لنّوش-رواية لليافعين

ل

رواية لليافعين

الاهداء

إلى التي أسعدني قربها، ويعذّبني بعدها

إلى حفيدتي لينا.

في اليومِ الأوّل للمدرسةِ قالتِ المعلّمةُ لتلاميذِ الصّفّ الأوّلِ الابتدائيِّ:

أنا اسمي ديمةٌ، والآنَ سأقرأُ أسماءَكم واحدًا واحدًا، ومنْ يسمعُ اسمَهُ يجبُ عليه أنْ يقفَ ويقولَ: نعمْ؛ لِنتعرّفَ أنا وأنتم عليه.

كلّما قرأتِ المعلّمةُ اسمَ تلميذةٍ أوْ تلميذٍ كانَ يَقِفُ ويقولُ: نعمْ.

تَنْظُرُ المعّلمةُ والطلّابُ إليها أو إليه وتقولُ لهُ:

شُكْرًا …اجلسْ مكانَكَ.

عندما قرأتِ المُعلّمةُ اسْمَ لينا، لمْ تَقِفْ أيٌّ مِنَ التِّلميذاتِ، ولمْ يسمعْ أحدٌ كلمةَ نعمْ.

نظرتِ المعلّمةُ التّلميذاتِ وسألتْ:

مَنْ مِنكنَّ اسمُها لينا؟

فَلمْ تسمعْ جوابًا مِنْ أيٍّ منهنَّ!

انتبهتِ المعلّمةُ إلى طفلةٍ هيفاءَ حسناءَ تجلسُ في آخرِ الصَّفِّ، كونها أطول البنات، فسألتْها:

ما اسمُكِ أيّتُها الحسناءُ؟

أجابتِ الطّفلةُ: اسمي لنّوشُ!

نظرتِ المعلّمةُ إلى قائمةِ الأسماءِ المكتوبةِ أمامَها…بحثتْ عن اسمِ لنّوشِ فلمْ تجِدْهُ، ابتسمتْ للطّفلةِ وسألَتْها؟ ما اسمُ أبيكِ يا صغيرتي؟

أجابتِ الطّفلةُ: اسمُ أبي قيسُ؟.

سألتِ المعلّمةُ مرّةً أخرى: كيفَ عرفتِ أنَّ اسمَكِ لنّوشُ يا صغيرتي؟

قالتِ الطّفلةُ: أبي وأمّي، وجدّتي ينادونَني دائمًا: لنّوش.

عادتِ المعلّمةُ تسألُ: وهلْ لكِ اسمٌ آخرٌ؟

أجابتْ: نعمْ…جدّي يناديني برقّةٍ لنّوث.

ابتسمتِ المعلّمةُ وقالتْ:

اسمُك جميلٌ يا لنّوثَتي.

قالتْ لنّوشُ: جميلٌ اسمُ جدِّي وليسَ اسمي!

ضحكتِ المعلّمةُ مرّةً أخرى وسألتْ:

وَمَنْ هِيَ لينا؟

أجابتْ لنّوشُ: لا أعرِفُها.

ضحكتِ المعلّمةُ وقالتْ للنّوشِ وهيَ تضعُ يدَها برفقٍ على رأسِها:

أنتِ اسمُكِ لينا يا حبيبَتي…ولنّوشُ هو اسمُ الدَّلعِ الذي يناديكِ بهِ أبَواكِ.

قالتْ لنّوشُ: بَلْ اسمي هو لنّوشُ.

رفعتْ مريمُ يدَها تستأذنُ مِنَ المعلّمةِ كي تتحدّثَ.

عندما أذِنَتْ المعلّمةُ لمريم بالحديثِ قالتْ:

أنا جارَتُها، واسمُها لنّوشُ كما قالتْ، ولينا لا نعرِفُها.

ضحكتِ المعلّمةُ وقالتْ:

حسنًا يا مريمُ ويا لنّوشُ.

عادتْ لنّوشُ إلى البيتِ فَرِحَةً، فقدْ كانتْ سعيدةً بيومِها الأوّلِ في المدرسةِ، وسعيدةً أيضًا لأنَّ المعلّمةَ تحدّثتْ معها أكثرَ مِنْ زُملائِها الآخرين، احتضنتْ لنّوشُ والدتَها وقالتْ ضاحِكةً:

معلّمَتي لمْ تَعْرِفْ اسمي!

أمُّ لنّوش: طبعًا لا تعرفُ اسْمَكِ لأنَّها لا تعرِفُكِ.

لنّوشُ: معلّمتي قرأتْ أسماءَ الطّلّابِ ولمّا وصلتْ اسم لينا لمْ تجِدْها في الصَّفِّ، فاقتربتْ منّي وسألتْني عنِ اسمي، فأجَبْتُها:

اسمي لنّوشُ.

ضحكتْ والدتُها وسألتْ:

ماذا قالتْ لكِ معلّمَتُكِ؟

لنّوشُ: قالتْ لي اسمُكِ لينا! فقلتُ لها بأنَّ اسمي لنّوش، وهذا ما تناديني به أمِّي وأبي وجدَّتي، وجميعُ من يعرفونَني، باستثناءِ جدِّيَ فإنَّهُ يناديني لنّوثُ.

ضحكتْ أمُّها، احْتَضَنَتْها وقبَّلَتْها وقالتْ:

اسمُكِ الحقيقيُّ يا بنيّتي لينا، ولنّوشُ هو اسمُ الدّلعِ.

استغربتْ لنّوشُ ما قالتْهُ والدتُها فسألتْ:

ماذا يعني اسمُ الدَّلَعِ؟

الأمُّ: لأنَّنا نُحبُّكِ كثيرًا نُناديكِ بلنّوش بَدَلَ لينا.

لنّوشُ: وجدّي يُحبُّني ويناديني لنّوث، وأحيانًا يقول لي لنّوثَتي، وأعتقدُ أنَّ جدِّي لا يعرفُ أنْ يقولَ لنّوش، لأنَّ أسنانَهُ مخلوعةٌ!

ضحكتْ والدتُها وقالتْ لها:

جَدُّكِ يُناديكِ بلنّوث لأنَّهُ يُحبُّكِ أكثرَ مِنَ الآخرين، فيعودُ إلى طفولَتِهِ المبكّرةِ لِيَلعَبَ معكِ.

قهقهتْ لنّوشُ وسألتْ:

هلْ يقدرُ جدِّي أنْ يعودَ طِفْلَا؟

الأمُّ: طبعًا إذا أرادَ ذلكَ!

لنّوش: ألهذا سقطتْ أسنانُهُ، ليعود مِثْلَ المواليدِ الجُدُدِ؟

الأمّ: بلْ شقاءُ الحياةِ والسّنونَ الطّويلةُ هي مَنْ فعلتْ ذلكَ بجدِّكِ يا لينا.

لنّوش: أنتِ تقولينَ لي الآن: يا لينا! فما هو اسمي الصّحيحُ؟

الأمّ: اسْمُكِ لينا ونُدَلَّعُكِ بلنّوش.

لنّوش: إذن معلّمَتي لم تخطئْ عندما قالتْ أنَّ اسميَ لينا؟

الأمُّ: نعمْ لمْ تُخطِئْ.

لنّوش: بعدَ اليومِ لنْ أرُدَّ على مَنْ يناديني بلنّوش.

الأمُّ: بلْ ستبقينَ لنّوشَ؛ لأنَّنا نُحِبُّكُ كثيرًا ونُحِبُّ أنْ نُدَلّعَكِ.

لنّوشُ تتأفَّفُ وتقولُ:

هل هذا يعني أنَّهُ سيبقى لي اسمانِ” لنّوشُ ولينا”؟

الأمُّ سيكونُ اسمُكِ في المدرسةِ لينا وفي البيتِ لنّوش.

فتحتْ الأمُّ التِّلفازَ….سَمِعَتْ نشرةَ الأخبارِ، بعدَها بَثَّتْ الفضائيّةُ أُغنيةَ “أسامينا” للفنّانةِ فيروز…والتي تقولُ كلماتُها الأولى:

أسامينا شو تعبوا أهالينا تَلاقوها وشو افتكروا فينا

الأسامي كلام .. شو خصِّ الكلام .. عينينا هِنّي أسامينا

انتبهتْ لنّوشُ لكلماتِ الأغنيةِ، فهي تعشقُ صوتَ فيروز، وتطربُ لأغانيها، لاحظتْها والدتُها وهي تذوبُ بعذوبةِ صوتِ فيروز، بعدَ أنِ انتهتِ الأغنيةُ التفتتْ لنّوشُ إلى والدتِها وسألتْ:

هلْ أعجبتْكِ هذهِ الأغنيةُ يا أمّاه؟

أجابتْ الأمُّ: نعمْ.

لنّوشُ: هلْ ما جاءَ في كلماتِها صحيحٌ؟

الأمُّ: ماذا تقصدينَ؟

لنّوشُ: هلْ صحيحٌ أنّكمْ تعبتم حتّى اخترتُم اسمي؟

الأمُّ: طبعًا صحيحٌ، فقدْ فكَّرْنا بأسماء كثيرة…بحثْنا عن معانيها، فاخترْنا لكِ اسمَ لينا.

لنّوشُ: ما معنى اسمُ لينا؟

الأمُّ: لينا تعني الرّفقَ واللينَ، ولينةُ تعني النّخلةَ الصّغيرةَ.

فرحتْ لينا بمعنى اسمِها وذهبتْ تلعبُ في حديقةِ البيتِ مع أخيها الصّغيرِ غسّان، جاءتْ مريمُ جارتُها التي من جيلِها تلعبُ معهما…شرحتْ لينا لصديقتِها مريم معنى اسمِها، وسألتها:

ما معنى اسمُكِ يا مريمُ؟

ارتبكتْ مريمُ وقالتْ:

لم أُفكِّرْ يومٍا أنْ أعرِفَ معنى اسمي، وأعتقدُ أنْ لا معنى للأسماءِ سوى أنَّ كلَّ اسمٍ يَدُلُّ على شخصٍ مُعيَّنٍ.

لينا: بلْ لكلِّ اسمٍ معنى، وقدْ قلتُ لكِ عن معنى اسمي كما أخبرتْني به أُمّي…فتعالي معي نسألُ أمّي عن معنى اسمكِ، فأمّي تعرفُ كُلَّ شيءٍ.

دخلتا إلى البيتِ ولينا فخورةٌ بأمِّها، شقيقُها غسّانُ يركضُ خلفَهما باكيًا، فصاحتْ بها والدتُها:

لماذا تركتِ شقيقَكِ خلفَكِ يا لينا؟

ردَّتْ لينا: لمَ أتركْهُ، لكنَّني سأسألُكِ سؤالًا، وسأعودُ إليهِ بعدَ أنْ نسمعَ الجوابَ.

وقفتْ لينا أمامَ والدَتِها وبجانِبِها مريمُ وسألتْ ضاحكةً:

ما معنى اسمُ مريم، فهي تُريدُ معرفةَ معنى اسمها بعدَ أنْ قلتَ لها معنى اسمي؟

قبلَ أنْ تجيبَ الأمُّ وصلَ غسّانُ وارتمى بحضنِ والدتِه، قبّلتِ الأمُّ وجنتيهِ وقالتْ:

مريمُ هو اسم ُمريم العذراء والدةُ السَّيِّدِ المسيحِ عليهما السَّلامُ، ويعني خادمةَ الرَّبِّ.

التفتَتْ لينا إلى مريم وقالتْ:

اسمُك يعني خادمةً.

ضحكتِ الأمُّ وقالتْ:

بلْ يعني خادمةَ الرَّبِّ، ومريمُ اسمٌ عبريٌّ وليسَ عربيًّا.

مريم: والعبريّةُ منْ يتكلّمُها؟

الأمّ: العبريّةُ لغةُ اليهودِ.

مريم: هلِ الرَّبُّ بحاجةٍ إلى خادمة؟

الأمّ: خادمةُ الرَّبِّ تعني المرأةَ الّتي تعبدُ اللهَ بايمانٍ، واللهُ ليسَ بحاجَةٍ إلى البَشَرِ بلْ هم من يحتاجونَهُ.

مريم: هل مريمُ العذراءُ وابنُها عيسى المسيح يهوديّان؟

الأمّ: وُلِدا في أُسْرةٍ يهوديَّةٍ، لكنَّ اللهَ أوحى لعيسى بالانجيلِ وبالدِّيانةِ المسيحيَّةِ.

صباح اليومِ التّالي ذهبتْ لينا إلى مدرسَتِها ، مَرَّتْ بمعلّمتِها ديمة، وقالت لها:

صباحُ الخيرِ يا معلّمتّي.

المعلّمةُ: صباحُ النّورِ يا لنّوش.

ضحكتْ لينا وقالتْ:

أنا اسمي في المدرسَةِ لينا، وفي البيتِ لنّوشُ.

المعلّمةُ: هل اقتنعتِ بأنَّ اسمَكِ لينا؟

لينا: نعمْ، فقدْ أخبرتني أمّي بذلكَ، وقالتْ لي بأنَّهم يُدَلِّعونَني في البيتِ، ويُسمّونَني لنّوشَ، لأنَّهم يحبّونَني.

المعلّمة: ونحنُ نحبُّكِ أيضًا.

لينا: وأنا أحِبُّكِ يا مُعلّمَتي.

سألتْ لينا: هلْ تعرفينَ ما معنى اسمي يا معلّمَتي؟

المعلّمةُ ضاحكةً: لماذا تسألين.

لينا: لأنَّ أمّي أخبرتْني بمعنى اسمي.

المعلّمةُ: ما معنى اسمُكِ يا لينا؟

لينا باعتزازٍ: معناهُ النّخلةُ الصّغيرةُ والرّفقُ واللينُ، وما معنى اسمُك يا معلّمَتي؟

المعلّمةُ ضاحكةً: ديمةُ هو مطرٌ يتساقطُ في سكونٍ من غيرِ رعدٍ ولا برق.

لينا: هلْ تَعِبَ والداكِ وهما يبحثانِ عن اسمٍ لكِ عندما ولدتْكِ أُمُّكِ؟

المعلّمة: لا أعلمْ.

لينا: والدايَ تعبا وهما يبحثانِ عن اسمٍ جميلٍ لي، لقدْ عرفتُ ذلكَ عندما سمعتُ أغنيةَ فيروز”أسامينا” فسألتُ والدَتي فقالتْ أنَّ والديَّ اختارا اسمي بعدَ تدقيقٍ بِعِدَّةِ أسماء.

المعلّمة: هلْ تستمعينَ للأغاني يا لينا؟

لينا، نعمْ أنا أحبُّ الموسيقى الهادئةَ، وأطربُ لأغاني فيروز، لذا فأنا أستمعُ لبعضِ أغانيها وللموسيقى الهادئةِ منذُ كنتُ صغيرةً.

المعلّمةُ ضاحكةً: هلْ أنتِ كبيرةٌ الآنَ يا لينا؟

لينا: نعمْ أنا كبيرةٌ فعمري ستّ سنواتٍ.

المعلّمة: مُنذُ متى تستمعينَ للموسيقى يا لينا؟

لينا:  أستمعُ للموسيقى مُنذُ كنتُ جنينا في رَحْمِ أمّي.

تعجَّبَتِ المعلّمةُ وسألتْ مداعبةً:

هلْ تذكرينَ ذلكَ يا لينا؟

لينا ضاحكة: طبعًا لا أذكرُ، لكنّ أبي وأمّي أخبراني بأنّهما كانا يُسمعانَني أّغانيَ فيروز، وموسيقى هادئةً وأنا جنينٌ، وقالا بأنّني كنتُ أتحرّكُ في بطن أمّي عندما أسمعُ الموسيقى.

المعلّمة مازحة: يعني كنتِ ترقصينَ في رحمِ أُمِّكِ عندما تسمعينَ الموسيقى.

لينا ضاحكة: لا أذكرُ ذلك.

المعلّمة: هلْ تحبّينَ الموسيقى يا لينا؟

ردّتْ لينا وهي تبتسمُ على السّؤالِ بسؤالٍ :

منْ لا يحبُّ الموسيقى؟

المعلّمة: كثيرونَ لا يستمعونَ للموسيقى.

لينا: أنا أُحِبُّ الموسيقى كثيرًا، أسمعُها يوميًّا، لكنّني لا أرفعُ صوتَ المسجّلِ أو المذياعَ في بيتِنا؛ كي لا أُزعجَ الآخرين، وهذا ما علّمتْني إيّاهُ أمّي.

عادتْ لينا إلى البيتِ في ساعاتِ الظّهيرةِ، جلستْ مع والدتِها الّتي كانتْ تحتضنُ شقيقَها غسّانَ على طاولةِ السّفرةِ، وضعت الوالدةُ شريطَ تسجيلٍ لموسيقى هادئةٍ غير مصحوبةٍ بغناء، لينا تُحرّكُ ساقيْها طربًا وهي جالسةٌ على الكرسيِّ تتناولُ طعامَها، سألتْها والدتُها:

هلْ تحبّينَ هذهِ الموسيقى يا لينا؟

لينا: طبعًا أحبُّها.

الوالدة: هلْ تذكرينَ أوّلَ مرّةٍ سمعتِ فيها هذهِ الموسيقى؟

لينا: سمعتُها كثيرًا من زمنٍ بعيدٍ، ولا أمَلُّ من سماعِها، سبقَ وأنْ قلتِ لي بأنّكِ أسمعتنيها وأنا جنينٌ، هلْ نسيتِ ذلك يا أمّي؟

عادتِ الوالدةُ بذاكرتِها إلى الوراءِ، تذكّرتْ أنّها كانتْ تُسْمِعُ هذهِ الموسيقى للينا وهِيَ جنينٌ في شهرِها الخامسِ، كانتْ لينا تتحرّكُ في بطنٍها عندما تسمعُ هذا الشّريطَ الموسيقيَّ. عندما أنجبتْ لينا أسمعَتْها هذهِ الموسيقى، وعمرُها أسبوعٌ واحدٌ، انتبهتْ لينا لهذهِ الموسيقى كمنْ يتعرّفُ على صديقٍ يُقابِلُهُ، كانتْ مدركةً تمامًا أنّها قد سمعتْ هذه الموسيقى من قبلُ، استبدلتْ الأمُّ شريطَ الموسيقى بآخرَ لمْ تسمعْهُ لينا من قبلُ، فبكتْ لينا ولمْ تتقبّلِ الشّريطَ الجديدَ، ممّا اضطرَّ الأمّ أنْ تُعيدَ الشّريطَ الأوّلَ الذي تحبُّ لينا سماعَهُ.

التفتتِ الأمُّ إلى ابنتِها وقالتْ لها:

هذهِ الموسيقى سمعتيها أوّلَ مرّةٍ وأنتِ جنينٌ ابنُ خمسةِ أشهرٍ في بطني.

لينا فَرِحَة: شُكرًا لكِ يا أمّي، لكنْ هلْ يسمعُ ويدركُ الجنينُ وهو في بطنِ أمِّهِ؟

الأمّ: نعمْ يسمعُ ويدركُ كلَّ شيءٍ.

عندما عادَ الأبُ إلى البيت من عملِهِ، جلستْ لينا في حِضْنِهِ وسألتْ:

هلْ تصدّقُ يا أبي أنَّ الجنينَ في بطنِ أُمِّهِ يسمعُ الموسيقى ويطربُ لها؟

الأب: نعمْ أصدّقُ، فالجنينُ في بطنِ أُمِّهِ يسمعُ كلَّ شيءٍ ويفهمُهُ، فقد كنتُ أتحدّثُ معكِ وأنتِ جنينٌ في بطنِ أُمِّكِ، وكنتِ تتحرّكينَ عندما تسمعينَ صوتي، لذا فقدْ أصبحَ صوتي مألوفًا لكِ، وبعدَ أنْ ولدتكِ أُمُّكِ كنتِ تنتبهينَ لصوتي انتباهَ العارفِ.

قالتْ لينا: غدًا صباحًا سأنقلُ هذهِ المعلوماتِ لمعلّمَتي؛ لأرى ما تقولُ.

صباح اليومِ التّالي في المدرسةِ، دخلتْ  ديمةُ المعلّمةُ الصّفَّ الذي تدرسُ فيه لينا، طرحتْ تحيّةِ الصّباحِ على تلاميذِها، فردّوا بمثلِها، رفعتْ لينا سبّابَتَها تستأذنُ من معلّمَتِها بالحديثِ، فقالتْ المعلّمةُ:

نعمْ يا لينا ماذا تريدينَ؟

لينا: لديَّ سؤالٌ مهمٌ هو:

هلْ يسمعُ ويفهمُ الجنينُ وهو في بطنِ أمِّهِ؟

المعلّمة: مِنْ أينَ أتيتِ بهذا السّؤالِ يا لينا؟

لينا: هذه معلومةٌ قالتْها لي والدَتي، وأُريدُ التّأكُدَ منها.

المعلّمة: نعمْ يا أحبّائي الجنينُ يسمعُ ويفهمُ وهو في بطنِ أُمِّهِ، والآباءُ الذينَ يعرفونَ هذهِ المعلومةَ يُسمعونَ أبناءَهم الأجنّةَ ما يريدون، وهذا يعودُ لاهتمامِ الوالدينِ، فمثلًا أنا أعرفُ أسرةً متحابّةً، كانَ الأبوانِ فيها يُسمعانَ ابنَهما البكرَ سورةَ ياسين، بصوتِ المقرئِ عبدِ الباسطِ عبدِ الصّمدِ، وهو جنينُ في بطنِ أُمِّهِ، وعندما خرجَ الطّفلُ منْ بطنِ أُمِّهِ لهذهِ الدُّنيا، كانتْ والدتُهُ تُسْمِعُهُ نفسَ الشّريطِ المسجّلةِ عليهِ سورة ياسين، ويصغي إليهِ بانتباه، فتنجزُ والدتُه أعمالَ المنزلِ، دونَ أنْ يبكيَ طفلُها، وعندما بلغَ الطّفلُ الرّابعةَ من عمرِهِ حفظَ سورةَ ياسين عن ظهرِ قلبٍ.

التفتتِ المعلّمةُ إلى لينا وقالتْ لها:

شُكرًا لك يا لينا على هذا السّؤالِ المُفيدِ.

ابتسمتْ لينا وشعرتْ بسعادةٍ غامرةٍ.

المعلّمةُ تسألُ لينا: هلْ تحبّينَ الموسيقى والغناءَ؟

لينا: نعمْ…أنا أستمعُ للموسيقى والغناءِ نِصْفَ ساعَةٍ يوميًّا.

المعلّمة: لأيِّ المغنّينَ تستمعينَ يا لينا؟

لينا: لا أسمعُ إلّا موسيقى للثّلاثي جُبران، وأغانيَ فيروز.

المعلّمةُ تسألُ طالباتِ وطلّابَ الصَّفِّ:

مَن منكم يحبُّ الموسيقى ويستمعُ للأغاني؟

رفعَ بعضُهم اصبعَهُ، أشارتْ المعلّمةُ لفراس.

فراس: أنا أشاهدُ أفلامَ ومسلسلاتِ الكرتونِ على التّلفازِ، وأتابِعُها باستمرار.

آخرونَ قالَ كلُّ منهم دونَ استئذانٍ:

وأنا أيضًا أُشاهدُ مسلسلاتِ وأفلامَ الكرتون.

المعلّمة: مَن يُريدُ أنْ يتكلّمَ عليهِ أنْ يرفعَ اصبَعَهُ، ولا يتكلّم حتّى أسمحَ لهُ، وأضافتْ:

أنا أسألُ عَمَّنْ يستمعُ للأغاني وللموسيقى، وليسَ مَن يشاهدُ مسلسلاتٍ وأفلامًا للأطفالِ.

رفعتْ دعدُ اصبعَها وقالتْ بعدَ أنْ سمحتْ لها المعلّمةُ:

أُمّي عندما تعملُ في المطبخِ تستمعُ لأغاني أمّ كلثوم، وأنا واخوتي نستمعُ للأغنيةِ لأنَّ صوتَها يصِلُنا ونحنُ نتابعُ برامجَ الأطفالِ على شاشةِ التّلفازِ.

قال فؤادُ: أنا أحبُّ أغانيَ النِّساءِ في الأعراسِ، أجلسُ في حضنِ أُمّي وأستمعُ للنّساءِ وهنَّ يرقصنَ ويغنّينَ، وأُحبُّ دبكةَ الشّبابِ وصوتَ الشِّبّابةِ والنّايِ، وأحبُّ السّامرَ أيضًا.

قالتْ وردةُ: أنا أُحِبُّ أغنيةَ محمّدِ عسّاف “عَلِّ الكوفيّة”.

عادتْ المعلّمةُ ديمةُ تسألُ:

مَن منكم يُحِبُّ مُطربًا بعينِهِ؟

سكتوا جميعُهم إلّا لينا قالتْ:

أنا أُحِبُّ أغانيَ فيروز وموسيقى الثّلاثي جبران.

ضحكتِ المعلّمةُ وقالتْ:

أنتِ رائعةٌ يا لينا…وأضافتْ المعلّمةُ تسألُ لينا:

وماذا تحبّينَ أيضَا يا لينا؟

ابتسمتْ لينا وقالتْ:

أُحِبُّ سماعَ القصصِ والحكاياتِ.

المعلّمةُ: مَن يقرأُ لكِ القصصَ والحكاياتِ يا لينا؟

لينا: أًمّي تقرأُ لي القصصَ، وجدَّتي تحكي لي الحكاياتِ، وأنا أقرأُ أيضًا.

المعلّمة: منذُ متى تسمعينَ القصصَ والحكاياتِ يا لينا؟

لينا: منذُ زمنٍ بعيدٍ.

المعلّمة: ماذا تقصدينَ بالزّمنِ البعيدِ؟

لينا: منذُ وُلدتُ وأُمّي تقرأُ لي، وأبي يقرأُ لي أيضًا. وجدّي أيضًا يقرأُ لي، وأنا أقرأُ الآنَ أيضًا.

المعلّمة: أيُّ قصصٍ يقرأونَ لكِ؟

لينا: قرأوا لي قصصًا كثيرةً موجودةً في مكتبتي.

المعلّمة: هلْ لديكِ مكتبةٌ يا لينا؟

لينا: نعمْ في بيتِنا مكتبةٌ كبيرةٌ لأبي وأُمّي، وفيها جناحٌ لِكُتُبي.

المعلّمة: ما اسمُ أُمِّكِ يا لينا؟

لينا: اسمُها مروة.

المعلّمة: أخبري أمَّك أنَّني سأزورُها في البيتِ.

لينا: أهلًا وسهلًا بك.

المعلّمة: هلْ تحفظينَ شيئًا من القِصَصِ والحكاياتِ يا لينا؟

لينا: نعمْ أحفظُ قصصًا وحكاياتٍ كثيرة.

المعلّمةُ: هلْ تروي لنا واحدةً منها؟

لينا: نعمْ سأحكي لكمْ حكايةً “الحرفة اليدويّة”.

يُروى أنّ أحدَ الملوكِ كانَ حريصًا على تعليمِ ابنِه ووليِّ عهدهِ حرفةً يدويةً، إلى جانبِ تعليمِهِ قوانينَ وفنونَ الإمارةِ والملكِ والفروسيةِ، فاختارَ الأميرُ أنْ يتعلّمَ صناعةَ السّجادِ، وفي أحدِ الأيّامِ وكانَ الأميرُ قد استلمَ المُلكَ بعدَ أنْ تُوفّيَ والدُهُ قد خرجَ للصّيدِ بمفردهِ، وشاءتِ الصّدفُ أنْ يتعرّضَ لهُ جماعةٌ من اللصوصِ وقطّاعِ الطّرُقِ، فأمسكوا به وسرقوا ما بحوزتِه من جواهرَ دونَ أنْ يعرفوا أنَّهُ الملك، ولمّا خافوا مِن أنْ يشكوَهم الى رجالِ الشّرطةِ، أرادوا قتلَهُ والتّخلصَ منهُ؛ ليرتاحوا من شرِّهِ، وعندما عرفَ مقصدَهم عرضَ عليهم أنْ يُبقوا على حياتِهِ، مقابلَ أنْ يعملَ لهم سجاجيدَ فاخرةً يبيعونَها ويعتاشون منها، فوافقوا على عَرضِهِ، وجلبوا له الموادَّ الّتي طلبَها، وعملَ لهم سجاجيدَ فاتنةً، وكتبَ على كلِّ سجادةٍ اسمَهُ والمكانَ الذي يحتجزُهُ اللصوصُ فيه، وأخذَ اللصوصُ السجاجيدَ؛ ليبيعوها في العاصمة، ورأى رجالاتُ الدّولةِ السجاجيدَ فعرفوا مكانَ الملكِ، وحرّروهُ مِنْ أسرهِ بعدَ أنْ قضوا على اللصوصِ.

وطار الطّير وتصبحون على خير!

استمعتِ المعلّمةُ ديمةُ وتلاميذُها لحكايةِ لينا باعجابٍ شديدٍ، وعندما انتهتْ مِن سردِ الحكايةِ صفّقوا لها كثيرًا.

المعلّمةُ مذهولةٌ من قدراتِ لينا على السّردِ، فوصفَتْها بأنّها طفلةٌ معجزةٌ! ثُمّ سألتْ بقيّةُ التّلاميذِ:

مَن منكم يعرفُ حكايةً أو قصّةً ويستطيعُ سردَها علينا مِثلما فعلتْ لينا؟

رفعتْ دعدُ اصبعَها فسمحتْ لها المعلّمةُ بالحديثِ.

وقفتْ دعدُ واثقةً مِن نفسها وقالتْ بلهجةٍ حماسيّةٍ:

“بلادي بلادي بلادي

يا أرضي يا أرضَ الجدود

بلادي بلادي بلادي

يا شعبي يا شعبَ الخلود”

ضحكتْ لينا وقالتْ دونَ استئذانٍ:

هذهِ ليستْ قِصّةً ولا حكايةً، سمعتْها المعلّمةُ، تلعثمتْ دعدُ وتوقّفتْ عن الكلامِ، سألتِ المعلّمةُ لينا:

إذا كانَ ما قالتْهُ دعدُ ليس قصّةً أوْ حكايةً فماذا يكونُ يا لينا؟

ابتسمتْ لينا وقالتْ:

هذهِ مقدّمةُ نشيدِنا الوطنيِّ.

جحظتْ المعلّمةُ عينيْها اعجابًا وسألتْ:

هلْ تحفظينَ نشيدَنا الوطنيَّ يا لينا؟

ضحكتْ لينا وقالتْ:

نعم أحفظُهُ مِن سنواتٍ.

استغربتِ المعلّمةُ مِن لينا الّتي تعتبرُ نفسَها كبيرةً، وتُكرِّرُ أنّها تحفظُ أشياءً كثيرةً منذُ سنواتٍ، وكأنّها كبيرةٌ في السِّنِّ، وقالتْ:

هذهِ البنتُ تفكِّرُ بطريقة مَنْ هم أكبرَ مِن عمرِها، وعقلُها أكبرُ مِن عمرِها بكثير.

عادتِ المعلّمةُ تسألُ:

مَن منكم يحفظُ نشيدَنا الوطنيَّ مِثْلَ دعدٍ؟

لم يرفعْ أحدٌ اصبعَهُ سوى لينا!

التفتتِ المعلّمةُ إلى دعدٍ وسألتْها:

ألا تحفظينَ نشيدنَا الوطنيَّ يا دعدُ؟

بدا الحياءُ على وجهِ دعدٍ، ولمْ تُجِبْ على سؤالِ المعلّمة…مسّدتِ المعلّمةُ بيدها على رأسِ دعدٍ وقالتْ لها:

لا تستحي يا صغيرتي الرّائعة، فأنتِ تحفظينَهُ، وقدْ أسْمَعتينا شيئًا منهُ قبلَ قليلٍ، لكنَّ دعدَ لم تتكلّمْ شيئًا، ولمْ تُوافقْ أنْ تُنشدَ النَّشيدَ أمامَ معلّمتِها، وبناتِ وأبناء صفِّها.

أثنتِ المعلّمةُ أمامَ التّلاميذِعلى دعدٍ، وصفتْها بأنَّها طالبةٌ ذكيّةٌ ورائعةٌ، وجميلٌ منها أنْ تحفظَ نشيدَنا الوطنيَّ، وعادتْ تسألُ:

منْ منكمْ يستطيعُ أنْ يسرِدَ لنا قصّةً أو حكايةً كما فعلتْ لينا؟

لم يرفعْ أحدٌ منهم اصبعَهُ سوى لينا، فسألتْها:

هلْ تستطيعينَ أنْ تحكي لنا حكايةً قصيرةً؛ لأنَّهُ لمْ يَعُدْ لدينا وقتٌ؟

أجابتْ لينا: نعمْ أستطيعُ وأضافتْ:

يُحكى أنَّ النّبيَّ سليمانَ عليهِ الصّلاةُ والسّلامُ، ذلكَ النّبيُّ الذي حكمَ الإنسَ والجِنَّ، قَدْ طلبَ يومًا من ساكني إحدى البُلدانِ من إنسانٍ وحيوانٍ أن يتركوا المكانَ، لأنّهُ يُريدُ أنْ يحرقَهُ، ولنْ يتركَ فيه كائنًا منْ كانْ، وأعطاهمْ مهلةَ أسبوعٍ بالتّمامِ والكمالِ حتّى يَرحلوا، وبعدَ انتهاءِ الأسبوعِ أشعلَ النّيرانَ في الأرضِ، فأحرقتِ الزّرعَ والشّجرَ والأعشابَ، ولمْ يبقَ فيها شيءٌ إلّا واحترقْ.

بعدَ أنْ خمدتِ النّيرانُ، خرجَ النّبيُّ سليمانُ يتفقّدُ المكانَ، فوجدَ ثُعبانًا طويلًا قد احترقَ، فأسِفَ لذلكَ ظنًّا منه أنَّ الثّعبانَ أصمُّ، ولم يسمعْ نداءَ التّحذيرِ، دعا اللهَ أنْ يُعيدَهُ حيًّا؛ ليسألَهُ عن سببِ عدمِ رحيلِه، فاستجابَ اللهُ دعاءَهُ، وعادَ الثّعبانُ حيًّا يسعى، فسألَه النّبيُّ سليمانُ – وكانَ اللهُ قد أعطاهُ القدرةَ على فهمِ لغةِ جميعِ الحيواناتِ – عن سببِ عدمِ رحيلِهِ، وهل سمعَ الإنذارَ بالرّحيلِ أم لا؟ فأجابَ الثّعبانُ:

بأنّهُ سَمِعَ النّداءَ ولم يرحلْ.

استغربَ النّبيُّ سليمانُ ذلكَ، وسألَهُ عن السّببِ.

فأجابَ الثّعبانُ: يا نبيَّ اللهِ، إنَّ حرقَ الأبدانِ أهونُ عليَّ من تركِ الأوطانِ!

تعجّبَ النّبيُّ سليمانُ من إجابتِهِ، فندِمَ على فِعْلَتِهِ، وتركَ الثّعبانَ وهو يقولُ:

لو كنتُ أعلمُ ما قالَهُ الثّعبانُ قبلَ الانذارِ والحريقِ، لما فعلتُ ما فعلتُ، وسمحَ لبقيّةِ الحيواناتِ الّتي هربتْ أنْ تعودَ إلى أرضِها، وَقدّمَ لها الماءَ والغذاءَ.

وتوته توته … خلصت الحدّوثة.

صفّقتِ المعلّمةُ والتّلاميذُ للينا، وقالتْ لها المعلّمةُ:

شكرًا لكِ يا لينا، شكرًا لقُدرتِكِ على الحفظِ، وشكرًا مرّةً أخرى لقدرتِكِ على السّردِ.

ابتسمتْ لينا وشعرتْ بأنّها تلميذةٌ مميّزةٌ، ففرحتْ بذلك.

قال ضرغامُ: سأطلبُ من جدّتي أنْ تحكيَ لي حكايةً هذا اليوم، كي أحكيَها لكم غدًا.

وقالتْ سوسنُ: وأنا أيضًا سأطلبُ من جدّي أنْ يحكيَ لي حكايةً، ومِن أبي أنْ يقرأَ لي قصّةً، وسأرويهما لكم غدًا.

قالتِ المعلّمةُ: شكرًا لكم أيُّها الجميلونَ.

ومن داخل صفّهم سمعوا طالبات الصّفّ السّادس يُنشدن:

بلادُ العُربِ أوطاني منَ الشّـامِ لبغدان

ومن نجدٍ إلى يَمَـنٍ إلى مِصـرَ فتطوانِ

فلا حدٌّ يباعدُنا ولا دينٌ يفرّقنا

لسان الضَّادِ يجمعُنا بغسَّانٍ وعدنانِ

لنا مدنيّةُ سَـلفَـتْ سنُحييها وإنْ دُثرَتْ

ولو في وجهنا وقفتْ دهاةُ الإنسِ والجانِ

فهبّوا يا بني قومي إلى العـلياءِ بالعلمِ

وغنّوا يا بني أمّي بلادُ العُربِ أوطاني

*****

بعدَ انتهاءِ الدّوامِ المدرسيِّ، اصطحبتِ المعلّمةُ لينا معها إلى غرفةِ المعلّماتِ، أخرجتْ ملفَّ لينا، أخذتْ منه رقمَ هاتفِ أهلِ لينا واتّصلتْ بوالدتِها:

ردّتْ عليها والدةُ لينا قائلةً: مرحبًا.

قالتِ المعلّمةُ: مرحبًا أنا ديمةُ معلّمةُ ابنتِكم لينا، مع مَن أتكلّمُ؟

أنا مروةُ والدةُ لينا.

المعلّمة: أهلا بكِ وأهنّئُكِ بابنتِكِ لينا فهي تلميذةٌ مميّزةٌ.

مروة: شكرًا لكِ.

المعلّمة: هل تسمحينَ لي بأنْ أزورَكم؛ لأحتسيَ بصحبتِكِ فنجانَ قهوةٍ، ونتكلّمَ عن لينا؟

مروة: أهلًا بك ونتشرّفُ بزيارتِكِ.

سألتْ لينا معلّمتَها: لماذا لم تسأليني عن رَقَمِ هاتفِنا في البيتِ، بدلًا مِنَ البحثِ عنه في الملفِّ؟

المعلّمة: هل تحفظينَ رقمَ هاتفِكم يا لينا؟

لينا: طبعًا أحفظُهُ.

المعلّمة: أنا آسفةٌ يا لينا، فلمْ أكنْ أعرفُ أنّكِ تحفظينَهُ…والآنَ هيّا بنا…سأقِلّكِ معي في سيّارتي حتّى بيتِكم؛ لأحتسيَ القهوةَ معَ والدتِكِ.

ضحكتْ لينا وقالتْ:

أهلًا بك.

***

قالتِ المعلّمةُ ديمةُ وهي تصافحُ مروةَ والدةَ لينا وتضحكُ:

أغبطِكم على ابنتِكم لينا، وأتمنّى أنْ يكونَ أبنائي مثلَها.

مروة: أهلًا بكِ…وشكرًا لكِ لاهتمامِكِ بلينا.

مروة تسألُ ديمة:

عفوًا… كم ولدًا عندَكِ؟

ديمة: أنا حاملٌ بابني البكرِ، فقد أخبرني الطّبيبُ أنَّ الجنينَ الذي أحملُهُ في أحشائي ولدٌ، وفي الواقعِ فإنَّ ابنتَكم لينا لافتةٌ في كلِّ شيءٍ، فجئتُ إليكِ لعدّةِ أسبابٍ، منها أنّني أريدُ الاستفادةَ من تجربَتِكِ في التّعاملِ مع طفلي؛ لأنّني أريدُهُ أنْ يكونَ بذكاءِ وقوّةِ شخصيّةِ لينا، وغزارةِ معلوماتِها قياسًا بعمرِها.

وهذا سيفيدُني أيضًا في التّعاملِ مع تلميذاتي وتلاميذي، فأنا معلّمةٌ للصّفِ الابتدائيِّ الأوّلِ.

كما سينفعُني في دراستي الجامعيّةِ، فأنا طالبةُ دراساتٍ عليا في علمِ النّفسِ التّربويِّ.

مروة: تجربتي في تربيةِ الأبناءِ متواضعةٌ، فأنا أُمٌّ لطفلين، لينا وغسّان، كلُّ ما في الأمرِ أنّني وزوجي طبّقنا العلومَ الحديثةَ في تعامُلِنا مع طفلينا، وهناكَ دراساتٌ منشورةٌ حولَ رعايةِ الأطفالِ منذُ أيّامِ الحملِ الأولى، وقد استفدنا كثيرًا من تلكَ الدِّراساتِ، كما أنّني استفدتُ من تجربةِ سيِّدةٍ متعلّمةٍ في عمرِ والدتي، ربَّتْ وأنشأتْ أبناءَها تربيةُ مميّزةً لافتةً.

ديمة: ماذا تقصدينَ بالنّشأةِ المميّزةِ؟

مروة: بناءُ الانسانِ مِن بداياتِهِ.

ديمة: كيفَ يكونُ ذلكَ؟

مروة: يكونُ  مِن خلالِ العنايةِ بالطّفلِ منذُ تكوينهِ جنينًا في رحمِ أُمِّهِ، والعنايةُ بالجنينِ ليستْ بالتّغذيةِ السّليمةِ والرّعايةِ الصّحّيّةِ فحسب، بل تتعدّاها إلى أشياءَ أخرى، تريحُ نفسيّةَ الجنين، فالجنينُ يتأثّرُ بالتّقلّباتِ النّفسيّةِ لِأُمِّهِ، لذا على الأُمِّ الحاملِ أنْ تبتعدَ عن الأمورِ التي تضعُها في حالةِ توتّرٍ وقلقٍ، كما أنَّ هناكَ ضرورةً لحديثِ الوالدينِ مع طفلهِما الجنين، خصوصًا في أشهرِ الحملِ الثّلاثةِ الأخيرةِ، فهو يفهمُهما ويرتاحُ لهما! وهذا ما فعلناه مع طِفليْنا، كما أنّنا أسمعناهُما موسيقى وأغانيَ ناعمةً، ولينا ابنتُنا البكرُ كانتْ تطربُ لسماعِ أغاني فيروز، ومعزوفاتِ الثّلاثيِّ جبران الموسيقيّةِ، وكانتْ تقومُ بحركاتٍ دؤوبةٍ، عندما تسمعُ ذلك، حتّى تخيّلتُها ترقصُ طربًا في أحشائي، وعندما أنجبتُها، أسمعتُها الأغانيَ والموسيقى الّتي سَمِعَتْها وهي جنينٌ، في يومِها الخامسِ، فأصغتْ لها باهتمامٍ دلالةً على أنَّها تعرفُها، وحاولتُ اختبارَ مدى معرفتِها بذلك، فوضعتُ لها أغانيَ وموسيقى أخرى لم تسمعْها مِن قبلُ، فرفضتْها، وعبّرتْ عن رفضِها لها بالبكاءِ! وأعدتُ لها الأغانيَ والموسيقى الّتي تعرفُها، فهدأتْ وأصغتْ لها.

ديمة: هل تطالعُ لينا؟

مروة: نعم، وقد اعتادتْ ذلك من الأسبوعِ الأوّلِ لولادتِها، فقد كنّا ولا نزالُ أنا ووالدُها نقرأُ لها قصصَا، وجدّتُها تروي لها حكاياتٍ شعبيّةً.

لينا: جدّي أيضا يقرأُ لي ويحكي لي حكاياتٍ، ويلعبُ معي أيضًا.

ديمة: أيُّ قصصٍ كنتم تقرأون لها؟

مروة: قرأنا لها قصصًا كثيرة وَشِعْرًا كثيرا، وأعدنا قراءَتها لها مرّاتٍ كثيرةً.

عندما بلغتِ الثّالثةَ مِن عمرِها، أدخلناها البستانَ وعلّمناها الأبجديّةَ.

لمّا رأينا قُدراتِها على الاستيعابِ علّمناها منهاجَ الأوّلِ الابتدائيِّ، فاستوعبتْهُ دونَ عناءٍ، وفي سنِّ الرّابعةِ علّمناها منهاجَ الصّفِّ الثّاني الابتدائيِّ، دونَ عناءٍ أو ضغوطٍ عليها، وأخذتْ تقرأُ قصصَ أطفال وحدَها. في سنِّ الخامسةِ علّمناها منهاجَ الصّفِّ الثّالثِ، وهي الآنَ تجيدُ القراءةَ والكتابةَ بشكلٍ جيّدٍ، وتحفظُ جدولَ الضّربِ، تستمعُ للموسيقى، وتتذوّقُ الفنونَ. ولديها محاولاتٌ للكتابةِ.

وهي تتدرّبُ على العزفِ على البيانو والقيثارةِ أيضًا.

ديمة: هل عاشتْ لينا طفولتَها الأولى كما يجبُ؟

مروة: نعم، ونحنُ لا نفرضُ عليها شيئًا، بل نُلَبِّي طلباتِها ونُوجِّهُها، لديها ألعابٌ كثيرةٌ تناسبُ عمرَها، وتلعبُ مع بناتِ وأبناءِ الجيران، لكنّها كثيرةُ الأسئلةِ، تريدُ أنْ تعرفَ كلَّ شيءٍ.

ديمة: كيفَ بدأتمِ القراءةَ لها وهي ابنةُ أيّامٍ فقطْ.

مروة: في الواقعِ لم نكنْ نعرفُ ذلك، والفضلُ يعودُ لأستاذةِ في الجامعة، ربطتْني بها صداقةٌ، عندما أنجبتُ لينا، جاءتْ تباركُ لنا بها، وأحضرتْ معها هديّةً مجموعةَ كُتُبٍ للأطفالِ تحوي عشرينَ كتابًا، وقالتْ لي:

اقرئي لطفلتِكِ منذُ الآنَ، فالأطفالُ يفهمونَ ما يسمعونَ، وإنْ كانوا لا يستطيعونَ الكلامَ، وعلينا أنْ نفهمَ أطفالَنا، وأضافتْ:

احتفِظي بهذه الكُتُبِ لابنتِكِ حتّى تتعلّمَ القراءةَ والكتابةَ، عندها ستقرأُ وستتمعّنُ بالرّسوماتِ، وانتبهي حينَها؛ لتري كيف فهمتْها! وكيف ستحافظُ على كتبِها! وستعملُ على بناءِ مكتبةٍ خاصّةٍ بها. وستصبحُ المطالعةُ عندها عادةً.

وهذا ما حصلَ، وكانتِ النّتائجُ مذهلةً.

ديمة: مَنْ مِنْ كُتّاب أدبِ الأطفالِ تنصحينَ بقراءةِ كتاباتِهم؟

مروة: لينا قرأتْ لكثيرين، وفي هذه المرحلةِ تقرأُ قصصَ الأديبةِ فاطمةِ شرف الدّين، الأديب محمود شقير، قصصَ الدّكتور طارق البكري، شعرَ سليمان العيسى، قصصَ الأديبة العالميّة آستريد ليندجرين،  وأملي نصر الله وغيرهم.

ديمة: هل تعاملتُم مع طفلِكم غسّان كما تعاملتُم مع لينا؟

مروة: نعم، معَ التّنويهِ أنّنا أعطيْنا لينا رعايةً أكثرَ، كونها بكرنا.

ديمة: هل كانتِ النّتائجُ متشابهةً؟

مروة: طبعًا، مع الأخذِ بالحسبانِ الفوارقَ بينَ طفلٍ وآخر.

لينا مشغولةٌ بكتابةِ شيءٍ ما على ورقةٍ، لكنَّها تتابعُ حديثَ والدتِها ومعلّمتِها، اقتربتْ من معلمتِها تحملُ في يدِها اليُمنى ورقةً، وفي اليُسرى قلمَ رصاصٍ، قدّمتِ الورقةَ لمعلّمتِها وهي تقولُ ضاحكةً:

هل تعرفينَ صاحبةَ هذهِ الصّورةِ الّتي رسمتُها؟

أمسكتِ المعلّمةُ الورقةَ، أصيبتْ بالدّهشةِ عندما رأتْ رسمًا لها بقلمِ رصاصٍ على الورقةِ، وتحتَ الرّسمِ كتبتْ لينا:

صورةُ معلّمتي ديمة.

حضنتِ المعلّمةُ لينا وسألتْها:

مَن رسمَ هذهِ؟

لينا: أنا رسمتُها بشكلٍ سريعٍ؟

المعلّمة: متى؟

لينا: الآنَ، ألمْ تشاهديني وأنا أرسمُ؟

المعلّمة: لم أعدْ أعلمُ ما سأقولُ أمامَ هذا النُّبوغِ، فلينا مُتعدّدةُ المواهبِ، يبدو أنّني سأتعلّمُ منها الكثيرَ.

ضحكتْ لينا وقالتْ: بل أنتِ من ستعلمينَني يا ستّ ديمة.

احتضنتْها المعلّمةُ وطبعتْ قُبلتينِ على وجنتيْها.

استعدّتْ ديمةُ المعلّمةُ للمغادرةِ، وإذا بِجَدِّ لينا يدخلُ، طرحَ السَّلامَ، استقبلتْهُ لينا ضاحكةً، رفعَها وضمَّها إلى صدرِهِ، صافحَ المعلّمةَ الضّيفةَ بعد أنْ قالتْ لينا لهُ:

هذه معلّمتي ديمةُ يا جدّي.

فقالَ الجدُّ للمعلّمةِ الشّابّةِ:

أهلًا بكِ يا بُنيّتي.

قالتْ لينا: هذا جدّي يا معلّمَتي.

المعلّمة: شكرًا لكَ يا عمّاه، فقد حدّثتْني لينا عنكَ كثيرًا. وشكرًا لكَ يا لينا لأنّكِ عرّفتيني على جدِّكِ.

الجدُّ يطبعُ قبلةً على جبينِ لينا ويقولُ مبتسمًا:

لنّوشُ حبيبةُ سيدها.

قهقهتْ لينا وقالت:

وأنا أحبُّكَ كثيرًا يا سيدي.

الجدّ مازحًا: لكنّني أحبُّكِ أكثرَ ممّا تحبّينَني يا لنّوشُ.

لينا تطوّقُ رقبةَ جدِّها بيديها وتقولُ:

أنا أحبُّكم كثيرًا.

قالتِ المعلّمةُ للجدِّ:

لينا تلميذةٌ مميّزةٌ، أسألُ اللهَ أنْ يحفظَها لكم، وأريدُ أنْ أتعلّمَ مِن تجربتِكُم في تربيتِها والتّعامُلِ معها، فهل تحدّدُ لي موعدًا يا عمُّ لنتحدَثَ حولَ ذلك؟

الجدُّ: حسنًا يا بُنيّتي، متى تريدينَ ذلك؟

المعلّمة: هل يناسبُكِ يومَ غدٍ بعد انتهاءِ الدّوامِ المدرسيِّ؟

الجدّ: اتفقنا.

*****

عندما دخلتِ المعلّمةُ الصّفَّ، وبعد أنْ طرحتْ تحيّةَ الصّباحِ على تلاميذِها، ابتسمتْ لينا للمعلّمة، شعرتْ بأنَّ هناك رابطًا يربطُها بها أكثرَ من بقيّةِ التّلاميذِ والتّلميذات، لكنَّ المعلّمةَ اقتربتْ من دعدٍ، وقالتْ لها باسمةً:

صباحُ الخيرِ يا دعدُ.

ابتسمتْ دعدُ وقالتْ لمعلّمتِها:

صباحُ النّور.

قالت المعلّمةُ: لدينا الآنَ زميلتُكم دعدُ وهي تلميذةٌ ذكيّةٌ، ستقفُ الآنَ أمامَكم، وستنشدُ النّشيدَ الوطنيَّ.

وقفتْ دعدُ، أدارتْ ظهرَها للسّبورةِ، وضعتْ يدها اليُمنى على صدرِها الأيسرِ فوقَ قلبِها، وأنشدتْ:

بلادي بلادي بلادي يا أرضي يا أرضَ الجدود

بلادي بلادي بلادي يا شعبي يا شعبَ الخلود

***

بعزمي وناري وبركان ثأري وأشواق دمعي لأرضي وداري

صعدتُ الجبال وخضتُ النّضال قهرتُ المُحال عبرتُ الحدود

بلادي بلادي بلادي يا شعبي يا شعبَ الخلود

***

بعزمِ الرّياح ونار السّلاح وإصرار شعبي بأرض الكفاح

فلسطينُ داري فلسطينُ ناري فلسطينُ ثأري وأرضُ الصّمود

بلادي بلادي يلادي يا شعبي يا شعبّ الخلود

***

بحقّ القسم تحت ظلّ العلم لأرضي وشعبي ونار الألم

سأحيا فدائي وأمضي فدائي وأقضي فدائي إلى أن تعود

بلادي بلادي بلادي يا شعبي يا شعب الخلود

ما أنْ أنهتْ دعدُ المقطعّ الأوّلّ مِنَ النّشيدِ، حتّى اشتركتِ المعلّمةُ والتّلاميذُ معها في الانشاد، يرفعُ كلُّ واحدٍ منهم قبضةَ يَدِهِ اليُمنى، خلفَ قيادةِ دعدٍ، باستثناءِ لينا التي كانت تُنشدُ وترفعُ قبضةَ يدِها اليُسرى، بينما ترسمُ دعدَ بيدِها اليُمنى.

بعد الانتهاءِ من آداءِ النّشيدِ صفّقوا جميعُهم لدعدٍ. رفعتْ لينا اصبعَها تستأذنُ المعلّمةَ، قدّمتْ رسمَ دعدٍ للمعلّمةِ؛ كي تقدّمَهُ لدعدٍ، فرحتْ دعدُ كثيرًا عندما رأتْ رسمَها، شكرتْ لينا على ذلك، تهافتَ التّلاميذُ لرؤيةِ الرَّسمِ، فرفعتْهُ المعلّمةُ أمامَهم لِيَروهُ جميعهم، طلبَ كلٌّ منهم من لينا أنْ ترسُمَهُ، فقالتْ:

سأرسمُ كلَّ يومٍ واحدًا منكم، وسأبدأُ بالبناتِ، وهذا دَفَعَ التّلميذاتِ والتّلاميذَ ليكونوا أصدقاءَ لزميلتِهم لينا، ممّا أشعرَها بأنّها مهمّةٌ.

سألتِ المعلّمةُ ديمة: من منكم سيحكي لنا حكايةً، أو يسردُ لنا قِصّةً، كما وعدتم يومَ أمسِ؟

رفعَ عددٌ مِنَ التّلميذاتِ والتّلاميذِ أياديَهم، فأشارت المعلّمةُ إلى ضرغام فقال:

مساء أمس طلبتُ من جدّتي أن تحكي لي حكايةً، فقالت:

سأحكي لك حكايةَ “حديدون والغولة” فسمعتها أمّي وقالت لها:

أرجوكِ أن تبتعدي عن حكاياتِ الغيلانِ والعفاريتِ، فهي مُضرّة للأطفالِ، وتدخلُ الرّعبَ في قلوبهم، فغضبتْ جدّتي من والدتي، ورفضت أن تحكيَ لي شيئًا، فناداني جدّي وحكى لي الحكايةَ التّاليةَ:

كان في قديمِ الزَّمانِ وسالفِ العصرِ والأوانِ مدينةٌ يحكمها سلطانٌ جائرٌ، يُثقلُ كاهلَ رعيَّتَهُ بما يجبيه منهم من ضرائبَ، وكانتْ هذهِ الضَرائبُ تُجبى مِنَ  الفقراءِ دونَ الأغنياءِ. وبقيَ على هذهِ الحالةِ حتى أصبحَ الشَّعبُ في مجاعةٍ، ولمْ يَعُدْ معَ الفقراءِ ما يسدّونَ به رمقَهم، فَمِنْ أينَ سيدفعونَ الضّرائبَ؟ ولمّا عَلِمَ السُّلطانُ عِلْمَ اليقينِ أنَّهُ لَمْ يَعُدْ معَ الفقراءِ أيَّ “قِرْشِ” طلبَ إحضارَ ثلاثةٍ مِنْ كبارِ التّجارِ الأغنياءِ في مدينتِهِ. وجلسَ في باحةِ قصرِهِ، وضَعَ أمامَهُ ماعِزًا، وأمرَ بادخالِ التّاجرِ الأوّلِ، ولمّا مَثُلَ بينَ يديهِ طرحَ السّلامَ عليهِ وقالَ لهُ:

أَمْرُ مولايَ السلطان.

فقالَ لَهُ السّلطانُ: ما هذا؟ وأشارَ إلى الماعزِ.

فأجابَ التّاجرُ: هذا ماعزٌ يا مولايَ.

فأمرَ السّلطانُ حرّاسَهُ بِأنْ يضربوهُ، وطلبَ مِنَ التّاجرِ أنْ يدفعَ مئةَ الفِ دينارٍ كغرامةٍ؛ لأنّه لم يعرفِ الإجابةَ!

وكانَ التّاجران الآخران ينتظران، ويسمعانِ مِنَ النّافذةِ ما جرى مع زميلِهم الأوّلِ، فأمرَ السّلطانُ بادخال التّاجر الثّاني، وسألَهُ نفسَ السّؤالَ فأجاب:

هذا عِجْلٌ يا سيّدي.

فغضِبَ السّلطانُ، وأمرّ جُنَدَهُ بضربِه وتغريمِه مئةَ ألفِ دينارٍ، وهو يصيحُ ويقولُ:

اللهُ أكبرُ! ألا تفرّقونَ بينَ الماعزِ والعجلِ؟ فكيفَ جمعتم ثروةَ البلادِ؟

ولمّا رأى التّاجرُ الثّالثُ ما حلَّ بصاحبيهِ أخرجَ مئةَ ألفِ دينارٍ، ووضعَها في كيسٍ. ولمّا أدخلوهُ على السّلطانِ، وسُئِلَ نفسَ السّؤالِ أجابَ:

هذا يا مولايَ سَخْطٌ مِنَ اللهِ، وإليكَ هذا الكيسَ وفيه مئةٌ أَلفِ دينارٍ.

وسلامة تسلّمكم وتسلم حبايبكم.

صفّقوا لضرغام، وأثنت عليه المعلّمةُ.

في فُرصةِ الصّباحِ قالتِ المعلّمةُ ديمةُ للمديرةِ والمعلّماتِ:

لديَّ في الصّفِّ تلميذةٌ لافتةٌ اسمُها لينا، تجيدُ القراءةَ والكتابةَ والرّسمَ، تحبُّ المطالعةَ والموسيقى، تحفظُ الكثيرَ مِنَ القصصِ والحكاياتِ وأناشيدِ الأطفالِ، قابلتُ بالأمسِ والدتَها؛ لأستفيدَ منها في كيفيَّةِ التّعامُلِ مع الأطفالِ من خلالِ تجربتِها في تربيتِها لابنتِها، واليومُ سأقابلُ جدَّها أيضًا.

قالتِ المديرةُ: رائعٌ أنْ يكونَ لدينا تلميذةٌ مميّزةٌ، وحبّذا لو يوجدُ في كلِّ صفٍّ تلميذةٌ أو تلميذٌ مميّزٌ! فوجودُ مثلَ هؤلاءِ يدفعُ الآخرينَ إلى الاجتهاد.

طلبتِ المديرةُ من المعلّماتِ أنْ ينتبهنَ للتّلميذاتِ والتّلاميذِ المميّزين في كلِّ صفّ؛ للاحتفاءِ بهم في نهايةِ الفصلِ بوجودِ التّلاميذِ وأولياءِ الأمورِ.

****

بعد انتهاءِ الدّوامِ المدرسيِّ ذهبتْ المعلّمةُ ديمةُ بصُحبةِ لينا، لمقابلةِ الجدِّ.

في البيتِ وجدتْ جدَّيّ لينا لأبيها وجدّتَها لأُمِّها في استقبالِها، لاحظتْ كيفَ دارتْ لينا عليهم واحدًا واحدًا تُصافِحُهم، وتبوسُ أياديهم، انتهتْ بجدِّها الذي قالَ لها:

ألمْ أقلْ لكِ يا لنّوشُ لا تبوسي يدَ أيِّ انسانٍ؟

ضحكتْ لينا وقالتْ:

وعيتُ الحياةَ وأنتم تبوسونَ يديَّ وقدميَّ ورأسيَ وصدريَ، فلماذا لا أبوسُ أياديكم؟

الجدّ: أنتِ جزءٌ منّا يا لنّوشُ، وقد قبّلنا فيكِ طهارةَ الطّفولةِ وبراءَتَها الّتي تحملُ رائحةَ المسكِ.

لينا: وأنا أبوسُ أياديَكم الّتي تفوحُ منها رائحةُ الحبِّ.

ضحكَ الجدُّ وأجلسَها في حِضنِهِ سعيدًا.

سألتِ المعلّمةُ ديمةُ الجدَّ:

هل لينا حفيدتُكم الأولى؟

الجدّ: بل هي الحفيدةٌ الثّالثةُ، للينا ابنتا عمّةٍ يكبرانِها عُمْرًا.

المعلّمة: وهل تحبّونَ الآخرينَ كما تحبّونَ لينا؟

ضحكتِ الجدّةُ وقالتْ: “ما أغلى من الابن إلّا ابن الابن” وهذهِ قضيّةٌ لا يعرفُها الانسانُ حقَّ المعرفةِ إلّا عندما يُجرِّبَها.

الجدّ: يُعجِبُني مَثَلٌ اغريقيّ يقولُ: “ابني ولدْتُهُ مرّةً وحفيدي ولدتهُ مرّتين”

أيّ أنَّ الحفيدَ أغلى مِنَ الابنِ، ومقارنَة الانسانِ بينَ أحفادهِ كمقارنَتِهِ بينَ عينيهِ.

المعلّمة: هل تُحبّونَ غسّانَ شقيق لينا مثلما تُحبّونَها؟

الجدّ: طبعًا نُحِبُّهُ، وأنا أتعاملُ معَ كلٍّ منهما حسبَ عُمرهِ، فلكلِّ عمرٍ مُستحقّاتُهُ.

هنا استيقظَ غسّانُ مِنَ استراحةِ الظّهيرةِ، جاءَ يفركُ عينيهِ، طردَ لينا مِنْ حضنِ جدِّهما واحتلَّ مكانَها، احتضنَهُ الجدُّ وقبَّلَ وجنتيهِ ورأسَهُ، جلستْ لينا في حضنِ جدّتِها لأمِّها، فلحقَ بها غسّانُ يطردُها؛ ليحتلَّ مكانَها، فأضحكَهم جميعَهم، أمسكتِ المعلّمةُ لينا واحتضنتْها، نظرَ غسّانُ إلى المعلّمةِ نظراتِ عتاب، لكنَّهُ لم يقتربْ منها، مَدَّتْ يدَها إليه تطلبُ منه أنْ يأتيَ إليها، لكنَّهُ لم يستجبْ.

التفتتْ إليهِ لينا وقالتْ له بدلعٍ:

هذه معلّمَتي، فأينَ معلّمتُكَ؟

لم يُجبْها، ذهبَ وجلسَ في حضنِ والدتِهِ، وبقيَ يرمقُ لينا ومعلّمتَها بنظراتِ عدمِ الرِّضا.

سألتِ المعلّمةُ الجدَّ:

كيف تعاملتُم مع لينا منذُ البدايةِ؟

الجدّ: منذُ عرفنا أنّها بنتٌ وهي جنينٌ في رحمِ أُمِّها، اخترْنا عشراتِ الأسماء، وبحثْنا عن معنى كلِّ واحدٍ منها، حتّى استقرَّ بنا الرّأيُ على لينا الذي اختارَهُ والدُها، بعدَ وِلادتِها حضنتُها ولم يمضِ على ولادتِها خمسُ ساعاتٍ، شممتُ لها رائحةً طيِّبةً جذّابةٍ، قبَّلتُ يديْها، وهذا ما لمْ أفعلْهُ مع والدِها عندما كان في عمرِها، فلم يسبقْ أنْ حملتُ واحدًا من أبنائي قبلَ أن يحبوَ، ويأتيني هو، فأنا لا أحملُ الأطفالَ المولودينَ حديثًا خوفًا عليهم مِنَ الأذى.

وعندما وُلِدَ أبنائي لم تُتَحْ لي فرصةُ الاحتكاكِ بهم كثيرًا، فقد كنتُ مشغولًا بأعمالي، أقتربُ مِنْ أحدِهم أحدُّثُهُ قليلا، أبوسُ يدَهُ وجبينَهُ وأتركُهُ في سريرِهِ، أمّا لينا وشقيقُها غسّانُ، فإنّني أعيشُ مَعَهُما غالبيّةَ يومي، وأراقبُ حركةَ الواحدِ منهما، ومراحلَ نموّهِما يوميًّا.

ابتسمتْ لينا لي قبلَ أنْ تبلغَ أسبوعينِ مِنْ عُمْرِها، وأصبحتْ تُمَيِّزُ صوتي وهي ابنةُ شهرٍ واحدٍ، فكلّما سمعتْ صوتي تلتفتُ باتِّجاهِهِ وتضحكُ قبلَ أنْ تراني، كنتُ أضعُها بجانبي على السَّريرِ، أتحدَّثُ معها كما أتحدَّثُ مع الكبارِ، حكيتُ لها حكاياتٍ، قرأتُ لها قصصًا كثيرةً، كما كانَ يفعلُ والداها أيضًا، انتبهتُ إلى شَغَفِها بأغاني فيروز، فكنتُ أستمعُ وإيّاها لهذهِ الأغاني التي أحبُّ سماعَها أنا أيضًا، كانتْ تصغي للأغاني بانتباهٍ فتنامُ هادئةً.

عندما بلغتْ لينا الثّالثةَ مِنْ عُمْرِها علّمتُها قراءةَ وكتابةَ حروفَ الأبجديّةِ، ولمّا رأيتُ قدرتَها الاستيعابيّةَ علّمتُها منهاجَ الأوّلِ الابتدائيِّ، وعندما يعودُ والداها من عملهِما كانا يواصلانِ تعليمَها. في هذا العمرِ أعدتُ عليها قراءةَ قصصِ الأطفالِ الّتي قرأتُها لها من قبلُ، ورأيتُها كيفَ تتمعّنُ بالصُّوَرِ المرافقةِ للقصصِ، وبما أنِّها تُحِبُّ الموسيقى والغناءَ فقد كانت جدّتُها تهدهدها بأغاني الأمّهاتِ لأطفالهنَّ، وتعلّمتْ مِنَ الأطفالِ أغانيَهم الشّعبيّةَ، ممّا دفعني لتعليمِها أناشيدَ وأغاني الأطفالِ الَتي كتبَها الشّاعرُ السّوريُّ سليمانُ العيسى، فحفظتِ الكثيرَ منها.

المعلّمة: وماذا بالنِّسبةِ لألعابِ لينا؟

الجدّ: اشترينا ألعابَ للينا قبلَ أنْ تبلغَ العامَ الأوّلَ مِنْ عُمْرِها، عندما بلغتِ الثّالثةَ من عُمْرِها، كنتُ أصطحبُها معي إلى محلٍّ يبيعُ ألعابَ الأطفالِ، وأتركُها تختارُ ما تشاءُ ما يُناسِبُ عُمْرَها منها، ونعودُ إلى البيتِ؛ لنلعبَ معًا أنا وهي، فقد أعادتْني لينا إلى طُفولتي، حيثُ لم يكنْ في زمني ألعابٌ ولا غيرها. ودلّتْني على كيفيَّةِ اللعبِ ببعضِ الألعابِ الألكترونيَّةِ، فلديها قدراتٌ عجيبةٌ في التّعامُلِ مع الألكترونيّاتِ، بما في ذلكَ ألعابُ الأطفالِ الموجودةِ على الحاسوبِ.

المعلّمة: هل ترونَ لينا مميّزةً عن أقرانِها؟

الجدّ: كلُّ الأطفالِ مميّزون، وعلينا أنْ نبنيَ أطفالَنا بِناءً نفسيًّا وعلميًّا صحيحين، كي يستطيعوا التّعامُلَ مع الحياةِ الجديدةِ.

المعلّمة: هل تعتقدُ أنّنا قادرونَ على ذلك؟

الجدّ: نعم نحنُ قادرونَ إنْ أردنا ذلك، لكن قاتلَ اللهُ الجهلَ.

المعلّمة: آملُ أنْ أستطيعَ بناءَ ابني كما بنيتُم ابنتَكم لينا.

انتهت

4-9-2015

الغلاف الخارجيّ الأخير

هذا الكتاب

بقلم: الدّكتور الأديب طارق البكري

قصّة جديدة متميّزة للأديب المقدسيّ الرّائع الشّيخ جميل السلحوت، تحمل أسلوبا جريئا جديدا متمّرسا، تسرد واقعا فريدا وتجربة ثريّة غنيّة لطفلة تبدو وكأنّها أقرب إلى الخيال من الحقيقة، وإن كان للواقع نصيب كبير فيها.. تفيد الكبار كما تمتع الصّغار، وهي تؤكد أهميّة الاهتمام بالطّفولة ورعايتها منذ لحظة نشوء الجنين، فكلّ طفل يخبّىء في داخله ماردا عظيما، يمكنه أن ينطلق نحو فضاءات الإبداع الواسعة إذا تكثّفت رعايته، ومنح ما يستحقه من رعاية متواصلة من محيطه، وهي إضافة متألّقة لمكتبة الطّفل العربيّ.

التعليقات

جميل السلحوت

جميل حسين ابراهيم السلحوت
مولود في جبل المكبر – القدس بتاريخ 5 حزيران1949 ويقيم فيه.
حاصل على ليسانس أدب عربي من جامعة بيروت العربية.
عمل مدرسا للغة العربية في المدرسة الرشيدية الثانوية في القدس من 1-9-1977 وحتى 28-2-1990

أحدث المقالات

التصنيفات