ديمة السّمان:زمن وضحة…. رواية عنوانها: الجهل لا دين له

د

السّلحوت أنصف المرأة.. ولم يظلم الرّجل.

يبدو أنّ الكاتب جميل السلحوت يصرّ على عدم ترك “غريمه” بحاله.. يصرّ على تعريته وإظهار بشاعته في شتى أعماله الأدبيّة. فالجهل عدو الانسانيّة.. الجهل لا دين له.. ضحاياه لا تعدّ ولا تحصى.. ولا زال يعبث بمصير كلّ من لا يقف له بالمرصاد، ولا يحاربه بسلاح العلم. لذلك  جعل الكاتب “الجهل” البطل الحقيقيّ في معظم إصداراته.. وها هو يعود اليوم  ليتصدّر البطولة في رواية “زمن وضحة” التي جاءت بمثابة من يدقّ جدران الخزّان.. أحرفها كانت الازميل الذي دقّ به أكثر من باب، اجتماعيّ، ارشاديّ، تربويّ، نفسيّ،  تعليميّ، ثقافيّ  …إلخ من القضايا التي تستحوذ على اهتمام المجتمع.. وتسهم في تطويره.

كلماتها خرجت آهة صادقة من جرح الألم.. شخوصها رُسمت بأنامل “ميزانها” الحسّ الانسانيّ.. جاءت عفويّة لا تكلّف فيها. استطاع الكاتب أن يحافظ على الخيط الذي ربط الشّخوص ببعضهم البعض دون أن يثقل على القاريء. على الرّغم من أن عددهم لم يكن قليلا.

صراع الأجيال كان واضحا.. التّمسك بالإرث الثّقافيّ كان جليّا من خلال الأغاني والأمثال الشّعبيّة، حيث رفض الكاتب إلّا أن تكون شاهدة على زمنٍ ما، في مكانٍ ما.. تجسّد الواقع؛ لتكون بصمة تعني: “أنا هنا.. بكلّ ما بي من سلبيّات وايجابيّات.”

كم أحببت “وضحة”.. حملت الرّواية اسمها معلنة  أنّ الزّمن زمنها.. مع أنّه لم يكن زمنها.. ولم يمتّ لها بصلة.. فقد رفضت ذاك الزّمن وحاربته.. وهاجرته.. واشتبكت مع من تمسّك به.. وانتصرت عليه بإرادتها.

لم أكره أمّها.. ( أم ّحمدان).. ولم أكره أمّ فالح أمّ رمّانة وزعرورة.. ولم أكره الدّاية الحاجّة صبحة التي تسبّب بوفاة رمّانة وتيتيم أطفالها لجهلها  بأساليب الولادة.. تعاطفت معهنّ.. فقد كنّ ضحايا الزّمن الأغبر.

أمّا أبو فالح الذي امتهن مهنة لا يتقنها.. فتسببت بإيذائه قبل إيذاء من حوله.. وأكثر من يشهد على ذلك “رجله” التي انفصلت عنه، ودفنت قبله بسبب جهله بأمور الطّب.. فقد ظلم نفسه قبل غيره.

جميع شخوص الرّواية كانوا ضحايا الجهل.. ومع ذلك كان الفرق بينهم كبيرا.. فهناك من استسلم راضيا بعيشته.. وهناك من تمسّك بشعاع الأمل.. وأنقد نفسه وداس “غريمه” تحت قدمه.. وهناك من استجاب مادّا يده لمنقذه، فداسا “الغريم” سويّة تحت أقدامهم.. وهناك من حاول قطع يد منقذه.. ليبقى أسير ظلام الجهل والتّخلف.. وليبقى يقبع تحت قدميْ غريمه عبدا ذليلا إلى الأبد.

كان الدّكتور ممدوح وزوجته الصيدلانيّة “ريتا”.. ويا حبّذا لو اختار الكاتب لهذه الشخصيّة اسما عربيا أصيلا..  كان الزّوجان شعلة نور أدخلت الحياة إلى القرية، وأنقذتها من وحل التّخلف. على الرّغم من أنّهما واجها الكثير من العقبات.. إلا أن انتماءهما واخلاصهما منحهما القوّة والقدرة على المضيّ بطريق النّور والحقّ.

عندما أقارن بين ريتا ( اليافويّة) و(بهيّة الريفيّة)، زوجة حمدان الثّانية.. أشعر بالحزن… هما من جيل واحد.. ولكنّ ريتا متعلّمة وتعرف معنى الحياة.. عاشت في بيئة مختلفة تحترم المرأة وتعطيها حقّها من العلم والمعرفة.. أمّا بهيّة والتي حملت اسما غريبا عنها.. فلم تتقن فنّ العيش.. ولم تعرف معنى الحياة.. قادها الزّمن الظّالم نحو ظلام الظّلم.. وبقيت أسيرة جهل عائلتها، ومن ثمّ حماتها ولسانها اللاذع الذي كانت تسلّطه عليها سوطا يأكل من كبريائها وكرامتها في كلّ مناسبة.

أدهشتني تفاصيل الغوص في داخل مشاعر وأحاسيس شخوص الرّواية.. كان الوصف دقيقا يراعي الحالة النفسيّة التي مرّت بها كلّ شخصيّة.

مشاعر أبو فالح عندما فقد رجله.. .سعادة وضحة وهي تقف أمام المرآة ترى نفسها عروسا جميلة… زعرورة.. ورفضها أن تتزوّج دون مظاهر فرح..  فمن حقّها أن تفرح كما فرحت وضحة.

حالة الطّفل اليتيم موسى عندما ذكرته الحاجّة صبحة بأمّه وهو يأكل العنب.. فالتَوت شفّته السّفلى باكيا.. وكأنذها استكثرت عليه لحظة فرح. فلا احترام لانسانيّة ولا اعتبار لطفولة.

مشاعر أمّ فالح المتضاربة عندما توفّي زوجها.. هي لم تحبّه يوما.. تخلّصت من نكده.. ولكنّ الصّورة تختلف أمام الناس.. فمن العيب أن لا تظهر الحزن..بل  من العيب أن تفرح.

أساليب الحماة وإيذاؤها مشاعر الكنّة.. فالصّراع أزليّ.

تأرجح المشاعر بين الحنان  والقسوة عند الجدّة.. كان وصفا دقيقا.

“عارف المجنون” الذي أثبت أّه من القلائل الذين كانوا من العقلاء في تلك القرية.. استجاب للأيادي البيضاء التي امتدّت له.. وأثبت أنّ العلم مفتاح الفرج.

النّكبة .. وجرحها النّازف.. وبيّارات البرتقال التي أبت رائحتها أن تفارق أنوف مهجّريها..

رواية ” زمن وضحة” لخّصت واقعا مريرا عاشته بعض القرى الفلسطينيّة  في أواسط القرن العشرين بامتياز.. وقد طغى عنصر التّشويق على الرّواية بشكل لافت.

رواية جمعت بين الرسالة والمعرفة والمتعة.. مبارك للكاتب هذا الانجاز.

*صدرت رواية “زمن وضحة” عن مكتبة كل شيء في حيفا عام 2015. وتقع الرواية التي صمّم غلافها شربل الياس في 224 صفحة من الحجم المتوسّط.

18-11-2015

التعليقات

جميل السلحوت

جميل حسين ابراهيم السلحوت
مولود في جبل المكبر – القدس بتاريخ 5 حزيران1949 ويقيم فيه.
حاصل على ليسانس أدب عربي من جامعة بيروت العربية.
عمل مدرسا للغة العربية في المدرسة الرشيدية الثانوية في القدس من 1-9-1977 وحتى 28-2-1990

أحدث المقالات

التصنيفات