جماليّات “صور كاملة” بدارنة الملونة

ج

صدرت عام 2015 المجموعة القصصيّة “صور ملوّنة” للأديبة الفلسطينيّة كاملة بدارنة، عن دار الجندي للنّشر والتّوزيع في القدس.

الأديبة كاملة بدارنة ابنة قرية عرّابة البطوف في الجليل الفلسطينيّ كاتبة معروفة، صدر لها قبل هذا المجموعة القصصيّة سبعة كتب تتوزّع بين القصّة القصيرة، والدّراسات والأبحاث، والنّصوص النّثرية.

والقارئ لأيّ نصّ لأديبتنا لا يحتاج إلى كثير من الذّكاء ليعرف أنّه أمام أديبة تملك ناصية اللغة، تختار مواضيعها بعناية فائقة، تماما مثلما تختار كلماتها، وهذا انعكاس لشخصيّتها الهادئة، ولاحترامها لذاتها، لذا فإنّ لغتها بليغة جميلة، ولا تخلو من الشّاعريّة في كثير من نصوصها النّثريّة.

وأديبتنا تعيش هموم شعبها ووطنها وبنات جنسها وانسانيّتها بهدوء دون ضجيج، فترسمها كلمات في نصوصها القصصيّة والنّثريّة الأخرى، ليكتشف القارئ الحاذق أنّه أمام انسانة لها عذاباتها الانسانيّة، وطموحاتها بحياة كريمة للبشر جميعهم، وأنّ هدوءها ما هو إلا هدوء بركان دفين لا يراه أحد، وإن كان يشعر به، ومن هنا يأتي بوحها صورا جميلة رغم المرارة فيما بين الكلمات وبين السّطور.

وفي مجموعتها القصصيّة الجديدة “صور ملوّنة” التي نحن بصددها، تتّضح المقولة النّقديّة التي تقول بأنّ “الأديب ابن بيئته” وابن الواقع الذي يعيشه، وكاملة بدارنة ليست استثناء بالطّبع. لذا فقد قسّمت مجموعتها القصصيّة هذه وهي – أقاصيص مكثّفة- إلى أربعة أبواب، في كلّ باب منها مجموعة أقاصيص ذات مضمون واحد يأخذ أشكالا متعدّدة.

في الباب الأوّل: “جراح وطن” وردت أقاصيص تحمل هموم وطنها وشعبها، ومن خلال تاريخ كتابة كلّ أقصوصة كما جاء في ذيلها، نرى مدى حرقة الكاتبة وعذاباتها لما جرى لأبناء شعبها في قطاع غزّة الذبيح، أثناء المحرقة التي تعرضوا لها في صيف العام 2014.

في قصّة “تكسير” صفحة 20 نجد ذلك الفلسطينيّ الذي جدّ وثابر؛ “كي يوفّر لأولاده الحياة التي حلم بها في طفولته، ولم يغرف منها غَرفة.” لتقوم الطائرات بهدم البيت على من فيه؛ ليبقى وحيدا دون زوجة وأبناء وبيت، وهذا حدث كثيرا في قطاع غزّة.

في قصّة آمال صفحة 23 نرى الطّفلة آمال التي اشترى لها والدها دمية مكافأة لها على صيامها في شهر رمضان، فهدم البيت على من فيه، ولتحتضن الدّمية بقايا أشلاء آمال، ونلاحظ هنا كيف انقلبت الأمور، فالدّمية هي التي احتضنت الطفلة، على عكس ما كان يجب، بل وأبعد من ذلك أنّ الطّفلة أصبحت أشلاء.

وفي قصّة “ادّعاء” صفحة 24 تعود بنا إلى النّكبة الكبرى عام 1948، وكيف طلبت القيادات العربيّة من الفلسطينيّين مغادرة بيوتهم؛ “حتى دحر المهاجمين. طال الغياب وما من عودة…تعبوا وشقوا وأرادوا العودة للدّيار، فحاصرتهم الأسلاك الشّائكة، ونفوا في براري التّيه، ولا يزالون…”هذه الأقصوصة تحمل في ثنايها اختصارا لرواية النّكبة.

الباب الثّاني: “صروح وشروخ” فقصّة “شجاعة” ص33 تختصر مسؤوليّة الهزائم بالقادة الذين لا يميّزون المواضع التي تكون فيها العقلانيّة، ولا يحصدون إلا الهزائم، ومواقفهم “الشّجاعة” تؤدي إلى “بغاث الطّيور في أرضنا تستنسر.”

في قصّة “الجندي الباسل” ص 37، تخليد “للجنديّ المجهول” الذي يحارب بشرف دون مقابل، ودون أن يلفت إليه أحد، فالنّصر للقائد وليس له.

في قصّة “غيمة” ص 40 استخفاف بالحكّام الجائرين، فما هم إلا مجرد غيمة تسوقها الرّياح وتقشعها.

أمّا في قصّة “ثقافة الهتاف” ص41، ففيها فضح واضح “لثقافة الهتاف غير الواعي” في المظاهرات واللقاءات الجماهيريّة، وكيف تتبدّل دون منطق حسب المواقف التي تطرأ!

وهذه الأقصوصة ذكّرتني بحكاية “ناقة الحاكم” التي كانت تأكل وتدمّر حقول المزارعين، فتظاهروا احتجاجا على ذلك أمام قصر الحاكم وهم يردّدون :”الناقة…النّاقة” ولمّا أطلّ عليهم وسأل: ما جرى للنّاقة؟ أجابه أحدهم: إنّها بحاجة إلى بعير كي تتكاثر!

الباب الثّالث: “هو وهي” وتعالج فيه علاقة الرّجل بالمرأة في المجتمعات الذّكوريّة.

في قصّة “رقّة” ص49 جاءها الرّجل رقيقا كقيس بن الملوّح في غزليّاته بعشيقته ليلى، وعند أوّل خلاف انقلب وبانت عليه غلظة الحجّاج وبطشه.

في قصّة“انتقام” ص50 نرى انفصام الرّجل في موقفه من المرأة، فهو يدعو لحقوق المرأة لكنّه يضطهد زوجته، فبطل القصّة تأثّر بما قاله الشّيخ عائض القرني عن كيفيّة تعامل الزّوج مع زوجته عندما تغضب، وأبدى اعجابه بذلك لجاره، على مسمع زوجته التي ظنّت أنّه تغيّر في تعامله معها، فشرعت تذكّره بما كان يفعله معها، فكان ردّه “أعتقتك إلى الأبد…فأنت طالق.” واستشهاد الكاتبة بالشّيخ القرني، يأتي كتذكير منها للمسلمين بحقوق المرأة التي أعطاها لها الدّين، ويحرمها منها الرّجال. وأنا أرى أنّ جزءا من اضطهاد الرّجال للنّساء يأتي من الثّقافة الدّينيّة المغلوطة التي يروّجها كثيرون ممّن يزعمون أنّهم “دعاة” و”علماء” وغالبيّة “فتاويهم” تتركّز على النّصف السّفلي من الأنثى، وعلى زواج “النّكاح” و”المؤانسة” وغيرها.

الباب الرّابع: “موزاييك” وموزاييك تعني الفسيفساء، والفسيفساء كما جاءت في المعجم الوسيط ”  قِطَعٌ صغارٌ ملوَّنةٌ من الرخام أَو الحصباءِ أَو الخَرَزِ أَو نحوها يُضَمُّ بعضُها إلى بعض فيكوَّن منها صور ورسوم تزين أَرضَ البيت أو جُدرانَه وَتُؤَلِّفُ أَشْكَالاً هَنْدَسِيَّةً جَمِيلَةً”

وتعني الكاتبة بها أنّ القصص الواردة في هذا الباب لا تندرج تحت موضوع معيّن، بل هي متعدّدة المضامين.

ملاحظة: تعمّدت الكاتبة في قصصها أن لا تذكر أسماء شخوص القصّة، وذلك أنّ مضمون القصّة عامّ وليس خاصّا بأحد بعينه، وهذه لفتة ذكيّة تسجّل لصالح الكاتبة.

وماذا بعد؟ قدّمت لنا الكاتبة وجبة دسمة من النّصوص القصصيّة اللافتة شكلا ومضمونا، وهي بلا شكّ اثراء للمكتبة الفلسطينيّة والعربيّة.

11-9-2015

التعليقات

جميل السلحوت

جميل حسين ابراهيم السلحوت
مولود في جبل المكبر – القدس بتاريخ 5 حزيران1949 ويقيم فيه.
حاصل على ليسانس أدب عربي من جامعة بيروت العربية.
عمل مدرسا للغة العربية في المدرسة الرشيدية الثانوية في القدس من 1-9-1977 وحتى 28-2-1990

أحدث المقالات

التصنيفات