رواية “فانتازيا” في ندوة اليوم السّابع

ر
القدس: 7-1-2016 ناقشت ندوة اليوم السّابع الثقافيّة في المسرح الوطني الفلسطينيّ في القدس  رواية “فانتازيا” للأديب المقدسيّ سمير الجندي، الصّادرة قبل أيّام عن دار الجندي للنّشر والتّوزيع في القدس، وتقع الرّواية التي يحمل غلافها الأوّل لوحة للفنّان التّشكيلي العراقيّ فاخر محمد، في 152 صفحة من الحجم المتوسّط.
قال جميل السلحوت:
جاء في موسوعة ويكيبيديا:” الفنتازيا هي تناول الواقع الحياتيّ من رؤية غير مألوفة، ما يعني أن هنالك شكّاً في عالم الرّواية إن كان ينتمي إلى الواقع أم يرفضه، وفي نفس الوقت هو معالجة ابداعيّة خارجة عن المألوف للواقع المعاش”.
وفي معجم المعاني الجامع” فانتازيا(الثّقافة والفنون) خليط من أحداث دراميّة تجمع بين الفكاهة والتراجيديا”.
ويبدو أنّ الكاتب سمير الجندي أراد تجريب الفانتازيا في كتابته، فجاءنا بهذا النّصّ الرّوائيّ، خصوصا وأنّه جاب عواصم الأقطار العربيّة من خلال مشاركة “دار الجندي للنّشر والتّوزيع في القدس” التي يملكها الكاتب قد شاركت في “معارض الكتاب الدّولي” في هذه العواصم، وسمير الجندي المولود في القدس، ويعيش فيها، زار العواصم العربيّة وهو يحمل أفكارا ورديّة عمّا عرف بالرّبيع العربيّ، الذي انطلق من تونس عندما أحرق الشاب محمّد بوعزيزي نفسه في 17 كانون أوّل-ديسمبر- 2010 احتجاجا على رفض الشّرطة التّونسيّة قبول شكواه ضدّ شرطيّة تونسية صفعته على وجهه، وانتقلت عدواها إلى مصر، ليبيا، اليمن، سوريا وغيرها. وبما أنّ الشّعوب العربيّة بنت آمالا كبيرة في تغيير أنظمة الاستبداد التي دمّرت العالم العربيّ وأخرجته من التّاريخ، إلا أنّها صدمت بأنّ “هذا الرّبيع” لم يكن سوى خريف أحرق الأخضر واليابس، وزاد العالم العربيّ خرابا على خراب، لكنّ صدمة سمير الجندي-كما أبناء شعبه الفلسطينيّ كانت كبيرة، وبحجم الأمنيات الكبيرة التي بنوها على “هذا الرّبيع” وحلموا من خلالها أن يتمّ تحريرهم وخلاصهم من الاحتلال.
من هنا يبدو لي دافع سمير الجندي لكتابة روايته”فانتازيا”، أو على رأي مثلنا الشّعبيّ”هيك مضبطة بدها هيك ختم”، أيّ أنّ التّطوّر اللامعقول لما يسمّى بالرّبيع العربيّ، أملى وجود أحداث غير معقولة في رواية “فانتازيا”. لكن سمير الجنديّ خلط الواقع بالخيال، فتجواله في مدينته القدس، وحديثه عن حاراتها، بعض مقدّساتها، أسواقها، بعض حاراتها، أزقّتها وشوارعها أمر واقعيّ، وكأنّي به يُذكّر العربان بالمدينة العظيمة التي أضاعوها، لكنّ “ربيعهم” أخطأ البوصلة.
وانسجاما مع فكرة الكاتب الجنديّ بعبثيّة الواقع العربيّ، التي تفوق الخيال، فقد التفّ على المألوف في بناء الرّواية العربيّة، وخاض التّجريب في سعيه للحديث عن المرحلة، فتلاعب بجماليّات اللغة وبالخيال الخصب؛ ليأتينا بهذا العمل الأدبيّ، والقارئ لاصدارات الجندي السّابقة سيلاحظ كيف طوّر الكاتب لغته، وكيف كان جريئا في الخروج على المألوف في فنّ الرّواية. وأعتقد أنّه جاءنا بجديد لم نعتده من قبل. على أمل أن نرى رأي النّقاد والأكّاديميّين بهذا الجديد.
وتحدّث عزيز العصا فقال:
سمير الجندي؛ فلسطيني-مقدسي، من قرية دير ياسين الفلسطينية المحتلة في العام 1948،  التي تعرّض أهلها لأسوأ وأبشع مذبحة عرفها التّاريخ المعاصر، على أيدي قادة الحركة الصهيونية الذين أصبحوا قادة الدولة العبريّة فيما بعد. تجرّعت أسرته مرارة النّكبة، فاحتضنتها القدس، وآوتها، ووفرت لها الدفء من أنفاسها الحارة، وهي تحتضن أبناءها وتذود عنهم في مواجهة المغتصبين من كلّ الأجناس والألوان.
وأما العمل الأدبي الذي نحن بصدده للمقدسيّ “سمير الجندي” فهو روايته “فانتازيا” في طبعتها الأولى، وهي تبدأ بغلاف يحمل لوحة للفنان العراقي “فاخر محمد”، ويحمل غلافها الأخير “وجع الكاتب من الانتظار المتعاقب، ويفتت نفسه البعد عن أميرة الهوى”. وما بين الغلافين نصّ، يُقدّم له النّاقد العراقيّ “خضير الزيدي”، ويتوزّع على (155) صفحة من القطع المتوسّط، يحتضن (12) محطة لقطار سردي جاء بنمط مختلف عمن سواه من النّصوص الرّوائية؛ فبقدر ما هو متعلق بالمحبوبة-القدس المكبلة، التي تعاني فحيح الأفاعي وتنهشها الكلاب المسعورة، فإنّه يصب جام غضبه على المتخاذلين والمتقاعسين، ويعلن براءته التّامة، من كلّ من لا يقبض على قدسه كالقابض على الجمر.
منذ اللحظة الأولى لاستلامي الرّواية، أخذت أدور في فلك العنوان، لعلي أتنبّأ بالدّلالات التي يشير إليها. وعندما توقفت، بشئ من التّعمق، وجدت أن  “الفانتازيا” جنس أدبيّ يعتمد الأساطير، والخوراق وما وراء الطبيعة أساسًا في الحبكة الرّوائيّة، وأنّ الأحداث تدور في فضاءات وهميّة، أو في كواكب يسود فيها السّحر وقوى الآلهة وأنصاف الآلهة. وعند مقارنتها مع كلّ من الخيال العلميّ والرّعب، نجدها تمتاز عنهما بخلوّها من العلم والموت النهائي، علمًا بأنّ الأجناس الأدبيّة الثّلاثة متفرعة من الخيال التّأمّليّ.
كما أن مراجعة بحثيّة سريعة، تفضي إلى أنّ هناك أعمالًا كثيرة لكتّاب وفنانين، وسينمائيين، وموسيقيين، من الأساطير القديمة وحتى تاريخه، ذات الشّعبية الواسعة لدى الجمهور، لما فيها من جاذبية قوية؛ بسبب قدرتها على أخذ المشاهدين في رحلة جميلة في فضاء الخيال، في أجواء من التّشويق والإثارة القائمين على الغموض. ومن أبرز ما يمكن الإشارة إليه في هذا المجال “حكايات ألف ليلة وليلة”.
تقوم رواية “فانتازيا”، قيد النّقاش، على نصّ يتراوح بين الخيال الفانتازي، وما فيه من ظلمة وانعزال وانعزاليّة، وبين الواقع الملموس على المستوى الزمكانيّ الذي تدور أحداثه في القدس وبغداد وتونس والقاهرة وعمّان.
يطلُ علينا “سمير الجندي”، منذ بدايات روايته، وهو يحتار بين غوصه في الحلم، أو خروجه من حلم لم يعش فيه أصلًا، ليبحث عنه في الأزقّة وفي الصور وفي العقول الهرمة، أو بين المطارات (ص: 11-12)، ومما بقوله: “أحمل في ذاتي أملًا بالعيش وحدي مع نفسي، في بقعة منعزلة من العالم، في ركن قصيّ؛ فأنا في غربة اجتماعية مع قريتي” (ص: 9، 29)، ثم “يختفي عالمه في حلم شرّير” “ص: 11”.
لقد حقق “الجندي” حالة من التّزاوج بين الخيال الذي جعله يتحرّر من قيود النّصّ والرّتابة والتّراتبيّة التي تفرض على الكاتب، في أغلب الأحيان، القيافة التي تحمل في طياتها شيئًا من الضّلالة والتّستر على عيوب المجتمع وآفاته. وصمّم شخصيّات روايته، من الرّاوي-البطل، وهو الكاتب نفسه، والمحبوبة-المدينة أو المدينة-المحبوبة، التي مارس معها “فانتازيا”، منحته حرية التعامل معها ومحاورتها وتلقي الرسائل المختلفة منها، وأسند ذلك بشخصيّات ثانويّة “هشّة” تمّ توظيفها في خدمة النّصّ في مواضع مختلفة، دون أن تبقى على طول الخيط الرّوائيّ.
أمّا بشأن معمار الرّواية، فإنّها تتّكئ على بنية مكانيّة تنطلق من القدس، وتمتدّ حتّى تصل بغداد، تونس، القاهرة وعمان، وأمّا البنية الزّمانية فأخالها تعالج ما يدور في زماننا الحاليّ، من خلال التّكنولوجيا المعاصرة التي يستخدمها في التّواصل مع محبوبته، عبر “الرّسائل النّصّيّة على جهازه النّقّال”، ومن خلال وصفه للثّورات التي شهدتها بعض العواصم العربيّة بعد العام 2011.
حول بنائية الرّواية، فإنني أتفق مع ما يقوله النّاقد “الزّيدي”، في أن ما يهمنا فيها: قيمها المعرفيّة، واختلافها من خلال تحديد بلاغتها ورصدها لحقل السرديّات، والمستوى الجماليّ، وصياغة لها القدرة على تضمين أحداث تتداخل فيها الغيبيّات والشّكوك والواقعيّة في تواشح غريب علينا. وأرى ضرورة التّوقّف عند الأبعاد المعرفيّة والمعلوماتيّة التي أراد “سمير الجندي” تمريرها بين ثنايا روايته هذه، وهي كثيرة ومتعدّدة، منها:
أوّلًا: سمات المجتمع:
لم يختر بطل رواية “فانتازيا” الانزواء مع كتبه والتّواصل مع محبوبته، إلا بعد أن اكتشف أنّ “مجتمعنا يكاد يخلو من القيم الإنسانيّة التي تكوّن ذائقة أيّ مجتمع على هذه الأرض”، ثمّ يسترسل في وصف الرذجال الذين يسيرون بلا هدف، ويحيون كالبهائم، والنّساء بائسات متهتّكات لا أحلام لهنّ ولا خيال (ص: 10)، وفي ذلك تعميم سوداويّ لرجل مقدسيّ يجب أن يتسلّح بالأمل في مواجهة التّحديات، وأن إدراك الواقع التّعيس لا يعني الهروب ولا يباركه، لكنّه لو برّر العزلة برغبة في التّصالح مع الذّات أو ترتيب الأفكار أو غير ذلك لكان أجمل بكثير.
ثانيًا: أشكال الاحتلال وأثره على المجتمع:
أشار “سمير الجندي” إلى الاحتلال بأشكال مختلفة، منها، تؤكد بشاعته، وتبيّن دوره في إيذاء الشّعب الفلسطينيّ، منها  “الصياد الغريب” القادم من وراء البحر، الذي صار هو “الرّجل الوحيد في قريتنا، يصيد وحده، ويزرع الأرض ويحصدها، ويزرع وحده، وذكور قريتنا استمرأوا الكسل وطابت لهم المهانة” “ص: 32”
–     ثعبان استيقظ من سُباته الشّتوي، بعد أن بّدّل جلده، وحضن بيضه، وبلسانه داعب كلّ شئ حتّى خرج خروجًا آمنًا “ص: 35-36”
–       الاحتلال يشبه البعوض، فالبعوض يقتل الملايين ويُغير على قلب الإنسان أو جزءًا من نظامه، لينقل له أمراض خطيرة تؤدّي إلى هلاكه، والاحتلال يقوم بهذا الدّور في القدس وفي فلسطين جميعها “ص: 50”
– في إشارة إلى تململ التّاريخ والحضارة في القدس من وطأة الاحتلال وصلفه، وفي وصفه لما يحدثه من صخب وجلبة وأذى يمتد إلى أعماق القدس، بل أعماق أعماقها، يشير إلى أنّ “الكلاب تنبح طيلة الليل، والشيخ الهندي لا يعرف النوم” “ص: 54”
ونرى في ذلك تعزيزا لحالة الخنوع والاستسلام للقادم من خلف البحار، دون مواجهته والحدّ من أثره. كما أنّ الشّيخ الهندي اكتفى بالانزعاج من نباح الكلاب دون أن يوجّه الأجيال إلى كيفية مواجهة هذا النّباح والتّخلص منه.
ثالثًا: وصف جميل للقدس:
ابتدع “سمير الجندي” في روايته هذه طريقة للتّجول في القدس، وهو يصف آثارها ومكوناتها الحضاريّة، وحاراتها وأبوابها وأزقتها ومؤسساتها التّربويّة، ومقاهيها التّاريخية وأفرانها وصناعاتها الحرفيّة الجميلة، وسورها الجميل، وأناسها الطيّبين؛ رجالًا ونساءً. إلا أنّه لم ينس تذكير القارئ بأنّ هذا كله يخضح لاحتلال بغيض، فها هي القدس تظهر فتاة جميلة تشكو من وحش “يأسرها ويطبق على أنفاسها” (ص: 45). ثم يتساءل: أين هو الفارس الذي سيأتي على صهوة موجة؟ (ص: 59)، وفي ذلك تكرار للسّؤال التّقليدي الذي يتكرر من أكثر من سبعين عامًا.
رابعًا: يصف عواصم الأمّة:
بعد تلك الرّسالة القادمة من القدس-المحبوبة التي تصف واقع الأمّة بعد تآمر العالم عليها، يقوم البطل بجولة في عواصم الأمّة، متمثلة في: بغداد، وتونس والقاهرة وعمّان. فيصف جماليّات تلك العواصم، وما تزخر به من حضارة وعمران، وحركة دؤوبة من قاطنيها البسطاء الطيّبين، وأسواقها، وأنهارها وبحارها التي تحتضنها كما تحتضن الأمّ وليدها، وما في ملامحها من بؤس وأحزان. وكان في كل مرّة يبحث عن حبيبته في تلك العواصم، فلم يجدها.
كما سجّل ما وجده من تعاطف مع فلسطين وأهلها، بخاصة الحروب التي شنّها الاحتلال على قطاع غزّة، وما خلفته من مآسٍ على أبناء هناك (ص: 118)، ولعلّ ذروة التّعاطف تتمثّل في إيمان العرب بأنّ “الصهيونيّ قاتل بامتياز” (ص: 120)، في حين أنّ هناك من يدعو إلى اعتبار وجود الاحتلال أمرا طبيعيّا في المنطقة. وفي وداعه لتونس يقول: “أنا وأنت ننحدر من نصّ واحد منسيّ (…) غدًا أجمل أيامنا، وربّما اليوم، وبالتّأكيد ليس الأمس” (ص: 125). ويتوقف، مليًّا، عند التّشابه بين القاهرة والقدس؛ الأبنية تتشابه، والوجوه تتشابه، والأدعية هي هي (ص: 131). ثم يشير إلى الثّورة المصريّة على نظام “حسني مبارك”، ثم تبدُّل الأنظمة بأحزاب لم تطبّق ما ترفعه من شعارات “ص: 136-139.”
بإشارة من المحبوبة-القدس، يتّجه إلى عمان، بصحبة ماجد؛ إبن يافا، فيبحران في البحر الأحمر، في رحلة مع الثّيران، حيث “الطّريق إلى عمّان وعرة المسالك” (ص: 146)، ويصف الصّناعة في عمّان، التي يديرها الهنود والبنغاليّون، كمن يربّي غيمة حتى تكبر وتتّسع، ولكنّها تمطر في أرض أخرى (ص: 147). تختتم الرّحلة ببقاء “ماجد” في عمّان بعيدا عن يافا، ويعود البطل إلى قريته المتهالكة، لكي يلتقي محبوبته-القدس في القدس ولا مكان غير القدس.
خلال رحلته تلك، يتلقى العديد من الرسائل “الفانتازية” التي تبثّها المحبوبة التي يتابعه طيفها كظله، منها: لو لم تكن حبيبي، فماذا تودّ أن تكون؟ فيقول لها: “أكون فيلًا! (ص: 82)، و”النّاس لا يموتون.. نعم.. لا يموتون، ولكن يتحوّل شكلهم إلى صور أخرى تعرفها الحجارة والمآذن، والوجدان النّقيّ المتحفّز للشّهادة” “ص: 91-92.”
خلاصة القول:
هذه هي رواية “فانتازيا” التي تزواجت فيها الحقيقة مع الخيال، لتنجبا بنية روائيّة ذات أبعاد معرفيّة صيغت بمنهجيّة سرد جميلة. فكانت رسائل المحبوبة-القدس، ذات الجوهر الفلسفيّ الذي تمّ في توظيف ما يجري على أرضها من جور ومن ظلم صارخ، يشيعه كيان طفيليّ قدم من خلف البحار، فصادر الصّنّارة والتهم أسماك البحر، واستولى على المعول والمحراث، فصار الزّارع الوحيد، ونهب الأرض فصار الوحيد الذي يسكنها ويبني عليها ويعلي البنيان، ويحرم الأصلاني من كلّ خيرات البلد التي ورثها عن الآباء والأجداد، ويلقي به في مهاوي اليأس والإحباط.
أمّا بشأن العنوان والمحتوى، فنجد أن “سمير الجندي” أثار موضوعًا في غاية الأهميّة في حياة القارئ، بل في حياة الفرد العاديّ، وهو “الفانتازيا” وما لها من ضرورة في حياة الشّعوب. فقد أثبت العلماء، مؤخرًا، أن حوالى (2.5%) من البشر لا يملكون أيّ تصوّر أو خيال، حتى أنّه ليس باستطاعتهم تصوّر شكل النّاس الآخرين والأشياء الأخرى. إذ بيّنت نتائج بحثيّة أنّه عند الطلب منهم تصوّر وجه الأمّ أو أيّ شيء ساطع، كانت مناطق الدّماغ المسؤولة عن ذلك خاملة ولم تبد النّشاط المطلوب، وقد أعزوه إلى أساس فيسيولوجيّ عصبيّ، وقد يكون ناجمًا عن عاهة ولاديّة أو مكتسبة. لذلك الدّراسات اللاحقة في هذا المجال ستلقي الضّوء على هذه المشكلة وهل سيكون بالإمكان علاجها أم لا؟
وكتب عبدالله دعيس:
فانتازيا البحث عن الحقيقة
“جلست على طرف مقعد حجريّ في ظلّ زيتونة روميّة شاخت منذ عقود، بيدي كتاب كنديد “التفاؤل” وبقربي صحيفة قديمة متروكة بغير قصد، فتحتها على صفحة الوفيات، فخيّل إليّ أنّ نصف أهل القرية قد فارقوا الحياة.”
يكفي أن نقرأ هذا النّصّ من رواية فنتازيا للكاتب سمير الجندي  (ص 20) حتّى ندرك أنّنا سنحلّق في رحلة فلسفيّة، طابعها التّشاؤم وانعدام الأمل، في خضمّ رواية فلسفيّة بامتياز، وشخصيّة ترتحل تبحث عن الحقيقة التي “لها وجوه كثيرة لكنّها مغيّبة.”  (ص 106). يحذو الكاتب حذو فولتير في روايته العالميّة كنديد، التي يرتحل بطلها في أرجاء الدّنيا بصحبة معلّمه المتفائل الذي كان يؤمن أنّ الأمور ستنتهي نهاية سعيدة دائما، ليكتشف أن العالم مليء بالنفاق والكذب والشّر، فتزداد خيبة أمله، ويصل إلى نتيجة أنّ الحياة السّعيدة لا تكون إلا حينما “ينصرف الإنسان إلى زراعة حديقته الخاصّة.”
الشخصيّة الرئيسيّة في رواية فنتازيا هي شخصيّة الرّاوي، وهو تائه حائر حالم، يبدو أنّه مرّ بتجارب مريرة وخيبة أمل؛ فيحاول أن ينزوي في جوف الليل ويبتعد عن الحقيقة المرّة، ويشعر بالغضب والسّخط والاحباط. لكنّ نفسه، التي تظهر في الرّواية كأنّها شخصيّة أنثى مستقلّة، تقوده في رحلة بحث عن الحقيقة المفقودة، وتفسّر له ما يبهم عليه من الأمور، فينقاد خلفها، ليدرك في النّهاية أن هذه الحقيقة، والتي مثّلها الكاتب بشخصيّة حبيبته التي تبعث له الرّسائل الغامضة وتخبره أنّه سيجدها في إحدى العواصم العربيّة، غائبة ليس لها أثر في أيّ مكان، فيعود من حيث بدأ (إلى حديقته الخاصّة) لينتظر مرّة أخرى، تاركا فسحة من الأمل وإن كانت باهتة.
تبدأ رحلة الرّاوي من قريته، والتي ترك الكاتب اسمها ومكان وجودها مبهما لأنّه يرمز بها إلى كلّ البلدان العربيّة، والتي ترزح تحت ظلّ الظلم والطّغيان والاستبداد، فيصف أشجار القرية وقد شاخت، وطبيعتها وقد تغيّرت؛ لأنّ أهلها استسلموا للذّلّ والاحتلال، فمجتمع القرية ظاهره البراءة، لكنّه يرزح تحت أرث ضخم من المثالب الاجتماعيّة والمظالم. فهذه القرية التي مات نصف سكّانها؛ لأنهم جمدوا وتنازلوا عن حقّهم في الحرّيّة، أمّا النّصف الآخر فهم نيام، يصفهم الكاتب بأنّهم حيوانات ناطقة؛ تعبيرا عن سخطه. وهذه القرية احتلّها الغرباء وداسوها ببساطيرهم، وأصبحت سوقها كاسدة، وساسها ذاك الصّياد قبيح الوجه. فالقرية التي ابتدعها الكاتب تمثّل بحقّ كل البلدان العربيّة التي استمرأت الظّلم والهوان، وعندما بدأت تتململ مشرئبّة نحو الحريّة المنشودة، داسها الظّلمة والطّغاة ببساطيرهم العنيدة.
يقودنا الكاتب في هذه الرّواية في رحلة مضنية في خلجات نفسه، بأسلوب فلسفيّ لا يخلو من التّعقيد، يعبّر عن حالة التّيه الّتي يمرّ بها الإنسان العربيّ، خاصّة في هذه الأيّام حيث أصبح فهم حقيقة الأمور صعب للغاية، وبلغة مجنونة بقدر جنون الأوضاع في بلادنا. ويطرح الكاتب في روايته الكثير من القضايا الفلسفيّة التي لا يجد لها جوابا، منها: هل هناك حقيقة خالصة أم أنّ الحقيقة لها وجوه مختلفة وتفسيرات متباينة؟ وما هو سبب الشّر في هذا العالم؟ ولماذا لا يسوده الخير؟ وهل يتحرّك النّاس من أجل مصالحهم فقط، أم أنّ الخير موجود في النّاس بغضّ النّظر عن دينهم وأصلهم؟ وهل هناك ضوء في نهاية النّفق؟ وهل نحن نخترق عاصفة رمليّة عاتية لنصل في النّهاية إلى ما نصبو إليه، أم أنّنا سنبقى حائرين ضائعين؟
ولا يبدو الرّاوي مؤمنا بوعي الشّعوب العربيّة وقدرتها على الاختيار، ويغضّ الطّرف عن العرق الحيّ فيها، وعن أصالتها وتشبّثها بدينها وعقيدتها، والذي هو القلب الذي ما زال ينبض ببعض حياة، والرّوح التي تدبّ في أوصالها. يقول إنّ الغرب تقاطر على هذه الأمّة ليجهض سعيها نحو الحريّة، ونراه يقف في صفّ واحد مع هذا العدوّ! فنجده يكيل التّهم إلى الإسلاميّين الذين حملوا على عاتقهم شعلة الحريّة والمقاومة على مدى عقود طويلة، وكانوا هم الرّوح التي أبقت على بعض حياة في هذا الجسد المنهك، وما زالوا يدفعون ثمن حبّهم لهذا الوطن ويضحّون من أجله، فيقول في صفحة 25 “ولماذا أطاح الإسلاميّون بالعدالة في الشّام ومصر وبلاد ما بين النّهرين؟” وأتساءل، متى كانت تلك العدالة التي أطاح بها الإسلاميّون؟
إنّ مَن جعل الإسلام نبراسا يهتدي به، وفهمه بعيدا عن أنظمة الحكم الفاسدة في العالم العربيّ، هم الذين يحملون رسالة الحريّة، ويتصدّرون المقاومة في كل مكان من وطننا العربيّ، بينما كثير من الذين يصفون أنفسهم بالعلمانيين كانوا وما زالوا الوقود الذي يسيّر الحكومات العربيّة المتخاذلة الخائنة، وأصبحوا يؤمنون بدين جديد أهمّ أركانه إقصاء الآخرين، وكفروا بالدّيمقراطيّة التي طالما تغنّوا بها، وطعنوها بخاصرتها لمّا عبّرت عن ضمير الأمّة الحيّ وأتت بغيرهم إلى سدّة الحكم. فكانوا هؤلاء بحقّ هم المسمار الذي وضع في نعش الرّبيع العربيّ، الذي لم يأتِ كما يشتهون.
وإن كانت رحلة الرّاوي في العواصم العربيّة غير مجدية، فهو لم يجد الحقيقة الضّائعة ولا الحريّة والعدالة المغيّبة، لكنّه وجد التّاريخ والأصالة، فدار في حواري القدس واصفا إيّاها متمثّلا قدسيّتها، وعرج إلى بغداد وتونس والقاهرة وأعطانا صورة تدلّ على تاريخ موغل في الحضارة، يُبقي بعض الضوء يشتعل بفتيل ذابل في كوّة الأمل.
وقال نمر القدومي:
رواية ” فانتازيا ” .. ورحلة الوجود
إبداع خياليّ خارج عن المألوف، يتناول الواقع الحياتيّ من رؤية مُغايرة وخارقة للطّبيعة، خيال تأمّليّ مُعرّض للرّفض أو القبول في عالم الرّواية. الكاتب المقدسيّ “سمير الجندي” في روايته الجديدة “فانتازيا” يُقدّم لنا كالفنّان السّرياليّ لوحة غاية بالتّعقيد، إلاّ أنَّ تعقيداتها من ضمن البراعة والفنّ المكتوب، نقف أمامها وقتا طويلا؛ لنتبيّن مع كلِّ دقيقة نقفها جانبا من جوانب هذا الإبداع .
الشّخصيّة الرّئيسة في هذه الرّواية هو الكاتب نفسه، فشخصيّته تتعدّد، تتضاعف، تتحوّل وتمتزج مع المادّة والعنصر. مصدر إلهامه يكمن في الخيال العاطفيّ الإنفعاليّ، فالشّخصيّات المُبتكرة من قِبل الكاتب هي إبتكارات وجدانيّة خالصة.
وبعد أن استاء من بيئته ومن البشريّة، واستاء كذلك من مجتمع يخلو من القيم الإنسانيّة، بدأ بطل روايتنا بالبحث عن حلم ضائع .. عن حريّة مفقودة .. عن حقيقة مُغيّبة في متاهات الزّمان والمكان حتى يكمل حياته المبتورة. صراعاته في الحياة كثيرة، تارّة مع قلبه وما يهوى، وتارة أخرى مع نفسه المتمرّدة،  والّتي اختارها وتوحّد معها، لتكون رفيقة دربه وملازِمته وحارسه الأمين. ضالّته المعشوقة هذه  تقفز به قفزات روحانيّة وجسديّة كبيرة، من خلال رسائل هاتفيّة على سبيل المجاز، إختلقها الكاتب لتكون ذلك المُحرّك الذي يُشغّل قلبه وفكره للبحث والتأمّل والإكتشاف، فكان من الصعب عليه أن يعيش في ضياع وتردد من الحياة، والسّير دون هدف واضح المعالم.
بدأ رحلته من مدينته “القدس” وبلدتها القديمة وحواريها بكلمات غزل وحُبّ، أعطى لكلّ ذي حقّ حقّه، واستذكر الأسماء، الأحداث، قصص الطّفولة والأصدقاء. لم يتوان أيضا عن كسر معتقداته المثاليّة ليُعانق السّحاب، يتشبث في جذور الأمنيات ويضيء شمعته عند “الشّيخ حسن” ليخنع بذلك إلى خرافات القوم دون وعي، لم يجد مُبتغاته صاحبة الرّسائل، فقصد “بغداد” باحثا عنها، تلك العاصمة الثريّة بثقافاتها وتاريخها، ليجدها خرابا ودمارا، فالرّبيع هنا جاء ولم يجد مَن يستقبله، فقفَل عائدا إلى غير رجعة وقفَل معه بطلنا التّائه، ليحطّ على أرض تونس الخضراء أملاً منه أن يلتقي بفقيدته، وقف مفكّرا وهام مُحلّقا؛ ليرى الإستعمار يتجدّد دون توقّف، يقتحمون البلاد بأناقة ولباقة. أمّا شرفاء البلاد العربيّة فلم يكن لديهم خطّة موازية لصدّ الإستعمار وتوحيد أوطانهم. عاش بطلنا في دوّامة فِكريّة أوصلته إلى طريق مسدود؟
لم يستثّنِ العاصمة “القاهرة” من البحث، عَبَرَها ونام في شوارعها مُستظلّا بدبّابة، ليعيش حالة الغليان والفوضى، ويتأسّف على ما آلت إليه أمّ الدنيا، قرّر الكاتب الرّجوع إلى مسقط رأسه بعد أن ضاقت به مآسي الوطن العربي، عابرا الأردنّ آخر محطّة له. عمّان محطّة العابرين من حلم إلى حلم، مدينة المخيّمات، وطن المُعذّبين ورصيف الإنتظار؟
يضع الرّاوي نقاطه على الحروف ويستسلم لإرادة الواقع، بأنّ ضالّته المنشودة لن يجدها إلاّ حيث يرقد ويستريح جسده على تراب الوطن. الحقيقة والحريّة منبعهما قريته المتهالكة أو مدينته المغتصبة، وأنَّ الغُربة هي عذاب مستمر بلا نهاية .
أديبنا الرّاوي أعطى وميضا مؤلما من بين سطوره، حاله حال كل أبناء شعبه، هذا الشّعب المناضل مليء بشعور الأمل والثقة بإنتمائه إلى الأمّة العربيّة، يتمنّون عند حَزَنِهم، أنَّ الأمّة بالمثل تحزن معهم، وأنّها للأسف لا تفرح لفرحهم، ونموت كالأيتام مشرّدين في ديارنا وفي زِقاق مخيّماتنا وعلى رمال شواطئنا.
إستخدم الكاتب “الجندي” في روايته أسلوب السّرد الرّوائي، كما اتّسمت فحواها بغزارة الكلمات التي تحمل معاني عميقة، وأتحف عابري الصّفحات ببلاغة النّصوص الأدبيّة القويّة. أمّا إختلاقه لكيان أنثويّ غائب عن الصّورة، فهذا يوقد لدى القارئ نار الشوّق واللّهفة للوصول إليها، والتّعرف بها سويّا مع عاشق الرّسائل، في طريقة ذكيّة لإستمرار التّشويق وكعنصر أساسيّ للحبكة الرّوائيّة.
في هذه الرّواية الإجتماعيّة السّياسيّة المصقولة بقالب جديد، يهيّأ للقارئ أنّه جاب الوطن العربيّ، إلاّ أنّه في الحقيقة لم يغادر الرّاوي سريره داخل  بيته في قريته التي لوّثتها أقدام الصّيادين الغزاة .
هل أنتِ الحقيقة؟ أم أنّكِ تشبهينها؟ أنتِ مثلها تماما بوجهين أو أكثر، لأنَّ الحقيقة لها وجوه كثيرة، لكنّها مُغيّبة دوما … أسئلة ستبقى تدقّ جدران القلب والفكر لكلِّ فرد منّا يبحث عن الرّاحة الأبديّة والحياة الجميلة السّرمديّة.
وقالت نزهة الرملاوي:
يا لهذه الفانتازيا التي أخذتني في اتجاهات بعيدة وغريبة، غير مألوفة.
أوّلا: عنوان الرّواية ( فانتازيا ) هناك توافق تامّ بين العنوان ومضمون الكتاب، فمن المعروف أنّ الفانتازيا لفظ غربي أطلق على الأحداث التي تكونت من الخيالات والتأمّلات مع استحالة تحقيقها بالرّغم من منطقيتها.. فهل حقا ذلك ما أراد الكاتب أن يحققه؟ بداية الكتاب كانت مشوّقة وشدّتنا رومانسيّة وشاعريّة الكاتب التّي تجلّت في معظم الصّفحات حينما تغنّى باطلالة الفجر وأغاني الطيور، لكنّ الغناء يحمل في موسيقاه الحزن والألم والعبودية والشقاء، وتبرز الاشكالية أنّ الكاتب لا يريد أن يرى النّور لأنّ النّور باعتقاده يخدع فلا يرى ما وراءه…
اضافة إلى جمال الكلمات التي تستقطب روح القارئ أجاد الكاتب تصوير الأماكن، حينما صور يافا واحتضانها له( كبرلمان أعضاؤه رمال وموج وبرتقال شمس وحكايات وصياد.. وشبّه الحبيبة المتخيّلة “امرأة أنيقة رتّبت حقيبتها المزيّنة بزهر الخزامى؛ لتسافر بين شهقات الندى”. استخدم الكاتب المونولوج ( السّرد الدّاخليّ .. كان يسأل ويجيب في آن واحد، وكأنّه يحاكي الآخر عن امرأة عشق نضوجها وثقافتها وانتماءها ..وكان يلجأ إلى يافا لأنّها تشبه حالته النّفسيّة حيث يشكو إليها همومه ومتاعبه..
استخدم الكاتب الكثير من الأسماء والأماكن التي زارها، وكانت البلدة القديمة في القدس وهي إحدى محطاته التي استحوذت على ذكر الكثير من حاراتها، حارة السّعديّة، حارة الشرف وزقاقها، زقاق البوس، وأسواقها كسوق العطارين وغيرها، وسورها، وقد أجاد برسم صورها الملوّنة من عبق الماضي، وأصالتها المتجذّرة في التّاريخ..وفي كثير من الأحيان كان يذكر المكان كعابر سبيل دون الوقوف به أو وصفه، ص٤١ طريق الآلام، حيّ الشّرف ودرج الطابون وتطرق  إلى بعض الشّخصيات، وذكر أعمالهم كالمطهر أبو دان والفرّان الحشيمة وأعمالهم، والشيخ معروف وقصّته مع الجنّيّة ( تخيّلت أنّها حدثت مع الكاتب، لأنّه كان بين الحلم والاستيقاظ) وتحدّث عن شخص في المدينة ( جد جد) في حارة السّعديّة وشبابها وبناتها ووصفهم بلغة سلسة مفهومة .
ذكر الكاتب كثيرا من الأماكن في الدّول العربية وشخصيّات تاريخيّة، مثل امرئ القيس فقد كان ليل الكاتب أطول من معلقته .. ص١٣ وشواطئ ساوباولو وقاهرة المعتز وبيروت .. سحرة موسى وجبروت فرعون، ومن هنا وجدت أن الكاتب تركنا في حالة من الفوضى وتشتّت في الأفكار، وأسئلة لا إجابات لها، وقد لفت انتباهي أنّ الكاتب لا يذكرهم لحدث ما في كتابه أو لشيء ذي أهمية… بالرّغم من أنّ استخدام الشّخوص والأماكن والشّواهد تثري المواضيع المختلفة، إلا أنّني وجدت نفسي في متاهات وردهات، كلّما أردت النّفاذ من إحداها وجدت نفسي عالقة في متاهة أخرى .. أعتزم الخروج منها فأراني أحاول من جديد في صفحات أخرى.. فأرى أنّ الكاتب في رحلته عبر العواصم من القدس إلى تونس والقاهرة وعمّان، التي قال أنّها تعطي دموعها للتّماسيح، وهي محطة العابرين والمرايا والغيوم، مخيّمات النّزوح والنّكبة ، وحزيران وسنوات بيروت والعراق وسوريا وليبيا، وأنّها مشروع المشاريع ووطن المعذّبين ..حملنا معه في رحلة فانتازيا “أحلام وخيال.”
فبالرّغم من الحقائق المشاهدة إلا أنّ الكاتب شتّت أفكارنا، فما عدنا نرى حدثا أو مأزقا يشدّنا بالرّغم من عذوبة الكلمات والصّور الجميلة، التي تبنّاها الكاتب أثناء كتابته للرّواية.
من الأشخاص الذين رافقوا الكاتب ماجد الذي أحبّ يافا ولم يرها..وزوجته وأولاده الثلاثة وغيرهم، ربط الكاتب بين المحتلّ والبعوض والزّواحف.. وأشار إلى خنق الجنود لهواء القدس..وجّه الكاتب بعض الرّسائل منها: أن لا نثق بأصحاب العمائم .. وأن لا نصدّق المدافع الخاوية .. وأن لا ننتظر من الذّئاب رحمة.. وأن لا نسمح للزّواحف أن تسرق حظائرنا ص٦٣
أشار الكاتب الى فتاة أحلامه بأنّها القدس ص٦٩، وأسهب في نقل بعض المشاهد والأماكن المقدسيّة ،حبيبة الكاتب المتخيّلة والتي كانت تراسله، وكان ينتظر وصولها حبيبة متخيلة، قرّر في النّهاية أن لا يبحث عنها، وأنّ لقاءه بها لن يكون إلا في القدس.
وقد كرّر أنّ الفتاة التي يريدها ربّما تكون هي الأحلام أو ربّما هي أضغاث أحلام.
من خلال قراءتي للكتاب أحسست في كثير من الأحيان أنّ الكاتب يلوح لنا باتّجاهات كثيرة متداخلة، لها مخرج واحد (حلم لا يستطيع تحقيقه) وتلك الأفكار لا ندركها بسرعة، لذا تختلط الأشياء علينا، ولقد أشار الكاتب إلى فوضويّة أفكاره ص٥١و ص٥٢
نراه تارة يحدّثنا عن المدن، وتارة يحاكي الألوان، وتارة يتساءل ويجيب في آن واحد، وفي كثير من الأحيان لا اجابات شافية.
وهنا أعود لأسأل نفسي هل حقا قرأت رواية كما اعتدنا أن نقرأها..الأحداث السّاخنة والتأزّم والعقدة التي تبلغ الذّروة حتى تحلّ، أو تترك للقرّاء لايجاد حلّ لها… أبطالها حقيقيون يتحركون ويقولون ويحلمون؟ أم تدفعنا الحقائق المؤلمة في حياتنا إلى رسم طرق أخرى لكتابة
الرواية؟
وقالت رائدة أبو صويّ:
رواية بحثت عنها كثيرا،كنت أبحث في الرّوايات عن رواية أجد فيها ذاتي ….وجدت ذاتي في رواية “فانتازيا” ،الأسلوب الفلسفي الممتع، مخاطبة النّفس وطرح حال الوطن العربيّ بعد الرّبيع العربيّ بأسلوب وحبكة جديدة .
ما أحوجنا هذه الأيام الى هذا النوع من الرّوايات، مللنا من الرّوايات التّي تكرّر نفسها، العناوين فقط تتغيّر .رواية فانتازيا تعتبر انطلاقة له وملكة متوجة على اصداراته السّابقة .
قرأت رواية فانتازيا وتهت بين طيّاتها .
فانتازيا (أدب الخيال) الكاتب كان موفقا في اختيار العنوان .الفانتازيا نوع أدبي له شعبيّة ومعناه الشّيء الخرافي الخيالي الغاية في الرّوعة (Fantastic ) أي أنّها من نسج خيال الكاتب ومستحيل أن تحدث في الحقيقة .
استطاع الأديب سمير الجندي الجندي أن يوظف خبرته الطويله والثّراء الفكريّ والثّقافة العالية لديه، بأن يصيغ لنا رواية جوهرة في الجودة.غنيّة بالسّحر الجذّاب الذي يجذب القاريء الى ما بين السّطور .استطاع أن يجعل من القراء أبطالا في روايته .وقفت طويلا أمام الصور التي رسمها بطريقة بارعة لأزقّة القدس .
الحكمة موجودة في الرّواية عندما كتب الكاتب “المرآة حبيسة الغياب وقرار تحريرها لا يكون إلا بأمر من ظلك أنت يا سيدي.”
بطل الرواية واسلوب الحوار الدافيء والقيم والصريح مع نفسه أثار اعجابي .وخصوصا عندما صارحته نفسه بحقيقته وقالت له : أنت بوجهين وربما أكثر من وجهين .ربما ثلاثة وجوه أو أربعة أو سبعة لكن بالتأكيد ليس لك وجه واحد .
انتقل بنا الكاتب ع بساط الريح واستمتعنا كثيرا ونحن نبحث معه عن حبيبته الرمزية والتي على الغالب ترمز الى أحلامه الضائعة في العيش في وطن حر .
توظيف حكاية الشيخ معروف هي فانتازيا قوية كم استمعنا في طفولتنا لتلك الحكايات الخيالية مررنا عنها مرور الكرام .
استطاع الكاتب أن يوظفها بطريقة جذابة ومزج بين الحقيقة والخيال .رحلة مع النفس استمتعنا بها كثيرا في زمن الضياع الداخلي والخارجي .
حلم الربيع العربي الذي بحث عنه كاتبنا في القدس وبغداد وتونس والقاهرة وعمان .
رحلة بين الواقع والخيال بحثا عن الحبيبة والحبيبة هي رمز للوطن الضائع .
وكتبت هدى خوجا:
غموض وخيال وخروج عن المألوف، مع عطر الكلمات تطلّ علينا هذه الرّواية،  رسم الكاتب لوحة فسيفسائيّة مبعثرة على خريطة  التاريخ كبساط ريح مع طيف بألوان متناثرة، طيف أم حقيقة أم لغز أم طبيعة أم ظلّ، فلسفة وحضارة وثقافة بين طيّات الرّواية، مع وصف لأماكن ومدن في أقطار بلاد عربيّة، انطلق منها الكاتب؛ ليبحث عن حقيقة الطّيف، ومنها القرية المجهولة والقاهرة وتونس وبغداد وعمّان،  حيث انطلق الكاتب بوصف المدن بساعات الفجر الأولى وحلكة الظلام وزحمة المدينة، وأيّام الجمعة المباركة، مع ازدحام  الشوارع والضجيج والتّلوث، باحثا عن ذلك الحلم أو الطّيف.
تغلغلت في الرّواية قيم وحكم وألغاز متعدّدة منها الوفاء والرّجوع إلى الأخلاق والطيبة والحقيقة، لغز البعوض والثّعبان وأوجه الرّبط بين فكّ الألغاز للوصول إلى تحقيق الحلم العربيّ، رحلة الكاتب تميّزت بالسّوداوية كحلم أسود، تشاؤم وحزن بالعبارات ممزوجة بالأسود والنّيلي والبنفسجي،يأس، موت، ألم، معاناة، وخوف كمثال في ص88،” الرّبيع غاب في نيسان وأخذ معه كلّ الفصول فلم يبق إلاّ الليل البهيم” دلالة على غياب الحلم العربيّ.
وفي النّهاية لا يتحقق الحلم وتوحيد الوطن العربي إلا بالقدس، فيشير الكاتب بكلماته  “القدس طيفي وهاجسي ومعشوقتي”، فالقدس اختصار لكلّ الأوقات والمسافات نقطة البداية والنّهاية.
وتحدثّ عن الرّواية عدد من الحضور منهم: ابراهيم جوهر، محمد عمر يوسف القراعين، نزهة أبو غوش، وعرين عبدالله.

رواية “فانتازيا” في ندوة اليوم السّابعالقدس: 7-1-2016 ناقشت ندوة اليوم السّابع الثقافيّة في المسرح الوطني الفلسطينيّ في القدس  رواية “فانتازيا” للأديب المقدسيّ سمير الجندي، الصّادرة قبل أيّام عن دار الجندي للنّشر والتّوزيع في القدس، وتقع الرّواية التي يحمل غلافها الأوّل لوحة للفنّان التّشكيلي العراقيّ فاخر محمد، في 152 صفحة من الحجم المتوسّط. قال جميل السلحوت:جاء في موسوعة ويكيبيديا:” الفنتازيا هي تناول الواقع الحياتيّ من رؤية غير مألوفة، ما يعني أن هنالك شكّاً في عالم الرّواية إن كان ينتمي إلى الواقع أم يرفضه، وفي نفس الوقت هو معالجة ابداعيّة خارجة عن المألوف للواقع المعاش”.وفي معجم المعاني الجامع” فانتازيا(الثّقافة والفنون) خليط من أحداث دراميّة تجمع بين الفكاهة والتراجيديا”.ويبدو أنّ الكاتب سمير الجندي أراد تجريب الفانتازيا في كتابته، فجاءنا بهذا النّصّ الرّوائيّ، خصوصا وأنّه جاب عواصم الأقطار العربيّة من خلال مشاركة “دار الجندي للنّشر والتّوزيع في القدس” التي يملكها الكاتب قد شاركت في “معارض الكتاب الدّولي” في هذه العواصم، وسمير الجندي المولود في القدس، ويعيش فيها، زار العواصم العربيّة وهو يحمل أفكارا ورديّة عمّا عرف بالرّبيع العربيّ، الذي انطلق من تونس عندما أحرق الشاب محمّد بوعزيزي نفسه في 17 كانون أوّل-ديسمبر- 2010 احتجاجا على رفض الشّرطة التّونسيّة قبول شكواه ضدّ شرطيّة تونسية صفعته على وجهه، وانتقلت عدواها إلى مصر، ليبيا، اليمن، سوريا وغيرها. وبما أنّ الشّعوب العربيّة بنت آمالا كبيرة في تغيير أنظمة الاستبداد التي دمّرت العالم العربيّ وأخرجته من التّاريخ، إلا أنّها صدمت بأنّ “هذا الرّبيع” لم يكن سوى خريف أحرق الأخضر واليابس، وزاد العالم العربيّ خرابا على خراب، لكنّ صدمة سمير الجندي-كما أبناء شعبه الفلسطينيّ كانت كبيرة، وبحجم الأمنيات الكبيرة التي بنوها على “هذا الرّبيع” وحلموا من خلالها أن يتمّ تحريرهم وخلاصهم من الاحتلال.  من هنا يبدو لي دافع سمير الجندي لكتابة روايته”فانتازيا”، أو على رأي مثلنا الشّعبيّ”هيك مضبطة بدها هيك ختم”، أيّ أنّ التّطوّر اللامعقول لما يسمّى بالرّبيع العربيّ، أملى وجود أحداث غير معقولة في رواية “فانتازيا”. لكن سمير الجنديّ خلط الواقع بالخيال، فتجواله في مدينته القدس، وحديثه عن حاراتها، بعض مقدّساتها، أسواقها، بعض حاراتها، أزقّتها وشوارعها أمر واقعيّ، وكأنّي به يُذكّر العربان بالمدينة العظيمة التي أضاعوها، لكنّ “ربيعهم” أخطأ البوصلة. وانسجاما مع فكرة الكاتب الجنديّ بعبثيّة الواقع العربيّ، التي تفوق الخيال، فقد التفّ على المألوف في بناء الرّواية العربيّة، وخاض التّجريب في سعيه للحديث عن المرحلة، فتلاعب بجماليّات اللغة وبالخيال الخصب؛ ليأتينا بهذا العمل الأدبيّ، والقارئ لاصدارات الجندي السّابقة سيلاحظ كيف طوّر الكاتب لغته، وكيف كان جريئا في الخروج على المألوف في فنّ الرّواية. وأعتقد أنّه جاءنا بجديد لم نعتده من قبل. على أمل أن نرى رأي النّقاد والأكّاديميّين بهذا الجديد.وتحدّث عزيز العصا فقال:سمير الجندي؛ فلسطيني-مقدسي، من قرية دير ياسين الفلسطينية المحتلة في العام 1948،  التي تعرّض أهلها لأسوأ وأبشع مذبحة عرفها التّاريخ المعاصر، على أيدي قادة الحركة الصهيونية الذين أصبحوا قادة الدولة العبريّة فيما بعد. تجرّعت أسرته مرارة النّكبة، فاحتضنتها القدس، وآوتها، ووفرت لها الدفء من أنفاسها الحارة، وهي تحتضن أبناءها وتذود عنهم في مواجهة المغتصبين من كلّ الأجناس والألوان. وأما العمل الأدبي الذي نحن بصدده للمقدسيّ “سمير الجندي” فهو روايته “فانتازيا” في طبعتها الأولى، وهي تبدأ بغلاف يحمل لوحة للفنان العراقي “فاخر محمد”، ويحمل غلافها الأخير “وجع الكاتب من الانتظار المتعاقب، ويفتت نفسه البعد عن أميرة الهوى”. وما بين الغلافين نصّ، يُقدّم له النّاقد العراقيّ “خضير الزيدي”، ويتوزّع على (155) صفحة من القطع المتوسّط، يحتضن (12) محطة لقطار سردي جاء بنمط مختلف عمن سواه من النّصوص الرّوائية؛ فبقدر ما هو متعلق بالمحبوبة-القدس المكبلة، التي تعاني فحيح الأفاعي وتنهشها الكلاب المسعورة، فإنّه يصب جام غضبه على المتخاذلين والمتقاعسين، ويعلن براءته التّامة، من كلّ من لا يقبض على قدسه كالقابض على الجمر.منذ اللحظة الأولى لاستلامي الرّواية، أخذت أدور في فلك العنوان، لعلي أتنبّأ بالدّلالات التي يشير إليها. وعندما توقفت، بشئ من التّعمق، وجدت أن  “الفانتازيا” جنس أدبيّ يعتمد الأساطير، والخوراق وما وراء الطبيعة أساسًا في الحبكة الرّوائيّة، وأنّ الأحداث تدور في فضاءات وهميّة، أو في كواكب يسود فيها السّحر وقوى الآلهة وأنصاف الآلهة. وعند مقارنتها مع كلّ من الخيال العلميّ والرّعب، نجدها تمتاز عنهما بخلوّها من العلم والموت النهائي، علمًا بأنّ الأجناس الأدبيّة الثّلاثة متفرعة من الخيال التّأمّليّ.
كما أن مراجعة بحثيّة سريعة، تفضي إلى أنّ هناك أعمالًا كثيرة لكتّاب وفنانين، وسينمائيين، وموسيقيين، من الأساطير القديمة وحتى تاريخه، ذات الشّعبية الواسعة لدى الجمهور، لما فيها من جاذبية قوية؛ بسبب قدرتها على أخذ المشاهدين في رحلة جميلة في فضاء الخيال، في أجواء من التّشويق والإثارة القائمين على الغموض. ومن أبرز ما يمكن الإشارة إليه في هذا المجال “حكايات ألف ليلة وليلة”.تقوم رواية “فانتازيا”، قيد النّقاش، على نصّ يتراوح بين الخيال الفانتازي، وما فيه من ظلمة وانعزال وانعزاليّة، وبين الواقع الملموس على المستوى الزمكانيّ الذي تدور أحداثه في القدس وبغداد وتونس والقاهرة وعمّان. يطلُ علينا “سمير الجندي”، منذ بدايات روايته، وهو يحتار بين غوصه في الحلم، أو خروجه من حلم لم يعش فيه أصلًا، ليبحث عنه في الأزقّة وفي الصور وفي العقول الهرمة، أو بين المطارات (ص: 11-12)، ومما بقوله: “أحمل في ذاتي أملًا بالعيش وحدي مع نفسي، في بقعة منعزلة من العالم، في ركن قصيّ؛ فأنا في غربة اجتماعية مع قريتي” (ص: 9، 29)، ثم “يختفي عالمه في حلم شرّير” “ص: 11”. لقد حقق “الجندي” حالة من التّزاوج بين الخيال الذي جعله يتحرّر من قيود النّصّ والرّتابة والتّراتبيّة التي تفرض على الكاتب، في أغلب الأحيان، القيافة التي تحمل في طياتها شيئًا من الضّلالة والتّستر على عيوب المجتمع وآفاته. وصمّم شخصيّات روايته، من الرّاوي-البطل، وهو الكاتب نفسه، والمحبوبة-المدينة أو المدينة-المحبوبة، التي مارس معها “فانتازيا”، منحته حرية التعامل معها ومحاورتها وتلقي الرسائل المختلفة منها، وأسند ذلك بشخصيّات ثانويّة “هشّة” تمّ توظيفها في خدمة النّصّ في مواضع مختلفة، دون أن تبقى على طول الخيط الرّوائيّ. أمّا بشأن معمار الرّواية، فإنّها تتّكئ على بنية مكانيّة تنطلق من القدس، وتمتدّ حتّى تصل بغداد، تونس، القاهرة وعمان، وأمّا البنية الزّمانية فأخالها تعالج ما يدور في زماننا الحاليّ، من خلال التّكنولوجيا المعاصرة التي يستخدمها في التّواصل مع محبوبته، عبر “الرّسائل النّصّيّة على جهازه النّقّال”، ومن خلال وصفه للثّورات التي شهدتها بعض العواصم العربيّة بعد العام 2011.
حول بنائية الرّواية، فإنني أتفق مع ما يقوله النّاقد “الزّيدي”، في أن ما يهمنا فيها: قيمها المعرفيّة، واختلافها من خلال تحديد بلاغتها ورصدها لحقل السرديّات، والمستوى الجماليّ، وصياغة لها القدرة على تضمين أحداث تتداخل فيها الغيبيّات والشّكوك والواقعيّة في تواشح غريب علينا. وأرى ضرورة التّوقّف عند الأبعاد المعرفيّة والمعلوماتيّة التي أراد “سمير الجندي” تمريرها بين ثنايا روايته هذه، وهي كثيرة ومتعدّدة، منها: أوّلًا: سمات المجتمع:   لم يختر بطل رواية “فانتازيا” الانزواء مع كتبه والتّواصل مع محبوبته، إلا بعد أن اكتشف أنّ “مجتمعنا يكاد يخلو من القيم الإنسانيّة التي تكوّن ذائقة أيّ مجتمع على هذه الأرض”، ثمّ يسترسل في وصف الرذجال الذين يسيرون بلا هدف، ويحيون كالبهائم، والنّساء بائسات متهتّكات لا أحلام لهنّ ولا خيال (ص: 10)، وفي ذلك تعميم سوداويّ لرجل مقدسيّ يجب أن يتسلّح بالأمل في مواجهة التّحديات، وأن إدراك الواقع التّعيس لا يعني الهروب ولا يباركه، لكنّه لو برّر العزلة برغبة في التّصالح مع الذّات أو ترتيب الأفكار أو غير ذلك لكان أجمل بكثير.ثانيًا: أشكال الاحتلال وأثره على المجتمع:أشار “سمير الجندي” إلى الاحتلال بأشكال مختلفة، منها، تؤكد بشاعته، وتبيّن دوره في إيذاء الشّعب الفلسطينيّ، منها  “الصياد الغريب” القادم من وراء البحر، الذي صار هو “الرّجل الوحيد في قريتنا، يصيد وحده، ويزرع الأرض ويحصدها، ويزرع وحده، وذكور قريتنا استمرأوا الكسل وطابت لهم المهانة” “ص: 32”  –     ثعبان استيقظ من سُباته الشّتوي، بعد أن بّدّل جلده، وحضن بيضه، وبلسانه داعب كلّ شئ حتّى خرج خروجًا آمنًا “ص: 35-36”-       الاحتلال يشبه البعوض، فالبعوض يقتل الملايين ويُغير على قلب الإنسان أو جزءًا من نظامه، لينقل له أمراض خطيرة تؤدّي إلى هلاكه، والاحتلال يقوم بهذا الدّور في القدس وفي فلسطين جميعها “ص: 50”
– في إشارة إلى تململ التّاريخ والحضارة في القدس من وطأة الاحتلال وصلفه، وفي وصفه لما يحدثه من صخب وجلبة وأذى يمتد إلى أعماق القدس، بل أعماق أعماقها، يشير إلى أنّ “الكلاب تنبح طيلة الليل، والشيخ الهندي لا يعرف النوم” “ص: 54” ونرى في ذلك تعزيزا لحالة الخنوع والاستسلام للقادم من خلف البحار، دون مواجهته والحدّ من أثره. كما أنّ الشّيخ الهندي اكتفى بالانزعاج من نباح الكلاب دون أن يوجّه الأجيال إلى كيفية مواجهة هذا النّباح والتّخلص منه. ثالثًا: وصف جميل للقدس: ابتدع “سمير الجندي” في روايته هذه طريقة للتّجول في القدس، وهو يصف آثارها ومكوناتها الحضاريّة، وحاراتها وأبوابها وأزقتها ومؤسساتها التّربويّة، ومقاهيها التّاريخية وأفرانها وصناعاتها الحرفيّة الجميلة، وسورها الجميل، وأناسها الطيّبين؛ رجالًا ونساءً. إلا أنّه لم ينس تذكير القارئ بأنّ هذا كله يخضح لاحتلال بغيض، فها هي القدس تظهر فتاة جميلة تشكو من وحش “يأسرها ويطبق على أنفاسها” (ص: 45). ثم يتساءل: أين هو الفارس الذي سيأتي على صهوة موجة؟ (ص: 59)، وفي ذلك تكرار للسّؤال التّقليدي الذي يتكرر من أكثر من سبعين عامًا.رابعًا: يصف عواصم الأمّة:بعد تلك الرّسالة القادمة من القدس-المحبوبة التي تصف واقع الأمّة بعد تآمر العالم عليها، يقوم البطل بجولة في عواصم الأمّة، متمثلة في: بغداد، وتونس والقاهرة وعمّان. فيصف جماليّات تلك العواصم، وما تزخر به من حضارة وعمران، وحركة دؤوبة من قاطنيها البسطاء الطيّبين، وأسواقها، وأنهارها وبحارها التي تحتضنها كما تحتضن الأمّ وليدها، وما في ملامحها من بؤس وأحزان. وكان في كل مرّة يبحث عن حبيبته في تلك العواصم، فلم يجدها. كما سجّل ما وجده من تعاطف مع فلسطين وأهلها، بخاصة الحروب التي شنّها الاحتلال على قطاع غزّة، وما خلفته من مآسٍ على أبناء هناك (ص: 118)، ولعلّ ذروة التّعاطف تتمثّل في إيمان العرب بأنّ “الصهيونيّ قاتل بامتياز” (ص: 120)، في حين أنّ هناك من يدعو إلى اعتبار وجود الاحتلال أمرا طبيعيّا في المنطقة. وفي وداعه لتونس يقول: “أنا وأنت ننحدر من نصّ واحد منسيّ (…) غدًا أجمل أيامنا، وربّما اليوم، وبالتّأكيد ليس الأمس” (ص: 125). ويتوقف، مليًّا، عند التّشابه بين القاهرة والقدس؛ الأبنية تتشابه، والوجوه تتشابه، والأدعية هي هي (ص: 131). ثم يشير إلى الثّورة المصريّة على نظام “حسني مبارك”، ثم تبدُّل الأنظمة بأحزاب لم تطبّق ما ترفعه من شعارات “ص: 136-139.” بإشارة من المحبوبة-القدس، يتّجه إلى عمان، بصحبة ماجد؛ إبن يافا، فيبحران في البحر الأحمر، في رحلة مع الثّيران، حيث “الطّريق إلى عمّان وعرة المسالك” (ص: 146)، ويصف الصّناعة في عمّان، التي يديرها الهنود والبنغاليّون، كمن يربّي غيمة حتى تكبر وتتّسع، ولكنّها تمطر في أرض أخرى (ص: 147). تختتم الرّحلة ببقاء “ماجد” في عمّان بعيدا عن يافا، ويعود البطل إلى قريته المتهالكة، لكي يلتقي محبوبته-القدس في القدس ولا مكان غير القدس. خلال رحلته تلك، يتلقى العديد من الرسائل “الفانتازية” التي تبثّها المحبوبة التي يتابعه طيفها كظله، منها: لو لم تكن حبيبي، فماذا تودّ أن تكون؟ فيقول لها: “أكون فيلًا! (ص: 82)، و”النّاس لا يموتون.. نعم.. لا يموتون، ولكن يتحوّل شكلهم إلى صور أخرى تعرفها الحجارة والمآذن، والوجدان النّقيّ المتحفّز للشّهادة” “ص: 91-92.” خلاصة القول: هذه هي رواية “فانتازيا” التي تزواجت فيها الحقيقة مع الخيال، لتنجبا بنية روائيّة ذات أبعاد معرفيّة صيغت بمنهجيّة سرد جميلة. فكانت رسائل المحبوبة-القدس، ذات الجوهر الفلسفيّ الذي تمّ في توظيف ما يجري على أرضها من جور ومن ظلم صارخ، يشيعه كيان طفيليّ قدم من خلف البحار، فصادر الصّنّارة والتهم أسماك البحر، واستولى على المعول والمحراث، فصار الزّارع الوحيد، ونهب الأرض فصار الوحيد الذي يسكنها ويبني عليها ويعلي البنيان، ويحرم الأصلاني من كلّ خيرات البلد التي ورثها عن الآباء والأجداد، ويلقي به في مهاوي اليأس والإحباط.  أمّا بشأن العنوان والمحتوى، فنجد أن “سمير الجندي” أثار موضوعًا في غاية الأهميّة في حياة القارئ، بل في حياة الفرد العاديّ، وهو “الفانتازيا” وما لها من ضرورة في حياة الشّعوب. فقد أثبت العلماء، مؤخرًا، أن حوالى (2.5%) من البشر لا يملكون أيّ تصوّر أو خيال، حتى أنّه ليس باستطاعتهم تصوّر شكل النّاس الآخرين والأشياء الأخرى. إذ بيّنت نتائج بحثيّة أنّه عند الطلب منهم تصوّر وجه الأمّ أو أيّ شيء ساطع، كانت مناطق الدّماغ المسؤولة عن ذلك خاملة ولم تبد النّشاط المطلوب، وقد أعزوه إلى أساس فيسيولوجيّ عصبيّ، وقد يكون ناجمًا عن عاهة ولاديّة أو مكتسبة. لذلك الدّراسات اللاحقة في هذا المجال ستلقي الضّوء على هذه المشكلة وهل سيكون بالإمكان علاجها أم لا؟
وكتب عبدالله دعيس:فانتازيا البحث عن الحقيقة”جلست على طرف مقعد حجريّ في ظلّ زيتونة روميّة شاخت منذ عقود، بيدي كتاب كنديد “التفاؤل” وبقربي صحيفة قديمة متروكة بغير قصد، فتحتها على صفحة الوفيات، فخيّل إليّ أنّ نصف أهل القرية قد فارقوا الحياة.”يكفي أن نقرأ هذا النّصّ من رواية فنتازيا للكاتب سمير الجندي  (ص 20) حتّى ندرك أنّنا سنحلّق في رحلة فلسفيّة، طابعها التّشاؤم وانعدام الأمل، في خضمّ رواية فلسفيّة بامتياز، وشخصيّة ترتحل تبحث عن الحقيقة التي “لها وجوه كثيرة لكنّها مغيّبة.”  (ص 106). يحذو الكاتب حذو فولتير في روايته العالميّة كنديد، التي يرتحل بطلها في أرجاء الدّنيا بصحبة معلّمه المتفائل الذي كان يؤمن أنّ الأمور ستنتهي نهاية سعيدة دائما، ليكتشف أن العالم مليء بالنفاق والكذب والشّر، فتزداد خيبة أمله، ويصل إلى نتيجة أنّ الحياة السّعيدة لا تكون إلا حينما “ينصرف الإنسان إلى زراعة حديقته الخاصّة.”الشخصيّة الرئيسيّة في رواية فنتازيا هي شخصيّة الرّاوي، وهو تائه حائر حالم، يبدو أنّه مرّ بتجارب مريرة وخيبة أمل؛ فيحاول أن ينزوي في جوف الليل ويبتعد عن الحقيقة المرّة، ويشعر بالغضب والسّخط والاحباط. لكنّ نفسه، التي تظهر في الرّواية كأنّها شخصيّة أنثى مستقلّة، تقوده في رحلة بحث عن الحقيقة المفقودة، وتفسّر له ما يبهم عليه من الأمور، فينقاد خلفها، ليدرك في النّهاية أن هذه الحقيقة، والتي مثّلها الكاتب بشخصيّة حبيبته التي تبعث له الرّسائل الغامضة وتخبره أنّه سيجدها في إحدى العواصم العربيّة، غائبة ليس لها أثر في أيّ مكان، فيعود من حيث بدأ (إلى حديقته الخاصّة) لينتظر مرّة أخرى، تاركا فسحة من الأمل وإن كانت باهتة.تبدأ رحلة الرّاوي من قريته، والتي ترك الكاتب اسمها ومكان وجودها مبهما لأنّه يرمز بها إلى كلّ البلدان العربيّة، والتي ترزح تحت ظلّ الظلم والطّغيان والاستبداد، فيصف أشجار القرية وقد شاخت، وطبيعتها وقد تغيّرت؛ لأنّ أهلها استسلموا للذّلّ والاحتلال، فمجتمع القرية ظاهره البراءة، لكنّه يرزح تحت أرث ضخم من المثالب الاجتماعيّة والمظالم. فهذه القرية التي مات نصف سكّانها؛ لأنهم جمدوا وتنازلوا عن حقّهم في الحرّيّة، أمّا النّصف الآخر فهم نيام، يصفهم الكاتب بأنّهم حيوانات ناطقة؛ تعبيرا عن سخطه. وهذه القرية احتلّها الغرباء وداسوها ببساطيرهم، وأصبحت سوقها كاسدة، وساسها ذاك الصّياد قبيح الوجه. فالقرية التي ابتدعها الكاتب تمثّل بحقّ كل البلدان العربيّة التي استمرأت الظّلم والهوان، وعندما بدأت تتململ مشرئبّة نحو الحريّة المنشودة، داسها الظّلمة والطّغاة ببساطيرهم العنيدة.يقودنا الكاتب في هذه الرّواية في رحلة مضنية في خلجات نفسه، بأسلوب فلسفيّ لا يخلو من التّعقيد، يعبّر عن حالة التّيه الّتي يمرّ بها الإنسان العربيّ، خاصّة في هذه الأيّام حيث أصبح فهم حقيقة الأمور صعب للغاية، وبلغة مجنونة بقدر جنون الأوضاع في بلادنا. ويطرح الكاتب في روايته الكثير من القضايا الفلسفيّة التي لا يجد لها جوابا، منها: هل هناك حقيقة خالصة أم أنّ الحقيقة لها وجوه مختلفة وتفسيرات متباينة؟ وما هو سبب الشّر في هذا العالم؟ ولماذا لا يسوده الخير؟ وهل يتحرّك النّاس من أجل مصالحهم فقط، أم أنّ الخير موجود في النّاس بغضّ النّظر عن دينهم وأصلهم؟ وهل هناك ضوء في نهاية النّفق؟ وهل نحن نخترق عاصفة رمليّة عاتية لنصل في النّهاية إلى ما نصبو إليه، أم أنّنا سنبقى حائرين ضائعين؟ولا يبدو الرّاوي مؤمنا بوعي الشّعوب العربيّة وقدرتها على الاختيار، ويغضّ الطّرف عن العرق الحيّ فيها، وعن أصالتها وتشبّثها بدينها وعقيدتها، والذي هو القلب الذي ما زال ينبض ببعض حياة، والرّوح التي تدبّ في أوصالها. يقول إنّ الغرب تقاطر على هذه الأمّة ليجهض سعيها نحو الحريّة، ونراه يقف في صفّ واحد مع هذا العدوّ! فنجده يكيل التّهم إلى الإسلاميّين الذين حملوا على عاتقهم شعلة الحريّة والمقاومة على مدى عقود طويلة، وكانوا هم الرّوح التي أبقت على بعض حياة في هذا الجسد المنهك، وما زالوا يدفعون ثمن حبّهم لهذا الوطن ويضحّون من أجله، فيقول في صفحة 25 “ولماذا أطاح الإسلاميّون بالعدالة في الشّام ومصر وبلاد ما بين النّهرين؟” وأتساءل، متى كانت تلك العدالة التي أطاح بها الإسلاميّون؟  إنّ مَن جعل الإسلام نبراسا يهتدي به، وفهمه بعيدا عن أنظمة الحكم الفاسدة في العالم العربيّ، هم الذين يحملون رسالة الحريّة، ويتصدّرون المقاومة في كل مكان من وطننا العربيّ، بينما كثير من الذين يصفون أنفسهم بالعلمانيين كانوا وما زالوا الوقود الذي يسيّر الحكومات العربيّة المتخاذلة الخائنة، وأصبحوا يؤمنون بدين جديد أهمّ أركانه إقصاء الآخرين، وكفروا بالدّيمقراطيّة التي طالما تغنّوا بها، وطعنوها بخاصرتها لمّا عبّرت عن ضمير الأمّة الحيّ وأتت بغيرهم إلى سدّة الحكم. فكانوا هؤلاء بحقّ هم المسمار الذي وضع في نعش الرّبيع العربيّ، الذي لم يأتِ كما يشتهون. وإن كانت رحلة الرّاوي في العواصم العربيّة غير مجدية، فهو لم يجد الحقيقة الضّائعة ولا الحريّة والعدالة المغيّبة، لكنّه وجد التّاريخ والأصالة، فدار في حواري القدس واصفا إيّاها متمثّلا قدسيّتها، وعرج إلى بغداد وتونس والقاهرة وأعطانا صورة تدلّ على تاريخ موغل في الحضارة، يُبقي بعض الضوء يشتعل بفتيل ذابل في كوّة الأمل.وقال نمر القدومي:رواية ” فانتازيا ” .. ورحلة الوجودإبداع خياليّ خارج عن المألوف، يتناول الواقع الحياتيّ من رؤية مُغايرة وخارقة للطّبيعة، خيال تأمّليّ مُعرّض للرّفض أو القبول في عالم الرّواية. الكاتب المقدسيّ “سمير الجندي” في روايته الجديدة “فانتازيا” يُقدّم لنا كالفنّان السّرياليّ لوحة غاية بالتّعقيد، إلاّ أنَّ تعقيداتها من ضمن البراعة والفنّ المكتوب، نقف أمامها وقتا طويلا؛ لنتبيّن مع كلِّ دقيقة نقفها جانبا من جوانب هذا الإبداع .الشّخصيّة الرّئيسة في هذه الرّواية هو الكاتب نفسه، فشخصيّته تتعدّد، تتضاعف، تتحوّل وتمتزج مع المادّة والعنصر. مصدر إلهامه يكمن في الخيال العاطفيّ الإنفعاليّ، فالشّخصيّات المُبتكرة من قِبل الكاتب هي إبتكارات وجدانيّة خالصة.وبعد أن استاء من بيئته ومن البشريّة، واستاء كذلك من مجتمع يخلو من القيم الإنسانيّة، بدأ بطل روايتنا بالبحث عن حلم ضائع .. عن حريّة مفقودة .. عن حقيقة مُغيّبة في متاهات الزّمان والمكان حتى يكمل حياته المبتورة. صراعاته في الحياة كثيرة، تارّة مع قلبه وما يهوى، وتارة أخرى مع نفسه المتمرّدة،  والّتي اختارها وتوحّد معها، لتكون رفيقة دربه وملازِمته وحارسه الأمين. ضالّته المعشوقة هذه  تقفز به قفزات روحانيّة وجسديّة كبيرة، من خلال رسائل هاتفيّة على سبيل المجاز، إختلقها الكاتب لتكون ذلك المُحرّك الذي يُشغّل قلبه وفكره للبحث والتأمّل والإكتشاف، فكان من الصعب عليه أن يعيش في ضياع وتردد من الحياة، والسّير دون هدف واضح المعالم.بدأ رحلته من مدينته “القدس” وبلدتها القديمة وحواريها بكلمات غزل وحُبّ، أعطى لكلّ ذي حقّ حقّه، واستذكر الأسماء، الأحداث، قصص الطّفولة والأصدقاء. لم يتوان أيضا عن كسر معتقداته المثاليّة ليُعانق السّحاب، يتشبث في جذور الأمنيات ويضيء شمعته عند “الشّيخ حسن” ليخنع بذلك إلى خرافات القوم دون وعي، لم يجد مُبتغاته صاحبة الرّسائل، فقصد “بغداد” باحثا عنها، تلك العاصمة الثريّة بثقافاتها وتاريخها، ليجدها خرابا ودمارا، فالرّبيع هنا جاء ولم يجد مَن يستقبله، فقفَل عائدا إلى غير رجعة وقفَل معه بطلنا التّائه، ليحطّ على أرض تونس الخضراء أملاً منه أن يلتقي بفقيدته، وقف مفكّرا وهام مُحلّقا؛ ليرى الإستعمار يتجدّد دون توقّف، يقتحمون البلاد بأناقة ولباقة. أمّا شرفاء البلاد العربيّة فلم يكن لديهم خطّة موازية لصدّ الإستعمار وتوحيد أوطانهم. عاش بطلنا في دوّامة فِكريّة أوصلته إلى طريق مسدود؟لم يستثّنِ العاصمة “القاهرة” من البحث، عَبَرَها ونام في شوارعها مُستظلّا بدبّابة، ليعيش حالة الغليان والفوضى، ويتأسّف على ما آلت إليه أمّ الدنيا، قرّر الكاتب الرّجوع إلى مسقط رأسه بعد أن ضاقت به مآسي الوطن العربي، عابرا الأردنّ آخر محطّة له. عمّان محطّة العابرين من حلم إلى حلم، مدينة المخيّمات، وطن المُعذّبين ورصيف الإنتظار؟يضع الرّاوي نقاطه على الحروف ويستسلم لإرادة الواقع، بأنّ ضالّته المنشودة لن يجدها إلاّ حيث يرقد ويستريح جسده على تراب الوطن. الحقيقة والحريّة منبعهما قريته المتهالكة أو مدينته المغتصبة، وأنَّ الغُربة هي عذاب مستمر بلا نهاية .أديبنا الرّاوي أعطى وميضا مؤلما من بين سطوره، حاله حال كل أبناء شعبه، هذا الشّعب المناضل مليء بشعور الأمل والثقة بإنتمائه إلى الأمّة العربيّة، يتمنّون عند حَزَنِهم، أنَّ الأمّة بالمثل تحزن معهم، وأنّها للأسف لا تفرح لفرحهم، ونموت كالأيتام مشرّدين في ديارنا وفي زِقاق مخيّماتنا وعلى رمال شواطئنا.إستخدم الكاتب “الجندي” في روايته أسلوب السّرد الرّوائي، كما اتّسمت فحواها بغزارة الكلمات التي تحمل معاني عميقة، وأتحف عابري الصّفحات ببلاغة النّصوص الأدبيّة القويّة. أمّا إختلاقه لكيان أنثويّ غائب عن الصّورة، فهذا يوقد لدى القارئ نار الشوّق واللّهفة للوصول إليها، والتّعرف بها سويّا مع عاشق الرّسائل، في طريقة ذكيّة لإستمرار التّشويق وكعنصر أساسيّ للحبكة الرّوائيّة.في هذه الرّواية الإجتماعيّة السّياسيّة المصقولة بقالب جديد، يهيّأ للقارئ أنّه جاب الوطن العربيّ، إلاّ أنّه في الحقيقة لم يغادر الرّاوي سريره داخل  بيته في قريته التي لوّثتها أقدام الصّيادين الغزاة .هل أنتِ الحقيقة؟ أم أنّكِ تشبهينها؟ أنتِ مثلها تماما بوجهين أو أكثر، لأنَّ الحقيقة لها وجوه كثيرة، لكنّها مُغيّبة دوما … أسئلة ستبقى تدقّ جدران القلب والفكر لكلِّ فرد منّا يبحث عن الرّاحة الأبديّة والحياة الجميلة السّرمديّة.وقالت نزهة الرملاوي:يا لهذه الفانتازيا التي أخذتني في اتجاهات بعيدة وغريبة، غير مألوفة.أوّلا: عنوان الرّواية ( فانتازيا ) هناك توافق تامّ بين العنوان ومضمون الكتاب، فمن المعروف أنّ الفانتازيا لفظ غربي أطلق على الأحداث التي تكونت من الخيالات والتأمّلات مع استحالة تحقيقها بالرّغم من منطقيتها.. فهل حقا ذلك ما أراد الكاتب أن يحققه؟ بداية الكتاب كانت مشوّقة وشدّتنا رومانسيّة وشاعريّة الكاتب التّي تجلّت في معظم الصّفحات حينما تغنّى باطلالة الفجر وأغاني الطيور، لكنّ الغناء يحمل في موسيقاه الحزن والألم والعبودية والشقاء، وتبرز الاشكالية أنّ الكاتب لا يريد أن يرى النّور لأنّ النّور باعتقاده يخدع فلا يرى ما وراءه…اضافة إلى جمال الكلمات التي تستقطب روح القارئ أجاد الكاتب تصوير الأماكن، حينما صور يافا واحتضانها له( كبرلمان أعضاؤه رمال وموج وبرتقال شمس وحكايات وصياد.. وشبّه الحبيبة المتخيّلة “امرأة أنيقة رتّبت حقيبتها المزيّنة بزهر الخزامى؛ لتسافر بين شهقات الندى”. استخدم الكاتب المونولوج ( السّرد الدّاخليّ .. كان يسأل ويجيب في آن واحد، وكأنّه يحاكي الآخر عن امرأة عشق نضوجها وثقافتها وانتماءها ..وكان يلجأ إلى يافا لأنّها تشبه حالته النّفسيّة حيث يشكو إليها همومه ومتاعبه..استخدم الكاتب الكثير من الأسماء والأماكن التي زارها، وكانت البلدة القديمة في القدس وهي إحدى محطاته التي استحوذت على ذكر الكثير من حاراتها، حارة السّعديّة، حارة الشرف وزقاقها، زقاق البوس، وأسواقها كسوق العطارين وغيرها، وسورها، وقد أجاد برسم صورها الملوّنة من عبق الماضي، وأصالتها المتجذّرة في التّاريخ..وفي كثير من الأحيان كان يذكر المكان كعابر سبيل دون الوقوف به أو وصفه، ص٤١ طريق الآلام، حيّ الشّرف ودرج الطابون وتطرق  إلى بعض الشّخصيات، وذكر أعمالهم كالمطهر أبو دان والفرّان الحشيمة وأعمالهم، والشيخ معروف وقصّته مع الجنّيّة ( تخيّلت أنّها حدثت مع الكاتب، لأنّه كان بين الحلم والاستيقاظ) وتحدّث عن شخص في المدينة ( جد جد) في حارة السّعديّة وشبابها وبناتها ووصفهم بلغة سلسة مفهومة .ذكر الكاتب كثيرا من الأماكن في الدّول العربية وشخصيّات تاريخيّة، مثل امرئ القيس فقد كان ليل الكاتب أطول من معلقته .. ص١٣ وشواطئ ساوباولو وقاهرة المعتز وبيروت .. سحرة موسى وجبروت فرعون، ومن هنا وجدت أن الكاتب تركنا في حالة من الفوضى وتشتّت في الأفكار، وأسئلة لا إجابات لها، وقد لفت انتباهي أنّ الكاتب لا يذكرهم لحدث ما في كتابه أو لشيء ذي أهمية… بالرّغم من أنّ استخدام الشّخوص والأماكن والشّواهد تثري المواضيع المختلفة، إلا أنّني وجدت نفسي في متاهات وردهات، كلّما أردت النّفاذ من إحداها وجدت نفسي عالقة في متاهة أخرى .. أعتزم الخروج منها فأراني أحاول من جديد في صفحات أخرى.. فأرى أنّ الكاتب في رحلته عبر العواصم من القدس إلى تونس والقاهرة وعمّان، التي قال أنّها تعطي دموعها للتّماسيح، وهي محطة العابرين والمرايا والغيوم، مخيّمات النّزوح والنّكبة ، وحزيران وسنوات بيروت والعراق وسوريا وليبيا، وأنّها مشروع المشاريع ووطن المعذّبين ..حملنا معه في رحلة فانتازيا “أحلام وخيال.”فبالرّغم من الحقائق المشاهدة إلا أنّ الكاتب شتّت أفكارنا، فما عدنا نرى حدثا أو مأزقا يشدّنا بالرّغم من عذوبة الكلمات والصّور الجميلة، التي تبنّاها الكاتب أثناء كتابته للرّواية.من الأشخاص الذين رافقوا الكاتب ماجد الذي أحبّ يافا ولم يرها..وزوجته وأولاده الثلاثة وغيرهم، ربط الكاتب بين المحتلّ والبعوض والزّواحف.. وأشار إلى خنق الجنود لهواء القدس..وجّه الكاتب بعض الرّسائل منها: أن لا نثق بأصحاب العمائم .. وأن لا نصدّق المدافع الخاوية .. وأن لا ننتظر من الذّئاب رحمة.. وأن لا نسمح للزّواحف أن تسرق حظائرنا ص٦٣أشار الكاتب الى فتاة أحلامه بأنّها القدس ص٦٩، وأسهب في نقل بعض المشاهد والأماكن المقدسيّة ،حبيبة الكاتب المتخيّلة والتي كانت تراسله، وكان ينتظر وصولها حبيبة متخيلة، قرّر في النّهاية أن لا يبحث عنها، وأنّ لقاءه بها لن يكون إلا في القدس.وقد كرّر أنّ الفتاة التي يريدها ربّما تكون هي الأحلام أو ربّما هي أضغاث أحلام.من خلال قراءتي للكتاب أحسست في كثير من الأحيان أنّ الكاتب يلوح لنا باتّجاهات كثيرة متداخلة، لها مخرج واحد (حلم لا يستطيع تحقيقه) وتلك الأفكار لا ندركها بسرعة، لذا تختلط الأشياء علينا، ولقد أشار الكاتب إلى فوضويّة أفكاره ص٥١و ص٥٢ نراه تارة يحدّثنا عن المدن، وتارة يحاكي الألوان، وتارة يتساءل ويجيب في آن واحد، وفي كثير من الأحيان لا اجابات شافية.وهنا أعود لأسأل نفسي هل حقا قرأت رواية كما اعتدنا أن نقرأها..الأحداث السّاخنة والتأزّم والعقدة التي تبلغ الذّروة حتى تحلّ، أو تترك للقرّاء لايجاد حلّ لها… أبطالها حقيقيون يتحركون ويقولون ويحلمون؟ أم تدفعنا الحقائق المؤلمة في حياتنا إلى رسم طرق أخرى لكتابة الرواية؟
وقالت رائدة أبو صويّ:رواية بحثت عنها كثيرا،كنت أبحث في الرّوايات عن رواية أجد فيها ذاتي ….وجدت ذاتي في رواية “فانتازيا” ،الأسلوب الفلسفي الممتع، مخاطبة النّفس وطرح حال الوطن العربيّ بعد الرّبيع العربيّ بأسلوب وحبكة جديدة .ما أحوجنا هذه الأيام الى هذا النوع من الرّوايات، مللنا من الرّوايات التّي تكرّر نفسها، العناوين فقط تتغيّر .رواية فانتازيا تعتبر انطلاقة له وملكة متوجة على اصداراته السّابقة .قرأت رواية فانتازيا وتهت بين طيّاتها .فانتازيا (أدب الخيال) الكاتب كان موفقا في اختيار العنوان .الفانتازيا نوع أدبي له شعبيّة ومعناه الشّيء الخرافي الخيالي الغاية في الرّوعة (Fantastic ) أي أنّها من نسج خيال الكاتب ومستحيل أن تحدث في الحقيقة .استطاع الأديب سمير الجندي الجندي أن يوظف خبرته الطويله والثّراء الفكريّ والثّقافة العالية لديه، بأن يصيغ لنا رواية جوهرة في الجودة.غنيّة بالسّحر الجذّاب الذي يجذب القاريء الى ما بين السّطور .استطاع أن يجعل من القراء أبطالا في روايته .وقفت طويلا أمام الصور التي رسمها بطريقة بارعة لأزقّة القدس .الحكمة موجودة في الرّواية عندما كتب الكاتب “المرآة حبيسة الغياب وقرار تحريرها لا يكون إلا بأمر من ظلك أنت يا سيدي.” بطل الرواية واسلوب الحوار الدافيء والقيم والصريح مع نفسه أثار اعجابي .وخصوصا عندما صارحته نفسه بحقيقته وقالت له : أنت بوجهين وربما أكثر من وجهين .ربما ثلاثة وجوه أو أربعة أو سبعة لكن بالتأكيد ليس لك وجه واحد .انتقل بنا الكاتب ع بساط الريح واستمتعنا كثيرا ونحن نبحث معه عن حبيبته الرمزية والتي على الغالب ترمز الى أحلامه الضائعة في العيش في وطن حر .توظيف حكاية الشيخ معروف هي فانتازيا قوية كم استمعنا في طفولتنا لتلك الحكايات الخيالية مررنا عنها مرور الكرام .استطاع الكاتب أن يوظفها بطريقة جذابة ومزج بين الحقيقة والخيال .رحلة مع النفس استمتعنا بها كثيرا في زمن الضياع الداخلي والخارجي .حلم الربيع العربي الذي بحث عنه كاتبنا في القدس وبغداد وتونس والقاهرة وعمان .رحلة بين الواقع والخيال بحثا عن الحبيبة والحبيبة هي رمز للوطن الضائع .
وكتبت هدى خوجا:                          غموض وخيال وخروج عن المألوف، مع عطر الكلمات تطلّ علينا هذه الرّواية،  رسم الكاتب لوحة فسيفسائيّة مبعثرة على خريطة  التاريخ كبساط ريح مع طيف بألوان متناثرة، طيف أم حقيقة أم لغز أم طبيعة أم ظلّ، فلسفة وحضارة وثقافة بين طيّات الرّواية، مع وصف لأماكن ومدن في أقطار بلاد عربيّة، انطلق منها الكاتب؛ ليبحث عن حقيقة الطّيف، ومنها القرية المجهولة والقاهرة وتونس وبغداد وعمّان،  حيث انطلق الكاتب بوصف المدن بساعات الفجر الأولى وحلكة الظلام وزحمة المدينة، وأيّام الجمعة المباركة، مع ازدحام  الشوارع والضجيج والتّلوث، باحثا عن ذلك الحلم أو الطّيف.          تغلغلت في الرّواية قيم وحكم وألغاز متعدّدة منها الوفاء والرّجوع إلى الأخلاق والطيبة والحقيقة، لغز البعوض والثّعبان وأوجه الرّبط بين فكّ الألغاز للوصول إلى تحقيق الحلم العربيّ، رحلة الكاتب تميّزت بالسّوداوية كحلم أسود، تشاؤم وحزن بالعبارات ممزوجة بالأسود والنّيلي والبنفسجي،يأس، موت، ألم، معاناة، وخوف كمثال في ص88،” الرّبيع غاب في نيسان وأخذ معه كلّ الفصول فلم يبق إلاّ الليل البهيم” دلالة على غياب الحلم العربيّ.          وفي النّهاية لا يتحقق الحلم وتوحيد الوطن العربي إلا بالقدس، فيشير الكاتب بكلماته  “القدس طيفي وهاجسي ومعشوقتي”، فالقدس اختصار لكلّ الأوقات والمسافات نقطة البداية والنّهاية. وتحدثّ عن الرّواية عدد من الحضور منهم: ابراهيم جوهر، محمد عمر يوسف القراعين، نزهة أبو غوش، وعرين عبدالله.

التعليقات

جميل السلحوت

جميل حسين ابراهيم السلحوت
مولود في جبل المكبر – القدس بتاريخ 5 حزيران1949 ويقيم فيه.
حاصل على ليسانس أدب عربي من جامعة بيروت العربية.
عمل مدرسا للغة العربية في المدرسة الرشيدية الثانوية في القدس من 1-9-1977 وحتى 28-2-1990

أحدث المقالات

التصنيفات