّني سنّي، قالت:
نتمنّى لك اقامة سعيدة في الولايات المتّحدة، وجاء سؤالهم على خلفيّة اختطاف منظمة أمل الشيعيّة اللبنانيّة طائرةT.W.A. في ذلك العام.
في مطار هيوستن
في مطار هيوستن وجدت أخي أحمد في انتظاري، وهذه هي المرّة الأولى التي نتقابل فيها منذ سفره في صيف العام 1965 إلى البرازيل بعد أن انهى الثانويّة العامّة- التّوجيهي- ليلتحق بأخينا الأكبر محمّد الذي سافر إلى البرازيل في 8-8-1960 تاركا زوجته(حليمة) وابنه البكر كمال المولود في 27-4-1957، وأخونا محمّد مولود في العام 1936، لم تكن الأسرة أو أيّ من أصدقائها يعرفون شيئا عن البرازيل، سوى أنّها(أمريكا) ولم يكونوا على علم بأنّ هناك أمريكا شماليّة وأخرى جنوبيّة، وأن هناك دولا في أمريكا لا دولة واحدة، أو أنّ أمريكا تشكّل قارّة تقسمها قناة بنما إلى نصفين، فقط يعلمون أن أمريكا بلد ثريّ جدّا، وأنّ من يهاجر إليها سيعود بملايين الدّولارات في بضع سنوات، وأخونا محمّد انسان طموح، يحظى بمحبّة خاصّة من أبينا كونه الابن البكر، أو لأسباب أخرى لا أعرفها، سافر إلى بلاد ملايين الدّولارات بالباخرة من ميناء بيروت، في جيبه خمسون دولارا فقط لا غير، فلم يكن الوضع الاقتصاديّ للأسرة يسمح له بأكثر من ذلك، وحتى لو كان الوضع الاقتصاديّ مختلفا لما أعطاه الوالد أكثر من هذا المبلغ، لأنّه مسافر إلى بلد ترابها ذهب! والدّولارات على قارعة الطّريق لمن يريد جمعها، هكذا كانت قناعة كبار العائلة! وأخونا محمّد الذي كان يحبّ الفروسيّة، ويعتني بهندامه ونظافته كثيرا، في وقت كانت المياه فيه شحيحة، كان يهوى التّرحال والسّفر للخارج، ربّما يعود ذلك إلى محاولة هروبه من رعي الأغنام، حيث كان الوالد يمتلك قطيعا كبيرا من الغنم الحلوب، هي المصدر الرّئيس لدخل الأسرة، المكوّنة من الأب وزوجتين، انتهى بها المطاف باثني عشر ابنا ذكرا وتسع بنات اناث، ورعي الغنم وحراثة الأرض وزراعتها لم تكن في حسابات محمّد، الذي سبق وأن سلّم نفسه للجيش ليلتحق بالحرس الوطنيّ في العام 1957، عندما أعلن العاهل الأردنيّ الملك حسين التّعبئة العامّة بعد العدوان الثلاثيّ على مصر في 29 اكتوبر 1956، لا حبّا في الحياة العسكريّة، وإنّما هروب من حياة البؤس والشّقاء، وعندما تمّ تسريحه من الحرس الوطنيّ بعد أقلّ من عامين سافر إلى تبوك في المملكة العربيّة السعوديّة؛ ليعمل في أحد بيوت الأثرياء الفلسطينيّين الذي كان يشغل منصبا رفيعا في شركة أرامكو، ولم يمكث في السعوديّة أكثر من أسبوع، لأنّ ربّ العمل رفضه عندما رآه شابا يافعا وسيما، فهو يريد طفلا؛ ليكون في خدمة ربّة البيت، فأعاده على ظهر شاحنة أردنيّة متّجهة إلى بيروت؛ لتعود به بعد ذلك إلى عمّان، عاد محمّد غاضبا يجرجر ذيول فشل لم يكن له فيه خيار، حاول السّفر بعدها إلى الكويت، لكنّه لم يستطع، ومع ذلك بقي مصرّا على السّفر للعمل في الخارج، كانت أمريكا هي الهدف المأمول في ذهن جيل الوالد، الذي كان معجبا بشخصيّة المرحوم عبد الحميد شومان-1888-1974- ، الذي سافر إلى أمريكا عام 1911 وعاد منها عام 1929 ليؤسّس البنك العربيّ، والسّفر إلى الولايات المتّحدة يحتاج إلى تأشيرة دخول-فيزا- لم يكن الحصول عليها سهلا، فتمّ اقرار السّفر إلى البرازيل، يشجعهم على ذلك سفر اثنين من أبناء الحامولة قبل ذلك بأربع سنوات.
الأخ محمّد في البرازيل
عندما سافر الأخ محمّد إلى البرازيل – كنت في الحادية عشرة من عمري، أنا المولود في حزيران 1949-، توالت سنوات القحط لأكثر من أربع سنوات، ونفذت المياه من الآبار، كنّا نجلب المياه على ظهور الدّواب- البغال والحمير- من بئر أيّوب في قرية سلوان المجاورة، في قِرَبٍ من جلود الماعز….قبل سفر الأخ محمّد بيوم واحد فقط سقطتُ عن ظهر البغل، وكسرت يدي اليسرى من المرفق-الكوع- علقوها بمنديل في رقبتي، بعد تعنيف قاس، لأنّني خرقت التّعليمات بعدم امتطاء البغل، واكتفوا بـ(فحص) جارتنا العجوز المرحومة صبحة العبد، وهي امرأة فاضلة، فأكدّت أنّ يدي سليمة من الكسور، ومصابة برضوض بسيطة تسببت بالورم والانتفاخ، وأنّها ستشفى باذن الله، بدلالة أن جارتنا العجوز كانت تتثاءب وهي تدلك يدي بيديها برفق وحنان أموميّ! والتثاؤب يعني طرد العيون الحاسدة والشّريرة! وبقيت يدي معلقة في رقبتي لبضعة شهور، حتى خفّت آلامها واستطعت تحريكها ببطء، لكنّ العظم الصغير الذي يغطي عظم السّاعد عند المرفق بقي بارزا حتى أيامنا هذه.
حضر الأقارب والأصدقاء لتوديع أخي محمّد، كنت منزويّا تحت سرير معدنيّ، تعلوه الفرشات والبسط الصوفيّة، ويدي المكسورة ممدودة بجانبي، لا أستطيع تحريكها… أبكي بصمت مرغما، أبكي من الألم، وخوفا من الوالد الذي غضب غضبا شديدا، عندما رأى يدي، لم يتعاطف معي أحد، أو بالأحرى لم أسمع كلمة عطف، كلّ ما سمعته هو(لا ردّه الله…ولد غضيب) والنّساء المودّعات يملأن الغرفة، في حين يجلس المودّعون الرّجال على البرندة المكشوفة، ودّعني محمّد بأن قبّلني بهدوء، بكى وبكى معه جميع الحضور، وبكيت أنا أيضا….فهذا أوّل المسافرين إلى بلاد الغربة من أبناء العائلة، والسّفر إلى بلاد أخرى كان غريبا ومستهجنا في البلدة بشكل عامّ، بضعة أشخاص فقط سافروا للدّراسة في جامعات بعض الدول العربية، وكانوا يعودون في نهاية كلّ عام دراسيّ، أمّا السّفر إلى بلاد أجنبيّة فهذا أمر غريب ومستهجن، السّفر بالطّائرة كان يثير الرّعب في قلوب أناس كانت الدّواب هي وسيلة النّقل الوحيدة التي يستعملونها، أمّا السّفر في السّفن فهو أمر مرعب حقّا! فكبار السّن يجتمعون ويتحدّثون في الموضوع، منهم المرحوم عمّي محمّد الذي كان يملك خيالا خصبا وقدرة عجيبة على حفظ ما يسمعه، كان يحفظ السّيرة الهلاليّة، وسيرة عنترة عن ظاهر قلب، بعدما سمعهما في شبابه من حكواتيّ في مقهى زعترة في باب العمود في القدس القديمة، يحكيهما لنا بطريقة تمثيليّة…صوته هادئ ناعم ذو ايحاء في المواقف العاديّة والمفرحة، يعلو ويصخب في الانتصارات، ويحزن ويبكي في المواقف الصّعبة، كان معجبا بشخصيّة أبي زيد الهلاليّ وبشخصية عنترة، تحدّث عمّي عمّا كان يسمعه عن حيتان ضخمة جدّا تعيش في البحار، تستطيع ابتلاع السّفن! لكنّه طمأن الجميع بأن محمّد سيصل إلى البرازيل سالما معافى، ولن تستطيع الحيتان ابتلاع السّفينة التي تقله، لأنّ السّفن في البحار محميّة بمناشير ضخمة مثبتّة في أسفلها، وما أن ينقض الحوت الضّخم عليها بقوّة هائلة ليبتلعها، حتّى تشقه إلى نصفين، وتأتي الأسماك الأخرى لتفترسه، وينزل بعض السبّاحين من السّفينة؛ ليحملوا أجزاء منه طعاما للمسافرين على ظهر السّفينة، فنقطة ضعف هذا الحوت العملاق هي في قوّته الهائلة، ولو أنّه كان يتقدم إلى السّفن بهدوء لاستطاع ابتلاعها من مقدمتها أو مؤخّرتها، فيتغذى على مَنْ فيها من بشر ثم يلفظها كومة من حديد في قاع البحر، لأنّها اعتدت على مملكته البحريّة، ولمّا سألته عما ستفعله المناشير في بطنه بعد أن يبتلعها قال لي:
أنت كثير غلبه يا ولد….عندما يبلعها تصطدم المناشير بأسنانه الحادّة، فتتكسّر مثلما تقصف عود تينٍ يابس…تتفتّت وتغرق في البحر…استمعنا إلى القدرات العجيبة للحيتان ونحن نرتجف خوفا..ونحمد الله أنّنا نعيش على اليابسة بعيدا عن حياة البحار المرعبة! وعندما سأله أحدهم عمّن سيتغلب الضّبع أم الحوت اذا ما التقيا؟ أجاب العمّ محمّد بثقة تامّة:
“كيف بدهم يلتقوا يا فصيح وهذا في البرّ وهذاك في البحر؟” فضحك الجميع.
أضاف العمّ بأنّه سمع من أحد معارفه من أبناء قرية بيت حنينا الذي سافر إلى أمريكا بالباخرة، أنّه شاهد في عرض البحر سمكا يقفز في الهواء ثم يعود إلى البحر، حجمه أكبر من حجم كبش الغنم….فسبّح الحضور بقدرة الخالق. وأضاف العمّ محمّد بأنّ البحر كبير جدا، وحجمه يزيد على مساحة مدينة القدس كاملة!
أخي محمّد درس حتى الصّف الخامس الابتدائيّ في كلّيّة النّهضة في حيّ البقعة، الذي يشكل امتداد جبل المكبر إلى الجهة الغربيّة، وقد وقع الحيّ تحت سيطرة اسرائيل عام 1948 عام النّكبة، وهو يعرف بضع كلمات انجليزيّة تعلّمها في المدرسة، كانت موضع فخر لأبي الذي يرى أن ابنه “معه لسان انجليزي” لكنّ التّساؤل كان حول اللغة التي يتكلمها شعب البرازيل؟ وهل يوجد في العالم غير اللغتين العربيّة والانجليزيّة؟ فأكّد لهم عمّي محمّد أنّه توجد لغة أخرى للسّود! فقد كان السّنغاليون الذين يخدمون في جيش الانتداب البريطانيّ يتكلّمون لغة غير الانجليزيّة.
ما علينا سافر الأخ محمّد إلى البرازيل، والرّسالة الأولى التي وصلت منه كانت بعد ثلاثة شهور، كانت مقدمتها تبدأ بـ”سلام سليم أرقّ من النّسيم، يغدو وتروح من فؤاد مجروح، إلى منية القلب وعزيز الرّوح والدي العزيز حفظه الله” ويختتمها بـ” وان جاز حسن سؤالكم عنّا فأنا بخير والحمد لله، ولا ينقصني سوى مشاهدتكم، والتّحدث إليكم، وسلامي إلى كلّ من يسأل عنّي بطرفكم.”
رسالته الأولى كانت أكثر من ثلاثين صفحة، شرح فيها بالتّفصيل المملّ منذ خروجه بسيّارة تاكسي إلى بيروت حتى وصوله إلى البرازيل، كتب أنّه يعمل بائع حقيبة متجوّل، وأنّ البرازيل بلد ثريّ وخصب، لكنّ عملة هذه البلاد “الكروزيرو” رخيصة عند تحويلها إلى الدّولار. الرّسالة قُرئت عشرات المرّات وسط دموع الشّوق والحزن على الفراق، وعمّي المرحوم موسى ألزمني بقراءتها له عشرات المرّات، بحيث استطيع أن أزعم بأنّني لا أزال أحفظها عن ظاهر قلب حتى أيامنا هذه- بعد خمسة وخمسين عاما-، ويبدو أنّ عمّي موسى –رحمه الله- كان يريد معرفة الأحوال في البرازيل كي يرسل ابنه المرحوم اسماعيل إليها، وهذا ما حصل، فقد سافر اسماعيل إلى البرازيل في بداية كانون الثّاني-يناير 1961، تاركا خلفه ابنه محمّد وابنته محمّديّة طفلين أكبرهما في الرّابعة من عمره، وافتتح محمّد واسماعيل محلّيّ نوفوتيه بعد عامين من سفرهما.
عندما سافر الأخ أحمد إلى البرازيل في صيف 1965، عمل مع الأخ محمّد الذي افتتح له محلّا آخر، لم يرغب محمّد واسماعيل البقاء في البرازيل، خطّطا للعودة إلى البلاد في صيف العام 1967، لكنّ حرب حزيران 1967 وما تمخّضت عنه من احتلال حال دون ذلك، عاد ابن العمّ اسماعيل في صيف العام 1970 ضمن نطاق ما يسمى قانون جمع شمل العائلات، وبقي في البلدة إلى أن توفّاه الله في ربيع العام 2008، أمّا الأخ محمّد فقد عاد في صيف العام 1972 على أمل السّفر إلى الولايات المتّحدة، وقد تحقّق له ذلك في اكتوبر 1977، أمّا الأخ أحمد فقد سافر من البرازيل إلى هيوستن في ولاية تكساس الأمريكيّة عام 1970، بعد أن حصل له ابن العمّ محمّد موسى شقيق اسماعيل على قبول في جامعة هيوستن.
في هيوستن
ما علينا …وصلت بيت أخي أحمد في هيوستن، وهو بيت أمريكيّ”كوتيج”يعيش فيه مع زوجته الامريكيّة “بيتي” وابنتاهما نادية وستيفاني، وقد طلّقها احمد بداية تسعينات القرن العشرين وتزوّج من فتاة مقدسيّة. كان أحمد يعمل صيدلانيّا في أحد مستشفيات هيوستن، يغادر البيت في السّابعة صباحا، ويعود إليه في الخامسة مساء، عطلته الأسبوعيّة يوم الأحد…سهرنا سويّة…سألني عن أفراد العائلة، وعن الأشخاص الذين ولدوا بعده، وركّز في أسئلته على شقيقي داود الذي كان في الثّانية والنّصف من عمره عندما سافر أخي أحمد، وكان أحمد يحبّه بشكل لافت.
في صباح اليوم التّالي لوصولي هيوستن، استيقظت مبكرا…اتّجهت إلى المطبخ لاعداد كأس شاي، وأحمد وزوجته نيام، في حدود السّادسة والنّصف رنّ جرس الهاتف، فصاح احمد من غرفة نوم :
هذا ابن عمّك محمّد موسى..ردّ عليه.
وعندما قلت: هالو
قال: عفوا مين يتكلم؟
قلت: جميل
قال: متى وصلت؟
قلت: مساء الليلة الماضية.
نفخ غاضبا وقال: الله يسامح أخوك احمد…لم يخبرني…انتظرني أنا قادم إليك، وأغلق الهاتف.
وصل بعد أقلّ من ربع ساعة، كان عاتبا جدّا على أخي احمد لأنّه لم يخبره بقدومي؛ كي يشارك في استقبالي، اصطحبني معه ومضى أحمد إلى عمله في المستشفى.
محمّد ابن عمّي كان في حينه يملك محلّ صرافة، ويعمل في العقارات، يشتري بيوتا ويقوم بترميمها…ثم يبيعها..وهكذا، ذهب بي إلى محلّ الصّرافة، حيث تعمل فيه حسناء سوداء البشرة، طاف بي في هيوستن، تجوّلنا في مركز المدينة حيث ناطحات السّحاب، والجسور ذات الطّوابق المتعدّدة. كنت وابن عمّي متحفّظين في الكلام أمام بعضنا البعض، فقد افترقنا وأنا طفل في الثّانية عشرة من عمري، فهو مولود في العام 1942، وسافر إلى السّعودية في صيف 1962 وفي العام 1967 إلى أمريكا، التقيته بعدها مرّة واحدة عندما عاد إلى البلاد في آب – أغسطس- 1974 لأسبوع عندما توفّي والده المرحوم عمّي موسى، التقينا ضمن لقاءات أسريّة شاملة، لم تكن كافية لتعارفنا، سألني عن كلّ فرد في الأسرة، وعن بعض أبناء جيله من أبناء البلدة، شرح لي عن المناطق التي كنّا نمرّ فيها، عند الظّهيرة اصطحبني إلى مطعم أسماك فاخر، تناولنا فيه طعام الغداء، وهو يشرح لي كيف عمل نادلا في هذا المطعم عندما كان طالبا في الجامعة، قال لي:
أنا مدين لهذا المطعم بتعليمي، ففيه عملت، ومن أجرتي فيه دفعت الأقساط الجامعيّة، وأرسلت نقودا للوالدين في البلاد.
في المساء عدنا إلى بيته حيث التقينا زوجته الأمريكيّة جويس، وطفلته” أمندا” التي ما أن رأتني حتى تقدّمت منّي واحتضنتني بفرحة بالغة، عندما قدّمني والدها لها قائلا:
ابن عمّي جميل….سألتني عن جدّتها لأبيها صبحة.
في المساء عاد أخي أحمد من عمله…اتّصل به ابن العمّ محمّد، طلب منه أن يحضر بصحبة زوجته وابنته لتناول طعام العشاء معنا…تناولنا العشاء وعدنا إلى بيت الأخ أحمد…هناك اتّصل الأخ محمّد من بورتوريكو، وأقنع أحمد بأن يسمح لي بالسّفر إليه، بعد جدال طلب من أحمد أن نسافر كلانا إلى بورتوريكو ولو لبضعة أيّام، فاشترى أحمد تذكرتين لنا لمدّة يومين ابتداء من نهاية الأسبوع، أمضيت بقيّة الأسبوع بصحبة ابن عمّي نهارا وبصحبة أخي ليلا، وفي أحد الأيّام اصطحبتني زوجة أخي أحمد إلى حديقة حيوان هيوستن، وهي حديقة واسعة، الحيوانات تعيش فيها في بيئة تشبه بيئة حياتها في البراري حيث مواطنها الأصليّة، وهناك رأيت أفعى الكوبرا للمرّة الأولى، كانت موجودة في غرفة زجاجيّة، ترفع رأسها وجزأها الأماميّ، تهاجم من يقترب من زجاج غرفتها، وهناك رأيت أفعى “الأناكوندا” التي تعيش في نهر الأمازون، طولها أكثر من أربعة أمتار، كانت تلتفّ على نفسها في بيتها الذي يشبه الكهف، وواجهته المقابلة للزّائرين من زجاج مقوّى.
في بورتوريكو
لم يخبر أخي أحمد أخانا محمّد عن تاريخ وموعد وصولنا إلى مطار سان خوان عاصمة ولاية بورتوريكو، وصلنا المطار عصرا، استقلينا سيّارة إلى فندق روكفلر، وهو فندق كبير مكوّن من عدّة بيوت تراثيّة، كان يستقبل فيه روكفلر الجدّ ضيوفه، وأصحابه، يركبون الخيل ويقضون اجازاتهم، ويقع علي شاطئ الأطلسيّ، من غرفة الفندق اتّصل احمد بأخينا محمّد الذي يعمل ويقيم في مدينة أوروكوفيس، والتي تبعد حوالي ساعة سياقة، فجاءنا عاتبا لعدم اخباره بقدومنا كي يستقبلنا، ولسكننا في فندق بدل بيته، لكنّ أخي أحمد بقي مصرّا على بقائنا في الفندق حتّى صباح اليوم التّالي، والشّوارع في ساحات الفندق ملأى بشجر جوز الهند، وعلى الرّصيف “خوازيق” نحاسيّة لمن يريد أن يثقب ثمرة جوز الهند ويشرب سائلها.
قبل وصول الأخ محمّد إلينا ذهبنا إلى مطعم الفندق في البناية الرّئيسة لتناول طعام العشاء، فوجدنا عند بوابة المطعم حارسا ضخما أسود البشرة، لا يجيد الانجليزيّة كغالبيّة سكّان بورتوريكو الذين ينحدرون من أصول اسبانيّة، ومعرفتهم للانجليزيّة في غالبيتهم كمعرفة من أنهى المرحلة الاعداديّة في بلادنا، منعنا من الدّخول وقدّم لنا ورقة بالانجليزيّة مكتوب فيها:” حفاظا على تراث عائلة روكفلر، يمنع دخول المطعم إلّا بلباس رسميّ…بدلة سوداء…قميص أبيض وربطة عنق حمراء، إذا لا توجد معكم هذه الملابس بامكانكم استئجارها من الطّابق الثّاني… أو بامكانكم طلب الطعام من خدمة الغرف ..نأسف لازعاجكم”.
غضب أخي أحمد ورفض العشاء…دخلت إلى الغرفة… بجانب الهاتف كانت قائمة بأسماء المأكولات باللغتين الاسبانيّة والانجليزيّة، بينما كان أخي أحمد يجلس في برندة تطلّ على مياه المحيط، اتّصلت برقم خدمة الغرف…ردّت عليّ امرأة تسألني عمّا أريد طلبه، وبما أنّني لا أعرف أسماء الطّعام بالانجليزيّة، طلبت لها أن تختار لنا طعاما شهيّا. بعد دقائق حضرت فتاة حسناء بصحبتها شابّان يحملان العشاء، واحد يحمل وعاء معدنيّا لتسخين الطّعام على الشّموع، وآخر يسوق عربة عليها صنوف مختلفة من الطّعام …سلطات ومقبّلات..وصحنا لحمة، بينما هي تحمل صحنا زجاجيّا فيه ثمرة أناناس يزيد وزنها على العشرة كيلو غرامات، ومغروس في خارجها عيدان تنظيف الأسنان، لم أعرف ثمرة الأناناس؛ لأنّني لم أرَ هذا الحجم الضّخم في بلادي أو في مكان آخر، فحسبتها وردة للزّينة، لكنّ أخي أحمد عرّفني بها، الثّمرة مقسّمة إلى عدّة أقسام عرضيّة، وأعيدت إلى مكانها، واللبّ فيها مقسم إلى أقسام، يستطيع المرء أن يتناولها بعيدان الأسنان، وفي اليوم التّالي وجدناها قد نزّت في الصّحن أكثر من ثلاث ليترات عصير.
سهرنا حتى منتصف الليل تقريبا، ورفض الأخ أحمد أن نذهب مع أخينا محمّد، فبقيت معه على أمل أن يأتينا لنذهب سويّة في اليوم التّالي.
بعد أن غادرنا الأخ محمّد خرجت أتجوّل في ساحات الفندق، وأوّل ما لفت انتباهي وجود عشرات”سرطعانات” البحر التي تنطلق من أمام بناية باتّجاه المياه، كان يراقبها رجل عجوز يهوى اصطيادها، ثم يتركها تعود إلى المياه تحت مراقبته، حذّرني ذلك العجوز من مغبّة الدّوس عليها، فابتعدت عنها….بعدها سمعت موسيقى صاخبة، فاتّجهت إلى مكان انبعاث الصّوت في البناية الرّئيسة، وجدت شابّا يلعب تنس الطّاولة مع شابّة، في حين تراقبهما شابّة أخرى، وما أن رأتني حتى استأذنتي كي ألعب معها…لعبنا بضع دقائق ثم جلسنا على طاولة أمام صالة الرّقص، طلبت هي زجاجة جعّة، وطلبت أنا كأس عصير، شاهدت النّجمة السّداسية وشما على يدها ما بين الابهام والسّبابة، فسألتها إن كانت يهوديّة فأجابت بنعم، وأضافت بأنّها اسرائيليّة أيضا سافرت إلى أمريكا؛ لتجمع مبلغا ماليّا وتعود إلى “أرض اسرائيل”، فأخبرتها بأنّني فلسطينيّ من القدس المحتلّة، وافترقنا دون كلمة وداع.
نمنا ليلتنا وفي الثّامنة صباحا كان أخونا محمّد يدقّ الباب علينا…حملنا حقائبنا وغادرنا الفندق إلى مطعم؛ لنتناول طعام الافطار، تجوّلنا في سان خوان عاصمة بورتوريكو حتى السّاعة الواحدة، اتّجهنا بعد ذلك إلى المطار لاستقبال أخينا جمال القادم من واشنطن، وأخونا جمال المولود في العام 1957 غادرنا في العام 1977 إلى تشيكوسلوفاكيا، حيث درس هندسة الانتاج الزّراعيّ، ثمّ سافر إلى أمريكا بعدما تعثّرت عودته إلى أرض الوطن، وهناك قدّم له الأخ احمد معاملة هجرة إلى امريكا، وحصل على الجنسيّة الأمريكيّة، استقبلنا جمال وعدنا إلى أوروكوفيس، حيث يملك الأخ محمّد نوفوتيه لبيع الملابس الجاهزة، يساعده فيه ابنه المرحوم كمال الذي لحق به في العام 1982، وتوفّي في كانون أول-ديسمبر- 2008 تاركا خلفه ابنان شابّان هما محمّد ونزار اللذان يعيشان مع جدّهما أخي محمّد في بورتوريكو، وأوروكوفيس مدينة صغيرة تشبه مدن الشّرق الأوسط الصّغيرة، وكذلك الحال بالنّسبة لبقيّة مدن بورتوريكو باستثناء العاصمة سان خوان، فهي كبيرة نسبيّا، لكنّها لا تزيد عن حجم مدينة نابلس الفلسطينيّة، وبورتوريكو جزيرة في البحر الكاريبيّ، وهي جزيرة بركانيّة، جبالها شديدة الوعورة سهلة الانهيار، شوارعها نتيجة لجغرافيتها لا تزيد في اتّساعها عن شوارع قرى بلادنا، وهي مغطّاة بالغابات الكثيفة، حتى أنّ أجزاء من بعض الشّوارع مغطّاة بجذوع الأشجار الممتدّة من الجانبين بما يشبه الأنفاق، ويعتاش أهلها على الزّراعة في غالبيّتهم، وأشهر مزروعاتهم هو الموز، وهو صنفان: صنف شبيه بموز بلادنا لكن قرونه أكبر، وصنف لا ينضج ويستعملونه للطّبيخ، يقلونه مع البيض أو البطاطا أو بمفرده، ويعتبرونه أكلة شعبيّة تقدّمها مطاعم تلك البلاد مع السّلطات…أمّا جوز الهند والأسكدنيا فهي شجار بريّة في بلد تكسوه الغابات، وثمرة الأسكدنيا كبيرة، وما يصل بلادنا هو بذورها.
تشتهر جزيرة بورتوريكو بكثرة ضفادعها، التي تنتشر في كلّ مكان بكثافة، وبأحجام وأصناف مختلفة، وهي تلتصق بنوافذ البيوت، شوارعها تكاد تكون مرصوفة بالضّفادع التي تدوسها عجلات السيّارات، حتّى أنّهم يطلقون عليها جزيرة الضّفادع.
مساحة بورتوريكو تسعة آلاف كيلو متر مربع، وهي جزيرة دائريّة، اذا ما انطلق المرء من نقطة ما على السّاحل في السّادسة صباحا مثلا، فإنّه سيعود إلى نقطة انطلاقه في السّادسة مساء، ولا تعتبر بورتوريكو ولاية أمريكيّة، لكنّها تخضع للسّيادة الأمريكيّة.
ينحدر سكان بورتوريكو من أصول اسبانيّة، بشرتهم تشبه بشرتنا، وهم فلاحون طيّبون، يقتنون الدّجاج، وتشتهر عندهم مصارعة الدّيكة الدّامية، يتركون بيوتهم مفتوحة، واذا ما مرّ أحدهم بأيّ شخص فإنّه يحيّيه، واذا ما أراد شخص شراء الموز منهم وهم في المزارع، فإنّهم يقدّمون له قطف موز مجانا، يرفضون استلام ثمنه باصرار وعناد، ومن يمرّ بهم وهم يأكلون فإنّهم يدعونه لمشاركتهم طعامهم، تجوّلنا أربعتنا-محمّد، أحمد، جمال وأنا- طيلة اليوم الثّالث، أوصلنا أحمدَ عصر ذلك اليوم إلى المطار الذي غادرنا عائدا إلى هيوستن، غادرنا غاضبا لأنّني لم أعد معه، في المساء عدنا إلى البيت حيث عمل أخونا محمّد عشاء فاخرا دعا إليه عددا من أصدقائه العرب، وغالبيّتهم فلسطينيون، ومدير بنك في المدينة، كان العشاء عبارة عن خروفين محشوّين بالأرز والصنوبر والحمّص والعدس واللحم المفروم، وشواؤهما يستمرّ أربعا وعشرين ساعة، في مزرعة يملكها أردنيّ أصيل من منطقة عجلون، متزوج من أمريكيّة، يملك بيتا جميلا على قمّة جبل، وفي منحدر الجبل حفر حفرة كالقبر، فيها ثلاث عقدات من الباطون، وللعقدين العلويّين باب حديديّ، يوضع في كلّ واحد منهما خروفا محشوّا، والعقدة الأولى للنّيران المكوّنة من جذوع الأشجار الضّخمة، ويستمر الشّواء على نار هادئة لمدة 24 ساعة، إنّها تشبه “الزّرب” المعروف في بادية بلاد الشام، وهي من أشهى المأكولات إن لم تكن أشهاها على الاطلاق، ومن شدّة اعجاب مدير البنك بتلك الأكلة استأذن بأن يحمل صحنا لزوجته، ولمّا سأل عن كيفية عملها، صرفه أخي محمّد عن الموضوع بقوله:
“هذه الأكلة معروفة في بلادنا، وقد أحضرها إخوتي معهم من البلاد ” ولا أعلم إن انطلت الحيلة عليه أم لا، لكنّه لم يعد يتحدّث بالموضوع.
نقيق الضّفادع يسلب النّعاس من عيون من لم يتعوّد على سماعه، ذات صباح استيقظت مبكرا، خرجت إلى حديقة المنزل، رأيت عصفورا جميلا يرشف رحيق زهرة وهو يرفرف في الجوّ، منقاره في وسط الزّهرة وهو واقف في الجوّ، جناحاه يرفرفان وتغريده العذب يعلو، سعدت بذلك العصفور الجميل الذي عوّضني عن ازعاج نقيق الضّفادع.
كنّا نخرج يوميا من الصّباح إلى المساء، نتناول طعام الغداء سمكا شهيّا في أحد المطاعم الفاخرة على شاطئ المحيط، مطاعم مجهّزة بشكل لافت، أمامها كواسر أمواج صخريّة، من السّهل على المرء أن يرى الأسماك الملوّنة وهي تتساقط مع أمواج البحر بين الصّخور؛ لتعود بعد معاناة إلى البحر ثانية وهكذا، بعض هذه المطاعم يملك سفنا تبعد عن الشّواطئ عدّة كيلو مترات، وهي عبارة عن مطاعم عائمة لمن يريد تناول طعامه في عرض البحر، يحمله قارب من المطعم إلى السّفينة، ومن عادات تلك المطاعم، أنّك تطلب نوع السّمك الذي تريده، ويسألك النّادل إن كنت تريده مقليّا بالزّيت، أو مشويّا على الفحم، ويقدّم لكلّ شخص سمكة كاملة، في المرّة الأولى طلبنا سمكة مقليّة، وسمكتين شواء، وكان وزن إحداها يزيد على الخمسة كيلو غرام، في حين كانت الأصغر تزيد على الكيلو غرام.
الأواني الفخّاريّة
ذات يوم ذهبنا لتناول وجبة العشاء في مطعم فاخر في سان خوان، فقدّموا لنا السّلطات وما طلبناه من لحوم في أواني فخاريّة، حتى الماء كان بأباريق فخّاريّة، أمّا الكؤوس فكانت من زجاج؛ ليرى المرء ما بداخلها، رحّبت بنا النّادلة بابتسامة عريضة، ولمّا سألتها عن سبب استعمال المطعم للأواني الفخّاريّة، أجابتني بفخر واضح:
إنّها تراثنا الاسبانيّ، فأنت تعلم أنّنا ننحدر من أصول اسبانيّة.
فقلت لها بأنّ الفخّار تراث عربيّ نصنعه ونستعمله حتى الآن.
فردت:
لا تنسَ أنّ العرب حكموا اسبانيا…وأسموها الأندلس وقصر الحمراء من أعظم الشّواهد التّاريخيّة، وأضافت بأنّ العرب تزاوجوا مع الاسبان، وسألت:
ألا ترى أنّنا نتشابه بلون البشرة وبعض العادات؟
شكرتها على خدمتها ولطفها، وحزنت على أمّتي التي كانت ماجدة وما عادت.
قصر الحاكم الاسبانيّ:
ذات يوم كان أخي محمّد مشغولا، فطلب من صديقه أبي مشهور، – وهو فلسطينيّ طيّب من عين يبرود قضاء رام الله- أن يصطحبنا معه في نزهة يوميّة، فقادنا أبو مشهور إلى المناطق الأثريّة القديمة في سان خوان، حيث يوجد سور ضخم، مثبتّة عليه مدافع قديمة، كانت تستعمل لصدّ الغزاة القادمين عبر البحر في القرون السّابقة، وهناك بناية ضخمة تشبه سجون بلادنا التي تركها لنا الانجليز في كلّ مدينة من مدننا، وحولها ساحة تشبه ملعب كرة القدم تغصّ بالزّائرين، سعر تذكرة دخولها اثنا عشر دولارا، فحسبت البناية متحفا، عندما دخلنا الطّابق الأوّل لم أشاهد شيئا لافتا، فخرجت وأنا أعجب من أناس يلمسون الجدران بدهشة، بينما واصل أبو مشهور وأخي جمال التّجوال في البناية، في الخارج سألتُ امرأة عجوزا عن هذه البناية وماذا تمثّل؟ فأجابتني بأنّها بناية تراثيّة، عمرها يزيد على مائة عام، وهي البناية الأقدم في بورتوريكو، وكانت مقرّا للحاكم الاسبانيّ، فقلبت شفتي السّفلى عجبا، وقلت للمرأة:
قد لا تصدّقين بأنّني قادم من منطقة عمر مدنها وأبنيتها آلاف السنين!
فقالت:
طبعا لن أصدق…من أين أنت؟ وعن أيّ بلاد تتحدث؟
فأجبتها: من فلسطين.
وعادت تسأل: أين تقع هذه البلاد؟
فرددت عليها بسؤال: ألم تسمعي بالقدس وبيت لحم؟ ألم تسمعي بالأرض المقدّسة؟
فأجابت: هل تعني اسرائيل؟
ورددت: بل أعني فلسطين.
الخراف غير مرغوبة لحومها
الأمريكيّون في غالبيّتهم يأكلون لحوم البقر والخنازير، أمّا الخراف فغير مرغوبة لحومها، بل إنّ غالبيتهم لا يأكلونها، ويضعونها في المزارع للزّينة، في بورتوريكو يشتريها العرب والشّرق أوسطيّون بسعر رخيص جدّا، اصطحبنا أخي محمّد إلى مزرعة، واشترى خروفين بخمسة عشر دولارا، ومن شدّة خصب تلك البلاد فإنّ المرء لا يرى الأبقار من طول الأعشاب إلّا إذا رفعت رؤوسها، أمّا الخراف فإنّ المرء يحتار من أين يأتي بها حارس المزرعة الذي يبيعها من وراء مالك المزرعة، أحضر الحارس الخروفين عند مدخل المزرعة، طلب منه أخي محمّد أن يذبحها مقابل أن يعطيه بنطالا من محلّه في اليوم التّالي، وهو يعطيه بنطالا انتهت موضته، وتكلفته عليه دولارين، ومعروف أنّ الأمريكيّين مهوسون بالموضة، علّق الرّجل الخاروفين من قائمتيهما الخلفيّتين على عارضة حديديّة تشبه عارضة ملعب كرة القدم، وفي هكذا تعليق لا يستطيع الخروف حراكا، هو يذبح وأخي محمّد يردد: بسم الله…الله اكبر، سلخ الخروفين..ألقى بالمعدة والأمعاء والرّأس إلى كلبه، في حين طلب منه أخي محمّد أن يحفظ لنا المعلاق “الكبد+الرئة+القلب والطحال”…فسأل لماذا تريدونها؟
فأجابه أخي محمّد: نريدها لقطِّنا في البيت.
فقال: الرّئة تنفع للكلاب لكنّها تضرّ القطط… وألقى بالرّئة للكلب، أراد أن يلقي الطّحال…لكنّ أخي محمّد التقطه منه….شقّ كلّ خاروف إلى نصفين، وحملناها وعدنا، في الطريق مرّ بنا أخونا محمّد إلى بيت امرأة كان قد تزوّجها للحصول على الجنسيّة الأمريكيّة، وما لبث أن طلقها، استقبلتنا المرأة دون أن تعرف صلة القربى بيننا، وهناك أشعل محمّد الكانون؛ لنشوي عليه معلاقي الخروفين وبعض اللحوم، لم تشارك المرأة في عملية الشّواء، بل كان التّقزّز ظاهرا عليها، كانت تحادثه بالاسبانيّة التي لا نعرفها، لكنّها تكلّمت بلهجة حادّة كما بدا لنا، فانفرط ضاحكا، وترجم لنا ما قالته له وهو:
“اتق ربّك بهؤلاء المهابيل…ولا تقتلهم، فهل تريد الخلاص منهم بتسميمهم بهذه اللحوم السّامّة”؟ فضحكنا سويّة.
محمّد في الولايات المتّحدة
عندما عاد أخي محمّد من البرازيل عام 1972، كان دائم الشّكوى من سبل العيش في البلاد تحت الاحتلال، ويمنّي النّفس دائما بالسّفر إلى الولايات المتّحدة الأمريكيّة، حتى أنّه وصل إلى درجة التّمني داعيا الله أن لا يميته إلّا في تلك البلاد، أنجب بعد عودته من البرازيل ثلاثة أبناء هم:”ماري، حسين وسائد” وشرع ببناء بيت، قبل اكتمال البيت حصل على تأشيرة دخول-فيزا- لزيارة الولايات المتّحدة، فغادر البلاد فورا في اكتوبر 1977، كان ابنه سائد رضيعا يحبو، سافر إلى هيوستن، حيث الأخ أحمد وابن العمّ محمّد موسى، أحمد تخرّج من الجامعة حديثا، ولا يملك نقودا سوى 4500 دولار كما قال لي لاحقا، أراد محمّد أن يعمل بائع حقيبة كما فعل عند بداياته في البرازيل، فأخبراه باستحالة ذلك في مدينة ضخمة كهيوستن، وأعطاه أخونا أحمد الأربعة آلاف وخمسمائة دولار التي لا يملك غيرها، وعرض عليه ابن العمّ محمّد وهو شقيق زوجة أخينا محمّد عشرة آلاف دولار مقابل أن يعود إلى زوجته وأبنائه في البلاد، لكنّه رفض وغادرهم دون استئذان إلى بورتوريكو حيث يتكلّم شعبها الاسبانيّة، التي يعرفها من البرازيل، والشّعب البرازيليّ يتكلم البرتغاليّة التي هي قريبة جدّا للاسبانيّة، وهناك عمل بائع حقيبة لمدّة سنة، وبعدها افتتح محلّ نوفوتيه.
عودة إلى هيوستن
بقيتُ في بورتوريكو ثلاثة أسابيع متواصلة، غادرتها قبل عودتى إلى البلاد بيوم واحد، وهي من أجمل بلدان العالم، غادرتها محمّلا بثلاث حقائب سفر ملابس من محلّ أخي محمّد، واحدة منها لابني البكر قيس الذي انهى عامه الأوّل من العمر،عدت إلى هيوستن عن طريق مطار أطلنطا حيث افترقت عن أخي جمال الذي عاد إلى عمله في واشنطن، فوجدت أخي احمد وابن عمّي محمّد موسى في استقبالي، تناولنا طعام العشاء في مطعم فندق، سهرنا في بيت أحمد، أراداني أن أمدّد رحلتي، لكنّني رفضت باصرار، ففي بداية شهر أيلول سأعود إلى عملي مدرسا للغة العربيّة في المدرسة الرشيديّة الثانويّة في القدس الشريف.

رحلتي الثّانية إلى أمريكا
في آواخر آذار 1990 غادرت القدس إلى شيكاغو على عجل بعد أن تلقّيت مكالمة هاتفيّة من أخي جمال، استقليت طائرة من مطار اللدّ إلى مطار نيويورك، وهناك استقبلني أخي أحمد، فقد ترك احمد العمل في الصيدليّة واشترى بقالة في هيوستن شريكا مع محمّد موسى ابن عمّي، وما لبثا أن باعا البقالة، اتّجه أحمد لنيويورك لأنّ اقتصاد هيوستن المرتبط بالبترول يعاني كسادا، واشترى “سوبرماركت” لا يزال أحمد الذي يملك عقليّة تجاريّة بوصلتها لا تخطئ، يملك هذا المحل التّجاريّ حتّى أيامنا هذه، أمضيت حوالي 24 ساعة في نيويورك بصحبة أخي أحمد وأخي طه الذي يكبرني بعامين، وافتتح له أحمد سوبرماركت قريبا من محلّه، بقي طه عدّة سنوات مع أحمد، وما لبث أن تركه وانتقل إلى العمل في ميامي في ولاية فلوريدا بصحبة أبنائه إيّاد، نضال وثائر، أمضيت صباح اليوم التّالي صحبة طه، حتى حان موعد سفري، فأوصلني أحمد إلى المطار، حيث غادرت إلى شيكاغو، في مطار أوهيرو في شيكاغو لم أجد أحدا في استقبالي، حاولت الاتّصال باخوتي ولم أجد ربع دولار كي استعمل الهاتف العموميّ، ولم أجد من يصرف لي قطعة المائة دولار، فتبرّعت سيّدة سوداء ودفعت ربع الدّولار وطلبت لي الرّقم مشكورة، وردّ عليّ شقيقي داود، الذي أخبرني أن أخي جمال ينتظرني في المطار، وتبيّن لاحقا أنّ كلّ واحد منّا كان في طابق، واهتدينا إلى بعضنا البعض بعد حوالي نصف ساعة، كان أخي جمال قد افتتح عام 1987 بقالة في جنوب شيكاغو وتحديدا في الشارع 79 و- هي منطقة للسّود تعجّ بمدمني الكحول والمخدّرات- بمساعدة وشراكة من أخي محمّد الموجود في بورتوريكو، التحق به شقيقي داود المولود في أواخر كانون ثاني-يناير 1963 في شهر تمّوز-يوليو- 1988، وشقيقي داود هو الأقرب إلى قلبي من جميع اخوتي، فقد عشت وإيّاه في بيت واحد، وأنا من استخرج له شهادة ميلاده عندما ولد، وهو شابّ وسيم ذكيّ لمّاح، حتى أنّ علاقتي به كانت أبويّة أكثر منها أخويّة بسبب فارق العمر بيننا الذي يصل إلى أربعة عشر عاما، ووجدتهما قد افتتحا ثلاث محلّات أخرى في جنوب شيكاغو، واحد يعمل فيه ابن خالتنا حسين المصري الذي لا يزال يعيش في ولاية انديانا، والآخران يعمل فيهما موظّفون عرب، وقد وقعت في أحدهما جريمة قتل مدمن مخدرات ينحدر من أصول مكسيكيّة، وتم اعتقال موظّفين عربيّين من بلدتنا نفسها، واعتقال أخي جمال كونه مالك المحلّات للتّحقيق معه، وخرج بكفالة بعد مرور 48 ساعة، في حين بقي الآخران 28 يوما، وانتهت القضيّة ببراءة الجميع بعد حوالي سنتين، وبخسارة وصلت نصف مليون دولار، حيث بيعت المحلّات الأربعة.
الخوف من الإيدز
في اليوم الثّاني لوصولي شيكاغو جلست على كرسي أمام”الكاونتر” في المحلّ رقم 1800على الشارع رقم 79 الذي يملكه اخوتي، وحوالي العاشرة صباحا دخلت طفلة سوداء جميلة في حجم ابنتي أمينة ابنة الثّلاثة أعوام، دخلت مع رجل، وما أن رأتني حتى انطلقت باتّجاهي باسمة، وضعت رأسها على ركبتي، تماما مثلما كانت تفعل ابنتي أمينة، مسّدت على شعرها، وأعطيتها سكاكر بدون مقابل ثمنها حوالي ثلاثة دولارات، فشكرني الرّجل وانصرف والطفلة تحاول العودة إليّ، في حوالي الثّالثة بعد الظّهر دخل ثلاثة رجال، أحدهم يحمل بندقيّة، والثّاني مسدّسا والثّالث عصا بيسبول في يد، وسكينا ذا حدّين في اليد الأخرى، صوّبوا اسلحتهم باتّجاه رأسي وأحدهم يصرخ:
اجلس على ركبتيك ووجهك للحائط وإلا ستموت، فاستجبت لتهديدهم وأنا أحسب أن العمليّة عمليّة تقشيط، وهي تحصل كثيرا في هكذا مناطق، ومن لا يستجيب لطلباتهم فإنّهم يقتلونه فورا، وصرخ أحدهم:
ماذا فعلت بفتاتي أيّها الوغد؟
حسبت الأمر قد التبس على الرّجل، وأنّ شخصا ما قد اغتصب أو اعتدى على عشيقته. جرحني بالسّكين في خدّي الأيسر وهو يردّد:
لقد فضحتني مع صاحبتي، فقد أخبرتها ابنتها أنّ عربيّا في المحلّ قد أعطاها الحلوى مجانا، لأنّه لا يملك ما يشتري به شيئا للطّفلة، فوبّخته عشيقته، وجاء ليثأر منّي تحت تأثير المخدّرات والكحول، استغرقت العملية أقلّ من دقيقة قبل أن يهربوا، حضرت الشّرطة بعد ثلاث دقائق عندما داس أحد العاملين على جرس الانذار الموجود قريبا من قدمه.
حضرت الشّرطة وأقلّتني إلى مستشفى، وهناك وجد الأطبّاء أن لا حاجة لتقطيب الجرح، لأنّه سطحيّ، لكنّني وقعت في مشكلة أخرى، عندما أخذوا منّي دما للفحص خوفا من عدوى الايدز، فمدمنو المخدّرات هؤلاء قذرون، سكاكينهم قذرة، وقد تكون ملوثّة بفيروس الإيدز….ضاقت الدّنيا في وجهي، توتّرت أعصابي، ودارت في رأسي أفكار سوداويّة كثيرة، فاذا انتقلت عدوى فيروس الايدز إليّ فماذا سيقول النّاس في بلادي عنّي؟ وهل سيصدّقون قصّتي الحقيقيّة؟ لم أنم ليلتها…فكّرت بطفليّ”قيس وأمينة” وبزوجتي، وبدموع أمّي وأحبّتي، فعشقت لحظتها الحياة من أجل طفليّ وزوجتي، وخوفا على دموع أمّي، لم أذق طعما لطعام أو شراب سوى الماء، في صباح اليوم التّالي أخبرني المستشفى بأنّني سليم معافى، فدبّت فيّ الحياة، وشعرت أنّني ولدت من جديد.
أحياء المخدرات
مناطق جنوب شيكاغو في غالبيّتها يقطنها السّود وقليل من المكسيك، وهم في غالبيّتهم مدمنو مخدّرات وكحول، يفتتح العرب في هذه الأحياء محلات تجاريّة، لأنّ البيض لا يدخلونها، والسّود لا يستطيعون فتح محلات لأسباب ماليّة، وبالتّالي فإنّه لا منافس لهم، وهذا سبب أيضا لمقتل البعض منهم على أيدي العصابات، وبعض هذه المناطق لا تدخلها الشّرطة إلّا بطائرات الهليوكبتر لخطورتها، وتجارة المخدّرات يقوم بها أطفال دون العاشرة، لأنّه يمنع على الشّرطة تفتيش الأطفال، أمّا البالغون فإنّهم يرتدون بنطالين عند حملهم للمخدّرات، وإذا ما طاردتهم الشّرطة فإنّهم يهربون ويتخلصون من البنطال الخارجيّ، ويمنع على الشّرطة ادخال أيديهم في جيوب المتّهمين إلّا في مراكز الشّرطة وبأمر قضائيّ، ويبدو أنّ غالبيّة السّود يعيشون على هامش المجتمع الأمريكيّ، وهذا ما تريده لهم الادارة الحكوميّة، حيث أنّهم في غالبيّتهم يعيشون على الضّمان الاجتماعيّ، ولا يمارسون أيّ عمل، الجريمة بينهم منتشرة، والأسلحة النّاريّة تكاد تكون في حيازة الجميع.
تمييز عنصريّ
شاهدت بيتا محروقا في أكثر من شارع، ولما استفسرت عن ذلك أخبرني من يعيشون هناك أنّ البيت يكون قد اشتراه أسود في شارع كلّه من البيض، فيحرقه سكّان الشّارع كي لا يتكاثر وجود السّود في شارعهم، وإذا لم يحرقوه، فإنّهم يبيعون بيوتهم للسّود بثمن رخيص نسبيّا ويغادرون المنطقة.
ذات يوم سألت محاميا أبيض اللون عن سبب كراهيتهم للسّود فقال لي:
الرّجل الأسود كالبقّ، وإذا ما التصقت بجسدك حشرة البقّ، فلا تفغصها كي لا يتّسخ جلدك بدمها، ادفعها بطرف اصبعك على الأرض، ودُسْها بحذائك!
ومن عنصريّة البيض ضدّ السّود والملوّنين في أمريكا، أنّ أخي جمال عندما اشترى البيت في شارع 87 في شيكاغو، وجد على الجدار تخطيطا بالدّهان الأحمر وباللغة الانجليزيّة:
“ارحل من هنا يا خيّال الجمل.move away camel jockey ”
التّنظيم
الأبنية في الشّوارع تسير على نفس النّمط، وعلى نفس البعد عن الرّصيف وعن الشّارع، إنّها خطوط مستقيمة 100%، بما في ذلك الأبنية القديمة، ولما سألت عن ذلك، أخبرني أحد المهندسين العرب أنّ جورج واشنطن أوّل رئيس لأمريكا كان مهندس مساحة، وهو من وضع قوانين هندسة المدن. شوارع شيكاغو واسعة، بعضها فيه خمس مسارات لكلّ اتجاه، وتتوسط الاتّجاهين جزيرة، في الأحياء السكنيّة الشّوارع تتسع لسيّارتين في كلّ اتجاه، وبعده رصيف بعرض مترين، وطريق للمشاة، يليه متران من عشب النجيل والورود.
الصّحافة العربيّة
شاهدت صحيفة عربيّة نصف شهريّة اسمها”البستان” تصدر في شيكاغو، ويرأس تحريرها الدّكتور غسّان بركات عضو المجلس الوطنيّ الفلسطينيّ، وهو أكاديميّ فلسطينيّ من القدس، يحمل شهادة الدّكتوراة في العلوم السّياسيّة من إحدى الجامعات الفرنسيّة، وهو شاب دمث خلوق، زرته في مكتبه أكثر من مرّة، نشرت مقالة في كلّ عدد صدر من صحيفته أثناء وجودي عام 1990 في شيكاغو.
في ميامي
في كانون الثاني 1994 غادرنا أخي راتب إلى أمريكا في زيارة سياحيّة، وراتب هو الشّقيق الأصغر فينا، ولد في آذار 1970، كنت وقتها معتقلا اداريّا في سجن الدّامون القابع على قمّة جبل الكرمل، الذي يحتضن حيفا عروس البحر، غادرنا راتب إلى شيكاغو حيث كان أخوانا جمال وداود، على وشك تصفية أعمالهما في شيكاغو، ومغادرتها إلى مكان آخر، وفعلا غادر داود إلى ولاية كينتاكي، حيث عمل هناك “مخمّن” سيّارات، وبعد ستّة شهور أنهى جمال وجوده في شيكاغو، واتّجه وأسرته وراتب إلى ميامي في فلوريدا، اشترى جمال محلّا تجاريّا مناصفة بينه وبين داود، الذي بقي في كينتاكي، عمل راتب في المحلّ مع جمال، في صيف ذلك العام قرّرت زيارتهم في ميامي، على أن يأتينا داود هناك. في ميامي وجدتهم يسكنون بيتا في حيّ راق للبيض، محاط بسور، وبوّابة عليها حارس، ولا تفتح إلا ببطاقة ألكترونيّة، في الحيّ ناد رياضيّ ضخم فيه بركة سباحة، وجاكوزي وساونا، وهناك رأيت للمرّة الأولى طفلتي أخي جمال سارة وسوزان، كنت سعيدا بصحبتهما، أمّا المحلّ التّجاريّ فقد كان قريبا إلى الشّاطئ في حارة للسّود، غالبيّة سكّانها من مدمني المخدّرات والكحول، شاطئ ميامي من أجمل شواطئ العالم، هناك قصور مبنيّة داخل البحر على جزر اصطناعيّة، يملكها أثرياء من مختلف دول العالم، ومن بينهم أثرياء عرب، كلّ قصر له جزيرته الخاصّة وشارع يصل إليها، ولا يستطيع دخولها أحد إلّا بدعوة من صاحب القصر أو برفقته، في عرض البحر جزر سياحيّة جميلة تبعد حوالي عشرين كيلو متر عن الشّاطئ، فيها منتجعات سياحيّة وفنادق ضخمة، في صالة”لوبي” فندق هولي لاند شاهدت ثُريّا من الكريستال دائريّة الشّكل يزيد قطرها على خمسة أمتار، وهي المرّة اليتيمة في حياتي التي أشاهد فيها هكذا ثُريّا، ومن غرائب تلك البلاد هي البرق والرّعد الذي يأتي بدون سابق انذار، وقد يصعق البعض في سيّاراتهم أو وهم يسيرون في الشّوارع، وفي ميامي جالية كوبيّة كبيرة، حيث أنّ الهاربين من كوبا يلجأون إليها كونها الأقرب إلى كوبا، وهذه المدينة الغنيّة يسهل على المرء أن يرى تحت جسورها آلاف المشرّدين من مدمني المخدّرات الذين يسكنون تحت الجسور، والمثليّون الجنسيّون ذكورا واناثا يشكّلون ظاهرة في بعض شوارع تلك المدينة.
شيكاغو من جديد
سافرت إلى شيكاغو في صيف العام 1999، ووجدت داود يستقبلني في مطار أوهير، كانت فرحتنا كبيرة باللقاء، سألني بحنان زائد عن ابنه علاء وعن زوجته التي تركها حاملا، والتي تعطلت معاملة هجرتها لخمس سنوات، لم يشاهد داود ابنه علاء إلّا بعد أن بلغ الرّابعة من عمره، بعد أن تمّت الموافقة على معاملة هجرته ووالدته، حيث عاد داود واصطحبهما معه في العام 2000، عدنا إلى المحلّ، لألتقي بشقيقي راتب بعد خمس سنوات من الفراق، وشقيقي راتب انسان عاطفيّ جدّا، رغم صلابته وقوّة جسمه المميّزة، تظهر عاطفته دموعا على وجنتيه عند استقبال أو وداع من يحبّهم، وراتب له هو الآخر مكانة متميّزة في قلبي، فهو شقيقي الأصغر، والذي يصغرني باحدى وعشرين عاما.
أمّا داود ذو القلب الطيّب والعقل المتّقد، فإنّه لا يظهر عاطفته لأحد، لكنّه يظهرها بالأفعال…دار بي داود في أرجاء المحلّ شارحا لي كلّ شيء، صعد بي الدّرجات الخشبيّة إلى الشّقة التي تعلو المحلّ، فرآني تعبا بعد رحلة استغرقت ستّ عشرة ساعة طيران، وأكثر من ستّ ساعات انتظار في المطارات، فسألني إن كنت أريد النّوم طلبا للرّاحة، فغفوت ساعتين لا طلبا للنّوم، ولكن تحت ضغط الارهاق…نهضت واستحممت….جلست مع راتب حوالي السّاعة، ثم خرجت وداود لنستجمّ على شاطئ بحيرة متشيغن…تحدّثنا عن البلاد وأهل البلاد، والعائلة وهمومها، واستعدنا الأيّام الخوالي بمرّها وحلوها.
أثناء تحليق الطّائرة فوق شيكاغو في طريقها للهبوط في مطار أوهيرو، كانت غيوم بيضاء تغطي سماء المدينة، وتعلوها غابة من ناطحات السّحاب في مركز المدينة..وهذا منظر لافت مثير للدّهشة قد لا يتكرر.
في لاس فيجاس
ليلة وصولي شيكاغو تحدّث معي ابن العمّ محمّد موسى من هيوستن، استفسر عن أحوال الأهل وقال:
اسمعني جيّدا، اكتب هذا رقم التّذكرة الألكترونيّة، ستخرج بعد غد في السّاعة الثّالثة ظهرا…ستستبدل الطّائرة من مطار أريزونا وستصل لاس فيجاس في حوالي الثّامنة مساء، ستجدني في انتظارك…لا داعي للاعتذار فكلّ شيء مرتّب…لم يكن أمامي أيّ خيار سوى قبول الدّعوة، في حين أنّ داود اعتذر عن قبول الدّعوة قبل أن أصل شيكاغو؛ لأنّه مرتبط بأعمال لا يستطيع تركها، أغلقت الهاتف واذا به يرنّ مرّة أخرى، وكانت المكالمة من أخي محمّد من بورتوريكو، يطلب منّي تحديد موعد لزيارته، فاعتذرت له على أمل الحديث معه بعد العودة من لاس فيجاس.
في السّاعة المحدّدة بعد يومين أقلّني داود إلى المطار، استخرج التّذكرة، طرت إلى أريزونا ومنها إلى لاس فيجاس مدينة العجائب.
لاس فيجاس مدينة عجيبة غريبة فريدة بين مدن العالم، بالتّأكيد لا يوجد لها شبيه بين المدن، أقامها في صحراء نيفادا وعلى سفوح جبال الأنديز شاهقة العلوّ مغني البوب الأمريكيّ الرّاحل إيلفاس بريسلى في منتصف القرن العشرين، ليلهو بها مع أقرانه المقرّبين، ثمّ ما لبث أثرياء أمريكا أن التحقوا به؛ لتصبح المدينة الأحدث والأكثر خدمات في العالم، والمدينة تشبه الصّحن وسط الجبال المرتفعة، أحضروا لها التّربة، وعملوا لها نهرا اصطناعيّا، وهي مضاءة بطريقة فريدة وعجيبة، تبدو المدينة ليلا جوهرة متلألئة، فنادقها ضخمة جدّا، وماكينات القمار تبدأ من المطار، وموجودة في كلّ مكان.
العربان في لاس فيجاس
من المطار استقلينا سيّارة إلى فندق فنيسيا، لمّا سمعنا سائق السّيّارة الأسود نتكلّم العربيّة سألنا بلغة عربيّة ركيكة:
هل تريدون بنات؟
فرددت عليه ماذا تعني؟
فقال: هل تريدون”شراميط” وأخرج بضع بطاقات كورق اللعب، على كلّ واحدة منها صورة لفتاة عارية من مختلف الألوان والأشكال، استغرب الرّجل الذي عرفنا أنّه من اريتيريا رفضنا لطلبه وقال:
عجيب أمركم فالعرب الذين يحضرون إلى هنا هدفهم النّساء والقمار!
صالة فندق فنيسيا ضخمة جدّا، ولها عدّة مداخل، الفندق مبني حسب الفنّ المعماريّ الايطاليّ القديم، ويذكرك بمدينة فنيسيا “البندقيّة” الايطاليّة، سقف الصّالة مدهون على شكل السّماء التي تتطاير في فضائها غيوم بيضاء، يصعب على المرء تحديد ارتفاع السّقف من خلال الاضاءة والدّهان المتلألئ، الصّالة فيها آلاف ماكينات القمار، ومئات طاولات ورق اللعب، طاولات “الزّهر” والرّوليت، وألعاب قمار أخرى لم تحفظ ذاكرتي أسماءها، يوجد جناح خاص للمقامرين بمبالغ ضخمة، بمئات الآلاف وبالملايين، وعليها حرّاس لا يسمحون للمتفرّجين بدخولها، لكن بامكانهم مشاهدتها من خلال شاشات سينمائيّة ضخمة معلّقة على الجدران.
واللافت أن المقامرين في غالبيتهم من كبار السّنّ المتقاعدين، الذين جمعوا ثروات هائلة، ولم يتبق أمامهم سوى اللهو بها، تدلّ وجوههم أنّهم في غالبيّتهم من شعوب جنوب شرق آسيا “اليابان، تايوان وكوريا الجنوبيّة” اضافة إلى العرب، وبعض الفنّانين الأمريكيّين والأوروبيّين، لفت انتباهي عربيّ في السّبعينات من عمره، دخل بصحبة شابّة عشرينيّة ترتدي العباءة والخمار، أشار إليها كي تجلس للعب على احدى ماكينات القمار، في حين دخل هو إلى صالة كبار المقامرين، وما أن ابتعد عنها حتى خلعت خمارها وغطاء رأسها وعباءتها، وضعتها تحتها على الكرسيّ الذي تجلس عليها، بدت حسناء في بداية العشرينات من عمرها، تلبس آخر ما أنتجته دور الأزياء الأمريكيّة من ملابس العري، تسريحة شعرها الفاحم، وعيونها الحوراء لفتت أنظار الجميع.
تدور في صالات القمار لخدمة الزّبائن فتيات حسناوات، عاريات إلّا من طبعة لاصقة تغطي حلمة الثّدي، وخيط رفيع يغطي ما بين الفخذين، يدرن بعجلات ليقدّمن ما يريده الزّبائن من مشروبات مجّانا ودون مقابل.
يعجب المرء من استعمال الذّهب في الفندق، فزرافيل الأبواب والحنفيّات، ومشاجب الملابس، ورؤوس التّخوت والملاعق والسّكاكين كلّها من الذّهب، الغرف عبارة عن غرفة نوم مزدوجة، وصالة فيها طقم كنبايات، أجرتها 160دولارا في اليوم مع وجبتي الفطور والعشاء، أمّا الغداء فإنّك تستطيع أن تطلب ما تشاء، وأن تأكل الكمّيّة التي تريدها مقابل تسعة دولارات فقط، سبب رخص الفنادق هو المنافسة الشّديدة بينها، ولجذب الزّبائن لممارسة القمار فيها.
لماذا لاس فيجاس؟
سبب دعوة ابن عمّي لي لزيارة لاس فيجاس، وليس غيرها هو أنّ الرّجل جاء لحضور معرض لماكينات حديثة، ما أن تمرّر الشّيك عليها حتى تسحب المبلغ المطلوب من صاحب الشّيك وتحوّله أوتوماتيكيّا لحسابك، وإذا كان الحساب أقلّ من قيمة الشّيك، فإنّها تسحب الموجود منه وتكتب لك ذلك، وابن عمّي محمّد موسى الذي يمتلك ثلاثة عشر محلّ صرافة في هيوستن، جاء ليتعلّم كيفيّة استعمال هذه الماكينات، وليشتري كميّة منها لمحلّاته….ومعروف أن كبريات الشّركات الأمريكيّة تعرض انتاجاتها الجديدة في لاس فيجاس، لاحقا أصبحت هذه الماكنيات شائعة الاستعمال في أمريكا كلّها.
في الهورس شو
التقى ابن عمّي بزميل له درس الهندسة معه في جامعة هيوستن، وهو فلسطينيّ من قرية العيزريّة قرب القدس متزوّج من ايرلندية، يملك في لوس انجلوس شبكة مطاعم، شبكة محطّات وقود وشبكة محلّات صرافة، قرّر وزوجته عدم الانجاب، تعرّفت على الرّجل، ودعانا بدوره على عشاء في مطعم ” الهورس شو” المكوّن من ستّ طبقات، أربعة منها صالات قمار، واثنتان لتناول الطّعام، ومن يريد تناول الطّعام فيه، عليه أن يحجز قبل 24 ساعة، لأنّه يعدّ الطعام على نار هادئة، “على شموع كما يزعمون” اتّفقنا أن نأكل “ستيك”، في مساء اليوم التّالي توجّهنا إلى المطعم في السّاعة المحدّدة، فاصطحبتنا فتاة إلى طاولة مكتوب اسم الرّجل عليها، أضواء المطعم خافتة، تنبعث في جنباته موسيقى هادئة، هي عبارة عن سمفونية لبتهوفن…سألَتْ النادلة:
ماذا تريدون أن تشربوا؟ فطلب زجاجة نبيذ اسمه”لويس السّادس عشر”. و”ستيك” هذا المطعم يقارب وزنه الكيلو غرام، وهو لذيذ جدّا، لم آكل شبيها له في أمريكا أو غيرها من البلدان، – عرفت لاحقا أنّه ينقع بالنّبيذ- ثمّ ما لبثوا أن طلبوا زجاجة نبيذ أخرى، من نفس الصّنف، تحدّثوا في الأعمال والتّجارة، فاتورة العشاء أكثر من دخل عشر أُسَرٍ فلسطينيّة لمدّة شهر.
زفاف راتب
عاد شقيقي راتب إلى البلاد في صيف العام 2000 وخطب فلسطين شقير ابنة قريتنا بل ابنة الحامولة، وفي العام 2001 لم يستطع الحصول على فيزا-تأشيرة دخول- ليتزوّج، فقد كان يحمل الاقامة في أمريكا، وغير حاصل على الجنسيّة في حينه، ولكم أن تتصوّروا أنّ راتب المولود في القدس أبا عن جدّ لا يستطيع دخولها إلّا بجواز سفر أجنبيّ، وبتأشيرة سياحيّة من المحتلّين، فسافرت وبصحبتي فلسطين خطيبة شقيقي، ووالدها، وابنيّ قيس ولمى التي كانت في التّاسعة من عمرها، حصلنا على فيزا وسافرنا إلى شيكاغو، وصلناها يوم 21آب-أغسطس-2001، عملنا حفل زفاف لراتب في مطعم كبير اسمه رضا، ملحق به قاعات أفراح، ويملكه ايرانيّ من أيتام العهد الملكي، المطعم يمتدّ على طول شارع، وبحضور المئات من أبناء الجالية الفلسطينيّة والعربيّة، أحيت الحفل فرقة لبنانيّة تخللتها رقصات شعبيّة فلسطينيّة ولبنانيّة، شارك الحضور فيها، كانت الفرحة ناقصة لأنّ الوالدة لم تشاركنا الفرحة نظرا لشيخوختها ومرضها، والعروس افتقدت والدتها هي الأخرى، تزوّج راتب واصطحب عروسه لقضاء شهر العسل في ميامي التي يعرفها، وسبق له العمل فيها لأكثر من سنتين.
بورتوريكو مرّة أخرى
بعد الزّفاف سافرت وابني قيس وابنتي لمى لزيارة أخي محمّد في بورتوريكو، كانت زوجته حليمة وأبناؤه ماري وحسين وسائد قد التحقوا به في العام 1994، في حين أن ابنه كمال التحق به في العام 1982، وجدت أخي محمّد قد ابتاع بيتا جميلا من طابقين على قمّة جبل، حوله حوالي عشرة دونمات، مزروعة بالحمضيّات بطريقة هندسية لافتة، من المدخل الرئيسيّ للأرض تحفّ بالشّارع أشجار تشبه النّخيل، وجدت أن أوضاع أخي محمّد قد أصبحت في أحسن حال، فهو يملك أربع محلات نوفوتيه لبيع الملابس الجاهزة، وكلّ محلّ في مدينة يديره واحد من أبنائه، ويلتمّ شملهم في بيت الوالدين مساء كلّ سبت، يقضون الأحد سويّة، كما أنّه يمتلك عددا من العقارات التّجاريّة المؤجّرة والتي تدرّ عليه دخلا كبيرا، أخي محمّد رجل أنيق يختار ملابسه بعناية، ويهتم بقيافته، دار بنا في جميع أنحاء بورتوريكو تقريبا، ذات يوم ونحن نتناول طعام العشاء في مطعم سمك على شاطئ البحر، كانت صغيرتي لمى تتّكئ على السّور الكاسر للأمواج بجانبنا، تضحك قهقهة، ولمّا سألتها عن سبب ضحكها أجابت بأنّها تضحك مع السّمك الذي تقذفه الأمواج بين الصّخور الاصطناعيّة! ويحاول العودة مرّة أخرى إلى البحر، فأجبرتنا على مشاركتها فرحتها وضحكها الطفوليّ الآسر.
مصارعة الدّيكة
في بورتوريكو شاهدت مبارزة الدّيكة الوحشيّة، حيث يُلبسون مخالب الدّيكة مخالب معدنيّة، ويدرّبونها على القتال، تنتهي المبارزة بقتل أحد الدّيكين للآخر، ومصارعة الدّيكة يعتبرونها رياضة وطنيّة، وقد حدّثونا عن رجل يربّي الدّيكة لهذه الغاية التي تكرهها زوجته، وذات يوم عاد إلى بيته مخمورا، طلب من زوجته أن تذبح له ديكا وتطبخه، فلبّت له طلبه، ولما خرج ليتفقد الدّيكة وجدها قد ذبحت الدّيك المقاتل، فغضب وأطلق عليها الرّصاص فأرداها قتيلة.
في غالبية مدن بورتوريكو هناك مساجد بنيت في غالبيّتها بتبرّع وبمبادرة من السيد عزات حسن بدران، ابن بلدة عنبتا في شمال الضّفة الفلسطينيّة، ويعينّون بها أئمّة غالبيتهم من الإخوة المصريّين، وهناك مأذون مخوّل بعقد قران الزّواج من محكمة عمّان الشرعيّة.
شاهدت بيتا جميلا لشخص ينحدر من أصول كوبيّة، ومولود في سوريّا، تحت البيت قطعة أرض مزروعة بالتّين، أهل تلك البلاد لا يعرفون التّين، بل يعتبرونه ثمرة سامّة، وأكثر ما يسعد صاحب البيت هو أن يرى العرب يتسلّقون الجدار؛ ليأكلوا ثمار التّين، بعضهم يقطع غصنا ويزرعه في حديقة منزله، كما فعل أخي محمّد، وكنت بصحبة أبي مشهور الذي أراد قطع غصن فكسر نصف الشّجرة، وصاحب البيت ينظرنا من شرفة بيته، وليسترضيه أبو مشهور فقد رفع علامة النّصر وقال يعيش كاسترو، والرّجل من معارضي كاسترو وغاضب لتحطيم شجرة التّين، فأشار إلى عدد من الدّيكة في الحقل وقال:
انظر إلى ذلك الدّيك المقاتل…إن عقله أكبر من عقلك!
الحادي عشر من سبتمبر
في 11-9-2001 جرى تفجير برجي التّجارة العالميّة في نيويورك بواسطة الطائرات المدنيّة التي اختطفها انتحاريّون من تنظيم القاعدة، والتي أحدثت ردود فعل واسعة أقلّها احتلال أفغانستان وتدميرها، وقد استغلتها طاحونة الاعلام الصهيونيّة والغربيّة لمهاجمة العرب والاسلام والمسلمين بشكل كبير، وأصبحت علامة فارقة في التّاريخ الحديث يؤرخ بها “قبل 11 سبتمبر وبعد 11 سبتمبر” وبعد يومين من التّفجير الارهابيّ اقتحم رجال الـ اف.بي .آي بيت أخي داود في منتصف الليل بحثا عنّي وعن أبنائي، كانت لمى نائمة، كانوا مهذّبين، طلبوا وثائق سفرنا، لم يوقظوا لمى من نومها، واكتفوا بالقاء نظرة عليها، سألونا عدّة أسئلة وغادروا المكان.
عندما عاد راتب من ميامي، أخبرنا أنّهم اقتحموا غرفة الفندق الذي كان هو وعروسه فيه وحقّقوا معه أيضا.

الفارابي وجابر بن حيّان
كنت جالسا أمام محلّ شقيقيّ دواد وراتب في شيكاغو، بصحبة رجل اسبانيّ دخل أمريكا تهريبا، ويعمل ميكانيكي سيّارات، مع أنّه خريج كليّة التّجارة في بلده، كانت قبالتنا صيدليّة، فأشار إليها وسألني:
من أين أتى اسم الصيدليّة بالانجليزيّة؟
فأجبته: ربّما مشتق من اللغة اللاتينيّة.
ابتسم الرّجل وسأل ثانية: هل سمعت بطبيب فيلسوف عربيّ اسمه الفارابيّ؟
فأجبت: نعم.
فقال هذا الرّجل أي الفارابيّ كان يحضر الدّواء لمرضاه، ويوصيهم بأنّ هذا الدّواء مفيد لحالتهم المرضيّة، وقد يكون سامّا لغيرهم، ويرسم صورة الأفعى على زجاجة الدّواء، كي لا يتناوله الآخرون، والصيدليّة باللاتينيّة مأخوذة من كلمتين تعنيان بيت الفارابي…وشعار الصيدليّات الأفعى تقليد واقرار لما فعله الفارابيّ.
سألته عن مصدر معلوماته فقال، بأنّه درسها في الجامعة، وأضاف:
أنتم العرب كنتم سادة العالم في مختلف أنواع العلوم، وتوقفتم في مرحلة ما، ولم تتابعوا ما بناه لكم آباؤكم، فأخذ الأوروبيّون علومكم وواصلوا الطّريق، وها أنت ترى أين وصلوا؟ وأين أنتم؟
شعرت بأنّ الرّجل يجلدني بعروبتي التي أخرجها حكامها من التّاريخ، فتألمت لذلك، وتذكّرت عندما سألني مدمن مخدّرات في شارع رقم 79 في شيكاغو عام 1990 قائلا:
ما معنى اسمك؟
ولكي أتخلّص منه قلت له: ليس له معنى؟
فسأل مستنكرا:
وهل يوجد اسم لا معنى له؟
فأجبت: نعم اسمي لا معنى له…وكان اسمه”جيبر” وأضفت سائلا ما معنى اسمك انت؟
فقال بفخر: اسمي على اسم عالم عربيّ شهير اسمه”جيبر بن هيان” جابر بن حيان.
فصعقني باجابته، وتساءلت عن عدد العرب الذين سمعوا بعالم علم الكيمياء جابر بن حيّان، أو يعلمون عنه شيئا؟ وكم منهم يطلق اسمه على ابنه تيمّنا بذلك العالم الجليل وتخليدا لذكراه؟
بعد سنوات تعرّفت على البروفيسور كريستوفر كولمو، وهو محاضر في جامعة”دومينيكان” التي يدرس فيها ابني قيس، والرّجل يحمل عدّة شهادات دكتوراة، منها واحدة في الفلسفة وأخرى في التّربية، ولشدّة اعجابه بالفارابي، فإنّ موقعه الألكتروني و”إيميله”يحملان اسم الفارابي، سبق للرّجل أن عمل استاذا زائرا في جامعتي القاهرة والكويت، وفي زيارة لي لشيكاغو وبعد أن تعرّف على قيس الذي كان أحد طلابه، دعاني الرّجل للغداء في مطعم، كان قيس بصحبتنا، فأخرج الرّجل أحد مؤلّفات الفارابيّ بالعربيّة، وبمساعدة قيس حدّد جملة واحدة فيها كلمة”الرّوحانيات” ومترجمة للانجليزية”أرواح..جمع روح” فلم يستسغ الرّجل المعنى، وجزم بأنّ هناك خطأ في التّرجمة، وسألني عن معناها؟
ولما قلت أنّها تعني المعتقدات الدينيّة، صرخ الرّجل فرحا، وقام واحتضنني شاكرا، وهو يردد:
سأعمل ثورة في الجامعات بهذه المعلومة، فقد عدت إلى التّرجمة بالاسبانيّة والفرنسيّة ووجدتها مشابهة للتّرجمة الانجليزيّة، وتساءل عن العرب الذين درسوا فلسفة الفارابيّ في الجامعات الغربيّة، كيف لم ينتبهوا لذلك، وكيف لم يقرأوا هذا الفيلسوف العظيم بلغتهم التي كتب فلسفته بها؟
متحف شيكاغو
زرت وشقيقي داود متحف شيكاغو القريب من مركز المدينة، بناية المتحف الظّاهرة للعيان ليست كبيرة، لكنّك ما أن تدخلها حتى تجد نفسك في مدينة تحت أرضيّة، مقسمة إلى أقسام حسب المنطقة التي جاءت منها موجودات المتحف، وهناك رأيت موميات الفراعنة المحنّطة، بعضها صدورها مغطّاة بالذّهب، رأيت موجودات لا تقدّر بثمن جلبوها من دول مختلفة، ومن ضمنها الدّول العربيّة، المتحف كبير جدّا، وتحتاج إلى ساعات طويلة؛ لتمشي في مختلف أقسامه دون توقّف، ويحوي كنوزا من الحضارات السّابقة.
أبو خالد ليس مجنونا
تعرّفت في شيكاغو على أبي خالد، وهو مغترب فلسطينيّ من رام الله، تزوّج ابنة عمّه الممرّضة المولودة في أمريكا، وأنجبا هناك عددا من الصّبايا والصّبيان، خالد في السّابعة عشرة من عمره، عندما سمعه والده يغازل عشيقته الأمريّكية هاتفيّا، وشقيقته ابنة الخامسة عشرة بجانبه، انهال والده عليه ضربا ترك آثارا على وجهه، وهو يردد:
ماذا ستفعل شقيقتك عندما تسمع ما تقوله؟
في اليوم التّالي رأت احدى المعلّمات في المدرسة آثار الضّرب على وجه خالد أشقر البشرة، ولمّا سألته عن السّبب أخبرها أنّها من والده، فاتّصلت بالشّرطة، والتي بدورها اعتقلت الوالد وحقّقت معه، وبعد 24 ساعة أمرته المحكمة بعدم الاقتراب من البيت ثلاثة كيلومترات من كلّ الاتّجاهات لمدّة خمسة عشر يوما.
بعد انتهاء المدّة ذهبت مع أبي خالد إلى المحكمة، فأحضر باحث اجتماعي صورة لجسم انسان مفصول الرّأس واليدين والرّجلين، طلب من أبي خالد اعادة تركيب الصّورة، ولمّا أعاد تركيبها قال له الباحث الاجتماعيّ:
ها أنت عاقل وتدرك الأمور جيّدا، فلماذا ضربت ابنك؟
بعد دقائق جاء دور أبي خالد للمثول أمام القاضي، قدّم المدعي لائحة اتّهام مطالبا بايقاع أقسى العقوبات بحقّ الرّجل العاقّ بابنه! أوكلت المحكمة محاميا منها للدّفاع عن الرّجل الذي حضر بدون محامٍ….بعدها جلس القاضي الذي كان يتلمّس جبينه بيده اليسرى، ويكتب بيده اليمنى ليصدر القرار، وممّا قاله:
إنّني معجب بتربية العرب والمسلمين لأبنائهم، أتمنّى لو أنّ أبنائي يحظون بتربية مماثلة، والاحصائيّات في الولايات المتحدة تشير إلى أنّ أقل نسبة انحراف بين أبناء مختلف الجاليات هي بين العرب والمسلمين، فاستبشرنا خيرا وتأكّدنا بأنّ القاضي سيبرّئ أبا خالد ،وأضاف القاضي:
لكنّنا أمام جريمة كبيرة وخطيرة، فهذا الأب المجرّد من الأحاسيس والمشاعر الانسانيّة، يضرب ابنه لأنّه يمارس حقّه في الحياة، وبناء عليه نقرّر:
– ابعاد الأب عن البيت، ويمنع عليه الاقتراب منه ثلاثة كيلو مترات من كلّ الاتجاهات لمدّة ثلاثة أشهر.
– السّجن ثلاثة أشهر مع وقف التّنفيذ للأب ولمدّة ثلاث سنوات.
بريدج فيو
في العام 2002 اشترى شقيقاي دواد وراتب بيتا جميلا مكوّنا من طابقين وتسوية، في منطقة برديج فيو الواقعة في طرف شيكاغو، وهي منطقة سكنيّة جميلة هادئة، حوالي 70%من سكّانها فلسطينيون، و20%عرب من جنسيات مختلفة، و5%مسلمون غالبيّتهم من الباكستان، و5% من الرّيف الايطالي وعاداتهم متشابهة إلى حد ما مع العادات العربيّة.
في هذه الحارة مسجد ضخم جميل تعلوه مئذنة ومكوّن من طابقين، تبلغ مساحة كلّ طابق حوالي 800 متر مربع، الطّابق الأوّل منه مصلّى للنّساء، ويحيط به موقف واسع للسيّارات، تشرف على هذا المسجد جمعيّة اسلاميّة اسمها جمعيّة الأقصى، وتقام صلاة الجمعة مرّتين في هذا المسجد، لأنّه لا يتّسع للمصلّين دفعة واحدة، والقانون الأمريكيّ يمنع الصّلاة في السّاحات خارج دور العبادة.
بجوار المسجد مدرسة اسلاميّة تحمل اسم”مدرسة جمعيّة الأقصى” وهي مدرسة خاصّة يدرس فيها أبناء الجالية العربيّة، تتقاضى المدرسة أقساطا شهريّة تصل إلى 600 دولار شهريّا عن كلّ طالبة وطالب، وتدرّس المنهاج الأمريكيّ المعمول به في ولاية الينوي، اضافة إلى اللغة العربيّة كلغة ثانية، وتدرّس مادّة التّربية الاسلاميّة أيضا، معلّماتها وطالباتها يرتدين الزيّ الشرعيّ والحجاب، في حصص الرّياضة يخلعن الجلباب، ويمارسن الرّياضة ببنطال طويل وقميص بأكمام تصل إلى الكفّين، وغطاء للرّأس، وهي من المدارس المتقدّمة، وحصلت على جوائز قيّمة، ومن المدارس العشرة الأولى في دائرتها التّعليميّة بنتائجها العالية، فيها يدرس أبناء شقيقي داود”علاء، هناء وريام” وكذلك أبناء شقيقي راتب”ضرغام وأمينة”
شوارع هذا الحيّ ذات مسارين، كلّ مسار يتسع لسيّارتين، هناك رصيف للمشاة بعرض مترين، وبعده رصيف مزروع بــ “النجيل”بعرض أربعة أمتار.
أنا وزوجتي وبناتي في شيكاغو
في صيف العام 2002 زرت شيكاغو صحبة زوجتي وابنتيّ أمينة ولمى، وأبناء شقيقي عمر “بلقيس وتميم”، سكنّا في بيت شقيقيّ داود وراتب، كانت فرحتنا كبيرة بلقاء ابننا قيس، وشقيقيّ داود وراتب، في شهر نيسان من ذلك العام رُزق أخي داود وزوجته بابنتهما هناء، في حين رزق راتب وزوجته بابنتهما البكر أمينة في شهر تمّوز أثناء وجودنا هناك.
قيس في معهد اللغة
في سنته الأولى أنهى قيس دورة اللغة الانجليزيّة في الفصل الأوّل في جامعة دومينيكان، اجتاز امتحان المستوى بكفاءة عالية، وسجّل للدّراسة في السّنة التحضيريّة الأولى، كان أصغر الطّلبة عمرا. في احدى حصص الفراغ لم يعرف كيف يقضي وقته، فهو لم يتّخذ أصدقاء في شهوره الأولى، وقف أمام لوحة الاعلانات، قرأ اعلانا من أحد أساتذة كليّة الاقتصاد، يفيد بأنّ ذلك اليوم هو يوم دراسيّ مفتوح عن”التّسويق” لطلبة الماجستير، يطلب فيه الأستاذ المشرف من الطلبة الأجانب في الكلّيّات الأخرى أن يحضروا نشاطات ومحاضرات ذلك اليوم اذا ما رغبوا في ذلك؛ للاستفادة من خبراتهم في بلدانهم، ذهب قيس لا حبّا في المشاركة وإنّما لقضاء وقت فراغة، وهناك سأل المحاضر الطلبة قائلا:
كيف نسوّق بضاعة ما، ونقنع المستهلك بشرائها؟ وقف طالب أمريكيّ يحمل زجاجة عصير فاخرة ثمنها ثلاثة دولارات وقال:
اذا أردت تسويق هذا النّوع من العصير، سأقرأ مكوّنات هذا العصير، والفيتامينات الموجودة فيه، وكيفية تنشيطه للجسم، وعندها سيشتري المستهلك هذا العصير.
وسأل المحاضر الطّالب نفسه:
كيف تُسوّق بدلة كالّتي ترتديها؟
أجاب الطالب: سأشرح للمستهلك أنّ هذه البدلة مريحة للجسم، تجمّل مرتديها؛ فتنجذب الفتيات إليه، وإذا كان فوق الأربعين سيظهر وكأنّه في العشرينات من عمره، وستلاحقه الفتيات.
وهنا رفع قيس يده مستأذنا بالحديث، فأذن له المحاضر…فقال قيس:
ما قاله زميلي الطّالب ينطبق على ثقافة الشّعب الأمريكيّ والشّعوب الأوروبيّة، وهي بلدان الصّناعة فيها متقدّمة، المنافسة فيها كبيرة جدّا، والشّركات المصنّعة والمنتجة تغطي أسواق هذه البلدان بدعاية مركّزة ومحترفة، وباشراف خبراء محترفين، أمّا التّسويق في البلدان النّامية، بأسواقها المفتوحة للمنتوجات الأمريكيّة والأوروبيّة، فالأمر مختلف تماما، فاذا ما شرحت لهم عن مكوّنات العصير والفيتامينات الموجودة فيه، فإنّهم لن يفهموا عليك شيئا، اضافة إلى أنّهم لا يملكون ثمن هذا العصير، واذا أردت تسويق عصير عندهم، فالعصير رخيص الثّمن هو ما يشترونه، ولو قلت لهم هذا الجالون من العصير يكفي جميع أفراد أسرتك لمدّة يومين أو ثلاثة، وثمنه دولار واحد، فإنّهم يشترونه، ولو أردت تسويق بدلة مثلا، غالية الثمن بـ150 دولارا كبدلة زميلنا فإنّهم لن يشتروها، لأنّ دخلهم في الشّهر لا يصل إلى هذا المبلغ، ولو قلت لأحدهم بأنّ هذه البدلة ستجذب الفتيات إليك، فقد يضحك منك، وإذا كان مسنّا فقد يشتمك أو يضربك، أمّا اذا قدّمت له بدلة وقلت:
هذه البدلة جميلة ولائقة وتضفي وقارا على مرتديها، وتخدم عشرات السّنين، واذا ما ضاقت على جسمك فإنّ بامكان ابنك أن يرتديها، وثمنها 20 دولارا فإنّه سيشتريها، فصفّق له المحاضر وسأله عن اسمه؟ وأعطاه رقم هاتفه طالبا منه أن يزوره في مكتبه، في اليوم التّالي….وفي المقابلة أبدى المحاضر اعجابه بقيس، خصوصا بعدما علم أنّ عمره يقلّ عن 18 عاما، وأبدى استعداده لتقديم أيّ مساعدة له.
قيس يدرس الاقتصاد
عندما أنهى قيس السّنة الأولى التحضيريّة كانت علاماته كاملة، فأخذ كلّ واحد من الأساتذة ينصحه بأن يدرس تخصّص الأستاذ نفسه، لكنّ قيس قبل بنصيحة البروفيسور جالابريسي له بدراسة الاقتصاد، وفي تخصّص الاقتصاد كانت علامات قيس كاملة أيضا، فأعفته الجامعة من عشرة آلاف دولار من الأقساط الجامعيّة سنويا، ليتبقى عليه ثمانية آلاف دولار.
في نهاية السّنة الثّانية نصحه البروفيسور جالابريسي، بأخذ متطلّبات الجامعة موادّ تمكّنه من الحصول على شهادتي بكالوريوس واحدة في الاقتصاد، والثّانية في التّجارة الدّوليّة، وهذا ما كان، حيث تخرج قيس بشهادتي بكالوريوس، في أربع سنوات.
لحوم الحيوانات المفترسة والطّيور الجارحة
ذات يوم اصطحبنا شقيقي داود إلى أحد الملاحم في قرية، تبيع مختلف أنواع اللحوم لنشتري لحم غزال، وهناك وجدنا شرائح لحوم لمختلف الحيوانات،غزلان، أغنام، حمير، خيول، أسود، نمور، ضباع، قردة، فهود، دببة، فيلة، أفاعي، كبد السّلاحف المائيّة الضّخمة، ومختلف أنواع الطّيور بما فيها الجارحة كالنّسور والصّقور وغيرها، اشترينا غزالا كاملا، وقرب الملحمة مزرعة شاسعة فيها مختلف أنواع الخضار غير المسمّدة، وغير المعالجة كيماويّا، تقطف الخضار التي تريدها بيديك، فيزنها صاحب المزرعة ويحاسبك عليها، اشترينا عدّة أصناف من الخضار، وعدنا إلى البيت متعجّبين من هذا البلد العجيب الذي يتوفر فيه كلّ شيء، بما في ذلك أشياء لا تخطر للمرء على بال.
الطيور البريّة
في شيكاغو شاهدت محلّين تجاريّين يملكهما أخوان فلسطينيّان، ويبيعان فيهما الطّيور البرّيّة من دجاج مختلف الأنواع والألوان، الحمام، الشُّنّار، الفرِّة، والأرانب البرّيّة، تختار الطّيور التي تريدها، فيذبحونها لك، وأسعار طيور الدّجاج البرّيّة هذه أكثر من ضعف ثمن دجاج المزارع، وتمتاز بعدم وجود الدّهون في لحومها، وطيب طعم هذه اللحوم، وهناك نوع من الدّجاج ريشه أسود اللون، ورقبته عارية بدون ريش، ولون لحومها أسود، ويتهافت من ينحدرون من أصول بولنديّة لشرائها، أمّا باقي الدّجاج والطّيور الأخرى فيشتريها العرب والمكسيك، وتدرّ هذه التّجارة دخلا مرتفعا لأصحابها.
عام 2014 اشترى شقيقيّ داود وراتب واحدا من هذين المحلّين.
في المتحف البحريّ
ذات يوم اصحبنا شقيقي داود لزيارة المتحف البحريّ القريب من مركز المدينة، وهناك شاهدنا العجب العجاب، شاهدنا مختلف أنواع الحيوانات البحريّة، كلّ صنف في قسم خاصّ، يعيش في مكان شبيه بحياته البحريّة، وواجهة المكان زجاجيّة؛ ليستطيع الزّائر رؤية هذه الحيوانات تتحرك بحرّيّة تامة، شاهدنا أسماكا صغيرة شبيهة بطائرات الهليوكبتر، ويبدو أنّ مخترعي ومصنّعي هذه الطّائرات تأثّروا بهذه المخلوقات وقلّدوها بصناعاتهم، وشاهدنا عروس البحر وحصان البحر وهما سمكتان صغيرتان غاية في الجمال – كنت أظنّهما خرافة قبل ذلك- وشاهدنا سمك القرش المفترس، في بحيرة صغيرة يعلوها مدرّج شاهدنا عددا من الحيتان الضّخمة، كما شاهدنا عرضا للدّولفين يقوم بالعاب بهلوانية بمرافقة الموسيقى وبتوجيهات من فتاة جميلة كانت تشاركها اللعب.
في حديقة الحيوانات
زرنا حديقة حيوانات شيكاغو، داود وزوجته وأبناؤه، وزوجة راتب وأبناؤها، وأنا وزوجتي وأبنائي، وشقيقتي يسرى، الحديقة قائمة على مئات الدّونمات، وبيوت الحيوانات فيها شبيهة بالحياة البرّيّة التي تعيش فيه تلك الحيوانات، فيها مختلف أنواع الحيوانات، وهناك رأيت للمرّة الأولى والأخيرة الأفاعي ذات القرون، إنّها أفاعٍ ليست كبيرة الحجم، وقرونها عبارة عن نتوء لحمي يعلو الرّأس، ولا يزيد طوله عن بضع ميلليمترات، وهناك شاهدت الغوريللا، كانت مستسلمة لقدرها ، وإن كان واضحا أنّها ترفض حياة الأسر…في قسم الجِمال رأيت بعيرا مكسور السّنام، أخبرنا أحدهم أنّ سنام الجمل ينكسر ويتراخى عندما يتقدّم البعير في العمر.
قيس يتخرج من الجامعة
في صيف العام 2006 تخرج ابني قيس من جامعة”دومينكان” فسافرت لحضور تخرّجه بصحبة ابن العمّ محمّد اسماعيل، ويوم التّخرّج حضرنا الاحتفال بحضور الأخ داود، وجورج عازر الشّابّ اللبناني الطيّب، صديق قيس، والذي تخرّج من نفس الجامعة قبل قيس بعام، ويملك أشقاؤه محلات لبيع الذّهب في شيكاغو، كما يملكون محلا لتصنيع الذّهب في بيروت ورثوه عن المرحوم والدهم، وقيس حصل على شهادتي بكالوريوس، واحدة في الاقتصاد والثانية في التّجارة الدّوليّة، كان الأوّل في الاقتصاد والثّاني في التّجارة الدّوليّة، وحصل على مرتبة الشّرف، ووضع اسمه على لوحة نحاسيّة في قاعة المكرّمين من الطّلبة الأوائل، ازددت فخرا بقيس عندما انحنى أمامي أحد الأساتذة في الجامعة بعد أن عرفني، وصافحني قائلا:
أنت أفضل من الرّئيسين كلينتون وجورج دبليو بوش، لأنّ لك ابن اسمه قيس، ولا يوجد عندهم ابن مثله، في “الكافيتيريا”وقبل بدء الاحتفال وبحضور الطّلبة الخرّيجين، حضر أستاذ جامعيّ فرحا بكتاب له في الاقتصاد صدر قبل ذلك بيوم، أهدى منه نسخة لرئيسة الجامعة، ونسخة للبروفيسور كولمو، ونسخة لقيس قدّمها له وهو يقول:
أنت الطالب الوحيد الذي أهديته كتابا في حياتي، وأنت تستحقّ هذا التّكريم…أنا فخور بأنّني علمت واحدا مثلك.
في نيو مكسيكو
أصرّ ابن عمّي محمّد موسى، أن يدعونا”أنا، داود وابن عمّنا محمّد اسماعيل- وهو ابن شقيق ابن عمّنا محمّد موسى-” وقيس لزيارته في بيته الصّيفي في نيومكسيكو، وهي ثاني أفقر ولاية في أمريكا بعد ولاية المسيسيبي، فاعتذر قيس لارتباطه بعمل، في حين سافرنا ثلاثتنا، فوجدنا ابن عمّنا في استقبالنا في مطار سانتا فييه عاصمة الولاية،…واستقلّينا سيّارة إلى ألبا كيركي ومنها إلى حارة الأثرياء، حيث بيت ابن عمّنا، تقع الحارة وسط غابة كثيفة، وفيها حيوانات مفترسة، تصل الدّببة والنّمور والضّباع إلى أبواب البيوت، ويرتادها الأثرياء هربا من ضجيج المدن، وطلبا للهدوء والرّاحة، الحياة غالية جدّا في تلك الولاية، فقلت لابن عمّي: إنّها حياة تشبه حياة البراري في بلادنا.
سكّان هذه الولاية في غالبيّتهم مكسيكيّون، مدنها صغيرة، وفي البا كيركي حارة كبيرة للفنّانين التّشكيليّين والنّحّاتين، لكلّ منهم مرسمه ومشغله، تستطيع مشاهدتهم وهم يرسمون، أو يصبّون تماثيلهم أو ينحتونها، وأعمالهم معروضة في محلّاتهم وعليها أسعارها التي يصل بعضها إلى مئات آلاف الدولارات… في المدينة “غاليري” دائم للفنون التشكيليّة، يعرض الفنّانون من مختلف أنحاء أمريكا أعمالهم فيه، والدّاخل إليه يدفع تذكرة بخمسة عشر دولارا، هذه المدينة تراثية، أبنيتها من طابق واحد، وعلى النّمط القديم، إنّها تشبه الأبنية القديمة في مدينة أريحا الفلسطينيّة، تتوسط المدينة ساحة واسعة، على أحد جوانبها يجلس يوميّا عدد من الهنود الحمر، يعرضون صناعاتهم اليدويّة الخفيفة للبيع، إنّهم يشبهون فلاحي بلادنا.
نيو مكسيكو ولاية صحراويّة، أشجار غاباتها لا ترتفع كثيرا، مواطنوها يعيشون على الزّراعة البدائيّة، يزرعون الخضار ويروونها من مياه بعض القنوات، في الرّيف رأيت بيوتا من الصّفيح، وهم يقتنون الخيول والحمير والكلاب، التي يندر أن لا تشاهدها أمام كلّ بيت في الرّيف. هواء تلك البلاد جافّ، وينصح من يعيش فيها أن يشرب الماء باستمرار؛ خوفا من أن يصاب بالجفاف. ومن عجائبها أنّ المنطقة السّهليّة الواسعة محاطة بجبال شاهقة، تعلو قممها الغابات والثّلوج، لم أجد جوابا شافيا لاعتبارهم إيّاها منطقة صحراويّة.
الهنود الحمر
في نيو مكسيكو قرى للأمريكيّين الأصليّين”الهنود الحمر” الذين تعرّضوا للإبادة على أيدي البيض الأوروبيّين الذين غزوا البلاد بعد اكتشافها، يقدّر عدد من قتلوا من الهنود الحمر بسبعين مليونا، في حين يبلغ عددهم الآن سبعة ملايين، ولتكفير حكّام أمريكا عن جرائم أسلافهم بحقّ الأمريكيّين الأصليّين، فقد سمحوا لهم بالبناء غير المرخّص في أراضيهم، كما سمحوا لهم بافتتاح المحلّات التّجاريّة ومحطّات الوقود بدون جمارك وبدون ضرائب، كما أنّ أبناءهم وبناتهم يُعفون من الأقساط الجامعيّة. غير أنّ هذا لم يحمهم من مكائد الرّجل الأبيض الذي لا يزال يستغلّهم، فالبيض يفتتحون المحلّات التّجارية المختلفة بأسماء بعض (وجهاء) الهنود الحمر مقابل مردود شهريّ بخس، قياسا بما يجنيه الرّجل الأبيض، ولهذا فإنّ ّ”كازينوهات” القمار ومحطّات بيع الوقود والسوبر ماركت منتشرة في الولاية، باسم الهنود الحمر، لكنّ مالكيها الحقيقيين هم من البيض.
قريتان للهنود الحمر
زرنا قريتين للهنود الحمر، واحدة محاطة بأسوار، ولها مدخل واحد يحرسه رجال أمن، ويسمح لك بالدّخول بعد شراء تذكرة بخمسة عشر دولارا، يمرّ من وسط القرية سيل ماء من المياه المنحدرة من الثّلوج الذّائبة من على قمم الجبال المحيطة، بيوت القرية بسيطة متراصّة، لا طوابق فيها، تتقدّمها محلّات يعرضون فيها صناعاتهم اليدويّة التّراثيّة، أمام كلّ بيت عدد من الكلاب، وطابون يخبزون عليه، لفت انتباهي أنّ لون بشرتهم يشبه لون بشرة العرب، ولو اختلطوا بالعرب لما استطاع أحد تمييزهم، ونساؤهم يرتدين ثيابا مطرّزة كثياب القرويّات في بلادنا، وهنّ يطرّزن صورا للدّببة والفهود والنّمور، وهذا يعني تأثّرهم ببيئتهم المحليّة…ولا أعرف لماذا راودتني فكرة بأنّ أصولهم قد تكون عربيّة، وأنّه ربّما أنّ العرب هم أوّل من اكتشفوا أمريكا واستوطنوها.
اشترينا رغيف خبز طابون من امرأة في الخمسينات من عمرها، فسألتنا:
من أين أنتم؟
أجبتها: من البلاد المقدّسة..من القدس.
فاحتضنتني وهي تقول باكية:
أنتم إذن فلسطينيون…أنتم الهنود الحمر في الشّرق الأوسط، يقتلونكم للاستيلاء على بلادكم كما قتلوا أجدادنا واستولوا على أرضنا، ورفضت استلام ثمن رغيف الخبز.
زرنا قرية هنديّة ثانية تخونني ذاكرتي، فلم أعد اذكر اسمها على ضفاف سيل هي الأخرى، قرية شبيهة بقرانا الزراعيّة، بيوتها فقيرة، سكّانها يزرعون بعض الخضار كالقرنبيط وغيره، يقتنون الحمير والخيول والكلاب….وفي هذه القرية يجري احتفال تراثيّ للهنود الحمر لمدة أسبوع في السّنة.
كما زرنا قرية مهجورة، تمت إبادة سكّانها على أيدي البيض قبل حوالي ثلاثة قرون، و تقع كهوف القرية في باطن جبل صخريّ شديد الانحدار عميق، يقابله جبل مثله، في الوادي سيل ماء أيضا، والكهوف تصلها بطريق ضيّقة تتّسع لمرور شخص واحد، احتمى سكّان القرية بكهوفهم، وكانوا يلقون الصّخور على من يحاول اقتحام كهوفهم معتديا، لكنّهم لم يصمدوا طويلا أمام الأسلحة النّاريّة.
هناك محاولات للقضاء كليّا على الهنود الحمر من خلال صهرهم في المجتمع من خلال الزّواج المختلط بالأجناس الأخرى….خصوصا بين طالبات وطلاب الجامعات.
قرية ويلنج
على أطراف شيكاغو تقع قرية ويلنج، يبلغ عدد سكّانها حوالي أربعين ألفا، ومن خلالها عرفت أنّ الحياة الأمريكيّة الهادئة والآمنة هي في القرى، وليست في المدن، وهذه القرية الجميلة، شوارعها واسعة، بيوتها جميلة، مركزها هادئ، فيه محلّات تجاريّة، ومقهى يجلس فيه من يريد أن يقضي وقتا، أو يلتقي أحدا، رأيت فيه طلبة جامعيين يقومون بأبحاثهم، ورجال أعمال يتحاورون بهدوء تامّ، وفي هذه القرية حديقة ورود عامّة تجذب النّاظرين، في هذه القرية مصانع وشركات ومطار للطّائرات الصّغيرة التي يستعملها رجال الأعمال كسيّارات خاصّة، وابني قيس بعد أن حصل على شهادة البكالوريوس، التحق بالجامعة للحصول على شهادة الماجستير في ادارة الأعمال، عمل في شركة برمجة كمبيوتر مقرّها في هذه القرية، يملكها شخص ينحدر من أصول مالطيّة، اختار قيس للعمل معه بناء على نصيحة أساتذة من الجامعة لصاحب الشّركة، استأجر قيس بيتا وسكن فيها، وعندما زرت أمريكا في العام 2008، زرت هذه القرية التي يسكنها قيس، هناك ذهلت بتخطيط القرى الأمريكيّة، وطريقة تنظيمها وتنظيم شوارعها، وفيها شاهدت المقرّ الرئيس لشركة موتورولا للاتّصالات، وهو بناء ضخم من عشرات الطّوابق، وموقف السّيّارات المحيط بالبناء تصطفّ فيه آلاف السّيّارات.
في القرية مطعم عربيّ على النّمط الأمريكيّ، وهو فرع لشبكة مطاعم عربيّة يملكها رجل أعمال مقدسيّ فلسطينيّ.
سيادة القانون
القانون في ولاية انديانا يمنع فتح “كازينوهات” القمار على أرض الولاية، فاحتال رجلا أعمال على القانون، وحصلا على قرار من المحكمة بفتح كازينوهات في بحيرة متشيغن، واشتريا لذلك سفينتين ضخمتين، أرسياهما على الشاطئ، وأقاما مكاتب فخمة، وفنادق، ومطاعم ومواقف للسّيّارات على اليابسة التي تتّصل بهاتين السّفينتين.
المقاهي التّركيّة
منذ العام 2005 انتشرت في شيكاغو المقاهي التّركيّة التي يدخّن فيها روّادها الأرجيلة، وقد دخلت احدى هذه المقاهي من باب الفضول، فوجدتها تتكوّن من فراش عربيّ، تفصله برادي من قماش سميك، وحجرات هذه المقاهي مقسمة لتّتسع لشخصين أو أربعة، ….إلى عشرة اشخاص، عند المدخل صالون ينتظر فيه الزّبائن دورهم، حتى يأتي النّادل ويصطحبهم إلى المكان الذي يختاره هو لهم حسب عددهم…وهناك مقاهي من هذا القبيل للعائلات، أي لمن يريد اصطحاب زوجته معه، وغالبيّة روّاد هذه المقاهي من أصول عربيّة، أو أنّهم مسلمون من جنسيّات مختلفة.
في الطّريق إلى ستيرلنج
اشترى شقيقاي داود وراتب عام 2012 مزرعة مساحتها 45 دونما، وفي مدخلها”كوتيج، في قرية اسمها “ستيرلنج” تبعد عن شيكاغو 180 ميلا، عدد سكّن القرية ثمانية وثلاثون ألفا،وهي قرية زراعيّة، شوارعها من اتّجاهين، بينهما جزيرة مزروعة بالورود، وفيها محلّات تجاريّة ضخمة، بعضها فروع لشركات عملاقة مثل محلات “والمارت” الشّهيرة، وفيها مختلف المكاتب الحكوميّة، يحيط بها نهر عرضه يزيد على الأربعين مترا، في انحناءة قوسيّة للنّهر حديقة عامّة تزيد مساحتها على المائة دونم، مرتّبة بطريقة لافتة.
في الطّريق إلى هذه القرية شاهدت عمليات حصاد للذّرة البيضاء والفول، بجانب آلة الحصاد، تسير شاحنة في صندوقها رجلان، ترمي إليهم الحصّادة شوالات الحبوب، وما عليهم إلا ترتيبها في صندوق الشّاحنة، في حين تترك خلفها بالات القشّ الجاهزة للتّحميل والنّقل.

التعليقات

جميل السلحوت

جميل حسين ابراهيم السلحوت
مولود في جبل المكبر – القدس بتاريخ 5 حزيران1949 ويقيم فيه.
حاصل على ليسانس أدب عربي من جامعة بيروت العربية.
عمل مدرسا للغة العربية في المدرسة الرشيدية الثانوية في القدس من 1-9-1977 وحتى 28-2-1990

أحدث المقالات

التصنيفات