رشا السرميطي: الأديب جميل السلحوت يطرق بابًا تربويًّا مهمًّا في روايته ” لنوُّش “

ر

رواية “لنّوش” لجميل السلحوت الصادرة عن دا رالجندي للتوزيع والنَّشر عام 2016 في (45) صفحة، تشكل سبقا للكاتب في ربط أدب الأطفال ومراحل النُّمو، بما يشير ويعزز لاكتساب الطفل هويَّته منذ مراحل نموّه الأولى، عندما يكون جنينًا في رحم أمه، حتى يمتلك مفاتيح النجاح لمستقبل جميل يلوِّنه بالمثابرة والاجتهاد.

في روايته ” لنُّوش” يؤكد جميل السلحوت بأنَّ الابداع يولد من رحم المعاناة، وهنا لم يتطرق للمعاناة بمعني الحرمان والفقر والعوز، وإنَّما لباب آخر، وهو يحكي عن جوّ أسري لعائلة متعلمة واعية لخطورة التّربية وأهميّة اعداد النشئ القويم الذي سيتولى قيادة هذا المجتمع وبناء الوطن.

بدأ جميل السلحوت روايته مقدّمًا الاهداء لحفيدته لينا المبدعة والملهمة كما وصفها للقارئ، التي ربما كان لها الدّور الأكبر في كتابته لهذه الرّواية، وقد بنى أحداثها ضمن بطولات عديدة أدّتها ” لينا ” خلال الفترة التي عاشها معها في أمريكا. لينا لم تكن أوّل حفيداته، لكنّه في الرّواية والتي أعتقد أنَّ أحداثها واقعية تمامًا، يشير لاكتشافه وملاحظته لملكات ابداعية أصيلة وجدت في شخصيتها، ويذكر لنا أسباب هذه السمات التي تميزها عن مثيلاتها من نفس الجيل، وكيفية رعايتها لتغدو مبدعة وطفلة غير تقليدية.

عناوين هامّة مرّرها أديبنا بطريقة سهلة وسلسلة، لكنَّ مدلولاتها في علم النُّمو عميقة جدّا، بل أجزم بأنَّ الدّراس والمتعلّم بها يمكنه تنشئة جيل آخر ومختلف بما لديه من قدرات ومهارات غير اعتيادية، أذكر منها:

أوّلا: الطفل صفحة بيضاء.

تطرق السلحوت لأهمّية مراحل التّلقيح، الولادة، الرّضاعة، وأثر تغذية الطفل نفسيًّا إلى جانب التّغذية الصّحّيّة السّليمة على تكوينه المستقبلي، وهنا يؤكّد أديبنا على أنَّ الطفل صفحة بيضاء وأبواه يكتبان له ما شاؤوا من صناعة مستقبل لهذا المولود، وذلك سواء بالأحاديث التي يتبادلها الآباء مع أطفالهم، أم بالمواد السمعيّة التي يتركون لها أبواب آذان أطفالهم مفتوحة؛ لتدخل وتستقرّ في أبنيتهم العقليّة والفكريّة، ويصبح ممكنًا تذكّرها متى لزم الأمر، وقد استشهد على ذلك بالقرآن والموسيقى، كما أكّد ولا بُدّ أنّه اعتمد على الدّراسات النّفسيّة والسّلوكيّة العديدة التي نتعلّمها حديثًا، والتي تفيد بأنَّ الذّكاء لا يعتمد على الفطرة فقط كموروث جيني، وإنّما يوجد منه جزء مكتسب كما العديد من المهارات والمواهب التي يمكن غرسها داخل نفوس أطفالنا، بالتّدريب والممارسة حتى بلوغ مرحلة الاتقان، ما دامت لدينا الخبرة والعلم في التعامل معهم، وكذا طول النّفس والصّبر على تقدّمهم، إذ توجد فروقات عديدة فرديّة بين الأطفال.

تابع أديبنا روايته حول مرحلة الطّفولة المبكّرة والمتوسّطة، وهي مرحلة ما قبل المدرسة عندما كانت لينا ابنة ثلاث وأربع سنوات، وقد علمتها أسرتها الحروف الهجائيّة، وبدأت تقترب من الكتب وتطالع أيضا، وأشار لنا أيضًا إلى جدّ ” لينا ” وأبيها وأمّها الذين كانوا يغذّون ذاكرتها بقراءة القصص، كما كانوا يلعبون معها حركيًّا وسمعيّا، وفي ذلك تنمية لمهارات لينا على كافة الأصعدة النّفسيّة، العقليّة (التفكير)، الحركيّة، وكذلك الوجدانيّة، لينا حسبما أورد شخصيّتها جميل السلحوت شكلت صورة لطفلة تفكّر، ولا تقبل أيّ شيء مسلمة له دون شرح وتأويل؛ حتى تقتنع به وتوافق عليه، كانت تنتقل لمرحلة جديدة من التّساؤلات، وما حياتنا منذ الولادة حتى نشيخ إلا تساؤلات تنضج من أغصانها تساؤلات، وفي هذا كلّه فلسفة عميقة جدّا لا تخفى على شخصيّة الشيخ جميل السلحوت، سواء بخبرته كمعلم لسنوات أم بغزارة قراءاته وانتاجاته الأدبيّة. وقد عني في تسلسل الأحداث إلى الاهتمام بتطوير مهاراتها في الفهم والحفظ والتّحليل أيضًا، لقد كانت لينا شخصيّة ناقدة، لها عين أخرى تسأل، وتبحث عن الاجابة، ثمّ تكمل مشوارها بالاقتراب من مجهول آخر لم تعرفه بعد.

ربط السلحوت بين دور البيت في تنمية مهارة الطفل، ودور المدرسة متمثّلة بالمعلمة ” ديمة ” وقد كان لوجودها في الرّواية رمزيّة هامّة لدور المعلّمة الايجابيّة، التي كانت تؤدّي عملها بأمانه، وهذا ما أشار إليه سواء من خلال حديثها المطوّل مع لينا، ومناقشتها باسمها ومعناه، وكثير من الأحاديث الأخرى، أو بزيارتها لبيتها وحديثها مع الأمّ والجدّة، وكذا بتعزيز دعد عندما أخجلها تعليق ” لينا ” حول قراءة النّشيد الوطنيّ، فيما تسأل المعلمة عمّن يسرد قصة لطلاب صفّه.

ولا أدري إن كان الأديب جميل السلحوت قصد من وراء هذا الطّرح أن يقودنا نحو تساؤل: ما أسباب النجاح؟ هل نعتبر الانسان الفاشل في حياته فشل بسبب أبيه وأمّه ومدرسته ومجتمعه؟

ثانيا: الموسيقى غذاء للرُّوح والمشاعر.

الموسيقى تعتبر من أهم لغات الجمال التي تشكّل عالم الطفل، وهي تلعب دورا أساسيّا في تكوين شخصيّة الطّفل وتقويم سلوكه، وهي إذا ما وظفت بطريقة سليمة مدروسة، فإنّها سوف تفرز لنا جيلا يمارس دوره بكلّ ثقَة وثبات.‏ إنّ للموسيقى قدرة غنيّة وإمكانات تربويّة خاصّة في تشكيل شخصيّة الطفل. كما تتميّز بقدرتها التي لا تضاهى على التّأثير في أدق انفعالات الإنسان، والتّعبير عن أحاسيسه وعواطفه ومصاحبته في أغلب لحظات وجوده .

وهنا أشار السلحوت لأهمية الموسيقى في تكوين شخصيّة ” لينا ” وتنمية قدراتها سواء بسماعها لمقطوعات بدون كلمات، أم أغاني فيروز، حيث أنَّ الجنين ما أن يتكون داخل رحم الأمّ في أشهره الأولى، حتّى تبدأ علاقته بالموسيقى، وذلك من خلال دقّات قلب الأمّ المنتظمة وحركة أعضاء الجسم الدّاخليّة، وهذا الإيقاع المنتظم لنبضات القلب يشكل توازنا عند الجنين يستجيب له،‏ وما إن ينمو الجنين حتى تنمو علاقته بالموسيقى الحسيّة، وتصبح جزءا من عالمه ويبقى تعلّقه وإحساسه بالموسيقى الحسيّة وتجاوبه معها إلى مراحل ما بعد الولادة والنضج، وهذا ما نلمسه جيّدا عند ملاعبتنا للطفل وعناقه، ففي لحظة العناق يحسّ بالأمان والعطف فيميل إلى الهدوء، وعند ملامسة رأسه بلطف يشعر بالمحبذة الكبيرة والاهتمام الذي يرجوه من الآخرين.‏ إنّ الموسيقى الحسّيّة لا يسمعها الجنين بل يدركها حركة وإحساسا من خلال مسامات الجلد، وعندما يبدأ الطفل في أيامه الأولى للولادة، يبدأ التّعامل مع لغة موسيقيّة جديدة هي موسيقى الحركة، من خلال حركة السّرير، وحركة إيقاع اليدين اللتين تحملانه وتهزانه بلطف، وإيقاع الضّربات الخفيفة على الظهر –الطبطبة-، إنّ هذه الحركات بإيقاعاتها المنتظمة تدخل عالمه فيألفها، ويتجاوب معها سلوكا منتظما، ويرفضها مشتتة مضطربة، ويعلن عصيانه أيضا. وما موسيقى الصّوت إلا امتداد أكيد للموسيقى الحسّيّة والحركيّة اللتين تأسّستا لديه، ورافقتا مسيرة نموّه ونضجه، وتفتح وعيه وإحساسه، عندما يدأ التّجاوب مع الأصوات منذ امتلاكه حاسّة السّمع، والتي تأتي مبكرة قبل حاسّة البصر، ولا تبخل عليه البيئة الخاصّة المحيطة به بأصوات منغمة في إيقاعاتها حسب حاجاته ومتطلّباته، وإن كانت الكلمات، بحروفها وطريقة نطقها لا بدلالاتها ومعانيها، تمثّل الملامح الأساسيّة لهويّة موسيقى الصّوت وهي تدخل عالم الطفل كأصوات منغمة ذات إيقاعات، وليس كمعانٍ لها دلالاتها ومفاهيمها. فالطفل في هذه المرحلة لا يدرك أبدا معاني المفردات والكلمات التي تُقال حوله ويسمعها باستمرار، إنّه معني فقط بموسيقى الأصوات، وسوف تصبح لديه القدرة على التّمييز بين الأصوات ومعرفة أصحابها، وسوف يدرك بعد مدّة‏ معاني هذه الأصوات ودورها ووظيفتها، فهناك صوت منغم فيه دعوة للنّوم وآخر للهدوء وآخر للطعام وهكذا .

ثالثا: اسمي هو أنا.

في ذكره للاسم إشارة هامّة حول هويّة الطفل التي تبدأ من اسمه ونصيبه منه، وعمله وتفكيره لصناعة مستقبل مختلف. لينا التي بدأت من معرفة معنى اسمها ( كباحثة) ثمَّ انتقلت لتبحث عن معاني أسماء أصدقائها، فأصبحت (متعلمة) ولم تتوقّف عند هذا الحدّ، حتّى بدأت تفكر في معاني الأسماء ودلالاتها، وعن معرفة الاسم دلالة فرديّة لتقوية ذات الطفل وتنمية شخصيّته، وقد بدا واضحا قوة الشّخصيّة والثّقة التي تتمتّع بها لينا بين أقرانها في الصّفّ، ممّا لفت إليها انتباه المعلمة (ديمة)، التي عزّزت ذلك، وسمعت لها وأجابت على تساؤلاتها، وصحّحت لها مفاهيم تعليميّة بذكرها أنّ الاسم لينا واسم الدّلع ” لنُّوش”، وبذلك تبدّلت الأبنية المعرفيّة عند لينا، وصارت تفكر بأفق أكثر اتّساعا مما كانت عليه.

رابعا: حرّر طفلك كي يطير.

لقد عكس لنا الأديب جميل السلحوت مساحة الحرّيّة التي تمتعت بها لينا، عندما بدأ جدّها وأبواها قراءة القصص لها، وقد تعلّمت من ذلك مهارات: الحفظ، السّرد والتحليل، وكذا النّقد والتّأليف، فكانت لها أحاديثها الخاصّة وتساؤلاتها ” اللينة ” على القارئ، لينا كانت كما الفراشة بين أسطر الرّواية التي حملت اسمها، وأهمية ذلك في زيادة التّخيل والابتكار، لتشكّل صورة من طفلة تحلم بها أيّ امرأة ورجل، وذلك ليس مستحيلا تحقيقه في أيّ طفل إذا ما تمّت رعايته كما يجب.

خامسا: الهوية الأصيلة.

لا يخفى على القارئ بأنَّ السلحوت أشار لمفهوم هامّ في حياة الطفل، ألا وهو ” الهويَّة” وهنا أكّد على أن تكون أصيلة، فلكلّ طفل هويّته الخاصّة، وله ما يحبّ ويهوى، وليس المطلوب من القرّاء ايجاد نسخ متكرّرة من ” لنُّوش”، ولكنّه قدّم لنا تجربة أبويها، وتجربته في رعايتها لتشكّل ” معجزة ” كما أسمتها المعلّمة ” ديمة ” ولنقل؛ حالة استثنائيّة لطفلة موهوبة، كانت ترسم، تقرأ، تكتب، وتحفظ القصص وتسردها بثقة.

في الختام أودّ الاشارة لأهميّة هذه الرّواية لرفوف أدب الأطفال، لما لها من معاني بالغة الضّرورة للعناية بها، إنَّ التعلم عن طريق الحوار وسرد القصص ومناقشتها مع التّلاميذ، وتولية التّلميذ مهمّة السّرد، وقيادة النّصّ بين يديه استراتيجة تعلّم حديثة، ولها أثر كبير في تطوير مهارة الطفل ورفع أبنيته العقليّة والفكريّة وكذا الوجدانيّة. لقد طرح ذلك السلحوت في جو روائيّ ظريف، ولغة جمالية ممتعة، ومشوِّقة، وأنهى معارفه بما أورده على غلاف الرّواية الأخير، عندما سألت لينا: هل يمكن أن يعود جدّي طفلا؟ وأجابت الأم: طبعا إذا أراد ذلك. وهنا إشارة لمهارة الارادة، وتأكيد لما بدأ به جميل السلحوت روايته، ” لنّوش ” ممكنة في كلّ بيت وكلّ طفل، سواء كان ذكًا أم أنثى، لكن تبقى إرادة الأبوين هي القوّة الفاعلة والمؤثّرة.

نبارك للشيخ جميل السلحوت هذا الاصدار المتميّز، ونثني عليه أملاً بأن تزخر مكتباتنا الفلسطينيّة بهكذا نوعية من المواد المعرفيّة التَّعلميَّة للأطفال وآبائهم، نحو مجتمع سليم وحياة رغيدة.

17-6-2016

التعليقات

جميل السلحوت

جميل حسين ابراهيم السلحوت
مولود في جبل المكبر – القدس بتاريخ 5 حزيران1949 ويقيم فيه.
حاصل على ليسانس أدب عربي من جامعة بيروت العربية.
عمل مدرسا للغة العربية في المدرسة الرشيدية الثانوية في القدس من 1-9-1977 وحتى 28-2-1990

أحدث المقالات

التصنيفات