رولا

ر

جميل السلحوت:

رُولا

رواية

دار الجندي للنشر والتوزيع-القدس

2015

ملاحظة    أولى : شخصيّات وأحداث هذه الرّواية خياليّة، وأيّ تشابه بينها وبين الواقع فهو محض صدفة.

ملاحظة ثانية: الّلهجة المحكيّة في هذه الرّواية لا تخضع لقواعد الّلغة.

الإهداء

إلى نافذتي قلبي حفيدتيّ:

بنان عصام ابنة بنتي أمينة.

ولينا ابنة ابني قيس.

وإلى “حبيب سيده” كنان بن عصام وأمينة.

قرّرت فاطمة تزويج ابنها صالح، فقد تخطّى الآن العشرين من عمره ببضعة شهور. هو ابنها البكر وتريد أن تفرح بزواجه، كما أسرّت بذلك لزوجها أبي كامل، وبقيت تلحّ عليه ليتقبّل الفكرة، لكنّه تساءل أمامها قائلا:

كيف نزوّج “صالح” وخليل في السّجن؟ وإيش النّاس رايحين يقولوا عنّا؟

أمّ صالح باسمة متودّدة:

الاثنين اولادنا يا أبو كامل…وشو دخل النّاس فينا؟ السّجين ابننا والعريس ابننا، ومش رايح يكون فرح وأغاني… وكلّ ما في الأمر أنّنا نجيب العروس وأهلها…نتعشى وإيّاهم وسلامتك.

أبو كامل:  طلب صالح الزّواج، ولّلا انتِ الّلي مستزوجة؟

–         صالح يا ابن النّاس ولد، وفش كلام له وانت موجود.

–         أيّ هو أنا الّلي بدي أتزوج؟ من حقّه أن يختار عروسه؟

أمّ صالح: أيوه! شو عرّفه في النّاس ع شان يختار؟ احنا نختار له …واحنا نعرف مصلحته أكثر منه.

–         واضح إنّك راسمة على بنت معيّنة لتكون كنّة لك؟

أمّ صالح فرحة: شو رايك بفهيمة بنت موسى؟

أبو كامل غاضبا: أيّ موسى؟

–         موسى أخوي، فهيمة بنته مزيونة وما شاء الله عليها.

أبو كامل غاضبا: والله”موس” يقطع راسك وراسه، هذا رجل تيس، “ما يفهم الخميس من الطلطميس”، وزوجته راسها مليان هبل، فكيف بدها تطلع بنتهم؟

أنكمشت أمّ صالح على نفسها…غابت البسمة عن وجهها، قالت بصوت منخفض: ريتني ما سمعت منك هالكلام، فموسى رجل صادق كريم، لكنّه مسخّم فقير الحال، لأنّ الدّنيا معاكسته، وعلى كلٍّ “الاولاد اولاد النّجوم” وربّنا هو من يقسّم العقول بين النّاس، وموسى نسيبك من زمان.

أبو صالح يزداد غضبا ويقول:

لا هو نسيبي ولا أبوه من قبله، أنا اخترتك أنت لأنّك مزيونة ولطيب خالك.

ابتسمت أمّ صالح وقالت:

الله لا يحرمني منك، واحنا نختار فهيمة عروس لصالح لجمالها ولطيب خالها إذا مش معجبك أمها وأبوها!

في هذه الأثناء دخل صالح البيت عائدا من العمل، طرح السّلام…أخرج من جيبه سبعماية ليرة اسرائيلية، نقدها لوالده قائلا:

تفضّل يا أبي.

استلمها أبو صالح، سأل والرّضا يغمره:

شو هذا يا ولد؟

–         هذي أجرتي عن الشّهر الماضي يابا.

–         الله يرضى عليك…اقعد هون يا بنيّي…وأشار إلى كرسيّ خشبيّ بجانبه.

وضع أبو كامل أجرة صالح في جيبه…تنحنح وقال لصالح:

شو رايك بالزّواج يا صالح؟

–         سنّة الحياة يابا.

–         أنا ما قصدت هذا، قصدي انت، عندك رغبة تتزوّج؟

تفاجأ صالح بما قاله والده، احمرّت وجنتاه…طأطأ رأسه حياء…فتح فمه ليتكلّم، لكنّ والدته قاطعته قائلة:

طبعا صالح يرغب بالزّواج، ليش هو مش رجل مثل بقيّة الشّباب الّلي يتزوّجوا؟

غضب أبو كامل منها وقال:

اسكتي يا مَرَه ، أنا بدّي أسمع راي الولد مش رايك أنت.

رفعت أمّ صالح صوتها قائلة:

الله أكبر…مش حقّي أتكلّم في مصلحة ابني؟

هلّل وكبّر وخرج أبو صالح من غرفة زوجته فاطمة دون استئذان، ذهب إلى غرفة زوجته أمّ كامل، حيث كانت تجلس مع ابنها كامل.

التفت صالح إلى والدته وقال بصوت هادئ :

هداك الله يا أمّي ، فأنا لا أفكّر بالزّواج قبل ما أبني بيتا.

أمّ صالح: البيت مش عائق أمام الزّواج، نبني لك غرفة بجانب بيتنا، تتزوّج فيها، فأنا تزوجت أبوك وخلّفتك واخوتك في غرفة واحدة.

صالح: وقتك زمان راح وانتهى يمّه، ومتطلّبات هذا الزّمن تختلف عن زمنك.

أمّ صالح: تراك  تحسبني عجوز يا ولد؟ أنا ما وصّلت الأربعين.

–         أعرف يمّه…لكن مش رايح أتزوّج قبل خروج خليل من السّجن.

أمّ صالح: شو علاقة خليل بالموضوع؟ فخليل شابّ عاقل ورايح يفرح بزواجك.

صالح: خليل أخوي يمّه، ومن حقّه أن يكون بجانبي يوم زفافي…وليش مستعجلة؟ الاحتلال رايح ينتهي قبل نهاية هالسّنة، ويتحرّر خليل وغيره، وعندها نقيم الأفراح والّليالي الملاح مثل ما بدنا.

أمّ صالح: ولا واحد يعلم ايمتا ينتهي الاحتلال غير ربنا، واحنا مش أحسن من غيرنا، نزوّجك مثل ما تزوّج غيرك بدون أغاني أو احتفالات، اسمعني كويّس يا صالح، نخطب لك فهيمة بنت خالك موسى، أنا أقنع والدك بذلك، وإيّاك أن تعترض على ذلك، بل قول بالثّم المليان إنّك تريد الزّواج منها، فهي مناسبة لك، ومش رايح تلقى أحسن منها.

هذه هي المرّة الأولى التي يطرق الزّواج بها أُذن صالح، فلم يفكّر بذلك من قبل، انتبه لذكورته أكثر من قبل، دار في خياله كيف سيكون زوجا وأبا لأطفال…خرج هو الآخر من الغرفة دون استئذان…لحق بأبيه، جلس وإذا صوت المختار أبي سعيد يعلو قائلا:

يا ساتر…يا أهل الدّار.

قفز كامل وصالح إلى الباب يرحبّان به، كان معه المختار أبو محمّد، وإمام المسجد…وقف أبو كامل مرّحبا…صافحهم وكامل يمدّ الفرشات على الأرض…أشار أبو صالح لكامل أن يذبح خروفا، وصالح يصبّ القهوة للضّيوف…وضعوا فناجين القهوة أمامهم…فقال المختار أبو سعيد:

مسّاك الله بالخير يا أبو كامل أنت والسّامعين.

–         أسعد الله مساكم وأهلا بكم.

–         لنا عندك طلب…مش رايحين نشرب القهوة قبل ما نحصل عليه.

–         حيّاكم الله اذا كنت قادر عليه.

–         طبعا انت قادر عليه وزيادة…نريد بنتك زينب لابننا المهندس سامح على سنّة الله ورسوله.

–         نتشرف بمصاهرتكم يا أبو سعيد…ومش رايحين نلقى أفضل منكم، وابنكم سامح من خيرة الشّباب…لكن اعطونا فرصة لناخذ راي البنت وراي أمّها واخوانها.

قال المختار أبو سعيد بلهجة عاتبة:

من إيمتا  كنّا نستشير النّسوان وناخذ برايهنّ يا أبو كامل.

والتفت إلى رفيقيه بعيون متسائلة دون كلام.

أبو كامل بلهجة حيّية واهنة:

تعرفون يا اخوان كيف ظلمنا زينب بزواجها الأوّل، وتعرفون كيف انتهى ذلك الزّواج…وزينب الآن طالبة في معهد بير زيت، وتعرف ما لها وما عليها.

استند إمام المسجد في جلسته، شبك أصابع يديه واضعا كفّيه في حجره، بسمل وحمد الله وصلّى على رسوله وقال:

لا يجوز إجبار المرأة على الزّواج بشخص لا ترضاه ، لما في إجبارها من فقد الحياة المطمئنّة والرّاحة النفسيّة والمودّة والسّكن والرّحمة ، وتلك من أهم أهداف الزّواج في الشّريعة الإسلاميّة ، فلا بدّ من استئذانها في الزّواج.

وإذن البكر يدلّ عليه سكوتها ، لأنّها تستحي في الغالب أن تصرّح بالقول، أما إذن الثّيّب فلا بدّ أن يكون بالقول الصّريح بقبول الزّوج الخاطب، كما في حديث أبي هريرة، رضي الله عنه، أنّ النّبي-  صلّى الله عليه وسلم – قال:

” لا تنكح الأيم حتى تستأمر ، ولا تنكح البكر حتى تستأذن ، قالوا : يا رسول الله ، وكيف إذنها ؟ قال : أن تسكت .”

وأضاف: ما يقوله أخونا أبو كامل حقّ، ولا يجوز لنا الاعتراض على حقوق شرّعها الله لنا ولبناتنا…فاشربوا قهوتكم…وانتظروا الجواب من أبي كامل بعد أن يستشير زوجته وأهل بيته.

ابتسم أبو كامل وقال للإمام:

بارك الله بك يا سيدنا الشّيخ…وتفضّلوا اشربوا قهوتكم، وبإذن الله سيكون لكم الّلي طلبتوه.

احتسوا القهوة وخرج كامل كي يذبح خروفا…انتبه الضّيوف لذلك، فقال أبو السّعيد: حشمتنا عندكم يوم نتّفق على الخطبة.

فردّ أبو كامل:

أهلا بكم اليوم، ويوم تتمّ الخطبة إن وافقت البنت، وفي أيّ وقت آخر، فأنتم أعزّاء على قلوبنا.

تنحنح المختار أبو محمّد وقال:

بارك الله بك يا أبو كامل، وأضاف:

ما هي أخبار الأستاذ خليل؟
أبو كامل: الحمد لله خليل بألف خير، نزوره مرّة كلّ اسبوعين، ونسأل الله أن يفكّ أسره هو وكلّ أبنائنا الأسرى.

فقالوا بصوت واحد: آمين يا ربّ العالمين…بلّغه سلامنا.

–         سلّمكم الله من عثرات الزّمان…قالها أبو كامل وسألهم:

–         إيمتا ينتهي هذا الاحتلال – حسب رايكم – ؟

–         سبحان علّام الغيوب قال المختار أبو سعيد.

أمّا إمام المسجد فقد استعاذ بالله من الشّيطان الرجيم وبسمل وقال

” وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيل َفِي الكِتَاب ِلَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُواًّ كَبِيراً . فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُم عِبَاداً لَّنَا أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدا فْعُولاً . ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَال وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُم أَكْثَرَ نَفِيرا . إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُم فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوؤُوا وُجُوهَكُم وَلِيَدْخُلُوا المَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ، وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرا. عَسَى رَبُّكُمْ أَن يَرْحَمَكُم وَإِنْ عُدتُّم ُْدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّم لِلْكَافِرِينَ حَصِيرا” (الإسراء:4 ـ8).

وأضاف: ما يجري في منطقتنا هو تنفيذ لأمر الله، فقد ابتعدنا عن ديننا كثيرا، والله – سبحانه وتعالى – يعاقبنا، وعندما نعود إلى دين الله ستنقلب الأمور، وسننتصر.

ابتسم كامل وقال:

يا سيدنا الشّيخ هذا كلام خطير، فالاحتلال ليس قدرا إلهيّا، لقد انتصروا علينا لأنّنا لم نأخذ بأسباب النّصر، ولأنّنا ارتضينا أن نعيش على هامش التّاريخ.

قطع الإمام كلامه قائلا:

استغفر الله العظيم…كلّ ما يحدث على الأرض، يحدث بعلم الله وإرادته.

فردّ كامل: لا اعتراض على علم الله وإرادته، لكن لا تنس أنّ البشر جميعهم عيال الله، وإذا كان الاحتلال قدرا إلهيّا، فلا رادّ لقدر الله، وهذا يعني أن الاحتلال باق إلى أن يشاء الله، وفي ذلك فهم خاطئ، ويعني أنّ من يقف ضدّ الاحتلال يخالف إرادة الله، وهذا ليس صحيحا.

ضحك المختار أبو سعيد وقال:

دعوا السّياسة للسّياسيّين، ودعونا نتكلّم بأمور أخرى…كيف كان موسم الزراعة هذا العام يا أبو كامل؟

قال أبو كامل: الحمد لله…السّنة خصبة، الزّرع كان أعلى من متر، المناطق السهليّة مثل الدّمنة والخلايل، والصّرارات، والبقيعة حرثناها بالتراكتور، وحصدناها بالحصّادات، والمناطق الوعرة حرثناها على البغال، وحصدناها بالمناجل، رزقنا الله هذا العام خمسين شوال قمح، وتسعين شوال شعير، وثلاثين شوال كرسنّة، وعشر شوالات عدس، ومغارتين تبن، وهذا خير وفضل من الله…رغم مناورات جيش الاحتلال العسكريّة في المنطقة، ورغم تدمير آلياتهم العسكريّة لمساحات واسعة من الأرض المفلوحة.

استمع الإمام إلى ما قاله أبو كامل باهتمام وقال:

ما شاء الله…الأرض معطاءة، من يهتمّ بها ويحرثها ويزرعها تعطيه بلا حدود، وما جناه أبو كامل هذا العام مردوده أكثر بكثير ممّا يحصل عليه العاملون في ورشات الاحتلال، وليت الجميع يهتمّون بأرضهم ويفلحونها.

قال المختار أبو سعيد: لكنّ مياه الأمطار ليست مضمونة، وإذا أمحلت فإن الفلاحين لا يحصلون على شيء.

ردّ عليه المختار أبو محمّد قائلا: في سنوات المحل، ترعى أغنامهم الأراضي الّلي يزرعونها ولا تنعقد سنابلها، ولّلي ما عنده غنم يبيع زرعاته لمربّي الأغنام، وما يخسر شي، ويحافظ على أرضه.

انتقلوا إلى الجلوس أمام البيت بعد أن قاربت الشّمس على الغروب، وامتدّت الظّلال  أمام واجهات البيت الشرقيّة، أشعّة الشّمس تتلألأ بدلال، كأنّها تنبئ بعودتها في اليوم التّالي…كانت تتكسّر على مياه البحر الميّت، فبدا للناظرين إليه من قمّة جبل المكبّر صحنا فضّيّا هائلا…ومن جهته الجنوبية تبدو جبال مؤاب الأردنيّة وكأنّها تحرس البحر…تحتضنه ومياهه ترقص عند أقدامها. المختار أبو سعيد قلق تراوده أفكار شتّى…لم يفصح عمّا بداخله، فأبو كامل لم يعطه جوابا شافيا بقبول طلب ابنه سامح لزينب…والرّجل كلمته في القرية نافدة، وغير معتاد أن يرفض أحدهم طلبه…ولولا إصرار ابنه المهندس سامح على الزّواج من زينب لما ارتضاها له، فهو لا يؤمن بتعليم البنات أكثر من المرحلة الابتدائيّة، لفّ سيجارة تبغ بلديّ”هيشي” وسأل أبا كامل:

زينب تروح لبير زيت وترجع في نفس اليوم يا أبو كامل؟

أبو كامل: نعم…تذهب صباح كلّ سبت، وتعود مساء كلّ خميس.

–         وين تنام كلّ هذه الأيّام.

–         تنام في بيت استأجرته هي وعدد من زميلاتها.

–         ينمن وحدهن دون رجال؟

–         نعم ولا خوف عليهن، ولا هدف لهن إلا التعليم.

قال أبو سعيد بكلمات باهتة انتزعها من بين شفتيه :

المهندس سامح – الله يرضى عليه – درس في الجامعة الأردنيّة في عمّان، وسكن في السّكن الجامعيّ ، وكنت أخاف عليه ، رغم أنّه رجل .

فقال المختار أبو محمّد: أبناء وبنات هالزّمان يختلفون عن زماننا يا أبا سعيد.

أبو سعيد: صحيح … لكنّ تعليم البنت هو سترتها!

فسأل كامل بنبرة فيها حدّة:

وهل تعليم البنات فضيحة يا مختار؟

–         أنا ما قلت هذا…لكنّي ضدّ تعليم البنات.

فردّ كامل: الجهل سبب رئيسي لما نحن فيه، ولو كانت شعوبنا متعلّمة لما رضيت بالهزيمة، ولن ننتصر إلا بالتّعليم.

المختار أبو سعيد ساخرا :

وهل تعليم زينب سيحرّر فلسطين؟

كامل: نعم تعليم زينب وبنات وأبناء شعبنا وأمّتنا سيحرّر فلسطين وغيرها، وسينهض باقتصادنا، وسنتطوّر في مختلف المجالات.

وهنا وصلهم صوت أمّ كامل وصوت فاطمة: الطّعام جاهز يا كامل.

ذهب كامل لاحضار الطّعام، في حين أحضر صالح “طشتا” وابريق ماء، ليغسل الضّيوف أيديهم…فقال المختار أبو سعيد:

أنا على وضوء ومش بحاجة لغسل اليدين.

فقال له المختار أبو محمّد مازحا:

كيف إيديك نظيفة، وأنت بتنبش بين أصابع رجليك…غسّل إيديك ومش رايح تخسر شي!

ضحكوا جميعهم على ذلك، وقال أبو كامل:

اترك أبو سعيد على راحته يا أبو محمّد.

في حين قال أبو سعيد:

لا حول ولا قوّة إلا بالله…هات الطشت يا عمّي.

أحضر كامل منسفين…وضع واحدا أمام الضّيوف…والآخر على بعد منهما… كما أحضر طنجرة شراب.

اصطفّ المختاران وإمام المسجد وأبو كامل على منسف، واصطفّ كامل وصالح وعدد من اخوانهما الأطفال على المنسف الآخر.

استأذن الضَيوف وانصرفوا…دخلت أمّ صالح وأمّ كامل، خيّم السّكون قليلا…فسألت أمّ صالح:

خير …شو طلب المخاتير والإمام؟

أبو كامل: ما سمعت الّلي قالوه؟

–         كيف أسمع وأنا بعيدة؟

أبو كامل: آه من كيد النّساء.

أمّ صالح: كويّس…نزوّج صالح ، ونزوّج زينب بعده بأسبوع.

التفتت إلى كامل وسألت: شو رايك يا كامل؟

ردّ كامل ضاحكا: الرأي للوالد ولزينب ولصالح.

أمّ كامل: لكنّ رايك مهم…نريد أن نسمعه.

كامل: أنا أبارك ما ترضونه أنتم.

التفت أبو كامل إلى صالح وسأله:

شو رايك بقول أمّك يا صالح؟

صالح: أنا لن أتزوّج قبل أن نبني بيتا جديدا، وقبل أن يتحرّر خليل من أسره.

أبو كامل: الله يرضى عليك … والله رايك أصوب من راي أمّك.

التفت إلى زوجته فاطمة وقال لها:

عندما تحضر زينب يوم الخميس، تشاوري معها حول طلبة سامح ابن المختار أبو سعيد لها، وردّي لي الجواب.

–         زينب ما تخرج عن طوعك وطوع اخوتها.

ابتسم كامل وقال:

“زمان أوّل حوّل” وزينب فتاة جريئة متعلّمة، وتستطيع اتّخاذ قرارها لوحدها، فهي أدرى بمصلحتها.

فاطمة: زينب فتاة عنيدة، وسامح مهندس من خيرة الشّباب، كلّ فتاة عاقلة تتمنّاه زوج لها… وهذه فرصة مليحة لزينب مش لازم نفوّتها.

أبو كامل ساخرا: شو رايك نهديه زينب هديّة…اتركي هالكلام الفارغ، وإيّاكنّ تتحدّثن بالموضوع قبل ما نسمع راي زينب.

صالح: أنا أقول لكم راي زينب قبل ما تسمعوه منها، فهي وإن رضيت بسامح لن تقبل الزّواج منه أو من غيره، قبل أن يتحرّر خليل.

كامل: اتركوا هذا الموضوع حتى تأتي زينب.

فاطمة: وشو بالنّسبة لزواج صالح؟

صالح: مين قال لك إني بدّي أتزوّج هالوقت؟

فردّت عليه غاضبة: وشو الّلي يمنعك من الزّواج الآن؟ ولّلا مش رجل انت؟

صالح: ما عندنا بيت، وخليل في السّجن…والاحتلال يحبس أنفاسنا.

أمّ صالح: نبني لك غرفة بجانب البيت القائم.

صالح: ما عادت غرفة واحدة تصلح لسكن أسرة، فمتطلبات الحياة اختلفت.

ضحك كامل وقال: صالح يفكّر بطريقة صحيحة…نبني هذا العام سكنتين واحدة لي، والثانية لصالح، وسنزوّجه بعد عام.

أبو كامل: هذا هو الصّحيح.

غضبت فاطمة، تركت الجلسة وعادت إلى غرفتها وهي تتمتم كلاما غير مفهوم، وإن كانت نبراته تدلّ على أنّها تشتم صالحا.

*****************

غيوم بيضاء  متفرقة تجوب السّماء، تتّخذ أشكالا يراها كلّ شخص من زواية معيّنة، يسوقها النّسيم العليل ببطء تجاه الشّرق…قطوف العنب تتدلّى متلألئة من الدّوالي القريبة، كأنّها تحرّض النّاظر إليها ليتذوّق طعمها…أغصان الزّيتون مثقلة بالثّمار، تحني رؤوسها لتشكّل خيمة ظليلة لمن يبغي أن يفترش الأرض تحتها…حبّات التّين النّاضجة تتوارى بين أوراق الشّجر…طنين نحل ودبابير تبحث عنها لتمتص رحيقها يصل الأسماع. وصلت زينب قادمة من معهدها…شعرها الأسود يتطاير خلفها بدلال، كانت ترتدي بنطال “كاوبوي” وبلوزة قصيرة الكمّين، صافحتهم ضاحكة…وضعت حقيبتها بجانب والدها، اتجّهت كفرس جموح إلى شجرة تين “زرقاوي” تقطف ثمرة واحدة…تفلقها قسمين تنظر داخلها…تلتقمها، وأحيانا تقوم بتقشيرها…طلب والدها منها أن تأتيه ببعض حبّات التين، حملت بيديها خمس حبّات، أعطتها له وهي تقول:

الآن سأحضر صحنا، وسأعبّئه لك.

بعد قليل عادت إليه بصحن مليء بالتّين الأسود والخضريّ والزرقاويّ. كانت تحكّ ذراعيها من حليب التّين الذي التصق بهما…غسلت يديها ودخلت الغرفة لتستبدل ملابسها. احتضنتها والدتها…قبّلتها…طلبت منها أن تجلس بجانبها وقالت لها:

لك عندي خبر جيّد.

ابتسمت زينب وقالت باسمة : خير يا طير؟

–         أجاك عريس.

ضحكت زينب بلا مبالاة وسألت ساخرة:

عريس؟

–         نعم عريس يا بنتي، ليش مستخفّه بالموضوع؟

–         لن أتزوّج قبل أن أنهي تعليمي، وقبل أن يتحرر خليل من أسره.

–         لكن …اعرفي مين هو العربس في الأوّل وبعدها قرّري.

–         لا يهمّني من يكون…لأنّني لا أريد الزّواج في هذا الوقت.

لطمت فاطمة وجهها بيديها وقالت:

يا حسرتك يا فاطمة! خليل في السّجن، وصالح وزينب رافضين الزّواج، كيف يفكّر هؤلاء الأبناء…اسمعي يا زينب:

الّلي طلبك هو المهندس سامح ابن المختار أبو سعيد… وهو شابّ حليوه خلوق، ناجح في حياته، وكل فتاة تتمنّاه…فكّري بالموضوع يا بنيتي قبل الرّفض.

ردّت فاطمة باستخفاف: طز!

ركضت إليها أمّها…أمسكت بشعرها وقالت لها:

طز عليك وعلى من ربّوك هيك تربية…ما بدّي أسمع منك مثل هذا الكلام، وإلّا سأقصّ لسانك الطّويل.

ضحكت زينب وقالت:

هوّني عليك يا أمّاه…الزّواج ملحوق عليه، لا تستعجلي الأمور، كلّ شيء حلو في أوانه.

الأمّ: كلّ بنات جيلك من القرية تزوّجن وخلّفن، وأخشى أن يفوتك القطار…المهندس سامح فيه كلّ الصّفات المطلوبة…مال …جاه…علم.ولا يوجد فيه عيب يعيبه.

لم تكترث زينب بكلام والدتها…خرجت من الغرفة…ذهبت حيث يجلس والدها وأخوتها وزوجة أبيها أمّ كامل…جلست معهم وكأنّ شيئا لم يكن…الشّمس تقترب من لحظات الغروب…التفت إليها أبوها وسألها:

ليش كانت والدتك تصرخ بصوت مرتفع؟

–         لا شيء…هذه عاداتها. تعطي أوامرها بالصّراخ.

قال لها كامل مازحا: أهلا بالعروس.

التفتت إليه وردّت ساخرة: مليون هلا بأخو العروس.

لفّ أبو كامل سيجارة “هيشي”…أشعلها وقال:

الكلام في الزّواج مش مزح…ولا يجوز أن يكون كذلك.

التفت إلى زينب وقال:

الزّواج سنّة الحياة يا بنيّتي…ولّلي ما يتزوج اليوم يتزوج بكرة…شو رأيك يا زينب بالمهندس سامح ابن المختار أبي سعيد، فقد تقدّم يطلب يدك؟

زينب: أنا لن أتزوّج قبل أن أنهي تعليمي، وقبل أن يتحرّر خليل من الأسر.

كامل: حسب معرفتي سامح “عريس لقطة” ويجب بحث الأمر بطريقة جديّة…وإذا ما حصل النّصيب فإنّ سامح لن يعارض على انهاء زينب لتعليمها…وسيسمح لها بالعمل إن أرادت…وخليل سيتحرّر لا محالة.

أبو كامل مستغربا: وهل نحن نمزح بطرحنا للموضوع؟

استمعت زينب لحديث كامل بانتباه شديد، فهي تثق برأيه وقدرته على تحليل الأمور…فسألت:

ومن يضمن أن ينفّذ سامح ما تقول يا كامل؟

–         سنشترط ذلك عليه إذا كنتِ موافقة.

زينب: أنا لا أعرف “سامح” إلّا شكلا…لم يسبق أن تكلّمت وإيّاه…لا أعرف كيف يفكّر وماذا يخطّط، قبل الموافقة هل يمكنكم ترتيب جلسة لي معه في بيتنا؟

أبو كامل: هذه المرّة الأولى التي أسمع فيه بنت تقول هيك كلام!

كامل: ما قالته زينب ليس عيبا ولا حراما يا أبي…بل هو حقّ شرعيّ لها وله، أنا سأرتّب الوضع معه…متى تريدين ذلك يا زينب؟

زينب: حسبما تريده أنت.

كامل: سأراه الليلة، وسأرتّب معه لنلتقي بعد صلاة الجمعة يوم غد.

استمعت أمّ صالح للحديث من داخل غرفتها…ضاقت الدّنيا في وجهها غضبا على زينب، فكيف تجيز لنفسها سماع رأي كامل وغيره في حين لم تستجب لرأي والدتها؟ لكنّها في المحصلة كانت سعيدة بموافقة زينب المبدئيّة على الموضوع، لعلّ الله يهديها وتقبل الزّواج من سامح.

عندما عادت زينب إلى الغرفة قالت لها والدتها:

هل نستطيع اعتبار طلبك لمقابلة سامح موافقة مبدئيّة؟

–         طبعا لا.

–         ليش طلبت الجلوس معه إذن؟

–         سأتحدث معه ببعض الأمور، وبناء على إجاباته سأقرّر.

أظلمت الدّنيا في عينيّ أمّ صالح…اشتعلت غضبا…أمسكت رأس زينب وقالت:

يبدو أنّك تختلقي المشاكل…بِإيش تفكّري يا بنتي؟ معقول يكون في حياتك شخص معيّن؟

زينب غاضبة: ما هذا الجنون يا أمّي؟ لو كنت أفكّر بشخص معيّن فسيتقدّم لي، وسيدخل البيت من بابه.

نامت أمّ صالح على فراشها في زاوية البيت، أدارت وجهها للحائط وكأنّها تهرب من المواجهة، لا تريد رؤية أحد…أمضت ليلها حتّى ساعات الصّباح الأولى وهي تتقلّب في فراشها، هرب النّوم من عينيها، حلّت محلّه الدّموع التي انهمرت حزنا على حالها مع أبنائها، حشرجة بكائها كانت مسموعة، لكن لم يلتفت إليها أحد، وهذا زاد غيظها…استيقظت صباحا ووجهها يبدو منتفخا، وعيناها تبدوان متورّمتين…لم تكلّم أحدا…ولم يكلّمها أحد…ولم تنتبه لنفسها إلّا عندما سمعت صوت زوجها يسألها عن قهوة الصّباح…فردّت عليه بأنّها ستكون جاهزة بعد قليل…نهضت زينب من فراشها…أشعلت بابور الكاز”البريموس” حضّرت القهوة…ملأت كأسا…وضعته أمام والدتها وهي تقول:

تفضّلي يمّه.

حملت كأسين وإبريق القهوة وخرجت إلى حيث يجلس والدها تحت شجرة الزّيتون القريبة…طرحت عليه تحيّة الصّباح… قدّمت له كأس قهوة، ووضعت أمامها كأسا وهي تجلس بجانبه…ابتسم لها وقال:

اسمعيني يا بنيّتي الحبيبة، سامح سيزورنا بعد صلاة الجمعة كما اتفق معه أخوك كامل، ورايحين نتغدى احنا وِيّاه…واسأليه كيف بدّك، واستفسري منه عن كل شي حسب المعقول، فجمال الفتاة حياؤها يا بنيتي…والرّجال ما يحترموا ولا يحبّوا إلّا المرأة الحييّة والذكيّة، فإن أعجبك الرّجل فهذا ما نتمناه لك، وأنا لا هدف لي سوى أن تعيشي سعيدة.

استمعت إليه زينب بانتباه وقالت له:

اطمئن يا أبي فلن يصدر منّي إلا ما يعجبك.

فردّ عليها: الله يرضى عليك ويوفقك…والآن قومي ساعدي والدتك بتحضير الغداء لنا ولسامح.

ورفع صوته ينادي زوجته أمّ صالح، وقال لها:

كامل يذبح الآن خروف…جهزوا منسف عندما يحضر سامح لنتغدّى احنا ويّاه.

فردّت عليه بالإيجاب وانصرفت إلى غرفتها…لحقت بها زينب وسألتها:

ماذا أستطيع مساعدتك يا أمّي؟

–         لا شيء…فقط جهزّي نفسك كويّس، واختاري ملابس تناسبك…واستعدّي للّقاء…وانتبهي لحالك لا تكثري حَكي؛ كي يخرج الرّجل من بيتنا مبهور فيك.

زينب: سيراني كما أنا دون تزييف، وبدون مكياج، وسأرتدي زيّا عاديّا، فإن أعجبني وأعجبته كان به، وإلّا فكلّ منّا في بيته.

أمّ صالح: أعوذ بالله من هيك جيل…ما يعرف مصلحته ولا مصلحة غيره.

يطيب لأبي كامل أن يجلس على التّراب في حديقة المنزل، هي ليست حديقة مثل الحدائق المتعارف عليها، بل هي أرض تمتدّ أمام البيت، مساحتها حوالي خمسة عشر دونما، مزروع في جزء منها عدّة أنواع من الأشجار، زيتون…تين…عنب…لوز…برقوق وشجرة زعرور واحدة، ويزرعون في جزء بسيط منها مزروعات صيفيّة، كمقاثي الفقوس ، الكوسا، البامية …أشتال البندورة والقرنبيط، وهذه تفي بحاجة البيت، وما يزيد يهدونه للأقارب والجيران، وما تبقى من الأرض يزرعونه حبوبا كالعدس والقمح والشّعير والكرسنّة.

يجد أبو كامل راحته في الأرض، ففي أيام الرّبيع والصّيف يحلو له التّمشي بين الأشجار في ساعات الصّباح والمساء، وكأنّ المشي رياضته المحبّبة التي اعتادها بالفطرة…ومن يراه ماشيا في الأرض يعتقد أنّه يبحث عن شيء مفقود، وفي الواقع هو كذلك، فإذا ما رأى غصنا مائلا، فإنّه يقلّمه، وعندما يرى حجرا في الأرض يحمله ويضعه على إحدى السّلاسل الحجريّة بطريقة منتظمة، وفي فصل الرّبيع يحمل مجرفة، يقتلع الأشواك الضّارّة، يجمعها في إحدى الزّوايا ويحرقهاعندما تجفّ، وبعدها يجلس على التّراب قرب البيت تحت أشعّة الشّمس في فصل الرّبيع، ويستظلّ بالأشجار صيفا… يتّكئ على إحدى يديه مادّا جسمه، يمسك التّراب باليد الأخرى…يتحسّسه…يفركه بيده…وعندما يتفتّت يسقطه على الأرض ببطء، ويعيد ذلك مرّات كثيرة…وغالبا ما يتجمّع حوله عدد من مجايليه الأقارب والجيران…يلعبون”السّيجة”…يحتسون القهوة والشّاي ويتمازحون…يستعيدون ذكريات أيّام مضت.

في ليالي الصّيف لا يطيب النّوم لأبي كامل إلا تحت شجرة…يضع تحت رأسه وسادة ويتغطى بعباءته فقط، يتأمّل السّماء والنّجوم التي يعرف مساراتها…ومن خلال هذه المسارات كان يعرف التّوقيت…البيوت الحجريّة لم تكن ذات أهميّة بالنّسبة إليه، ولا غرابة في ذلك، فالرّجل ولد وعاش في بيت  نُسِج من شَعْر الماعز، بنى بيتا حجريا تلبية لاحتياجات أبنائه عندما التحقوا بالمدارس…لكنّه لا يطيق العيش فيه…عندما يدخله يجلس قبالة الباب أو إحدى النّوافذ؛ ليبقى المدى مفتوحا أمام ناظريه…يتذكّر ابنه”خليل” وصحبه من الأسرى؛ فتسودّ الدّنيا أمام عينيه…يتساءل بينه وبين نفسه حول كيفيّة استمراهم أحياء وسط أربعة حيطان، دون أن يلامسهم النّسيم العليل، أو تبلّل وجوههم وملابسهم قطرات المطر، أو أن يتعرّضوا لأشعّة الشمس الدّافئة…أو أن يراقبوا ساعات الفجر الأولى، والشمس تعلو من خلف الجبال البعيدة باعثة أشعّتها التي تطارد الظّلام، فلا يلبث أن يتلاشى أمام جبروتها، لتواصل سيرها غربا؛ كي تودّع نهارها راسمة لهيبا أحمر ناعسا، يفوق جماله كلّ الفنون التشكيليّة.

يتظاهر أبو كامل بالّلامبالاة ولا يبوح بعاطفته تجاه خليل وشوقه إليه، كي لا ينشر الأحزان في بيته، فهو لا يستطيع البكاء كما تفعل والدة خليل، لأن الرّجال لا يبكون – حسب رأيه – ! ولا أحد يراه باكيا وهو يجوب الأرض، أو يفترشها…تماما مثلما لا يعلمون سببا لضربه التّراب بقبضة يده.

استحمّ أبو كامل ونوى الوضوء…ارتدى ملابس نظيفة عاقدا العزم لآداء صلاة الجمعة في المسجد الأقصى…سأل ابنه “كامل”:

وين رايح تلتقي”سامح”؟

–         في مقهى الباب الذّهبيّ.

–         لعلّ الله يهديكم وتيجوا لصلاة الجمعة في المسجد الأقصى ونرجع مع بعضنا.

–         عندما يهدينا الله سنصلّي.

–         لا حول ولا قوّة بالله…إذن بأشوفكم في القهوة.

كامل يبتسم بخبث ويقول:

لا داعي لذلك…سنعود وحدنا.

–         على راحتكم.

خرج أبو كامل في طريقه إلى المسجد الأقصى…استقل الحافلة ونزل منها عند باب الأسباط مع عدد من مسنّي البلدة…من بينهم المختاران أبو سعيد وأبو محمّد… عندما دخلوا المسجد هلّلوا وكبّروا…حمدوا الله وصلّوا على نبيّه… انتحيا به جانبا في باحة المسجد…صلّوا ركعتين تحيّة المسجد…جلسوا تحت شجرة زيتون…تنحنح أبو سعيد وسأل:

عادت زينب من بير زيت يا أبو كامل.

–         نعم رجعت مبارح العصر.

قال أبو سعيد ساخرا: وان شاء الله أحضرت الشهادة معها؟

تنهّد أبو كامل تنهيدة ضيق وقال:

تجيب الشّهادة عندما تنهي تعليمها.

وعاد أبو سعيد يسأل: وافقت على طلب سامح ليدها؟

–         أعطيك الجواب مساء هذا اليوم.

********************

في العاشرة صباحا حضر سامح إلى بيت أبي كامل كما اتفق مع كامل…لم يعلم أحد باتفاقهما سوى زينب التي أخبرها كامل بذلك…لأنّه يريد أن يلتقي سامح بزينب في غياب الوالد؛ كي لا يحرجان بالحديث أثناء وجوده…استقبله كامل وزينب وهما يقفان جنبا إلى جنب…صافحهما…جلسوا على كراسي خشبيّة أمام البيت تحت شجرة الزّيتون، رتّبوا الكراسي على شكل مثلث؛ ليتقابل سامح وزينب وجها لوجه…جلست زينب بطريقة اعتياديّة دون مكياج …كانت ترتدي بنطال “جينز” وبلوزة قصيرة الرّدنين…شعرها مربوط خلف رأسها كذنب فرس جموح…أحضرت أمّ صالح القهوة…صافحت “سامح” وانصرفت.

قال كامل ضاحكا: “هذا الجمل والجمّال” تكلّما كيفما تشاءان.

صبّت زينب القهوة…قدّمت لكلّ منهما فنجانا…ارتشفت من فنجانها رشفة واحدة…نظرت إلى سامح وسألته:

هل تعلم أنّني طالبة سنة أولى في كلّيّة بير زيت؟

–         نعم…أعلم ذلك.

–         إذا وقع النّصيب وتزوّجنا… ما هو موقفك من إكمال تعليمي؟

–         طبعا ستكملين تعليمك إذا كنت ترغبين بذلك.

ابتسمت زينب وسألت:

وهل ستقبل أن أعمل بعد إنهائي للتّعليم.

–         هذا أمر مفروغ منه.

–         لكنّ أباكَ يرفض تعليم البنات وعملهنّ.

–         وما شأن أبي بحياتي الخاصّة؟ سأوفر عليك بعض الأسئلة…أنا مكتبي الهندسيّ في رام الله، وغالبيّة أعمالي في تلك المدينة، وإذا ما تزوّجنا سنستأجر بيتا نسكنه في رام الله، إلى أن أشتري أرضا، وأبني عليها بيتا لنا في رام الله أيضا.

ضحكت زينب وقالت:

أنت تعلم أنّ أخي “خليل” في السّجن…فكيف سنخطب وسنتزوّج وهو سجين؟

–         خليل أخي مثلما هو أخوك…ونسأل الله أن يفكّ أسره وأسر الآخرين جميعهم بأقصى سرعة…لكنّ الحياة يجب أن تستمرّ…وهذا قدر شعبنا.

–         صحيح…لكنّي يصعب عليّ أن أتزوّج وشقيقي خليل ليس بجانبي.

التفت إليها أخوها كامل وقال ضاحكا :

وأنا أخوك، وصالح أخوك أيضا…ها هو عائد من العمل الآن …وسنقف بجانبك في الأحوال كلّها.

صافح صالح “سامح” ، استأذنهم كي يستحمّ ويستبدل ملابس العمل.

قالت زينب لكامل: لا شكّ عندي بموقفك يا أخي…أنت أخي الكبير، أنت بمثابة الوالد لي…بل أنت قدوتي…لكن هل يطيب لنا الفرح وخليل غائب عنّا؟

سامح: هل يمكنني مرافقتكم لزيارة خليل؟ أنا أقبل برأيه…ومتأكّد أنّه سيبارك خطوتنا.

زينب: عن أيّ خطوة تتكلم؟

احمرّ وجه سامح حياء…فتدخّل كامل سائلا زينب:

هل لديك أسئلة أخرى لسامح؟

زينب: وهل أنا في جلسة تحقيق، أم تريدونني أن أترككم وحدكم؟

كامل: لا هذه ولا تلك.

التفت كامل إلى سامح وسأله:

هل لديك استفسارات معيّنة.

سامح: أنا تقدّمت بطلب يد زينب كما هي دون استفسارات ودون أسئلة، فنحن أبناء قرية واحدة، وكلّ واحد في القرية يعرف الآخر…وآمل أن يحظى طلبي لزينب بموافقتها وموافقتكم؛ لأتشرّف بمصاهرتكم.

زينب: الرّأي لأبي ولأخوتي.

ابتسم كامل وقال: اذهبي وأعدّي لنا إبريق شاي.

*****

لم يتوقّع أحد الإفراج عن خليل، حتى هو نفسه لم يتوقع ذلك، عندما نادى السّجّان على اسم خليل وقال: إفراج! سأله أبو فهمي:

هل أنت جادّ فيما تقول أم تمزح؟

–         متى كنتم تمازحونني أو أمازحكم…على خليل أن يجمع أغراضه خلال خمس دقائق.

–           التفّ الأسرى حول خليل يقبّلونه فرحين…جمعوا له أغراضه القليلة…تجمّد خليل مكانه…نزلت دموع الفراق على وجنتيه…ففراق أناس عاشرهم أربعة عشر شهرا ليس سهلا عليه…قال له أبو فهمي:

والله لولا فرحنا بإطلاق سراحك لما تمنّينا فراقك…ودّعوه عند باب القسم في السّجن…اقتاده السّجّان إلى مخزن السّجن حيث سلّم البطّانيّتين اللتين استلمهما عندما دخله…اقتاده بعدها إلى الإدارة حيث أعطاه المدير ورقة تحرير وقال له:

ينتهي توقيفك يوم غد السّبت…والسّبت يوم عطلة لا عمل فيه كما تعلم…ولا أقدر أن أحتفظ بك إلى يوم الأحد على مسؤوليّتي الخاصّة…آمل أن لا أراك مرّة أخرى هنا.

اقتاده أحدهم إلى البوّابة الرئيسة، فتح له بابا صغيرا وقال له:

مع السّلامة.

لم يتكّلم خليل شيئا…وقف أمام السّجن مذهولا…التفّ حوله عدد من أهالي الأسرى الذين جاءوا لزيارة أبنائهم المعتقلين…احتضنوه كما يحتضنون أبناءهم…فرحوا به كثيرا…انهالوا عليه بالأسئلة عن أبنائهم الأسرى…طمأنهم عن الجميع…وعندما سألته إحدى النّساء عن ابنها المحكوم مؤبّدا، ويعاني من أمراض مختلفة…طمأنها عنه – مع أنّه لا يعرفه – فابنها في قسم المحكومين الذي لم يدخله خليل. وعندما سألته:

هل عرضوه على طبيب عيون يا بنيّ؟

أجاب خليل: نعم عرضوه على طبيب…لكنّني لا أعلم إن كان طبيب عيون أو غير ذلك…لكنّه وصف له قطرة ارتاح عليها.

نظر خليل إلى التّراب يتفحّصه…يا إلهي ما أجمل التّراب! لا أحد ينتبه لجمال التّراب إلّا عندما يحرم من رؤيته…وهو لم يرَ التّراب من أربعة عشر شهرا…التّراب لوحة ساحرة…هو منبع العطاء… كلّ الخيرات تأتي من باطن الأرض…له رائحة زكيّة كما البّخور.

أسئلة الأهالي تتواصل عن أبنائهم…التفت خليل إليهم وقال :

لا يوجد معي فلوس أجرة للطّريق كي أصل القدس…ولا أعرف كيف أعود إليها من هنا.

ردّ عليه أكثر من شخص: لا تهتمّ بذلك يا ولدي…ستعود معنا في سيّارتنا الخاصّة…وسنوصلك إلى بيتك.

ابتسم خليل وقال لهم: شكرا لكم.

تقدّمت منه عجوز بحنان زائد…كانت تحتضن حفيدها ابن ابنها السّجين وقالت:

هذا قالب شوكولاتة لا نحمل غيره الآن…خذه يا بنيّ فبالتأكيد أنت جائع…بعد الزّيارة سنحملك معنا إلى بيتك، وسنشتري لك طعاما.

شكرها خليل قائلا: دعي الشوكولاتة للطّفل يا خالة…فهو أحقّ منّي ومن غيري…وأنا لست جائعا الآن.

أتت نساء أخريات بكعك مقدسيّ…قدّمنه له وقالت له إحدى الأمّهات:

كُلْ يا ولدي…سآكل معك.

لم تكن المرأة جائعة…لكنّها تريد أن تشجّعه على تناول الكعك…تناول خليل قطعة من الكعك…غمسها بالزّعتر… وعندما ابتلعها توقّفت في بلعومه…فركضت له إحدى النّساء بزجاجة ماء.

بعد دقائق انتهت زيارة الفوج الأوّل، احتضنوا “خليل” مصافحين…قبّلوه وهنأوه بالسّلامة…حملته أسرة الأسير أبو فهمي معها…في طريقهم إلى القدس ذهبوا به إلى أحد المطاعم على شاطئ يافا…لم يستشيروه في ذلك… فهم يريدون تكريمه بوجبة طعام…جلسوا في شرفة المطعم المطلّة على البحر…خليل يغازل البحر والشاطئ…يتابع انكسار الأمواج النّاعمة على الشّاطئ…ثم لا تلبث أن تتجدّد مرّات ومرّات…رآها تضحك له بخريرها الموسيقيّ الذي يقترب من قدميه… ابتسم لها…تذكّر صديقته البريطانيّة ستيفاني عندما كانت تصطحبه إلى شاطئ بحر المانش، أو تصطحبه إلى مطعم على ضفّة نهر التايمز… يتناولان وجبة من السّمك البحريّ الّلذيذ…هو لا يعرف أسماء أصناف السّمك…بعد أن ضاع منهم ساحل البلاد…بل إنّهم لا يتذوّقون إلّا السّمك المستورد المجمّد…قليلة هي كميّات الأسماك التي كان يأتي بها التّجار من مدينة العقبة الأردنيّة بعد النّكبة الأولى عام 1948 إلى النّكبة الثّانية عام 1967، لكنّه لم يتذوّق طعم تلك الأسماك لغلاء أسعارها، وكأنّها حكر على العائلات الثّريّة فقط…لذا فانّه يترك لمضيفيه حرّيّة اختيار صنف السّمك الذي يريدونه لهم وله…لكنّ مضيفيه هذه المرّة كانوا مثله لا يعرفون أسماء أصناف السّمك…عندما جاء النّادل سأله فهمي بن أبي فهمي:

ما هو أفخر سمك بحريّ عندك؟

النّادل: “الّلوكّوس” …لكنّ سعره مرتفع.

فهمي: أنا لم أسألك عن السّعر…بل عن جودة المذاق…لكن…هل أنت متأكّد أنّه بحريّ؟

–         بالطّبع يا رجل…وقد أتانا أحد الصّيادين بكميّة من “الّلوكّوس” قبل قليل…وبإمكانكم مشاهدته قبل إعداده.

قال فهمي: أنا أصدّقك…ما اسم حضرتك؟

–         اسمي حسّان.

–         أهلا بك…وحضّر لنا بعض السّلطات أيضا– لو سمحت – .

–         حاضر.

–         تسلم.

–         تناولوا طعامهم…خليل لم تكن له شهيّة للطّعام…لكنّ أمّ فهمي أصرّت عليه أن يكمل صحنه.

في الطّريق كان خليل يمعن النّظر في كلّ ما يراه…سحره جمال الطّبيعة…خيرات الأرض الخصبة تعلن عن نفسها…فعبيرها يملأ الفضاء…نسيم البحر يسوق الغيوم شرقا حيث القحط والجفاف…الجبال التي يكسوها الّلون الأخضر في عزّ الصّيف منظر لم يعتد خليل رؤيته من قبل…الشّمس ترسل أشعّتها لتحمل بخار الماء من البحر، وتنثره على المناطق السّاحليّة…غيوم بيضاء متناثرة تجوب السّماء راسمة أشكالا مختلفة.

بدا خليل مشتّتا بأفكاره…تارة يسيطر عليه جمال الطّبيعة… يتمنّى لو أنّ من تركهم وراءه خلف الأبواب المغلقة يشاركونه هذه المتعة…تارة أخرى يفكّر بأسرته التي ستتفاجأ برؤيته…يستذكر صديقته البريطانيّة ستيفاني…تجيش عواطفه…يمنّي النّفس لو أنّها بصحبته الآن.

يُخرجه فهمي وأمّه ممّا هو فيه بكثرة أسئلتهم عن الأسرى الذين كانوا معه…طمأنهم عن الجميع…وصف أبا فهمي بأنّه كبير الأسرى عمرا ومقاما…ثقافته عالية غزيرة…وجوده في المعتقل يحفظ توازنا معيّنا…فخبرة الرّجل طويلة…وكلامه مسموع.

ابتسمت أمّ فهمي وقالت مازحة:

هل يعني هذا أنّه يجب أن يبقى في السّجن إلى ما لا نهاية ؟

فردّ خليل منتفضا:

معاذ الله… فجميع الأسرى يجب أن يتحرّروا…وفي مقدّمتهم أبو فهمي…ولو خيّروني بين حرّيتي وحرّيّته لاخترت حرّيّته…فهو بمثابة الوالد بالنسبة لي.

عندما أطلّوا على الّلطرون أشار فهمي إلى الدّير وقال:

ذلك دير الّلطرون…وعلى يسارنا بقايا ثلاث قرى عربيّة هي”عمواس، يالو وبيت نوبا” ، دمّروها في حرب حزيران 1967، بعد أن شرّدوا أهلها، وجهزّوها كمتنزه باسم كندا، تخليدا لذكرى الصّداقة الحميمة بين كندا وإسرائيل!

بعد أن عبروا واد عليّ باتّجاه القدس…وتجاوزوا بلدة أبو غوش التي كانت على يسارهم…صعدوا الجبل فأطلّت القدس الغربيّة عليهم…أشار فهمي إلى قمّة الجبل على يمينه…قال لوالدته ولخليل:

هذه قرية القسطل…تلك البناية الكبيرة التي استشهد فيها عبد القادر الحسيني قائد الجهاد المقدّس…هدموا القرية بالكامل…لم يتركوا إلّا تلك البناية…نظر خليل ولم يتكلّم…بعد أن اقتربوا من مدخل المدينة الغربيّ، قال فهمي:

هذه المقبرة اليهوديّة تقع على أراضي قرية دير ياسين التي كانت تربض على قمّة هذا الجبل…تعرضت إلى مذبحة مريعة يوم 9 نيسان – ابريل – 1948، أي بعد استشهاد القائد عبد القادر الحسيني بيوم واحد…أشار فهمي إلى سفح الجبل على يساره وقال:

تلك البيوت القديمة هي ما تبقّى من قرية لفتا المهجّرة والمدمّرة…أراضيها تمتد حتى واد الجوز وجبل المشارف…وجنوبا حتى حيّ البقعة الذي يعلو جبل المكبّر وصور باهر.

استمع خليل…ونظر…لكنّه لم يتكلّم شيئا…ساروا جنوبا…فأشار فهمي إلى مبنى البرلمان الإسرائيلي –  الكنيست –  وقال:

إنّه قائم على أراضي لفتا…وبجانبه المحكمة الإسرائيليّة العليا والمتحف.

عندما وصلوا قمّة جبل المكبّر أشار خليل إلى بناية قديمة على يمينهم وقال:

هذا هو مبني الكلّيّة العربية أوّل معهد جامعيّ في فلسطين، تأسّست عام 1926، وفي العام 1939 حوّلها أحمد سامح الخالدي إلى معهد جامعيّ لإعداد المعلّمين، وفي عام النّكبة تمّ احتلالها ونهب مكتبتها ومختبراتها.

تخطّوها ببضع مئات من الأمتار…أشار خليل إلى يساره حيث قصر المندوب السّامي الذي تحيط به أشجار السّرو…وقال:

يستعمل القصر الآن كمقرّ رئيس لقوّات الطّوارئ الدّوليّة في الشّرق الأوسط، بناه الانجليز كمقرّ للمندوب السّاميّ البريطانيّ عام 1922، بعد أن كانوا يستعملون قصر الإمبراطورة الألمانيةّ أوغستا فكتوريا، القائم على جبل الزّيتون، وتمّ تحويله لاحقا إلى مستشفى معروف الآن باسم المطّلع…التفت فهمي إلى خليل وسأل :

هل مرّت عليك قصيدة أبي سلمى”عبد الكريم الكرميّ.

خليل: أيّ قصيدة.

فهمي: التي يقول فيها:

جبلَ المكبّر..طال نومك فانتبه *** قم واسمع التّكبير والتّهليـــلا

فكأنما الفاروق دوّى صوتـــه *** فجلا لنا الدّنيا وهزّ الجيـــــلا

جبل المكبر.. لن تلين قناتنـــــا *** ما لم نحطّم فوقك الباستيـــــلا

خليل : طبعا وأحفظها عن ظاهر قلب.

***

عاد الحاج منصور ” أبو كامل ” من صلاة الجمعة وكامل وصالح وسامح يحتسون الشّاي تحت شجرة الزّيتون…جلس معهم … نادت فاطمة ابنها صالح … أخبرته أنّ المنسف جاهز … عاد إليهم … طلب منهم أن يغسلوا أيديهم فالغداء جاهز … أحضر عددا من أكياس الخيش، فرشها على الأرض على شكل مستطيل…عاد حاملا المنسف، زينب خلفه تحمل طنجرة الشّراب … اصطفّوا حول المنسف وأبو كامل يكرّر ترحابه بسامح … أخذت زينب مكانا لها بين والدها وأخيها كامل قبالة سامح … استاء أبوها من جلستها … فهذه هي المرّة الأولى التي يرى فيها فتاة تجلس على مائدة بوجود رجل غريب… سألها:

ليش يابا ما تاكلي مع والدتك واخوانك؟

ردّ كامل باسما: خير الله كثير يا أبي وبإمكانها أن تتناول غداءها معنا.

نظرت زينب إلى كامل وبسمة حييّة ترتسم على شفتيها … شعر سامح بالحرج من سؤال أبي كامل لزينب.

بعد أن ابتلعت زينب الّلقمة الأولى قفزت من مكانها كالملدوغة … صرخت ملهوفة وهي تمرّغ يديها بالتّراب لتزيل ما علق بهما من بقايا طعام، هذا خليل ينزل من سيّارة خاصّة ومعه أناس آخرون… ركضت باتجاهه… احتضنته واحتضنها … قبّلت وجنتيه وقبّل وجنتيها… أحاطت خاصرته بيمناها ومشيا باتّجاه البيت بعد أن رفض مرافقوه النّزول معه، وبعد إلحاحه وإلحاح زينب قال فهمي لوالدته:

سننزل قليلا… نهنّئ والديه … نحتسي فنجان قهوة وننصرف.

قفز الآخرون خلفها بعد أن بسمل أبو كامل وسأل:

ليش البنت نطّت كالملدوغة؟

تركوا المنسف مكانه…ركضت والدته وكامل وزوجة أبيه…أشبعوه تقبيلا…دموع فاطمة تنساب على وجنتيها وهي تهاهي وتزغرد بصوت متحشرج.

رحّب أبو كامل بفهمي ووالدته، طلب إحضار طعام لهما، إلا أن الرّجل أقسم أغلظ الأيمان أن لا يتناولوا شيئا غير الماء والقهوة.

فرحة خليل بإطلاق سراحه كانت كبيرة … عادوا إلى المنسف، ولم تعد عندهم شهيّة للطعام … قال كامل لسامح:

دعك منهم وتعال نكمل غداءنا.

–   والله لم تعد لي رغبة بالطّعام من هذه الفرحة المفاجئة، ولن أستطيع تناول لقمة واحدة.

في بيت والديّ خليل احتسى فهمي ووالدته القهوة…غادروا قائلين بأنّهم سيعودون مرّة أخرى.

بنى أبو كامل بيت الشَعَرِ على بعد حوالي مئة متر من البيت الحجريّ لاستقبال المهنّئين، الذين توافدوا زرافات ووحدانا، رجالا ونساء؛ للسّلام على خليل وللتّهنئة بالإفراج عنه…جلس كبار السّنّ من الرّجال في بيت الشّعر…في حين جلس الشّباب على الأرض تحت الأشجار، أمّا النّساء فقد تجمّعن في غرفة فاطمة وأمامها…خليل يتنقّل بين الشّباب والمسنّين والنّساء؛ ليسلّم على من يأتون إليه…وكلّ واحد منهم يريد أن يستمع لما يجري خلف الأبواب المغلقة، وما يعانيه الأسرى.

عندما وصل أبو سالم تظاهر بأنّه ملهوف لرؤية خليل…لم يكترث به أحد، سأل عن خليل فقالوا له بأنّه سيأتي بعد قليل…أقعى كما الكلب الهرم الذي تطارده الذّئاب عند رفّ البيت، بجانب أحذية الرّجال، قال لأبي كامل:

الحمد لله على سلامة الأستاذ خليل يا أبو كامل، وتهانينا لكم.

ردّ عليه أبو كامل بفتور…عندما رآه خليل من بعيد واقفا مع الشّباب، امتعض وقال: لا أهلا ولا سهلا.

لمّا وصل عدد من رجالات البلدة ترك خليل الشّباب، وقف بجانب كامل، صالح وسامح لاستقبال الضّيوف…قفز أبو سالم من مكانه…احتضن “خليل” وهو يردّد:

أهلا بالغالي…الحمد لله على سلامتك…يعلم الله كم أشتاق إليك…وعندما اعتقلوك دعوت الله لك بالسّلامة، ودعوته أن يعينك على هذا الابتلاء، وعندما عاد للجلوس، وابتعد قليلا…شتم خليل سوأة أمّه.

يخفق قلب فاطمة “أمّ صالح”والدة خليل فرحا، صوتها يعزف لحنا أنثوّيا عذبا وهي تستقبل المهنّئات والمهنّئين. زينب تركض هنا وهناك كحجل طائر الشّنار…تستقبل هي الأخرى المهنّئات…تقدّم القهوة، الشّاي والعصائر…تضحك قهقهة بطريقة لافتة…تحلم ببستان ورود تعزف فيه على أوتار قلبها…تختلس موسيقى السّماء التي تسوق الغيوم المحمّلة بمطر، فتنقلب الأرض القاحلة خضراء… يبعث دفئا في القلوب الحالمة…ويملأ بطونا كثيرة جائعة.

سامح يقف بجانب كامل وصالح…يستقبل المهنّئين، وكأنّه واحد من أهل البيت…صحيح أنّه مضطرب خائف من إمكانيّة أن ترفضه زينب كزوج لها…كان يسترق النّظر بين الفينة والأخرى لزينب…مع أنّ الرؤية ليست كما يجب…فالإضاءة عند الرّجال لا تتعدّى “فنيارا” قديما يعمل على الكيروسين، أمّا عند النّساء فهي لامبة كاز نمرة أربعة…وبسبب هذه العتمة فإن “سامح” يتخيل كلّ من يقوم بحركة نشيطة أنّه زينب…حتى أنّه ضحك من نفسه عندما اقترب من أحد الشّباب ظنّا منه أنّه زينب.

خفّت الحركة عند منتصف الّليل…استند أبو كامل  وقال موجّها كلامه للحضور جميعهم:

غداء الجميع عندي بكرة السّبت يا إخوان.

فقال المختار أبو سعيد: بل هو عندي…وعليّ الطّلاق من أمّ سعيد لن يكون إلّا عندي.

أبو كامل: وحّد الله يا رجل…غداء الجميع بكرة عندنا وسيكون لك يوم آخر.

–         كيف سيكون لي يوم آخر بعد أن رميت الطّلاق على أمّ سعيد بأن يكون الغداء عندي غدا السّبت؟

تدخّل المختار أبو محمّد وقال: دعونا من هذا الكلام…الغداء عندك يوم غد يا أبا سعيد…وبعد غدٍ عندي…وإن شاء الله لن يردّنا أبو كامل خائبين.

سكت أبو كامل مغلوبا على أمره…فقد وضعه المختار أبو محمّد تحت أمر واقع لا مفرّ منه…أمّا أبو سعيد فقد ضبط عباءته على كتفيه…وجلس متربّعا…تنحنح للفت الانتباه وقال:

سبحان الله…كيف تدور الدّوائر في بلادنا…الأستاذ خليل سجن رغم صغر سنّه…أتذكر يا أبا كامل عندما اعتقلنا الانجليز عام 1939 سنة كاملة في سجن عكّا بدون محاكمة؟ يبدو أنّهم قد أورثوا قوانينهم الجائرة لإسرائيل…التي تسجن أبناءنا بسبب وبدون سبب … لكن ” دار الظالمين خراب”.

قال فالح غاضبا: احتلال إسرائيل للأراضي العربيّة سيكون كارثة عليها عاجلا أم آجلا.

المختار أبو محمّد: يا عمّي كلّ البلاوي في منطقتنا من بريطانيا…فهي التي خلقت إسرائيل.

سامح: الدّول الكبرى تستهدفنا…بريطانيا اتّفقت مع فرنسا على تقاسم العالم العربي…وبريطانيا أصدرت وعد بلفور الذي ينصّ على إقامة وطن قومي لليهود قبل أن تنتهي الحرب العالميّة الأولى…فرنسا سلّحت إسرائيل بمختلف الأسلحة…وبنت لها مفاعلا نوويّا…إسرائيل حسمت حرب حزيران 1967 بطائرات فرنسيّة من طراز ميراج وسوبر ميستير.

المشكلة الآن في الولايات المتحدّة الأمريكيّة التي خرجت منتصرة في الحرب العالميّة الثّانية، وأصبحت القوّة العظمي الأولى عالميّا…فهي تدعم إسرائيل في مختلف المجالات، وتوفّر لها الحماية.

أصغى كبار السّنّ باهتمام لما يقوله الشّباب…حتى أنّ المختار أبا سعيد اعترف بأنّ الشّباب يعلمون بالسّياسة أكثر من المسنّين لأنّهم متعلمون، يتابعون الأخبار…ويقرأون الكتب التي تحوي معلومات كثيرة.

تدخّل كامل قائلا: إسرائيل ليست أسطورة فلا تتوهّموا عليها كثيرا…المشكلة ليست في قوّة إسرائيل، بل في ضعف الدّول العربيّة، والحروب الآن تعتمد على العلوم والتّكنولوجيا الحديثة.

قال المختار أبو محمّد: دعونا ننصرف لننام ساعتين ونستيقظ لصلاة الفجر…ولنترك أهل البيت يستريحون هم الآخرون، فغدا سيأتيهم أناس كثيرون للسّلام على الأستاذ خليل.

تمدّد خليل على فرشة أمام بيت الشّعر، فهو ظمآن لرؤية السّماء والنّجوم…يفتقد نسيم الصّباح العليل…يريد أن يستعيد ذكريات مضت، فجمال الطّبيعة يبعث السّعادة في النّفوس. ألحّت عليه والدته كي ينام معهم في الغرفة، لكنّه أصرّ على موقفه…نام أبوه داخل بيت الشّعر.

مع إطلالة الفجر تنقّل خليل من شجرة تين إلى أخرى، تستقبله زقزقات رفوف عصافير تطير، كأنّها تؤدّي له التّحيّة…يلتقط بضع حبّات…يلتهمها بشهيّة…أحضر صحنين…ملأهما بالتّين…وضع واحدا منهما أمام والده، سقطت دمعتان من عيني أبي كامل وهو يردّد:

الله يرضى عليك، ولا يحرمنا منك يا أستاذ خليل.

عندما قدّم الصّحن الثّاني لوالدته، قالت:

الله يرضى عليك ويسلّم يديك…لو انتظرت قليلا يا بنيّ لأحضرت أنا لك تينا وعنبا.

ردّ خليل على استحياء متسائلا:

وهل يعقل ذلك يمّه؟

بعد الثّامنة صباحا استغلّت بعض النّساء غياب الرّجال في العمل…جئن وبناتهنّ الصّبايا ليهنّئن بإطلاق سراح خليل…كلّ واحدة منهنّ تقول لابنتها:

جهّزي حالك جيّدا…لعلّ وعسى النّصيب يقع…فالأستاذ خليل عريس لقطة…جميعهم يذكرونه بالخير منذ سنوات…سعيدة من يكون من نصيبها…الشّباب يتجمّعون عنده الآن…فإن لم يقع النّصيب مع خليل…ربّما تنزاح القشّة عن عينيّ شاب غيره كشقيقه صالح…وهناك الكثير من الأمّهات الّلواتي ينظرن الصّبايا بعيون فاحصة.

تصل الواحدة منهنّ بيت أبي كامل…تقبّل والدة خليل، زوجة أبيه، وشقيقته زينب…حتى زوجة كامل كان لها نصيب من التّقبيل…تقول الواحدة منهنّ بأنّ الأرض لم تسعها من شدّة فرحها عندما سمعت بإطلاق سراحه…تضيف بأنّ ابنتها فلانة التي بصحبتها كانت في غاية السّعادة هي الأخرى…يذهبن للسّلام على الأستاذ خليل في بيت الشّعر…فالغرفة لا تتّسع لهنّ…الأمّهات يقبّلن”خليل” لأنّهنّ يعتبرنه مثل أبنائهنّ…تُعرّفه الواحدة منهنّ على ابنتها الصّبية قائلة:

هذي بنتي “فلانة” بالتأكيد أنّك لم تنسها.

تمدّ الصّبيّة يدها مصافحة “خليل” مع ابتسامة حييّة، صالح شقيق خليل الأكبر كان له نصيب من المصافحة والتّقبيل والانتباه أيضا، وإن بنسبة أقلّ من خليل، أمّا أبو كامل فكان يمدّ يده اليمنى مصافحا وهو جالس…فيقبّلنها كما هي العادة في مصافحة الإناث للمسنّين، صافحن “كامل” أيضا لكن بدون قبلات، فبعض الأمّهات من جيله…تجلس بعض النّساء في بيت الشّعر قائلات، بأنّهن سيغتنمن الفرصة لمشاهدة الأستاذ خليل وأسرته قبل أن يحضر الرّجال…زينب تراقب النّساء …تقرأ ما يدور في رؤوسهنّ…تضحك وكأنّ الأمر غير مقنع لها…الأستاذ خليل ذاكرته مشغولة بستيفاني صديقته البريطانيّة…لكنّه لا يبوح بسرّه لأحد.

عندما حضرت أمّ سعيد زوجة المختار…احتضنت زينب قبّلتها وهي تردّد:

هلا بالغالية والله.

زينب طيّرت قبلاتها في الفضاء فوق كتفي أمّ سعيد، وهي تضحك، دون أن يراها أحد…انتحت بها أمّ سعيد جانبا وقالت:

الآن خليل تحرّر والحمد لله…فما ردّك على طلب سامح لخطبتك يا ابنتي؟

تورّدت وجنتا زينب وهي تقول:

الجواب يأخذه الرّجال من الرّجال يا خالتي!

أمّ سعيد: أعرف ذلك…لكنّني أريد أن أطمئن “سامح”…بالتّأكيد أنت موافقة!

زينب: قلت لك بأنّ الجواب عند أبي وأخوتي.

أمّ سعيد: لا حول ولا قوّة إلّا بالله…اتّجهت إلى فاطمة والدة زينب وسألتها على انفراد:

ما رأيك أنت وابنتك بسامح يا فاطمة؟ ولو أنّ الوقت الآن غير مناسب لهكذا كلام؟

فاطمة: لن نجد من هو أفضل منكم ومن سامح يا أمّ سعيد…لكنّ الجواب عند أبي كامل…وإن شاء الله سيعطيه لأبي سعيد بعد انتهاء موجة السّلام على خليل….كلّها أيّام قليلة ستنتهي…وبعدها سيكون كلّ شيء على ما يرام.

جلست أمّ سعيد قبالة أبي كامل…أعادت التّهنئة بإطلاق سراح الأستاذ خليل…طلب أبو كامل من صالح أن يصبّ القهوة لها…تهامست النّساء فيما بينهنّ لأنّها لم تجلس معهنّ في طرف البيت…خليل يجلس وسط النّساء بناء على طلبهنّ…زينب تجلس بجانبه فخورة به…كلهنّ يحدّقن فيه كأنه قادم من كوكب آخر…يسألنه عن أوضاع الأسرى بلهجة تفيض حنانا…خليل يجيب باختصار شديد…سألته حمدة بنت أبي حامد:

هل هناك نساء في السّجون؟

ردّ خليل: نعم هناك نساء في الأسر.

وهل يتعرّضن للتّحقيق والتّعذيب؟

–         نعم يتعرّضن لذلك.

انتفضت أمّ فالح كمن لدغتها أفعى وسألت:

هل يسجنوهنّ مع الرّجال؟

خليل: هناك سجن خاص للنّساء في الرّملة…لكنّ التّحقيق في نفس المراكز التي يحقّق فيها مع الرّجال.

–         ومن يحقّق معهنّ رجال أم نساء؟

–         المحقّقون رجال.

خيّمت الحيرة قليلا على وجوه النّساء وعادت حمدة تسأل:

وهل يتعرّضن للتّعذيب؟

خليل: نعم يتعرّضن.

قالت حمدة غاضبة: حسبي الله على من كانوا السّبب في ضياع البلاد والعباد.

سألت أمّ فالح على استحياء: هل كانوا يطعمونكم في السّجن؟

ردّت زينب غاضبة: وكيف سيعيشون بدون طعام؟ طبعا يطعمونهم طعاما رديئا؛ ليبقوا على قيد الحياة…ولاحظن أنّ الأستاذ “خليل” أكثر سمنة ممّا كان عليه قبل اعتقاله.

ابتسم الأستاذ خليل وقال: هذا من كثرة أكل البطاطا المهروسة وبذور المكانس.

أمّ فالح: يا ويلي! ما هو بذور المكانس؟

خليل: البذور التي تكون على مكانس القشّ.

حمدة مذهولة: وكيف كنتم تأكلونها؟

خليل:” الجائع يأكل الضبّ اللي سلّم ع الرّب”.

فضحكن و”شرّ البليّة ما يضحك” وهن يردّدن:

حسبي الله على الظلّام وأولاد الحرام….ربّنا يجازي من كان السّبب.

زينب: ربّما هذا الطّعام رز غير مقشّر وليس بذور مكانس.

خليل: لا أعتقد ذلك…ولا أعلم إن كان للرّز قشور…ولو كان هناك رزّ غير مقشّر لبيع في الأسواق.

الصّبايا يصغين للأستاذ خليل بانتباه شديد…أعجبن بقوّة شخصيّته وثقته بنفسه…جذبهنّ أسلوبه في الحديث…كلّ منهنّ تسترق النّظر إليه خلسة…تحرص أن لا ينتبه إليها أحد…الأمّهات رأين في خليل ابنا لكلّ واحدة منهنّ…هكذا هي مشاعرهنّ التي لم تبح بها أيّ منهنّ.

ربيحة التي هي من جيل زينب، تجرّأت وسألت:

كم عدد الأسرى الفلسطينيّين يا أستاذ؟

خليل: عددهم بالآلاف…لكن بالضّبط لا أعرف العدد الصّحيح…وهناك أيضا أسرى من جنسيّات عربيّة.

ربيحة مستغربة: من جنسيّات عربيّة! وكيف تمّ اعتقالهم؟

خليل: هم من المتطوّعين في صفوف المقاومة…وقعوا في الأسر أثناء دخولهم البلاد ضمن دوريّات المقاومة…ويسمّونهم في السّجون :”أسرى الدّوريّات”.

–         وهل يسمحون لذويهم بزيارتهم؟

–         طبعا لا يسمحون…لكن هناك من يزورونهم من ذوي الأسرى الفلسطينيّين.

–         من أيّ الأقطار هم؟

–         من أقطار مختلفة…من الأردن، سوريّا، لبنان، العراق، مصر،السّعودية وغيرها.

قلن بصوت واحد:

حيّاهم الله وحيّا من ربّوهم…وان شاء الله ربنا يحفظهم ويعيدهم لأهاليهم سالمين.

وهنا حضرت والدة الأستاذ داود تتوكّأ على عصا…احتضنت “خليل”،

قبّلته…وسألت:

شفت داود يمّه يوم اعتقلوكم؟

–         نعم رأيته عن بعد…وأجلسوني وإيّاه في غرفة تحقيق واحدة لمدّة ساعتين تقريبا…لكنّنا لم نتكلّم مع بعضنا البعض.

–         ليش ما تكلّمتوا يمّه؟

–         لأنهم كانوا يراقبوننا يا حاجّة.

–         ضربوكم يمّه….الله يقطع إيديهم ويعمي عيونهم…عرفت يمّه إنهم أبعدوا داود؟

–         نعم عرفت.

–         وعرفت يمّه انّه مرته وولاده لحقوه؟

–         نعم …عرفت.

–         ليتهم سجنوه مثلك يمّه وما أبعدوه…كان ع الأقلّ ظليت أشوفه وأشوف ولاده…والله يمّه انهدّ حيلي… وبصري ضعف من كثر ما ابكي.

–         توكّلي على الله يا حاجّة…وإن شاء الله سيعودون قريبا…وربّنا يحفظ لك الآخرين.

انفضّت النّساء من بيت الشّعَرِ عندما أطلّ المختار أبو سعيد وابنه سامح…المختار يختال بعباءته كما الطّاؤوس…سامح يرتدي بدلة سوداء…قميصا أبيض وربطة عنق حمراء…صاح على أمّ سعيد طالبا منها أن تعود إلى البيت بسرعة كي تشرف على طبيخ الغداء…جزء من النّساء انصرفن إلى بيوتهنّ…عدد قليل منهنّ دخلن غرفة أمّ صالح.

بعد أن صبّ صالح القهوة لأبي سعيد وسامح…شرب سامح قهوته، بينما أمسك أبو سعيد الفنجان بيده اليمنى وقال لأبي كامل بأنّهم سيحضرون الغداء بعد صلاة الظّهر مباشرة…فردّ عليه أبو كامل قائلا بأن لا داعي لذلك…بعد الصّلاة سنذهب نحن إلى بيتكم ونتناوله هناك…فبيتكم قريب، ونقل الشّراب عمليّة فيها صعوبة…تنحنح أبو سعيد…احتسى قهوته على ثلاث رشفات…لم يهزّ الفنجان…فصبّ صالح له فنجانا آخر…احتسى أبو سعيد الفنجان الثّاني وسأل أبا كامل:

هل اتّخذتم قرارا بخصوص طّلّبِ سامح لزينب؟  التفت أبو كامل لأبنائه كي يردّوا على أبي سعيد…فقال خليل لأبيه:

أعطه الجواب بالإيجاب يا أبي…فقد أخذت زينب رأيه بالموضوع صباحا وأبدى موافقته…فسكتت باسمة وهذا علامة الرّضا.

قال أبو كامل: حيّاكم الله…لن نجد أفضل من مصاهرتكم…ولا أفضل من سامح.

أبو سعيد: لنقرأ الفاتحة…بعدها قال كلّ منهم:

مبارك إن شاء الله.

أضاف أبو سعيد: ما هي طلباتكم؟ نحن جاهزون لتلبيتها…متى تريدون الخطبة؟

أبو كامل: مهرها مثل مهر بقيّة البنات.

همس خليل بأذن كامل كلاما غير مسموع فقال كامل:

لا طلبات لنا…مهر زينب دينار مقدّم ومثله مؤجّل.

فقال سامح بأنّه سيشتري لها المصاغ الذي تطلبه والكسوة التي تريدها، واقترح أن تكون الخطبة يوم الجمعة أو السّبت القادمين حسب وقت زينب، واستأذنهم كي يشتري مصاغ زينب يوم غد الأحد…حضر بعض الشّباب للسّلام على خليل…تحدّثوا بأمور أخرى.

استأذن أبو سعيد بالانصراف، بعد أن قال لسامح:

سأذهب أنا الآن…ابق أنت هنا…فقد أصبحت من أهل البيت…وعند صلاة الظّهر تعال مع الجماعة ومن يوجد عندهم…خير الله كثير.

اقترب سامح من أبي كامل…جلس بجانبه…همس له وخليل وكامل يسمعان…مستأذنا منه بأن يسمح له باصطحاب زينب ووالدتها ومن يريد من أخوتها يوم غد إلى القدس؛ كي يشتري لها مصاغا وكسوة…وقال بأنّهم سيخرجون صباحا ليعودوا قبل أن يأتي المهنئون بإطلاق سراح الأستاذ خليل…طلب أبو كامل من خليل أن يذهب لوالدته وشقيقته ليخبرهما بذلك.

بعد قليل أشار خليل لسامح كي يتبعه…أدخله إلى غرفة أمّ كامل حيث كانت بعض النّسوة في غرفة والدته…جلسا بحضور زينب، بينما كانت أمّ صالح تجلس قليلا ولا تلبث أن تنتقل إلى الغرفة الأخرى عند النّساء…سألت “سامح”:

شو بدّك تشتري لزينب يمّه؟

استغربت زينب وخليل حديث أمّهما فقال خليل:

ما هذا السّؤال يا أمّي؟

فقاطعه سامح قائلا: سأشتري لها كلّ ما تطلبه وتطلبينه أنت أيضا.

ابتسمت زينب وقالت: والله لولا العادات ما كلّفتك شيئا…وفي الأحوال كلّها سنشتري مصاغا بسيطا…كي لا يستغيبنا النّاس.

قال سامح:سأشتري لك مصاغا لم تحلم به واحدة من بنات القرية…وليتك تتعلّمين السّياقة لأشتري لك سيّارة.

شعرت أمّ صالح بالنّدم على سؤالها السّابق لسامح…فقالت كنوع من الاعتذار:

الله يرضى عليك يمّه…لا تكلّف نفسك كثيرا.

بعدها قال سامح لخليل: جهّزوا أنفسكم؛ لنذهب إلى بيتنا في الساعة الثانية عشرة…الآن دعونا نذهب لنجلس مع عمّي أبي كامل.

جلس سامح بجانب أبي كامل…كامل…صالح وخليل قبالتهما…قال خليل لأبيه: ستذهب أمّي وكامل وزينب غدا مع سامح؛وليتك ترافقهم؛ ليشتروا متطلّبات الخطبة.

وقال سامح بأنّ والدته ستكون معهم أيضا…ثم استأذن من أبي كامل قائلا:

ما رأيكم أن نذهب الآن إلى بيتنا؟ من يريد الصّلاة سيصلّي في بيتنا.

وافق أبو كامل على طلب سامح بعد أن أمر”صالح” بأن يبقى في البيت لاستقبال من يأتون للتّهنئة بالإفراج عن خليل.

عندما تربّعت الشّمس وسط السّماء…ترسل أشعّتها الّلاهبة…كانت النّساء يجلسن أمام غرفة فاطمة زوجة أبي كامل…ظلال شجرة التّين القريبة تلطّف الجوّ…الجلوس تحت الشّجرة  مريح أكثر من داخل الغرفة، خصوصا مع عدم وجود رجال…أوقف سامح سيّارته عند أقرب نقطة من بيت أبي كامل يستطيع وصولها…أشار بيده إلى صالح…أنزلا خمسة مناسف بعثها المختار أبو سعيد غداء للنّساء…وأرسل طنجرة أخرى مليئة بالّلحم المطبوخ بالّلبن، طنجرة شراب…وعشرات الأرغفة من خبز “الشّراك” تقدمّت زينب لمساعدتهم وهي تقول:

لماذا هذه الغلبة فلا داعي لها.

احتسى سامح فنجان قهوة واقفا…فلا وقت لديه..لأنّه سيقدّم طعام الغداء للضّيوف في بيته.

***************

صباح نديّ حالم…النّسيم العليل يعزف لحن الحياة…حبّات التّين النّاضجة تبتسم لمن سيقطفها…قطوف العنب تتدلى لامعة كالبلّور…الدّيك يتبختر مختالا وسط دجاجاته…الخراف تثغو في حظيرتها…رفّ عصافير يحطّ على أشجار التّين والعنب لتملأ حواصلها.

وصل سامح بسيّارته السّوداء، التي نظّف داخلها ورشّها بالعطور…كان يرتدي بنطالا وقميصا لونهما أبيض…استقبله خليل بالأحضان…صافحته زينب باسمة…زينب كالعادة ارتدت بنطال “جينز” وقميصا أبيض، انتعلت حذاء رياضيّا…رشّت بخّات من العطر على رقبتها وصدرها…مشّطت شعرها…ربطته جديلة تتدلّى على ظهرها…بدت كفرس جامح…احتسى سامح القهوة المرّة جالسا على كرسيّ خشبيّ صغير قبالة أبي كامل في بيت الشَّعَر…جاءت أمّ صالح تحمل إبريق شاي وكاسات…تناولها منها صالح…صافحت “سامح” فقال خليل مازحا:

بوس إيد نسيبتك يا سامح.

ردّ سامح ضاحكا: وما الخطأ في ذلك فهي مثل أمّي؟

ابتسمت وقالت: الله يرضى عليك…ثمّ سألته : وين أمّك يمّه؟

–         أمّي في البيت وقالت أن لا داعي يدعوها لمرافقتنا.

–         يعني مش زعلانه ؟

–         بالعكس هي في قمّة الفرح والسّعادة…وأوصتني بأن ألبّي طلباتكم كلّها دون اعتراض على شيء.

كامل: بإمكانك أن تذهب أنت والعروس ووالدتها…ولا تفرطوا في المشتريات.

سامح : يشرّفنا أن تكون بصحبتنا.

–         لا داعي لذلك.

قال خليل: أنا سأرافقكم إلى القدس…فلديّ عمل أريد أن أقضيه.

سامح : مرافقتك لنا شرف كبير.

تركوا سيّارتهم في شارع صلاح الدّين…استأذن خليل كي يذهب حيث يريد…ساروا هم إلى باب العامود. زينب تمشي بجانب سامح كتفا إلى كتف…والدتها تسير خلفهم…دخلوا باب خان الزّيت…أشارت زينب إلى قوس حجريّ قديم يصل طرفي السّوق وسألت”سامح”:

هذه الأقواس الموجودة في أسواق القدس القديمة، هل لها ضرورة هندسيّة أم لمجرّد الزّينة؟

–         كلا السّببين…لكن بالدّرجة الأولى هي ضرورة هندسيّة لتمنع جدران أبنية السّوق من التّصدّع.

عندما دخلوا سوق العطّارين، تقدّمتهم أمّ صالح وقالت :

هذا صائغ صادق وأمين…تشتري العرائس مصاغاتهنّ منه…دخلوا محلّ الذّهب…جلس سامح على كرسيّ بعد أن قال للصّائغ :

اعرض أمامهنّ أفخر ما لديك.

قالت أمّ صالح للصّائغ: نريد قلادة ذهب انجليزيّ من اثنتي عشرة ليرة كهذه، وأشارت إلى قلادتها.

التفتت إليها زينب وقالت: رويدك يا أمّاه…وقالت للصّائغ:

أرِنا ما لديك من خواتم الزّواج؟

عرض الصّائغ علبتين مليئتين بأنواع مختلفة من الخواتم…التفتت إلى سامح وقالت له: تعال لنختر خاتمي الخطوبة.

تشاورا فيما بينهما بعد أن قلّبا عددا من الخواتم…حتى اتّفقا على نوع معيّن…أخذ الصّائغ مقاس اصبع “بنصر” كلّ منهما…أحضر ما طلبا…فقال سامح:

نريد للعروس خاتما ذا فصّ كبير أيضا يتناسب وخاتم الخطوبة…قدّم الصّائغ عدّة نماذج لهما…اختارت زينب خاتما ذا نقوش إيطاليّة لافتة…عاد سامح يجلس على الكرسيّ وأمّ صالح تراقب بعدم ارتياح لأنّهما لم يستشيراها في انتقائهما للخواتم…زينب طلبت من  الصّائغ أن يريها الطّواقم الذّهبيّة التي لديه…طلبت من سامح الرّأي في اختيار واحد منها…سألت الوالدة زينب:

ألا تريدين شراء قلادة ذهب؟

ردّت زينب بعفويّة: انتهى وقت القلائد.

والدتها: من قال لك أنّها انتهت؟

لم تجب زينب على السّؤال… غير أن سامح قال بأنّ من حقّ زينب أن تختار ما تشاء…وبعدها سيشتري لها قلادة ذهبيّة حسب طلب والدتها…جلست فاطمة على الكرسيّ مغلوبة على أمرها تمسح العرق عن جبينها بمنديل ورقيّ…تحتسي كأس شاي طلبه الصّائغ لها…في حين اختار سامح وزينب احتساء القهوة…غير راضية عمّا يجري…اقترب منها سامح وقال لها بأن تختار ما تشاء من الذّهب لها… غير أنّها رفضت ذلك بشدّة…عادت زينب تتشاور مع سامح ليختارا طاقم ذهب لائق…وقع اختيارهما على طاقم ذهب هنديّ ” سلسال ينساب على الصّدر، إسورة وحَلَق”، وضعت زينب السّلسال على صدرها…سألت سامح إن كان جميلا…فقال لها بأنّها تُجَمّل السلسال…وكلّ شيء تضعه جميل لأنّه يكتسب الجمال منها…ابتسمت لكلام سامح الذي كان قصيدة تدغدغ عنفوان أنوثتها…تنهّدت والدتها وقالت:

الذّهب الهنديّ رخيص وغير مناسب في بلادنا!

فردّت عليها زينب: كيف يكون رخيصا وهو عيار 21؟

فقالت الوالدة بصوت منخفض: حسبي الله ونعم الوكيل على بنات هالوقت! “أصغر منك طبّك واصبر على وعد ربّك.”

ضحكت زينب وسامح والصّائغ…طلب سامح من زينب أن تختار المزيد لكنّها رفضت بشدّة…التفت إلى الصّائغ وطلب منه أونصة مطوّقة مع سلسال…لم يستمع سامح لاعتراض زينب المتواصل…قدّم له الصّائغ الأونصة الذّهبيّة المطوّقة مع سلسالها…وضعها سامح بجانب الطّاقم الذّهبيّ…طلب مرّة أخرى أن يرى ما لدى الصّائغ من أساور ذهب، وسط اعتراضات زينب…عرض الصّائغ أمامه عدّة أصناف…اقترب من زينب …همس في أذنها بأن تختار واحدة منها لأمّها…رفضت زينب لكنّها ما لبثت أن اختارت سوارين متشابهين واحدا لأمّها وواحدا لأمّه…فرح سامح بلفتة زينب الكريمة تجاه والدته…وضعهما في علبتيهما على جانب…عاود الطّلب من زينب كي تختار عددا من الأساور لكنّها رفضت بإصرار…فاختار لها أربع”سلاتات” اثنتين لكلّ معصم من يديها…طلب من الصّائغ أن يعمل الحساب…وزن الصّائغ كلّ نوع على حدة…جمع حسابه بعد أن قال:

هذا وزنه سبعماية وخمسة وعشرون غراما.

أمّ صالح: يا سواد وجهك يا فاطمة … هذا كثير…والله غير يبهدلوني. ردّ نصفه يا ابني يا سامح.

ردّ سامح قائلا: صلِّ على النّبي يا أمّ صالح…يفضحونك على ماذا؟ والله لن نردّ منه شيئا.

وضع الصّائغ مصاغ زينب في كيس خاص…وسواري أمّ صالح وأمّ سعيد في كيسين آخرين بناء على طلب سامح…أعطى زينب سوار أمّها لتضعه في حقيبتها، وقال لها بأن تعطيه لها في البيت…وضع سوار والدته في جيبه…أعطى مصاغ زينب لوالدتها…دفعوا الحساب وخرجوا لشراء الملابس…قادهم سامح إلى شارع صلاح الدّين… اشترت زينب فستان خطبة…بنطالين…قميصين…وملابس داخلية…رفضت أن تختار أيّ شيء آخر…إلّا أنّ سامح اختار لها بدلة لها بنطال وتنّورة…وأصرّ عليها أن تقيسها…فقبلتها دون رغبة منها.

خرجوا ليشتروا الحلوى إلّا أنّ سامح قال:

الآن إلى الغداء والحلوى سأشتريها أنا يوم غد….سنشتري فقط شيئا من الحلوى لاستهلاكه في بيتكم هذا اليوم.

*****

ذهب خليل إلى بيت الأستاذ جورج في حارة النّصارى…وجده بانتظاره بناء على اتفاق بينهما في الّليلة الماضية، عندما جاء جورج للسّلام على خليل وتهنئته بالإفراج عنه…استقبلوه بالأحضان حتى أنّ أمّ جورج بكت فرحا وهي تحتضن”خليل”.

اتصلّ خليل هاتفيّا بستيفاني من بيت جورج…كانت مفاجأة سارّة لستيفاني التي صرخت من شدّة الفرح…تركت الهاتف…سمعها وهي تخبر والديها بأنّه قد تمّ الإفراج عن خليل…عادت إلى الهاتف تقول فرحة:

يا إلهي! أين أنت الآن يا خليل؟

–         في القدس.

–         هل أطلقوا سراحك؟

–         نعم.

–         لماذا لم تخبرني أنّهم سيطلقون سراحك كي أكون في استقبالك؟

–         أطلقوا سراحي فجأة، ولو كنت أعلم ذلك مسبقا كيف سأخبرك؟

–         سأكون عندك في أوّل طائرة ستغادر لندن إلى مطار  تل أبيب…وسأنتظرك في فندق الأميركان كولوني…سأتّصل بصديقك جورج كي يخبرك بموعد وصولي…أشتاقك كثيرا يا حبيبي.

–         وأنا أشتاقك أيضا…إلى الّلقاء فأنا أتكلّم من بيت صديق.

–         لا تغلق الهاتف سأغنّي لك أغنية قصيرة عن الحرّية حفظتها خصّيصا لهذه المناسبة، اسمها “ممفيس بلوز” لكريستوفر هاندي.

–         لا وقت للغناء الآن يا حبيبتي.

–         بلوز حبيبي خليل أغان ابتكرها الأمريكيون السّود في ولاية مسيسيبي في العقد الثّاني من القرن العشرين…وهي أغانٍ للحرّية.

–         سنغنّيها سويّا عندما سنلتقي…وداعا الآن يا حبيبتي كي لا أزعج أصحاب البيت.

أغلق الهاتف واعتذر لجورج وأسرته…فسأله جورج:

لماذا أغلقت الهاتف يا رجل وهي تتكلّم معك؟ ومن قال لك بأنّنا منزعجون؟

–         انسَ الموضوع…ستتّصل على هاتفكم كي تخبرني عن طريقكم ساعة وصولها القدس.

–         لا تهتمّ…عندما تصل وتتّصل سآتي إلى بيتكم لأصطحبك معي إلى مكان إقامتها.

قال خليل وحمرة تعلو وجهه:

إيّاك أن تخبر أحدا عن ذلك عندما تأتي إلى بيتنا…فجماعتنا يعتبرون ذلك جريمة.

ضحكت زوجة جورج وقالت من المطبخ المكشوف على صالون البيت وهي تعدّ وجبة الغداء:

هذه فتاة أوروبيّة…وعاداتهم تختلف عن عاداتنا العربيّة…هي فخورة بعلاقتها بك…ووالداها سعيدان لسعادة ابنتهما…وأنت خائف من أن يعلم ذووك بتلك العلاقة!

سكت خليل ولم يتكلّم شيئا فسألته أمّ جورج:

هل ستتزوّج هذه الفتاة الإنجليزيّة يا ابني؟

–         لا أعلم حتّى الآن لكنّني أشتاقها.

جورج: هل تحبّها أم تشتهيها؟

–         لا أعرف.

أمّ جورج: بدّك نصيحتي؟ “من طين بلادك لطّ اخدادك”.

ضحكت سلوى  زوجة جورج وقالت:

وإذا كان طين بلاد الآخرين أنظف من طين البلاد…شو المانع “تلطّ اخدادك منه”؟

أمّ جورج: والله يمّه ما يستر الواحد مثل بنات بلاده…والإنجليز مش سهلين…يضحكوا في وجه الواحد ويخربوا بيته من وراه.

جورج: دعونا من هذا الكلام…والآن ما هو رأيك أن تتكّلم عن تجربتك الإعتقاليّة بدعوة من النّقابات في المدينة…فقد كلّفوني أن أوجّه لك دعوة بهذا الخصوص؟

خليل: لا مانع لديّ، لكن متى؟

جورج: في السّاعة الثّالثة من بعد ظهر السّبت القادم في قاعة سينما الحمراء في شارع صلاح الدّين.

خليل: ممتاز…هذا وقت مناسب.

جورج يسأل “خليل”: هل ستكمل تعليمك في معهد بير زيت؟

خليل: طبعا…في بداية العام الدّراسيّ.

سلوى: ماذا تدرس يا خليل؟

–         لغة انجليزيّة.

–         آه…حلو…كي تستطيع الحديث بطلاقة مع حبيبة القلب…قالتها ضاحكة وبلهجة فيها سخرية.

سأل جورج خليلا إن كان يريد احتساء كأس ويسكي أو زجاجة بيرة، اعتذر خليل وقال: النّاس يأتون للسّلام عليّ…وأخشى أن يشمّوا رائحة الكحول عندما يعانقونني.

جورج: لن ينتبه لرائحة الكحول إلّا من يحتسيها ويعرفها.

ضحكوا على ذلك. لكنّ أمّ جورج طلبت من كنّتها سلوى أن تعدّ فنجاني قهوة واحد لها والآخر لخليل.

أحضرت سلوى فنجاني القهوة…وجدت “خليل” يحتسي البيرة…وضعت فنجانا أمام حماتها، وأخذت الثّاني لنفسها بعد أن قالت لخليل: صحتين.

*****

عندما عاد سامح، زينب وأمّ صالح إلى البيت…نزل سامح من السّيارة…حمل المشتريات هو وزينب…عشرات الأشخاص ينتظرون خليلا للسّلام عليه…المختار أبو سعيد كان موجودا هو الآخر…سأل أبو كامل:

وين خليل يا عمّي يا سامح؟

–         خليل تركنا وذهب في طريقه منذ وصولنا القدس.

–         وين راح؟

–         لا أعرف…قال بأنّ لديه عملا خاصّا.

–         لا حول ولا قوّة إلّا بالله…ماذا سأقول لهؤلاء النّاس الذين ينتظرونه؟ غالبيّتهم ليسوا من أبناء البلدة.

أبو سعيد يوجّه كلامه لابنه سامح:

إن شاء الله تسهلّت أموركم، واشتريتم الأغراض؟

–         الحمد لله كلّ شيء على ما يرام.

اقترب أبو سعيد من أبي كامل وقال له بصوت منخفض:

شو رايك تكون الخطبة بعد صلاة الجمعة القادمة؟

–         الله يحيينا.

–         يعني اتفقنا؟

–         توكّل على الله.

عاد خليل بسيّارة أجرة بعد صلاة العصر…بدا متعبا…استقبله المهنّئون بالأحضان…احتضنه الأستاذ فؤاد بحرارة وقال له:

من المفترض أن أكون أوّل المستقبلين لك فور الإفراج عنك…لكنّني أعتذر لأنّني كنت في رحلة مع الأسرة إلى شمال البلاد، نمنا ليلة في حيفا، وليلتين في طبريّا…زرنا الجليل الأعلى وهضبة الجولان…ولو علمت أنّه سيفرج عنك لأجّلت الرّحلة.

خليل باسما: صحتين …افتقدتك والله…لكنّني أعذرك وأغبطك على رحلتك الجميلة.

فؤاد: لك عليّ رحلات وليس رحلة واحدة…فقط حدّد الوقت الذي يناسبك.

–         شكرا لك…الأيّام بيننا.

الطّقس حارّ…شمس آب- أغسطس- لاهبة خصوصا داخل البيوت… أمّ كامل تتصبّب عرقا…تمسح عرقها بردنها…فهي منذ الصّباح جالسة بجانب بابور الكاز…تغلي قهوة وشايا…تساعدها كنّتها زوجة ابنها كامل…عندما عادت زينب ووالدتها…طرحتا السّلام…تجلس زينب على أرض الغرفة فرحة ساندة ظهرها إلى جدار الغرفة…قبل أن تضع فاطمة المشتريات في صندوقها الخشبيّ تقدّمت من ضرّتها وقالت:

ربّنا يعطيك العافية يا أمّ كامل…هذا مصاغ زينب اللي اشتراه سامح…والله ما كنّا بدنا نشتري كلّ هذا …لكنّه “راسه والف سيف” إلّا يشتريه…خذي تفرّجي عليه…وأنا بأكمّل شغل عنّك.

ابتعدت أمّ كامل بتثاقل من جانب بابور الكاز وهي تقول:

ألف مبروك إن شاء الله بتتهنّي يا بنيتي يا زينب…وعقبال فرحتنا بصالح وخليل يا ربّ…جلست بجانب زينب…أخرجت علب الذّهب من الكيس…لم تفتح أيّا منها…فقط وضعتها أمامها على الأرض…مدّت زينب يديها…فتحت العلب…وضعتها أمام زوجة أبيها…طلبت منها أن تتفقّدها…نظرت أمّ كامل بعينيها وسألت:

وين القلادة؟

ردّت أمّ صالح: ما رضيت زينب تشتري قلاده…وقالت إن القلايد راح موديلهن…واشترت اللي انت شايفتيه.

مدّت أم كامل يدها…رفعت السّلسال الذّهبيّ من علبته…تمعنّت فيه ووصفته بأنّه مثل خشاخيش الأطفال…فانفرطت زينب ضاحكة…وظهر الغضب على وجه والدتها…لكنّها لم تتكلّم شيئا…كلّ ما فعلته أنّها نظرت إلى زينب نظرة عتاب، وكأنّها تذكّرها برأيها حول قلادة الذّهب.

*****

عند ظهر السّبت جاء سامح بسيّارته ليقلّ خليلا معه إلى سينما الحمراء في شارع صلاح الدّين…ليتحدّث عن تجربته الاعتقاليّة…جلسا على كراس خشبيّة تحت شجرة زيتون…جاءت زينب تحمل القهوة باسمة…صافحت سامحا…جلست بجانبه…فهما الآن خطيبان…بل هما زوجان شرعا…فقد كتبا عقد زواجهما يوم أمس في الخطوبة التي تمت بحضور عشرات الأشخاص، لكن بدون أيّ مظهر من مظاهر الفرح…حتى عندما أطلقت أمّ سعيد زغرودة بعد عقد الزّواج صاح بها زوجها أبو السّعيد مستنكرا فعلتها…فانكمشت على نفسها كأنّها تريد أن تتوارى عن الأنظار، عندما احتسيا القهوة سأل سامح خليلا:

هل أنت جاهز كي نمشي؟

خليل: لا يزال الوقت مبكّرا.

فقالت زينب: بعد الغداء سنغادر سويّة…سأكون بمعيّتكما مع أنّ أحدا منكما لم يدعني لمرافقتكم.

فردّ سامح ضاحكا: أنت من أهل البيت…ومن المفروض أن توجّهي الدّعوات أنت، لكن ما رأيكما أن نغادر الآن…وسنتناول غداءنا في القدس.

ابتسمت زينب وقالت مازحة: الغداء سيكون جاهزا خلال دقائق…ولا يليق بنا أن نتركه…نتغدّى هنا والعشاء في القدس.

ضحكوا جميعهم من اقتراح زينب، لكنّ سامح أضاف بأنّ العشاء والسّهرة سيكونان في القدس.

عندما وصلوا قاعة السّينما، عدد كبير من النّساء والرّجال كانوا في انتظارهم…يتقدّمهم النقابيّون الّذين رتّبوا هذا الّلقاء…اصطفوا بجانب بعضهم البعض…صافحوا خليلا بالأحضان…مع أنّ غالبيّتهم كانوا في بيته خلال الأسبوع المنصرم، شعر خليل من حفاوة الاستقبال بكبرياء لم يشعر بها من قبل…خصوصا عندما صافحه رجال ونساء لا يعرفهم من قبل…فقد رأى فيهم الوطن يحتفي به، احتسوا القهوة…تحدّثوا بمواضيع كثيرة حتّى يحين وقت المحاضرة في السّاعة الثّالثة…منعت شرطة الاحتلال من وقفوا على رصيف الشّارع حتّى يحين الموعد…سجّلت بطاقات هويّاتهم…سلّمت البعض منهم إستدعاءات للحضور إلى شرطة المسكوبيّة…لم يكترث الشّباب بذلك، فقد اعتادوا عليه.

في الثّالثة جلس خليل على المنصّة أمام الجمهور وبجانبه رئيس نقابة عمّال الفنادق، الذي قدّم خليلا بكلمات رقيقة…عندما جاء دور خليل قوبل بعاصفة من التّصفيق كسرت حاجز الهيبة والتردّد عنده…فهذه هي المرّة الأولى التي يقف فيها أمام جمهور…شرح للحضور عن كيفيّة اعتقاله…التحقيق معه…ما تعرّض له من تعذيب جسديّ ونفسيّ…كيف وضعوه في غرفة للعملاء الذين حاولوا خداعه والحصول على اعتراف منه…تحدّث عن نبع القمل الموجود في المعتقل…ثم انتقل إلى الحديث عن أوضاع السّجن…الطّعام الذي يقدّم للأسرى…الحالات المرضيّة، كانت ملامح وجهه ولهجته تشيان بضيق شديد…فهذه الذّكريات مؤلمة إلى حدّ الجلد…تكلّم عن وباء الدّمامل التي انتقلت عدواها إلى الأسرى كافّة في ذلك القسم…وعندما قال بأنّ الدّمامل لا تظهر إلّا في أضيق المناطق من جسم الإنسان…ضحك غالبيّة الحضور، خصوصا عندما سأل أحد الشّباب بعفويّة وبراءة: يعني وين أضيق المناطق؟

فردّ عليه خليل: بين الفخذين.

تكلّم خليل ساعة ونصف….بإمكانه أن يتحدّث أكثر فلديه ما يقوله…لكنّ عريف الحفل طلب منه أن يتكلّم لمدّة ساعة…وليكن لأسئلة الحضور ساعة أخرى.

بعد انتهاء الحفل صعد غالبية الحضور على خشبة المسرح لمصافحته ولإبداء الإعجاب بجرأته وطريقته الجذّابة في الحديث…عانقوه مرّة أخرى…لفت انتباهه فتاة هيفاء حوراء جميلة تجلس في الصّفّ الأوّل مصغيّة بحواسّها كلّها…تبكي أحيانا من هول ما تسمع…صافحته…طبعت قبلة على كلّ وجنة من وجنتيه…طبعت القبلة الثّالثة على شفتيه وهي تقول:

اسمي رُلى…ناولته ورقة مكتوب فيها رقم هاتفها…رجته بصوت منخفض أن يتّصل بها لأمر هام، أو أن يحدّد لها موعدا لتجلس معه على انفراد…وضع الورقة في جيبه وهو يقول لها:

إن شاء الله.

تركته رُلى لتتيح للآخرين مصافحته…وقفت بجانب زينب وسامح

تراقب ما يحدث، لم تكن على معرفة بهما…فسألتها زينب وهي تضع رأسها على كتف سامح، الذي كان يحيط خاصرتها بيمناه:

منذ متى تعرفين الأستاذ خليل؟

–         لم أره إلّا هنا…لكنّني سمعت عنه الكثير…فتمنّيت لقاءه…ويبدو أنّ أمنيتي قد تحقّقت…وأنتِ هل تعرفينه؟

ردّت زينب بلا مبالاة: تقريبا!

–         منذ متى تعرفينه؟

–         أعرفه من سنوات عمرينا الأولى.

–         هل هو جاركم أم زميلك في معهد بير زيت؟

–         لا هذه ولا تلك.

تمعّنت رُلى بزينب وسألتها وعصافير الحيرة تحلّق فوق رأسها:

–         ألست أنت طالبة في معهد بير زيت؟

زينب: نعم… كيف عرفت ذلك؟

رُلى: أنا أدرس هناك…رأيتك في المعهد، وأعتقد أنّك تدرسين الّلغة الانجليزية.

انتبهت إليها زينب من جديد وقالت:

صحيح…وأنا كنت أراك أيضا…لكنّنا لم نتعارف من قبل…مدّت يدها اليمنى لتصافح رُلى وهي تقول:

أهلا بك اسمي زينب…هذا خطيبي سامح.

ردّت رُلى قائلة ويداهما متشابكتان:

أهلا بكما…أنا اسمي رلى …أدرس الّلغة العربيّة.

سألت رلى زينبَ: هل تعرفين إن كان الأستاذ خليل سيعود لإكمال دراسته في معهد بير زيت أم لا؟

زينب: الجواب عنده…بإمكانك أن تسأليه.

نزل خليل من على خشبة المسرح يحيط به عدد من النّقابيّين…أشار لزينب وسامح كي يقتربا منه ليغادروا سويّا…مشت رُلى خلفهم… التفت إليها سامح…طلب منها أن تذكّره باسمها مرّة ثانية، ولمّا سمع اسمها أنشد قائلا:

رُلى عرب قصورهم الخيام … ومنزلهم حماة والشآم

إذا ضاقت بهم أرجاء أرض … يطيب بغيرها لهم المقام

غزاة ينشدون الرّزق دوما … على صهوات خيل لا تضام

غرامهم مطاردة الأعادي … وعزّهم الأسنّة  والسّهام

إذا ركبت رجالهم لغزو…فما في رهطهم بطل كهام

ولا يبقى من الفرسان إلا … عجايا الرّبع والولد الفطام

رقص قلب رُلى فرحا طفوليّا لسماع هذه الأبيات…شكرت خليلا…فدعاها لتجلس معهم إن كان لديها وقت…وجدتها فرصة سانحة عليها أن لا تضيعها…فقالت بأنها تتشرّف برفقته إن كان ذلك لا يزعجه، أو يزعج زينب وسامح…فطمأنها قائلا:

هذان شقيقتي وخطيبها.

رأت رُلى في ذلك شيئا أدخل السّعادة إلى قلبها…فبإمكانها أن توثّق علاقتها مع زينب؛ لتستغلّ ذلك للتّواصل المستمرّ مع خليل…مشى خليل ورُلى خلف زينب وسامح في الطّريق إلى الفندق الوطنيّ…سألت زينب سامحا وهي تضحك:

أين ستأخذنا الآن؟

–         إلى حيث تشاؤون.

–         اختر لنا مكانا لائقا.

–         ما رأيكم أن نذهب إلى فندق المطعم الوطنيّ…على “الرّوف”هناك مطعم فاخر، وجلسة هادئة.

قال خليل: لا داعي لذلك…فلسنا بحاجة إلى طعام الآن، وربّما هم ينتظروننا في البيت.

فقالت زينب: لماذا ينتظروننا؟ هل يخافون علينا أن نضيع في القدس؟

ضحك سامح وخليل…قال خليل مازحا:

لا خوف علينا من الضّياع ونحن برفقتك، لكنّ الوالد قد يفتقدك أنت وحدك…فالبلدة لم تعتد أن تمشي فتاة مع خطيبها.

زينب: يا إلهي! أنا مع خطيبي وبرفقة أخي.

خليل: سينتقدون ذلك ولو كنت برفقة أفراد الأسرة كافّة…أليس كذلك يا سامح؟

سامح: كلامك صحيح…مع أنّ بعض عاداتنا بحاجة إلى تغيير…وإذا لم نغيّرها أنا وأنت وأشباهنا فمن سيغيّرها؟

ردّت زينب ضاحكة: أنا من سيغيّرها.

قال سامح: أقترح أن نجلس في مكان جميل إن لم يعجبكم مطعم الفندق، فاختاروا مكانا آخر…الوقت لا يزال مبكّرا… بإمكاننا أن نجلس أكثر من ساعتين، وسنعود إلى البيت قبل غروب الشّمس.

قالت زينب: اقتراح رائع…أنا موافقة.

فقال خليل: لا بأس في ذلك…ما دامت هذه رغبتكما فأنا لا أستطيع أن أرفض…التفت إلى رُلى وسألها إن كانت تعرف مكانا أفضل من مطعم الفندق…ردّت بحياء:

أنا مدعوّة لا داعية…يضاف إلى ذلك أنّني لم أعتد الجلوس في الفندق الوطنيّ ولا في غيره.

على سطح الفندق حيث المطعم اختار سامح طاولة على الشّرفة الشّماليّة للفندق، مفسّرا ذلك بأنّ هذه الشّرفة هي المكان الأكثر هدوءا والأبعد عن عيون النّاس، فوافقوه على ذلك دون نقاش…كان واضحا أنّ سامحا معتاد على ارتياد المكان، في حين أنّ الآخرين لم يدخلوه من قبل، حتّى أنّ زينب ورُلى قد دهشتا من دخول المصعد، فهذه هي المرّة الأولى التي تريان فيها مصعدا، فوصفته زينب بأنّه يشبه القبر، أمّا خليل فقد أراد استطلاع القدس من هذا المكان…لم يجلس على الطّاولة…وقف بجانب الزّجاج الذي يحيط بها…نظر المكان…شعر بغصّة وهو يرى أعمال البناء التي يتمّ فيها توسيع الجامعة العبريّة على جبل المشارف، على حساب أراضي العرب…بدا له حيّ الشّيخ جرّاح…فانفتحت في نفسه جروح أعادته إلى ذكرياته عن حرب حزيران 1967…انتقل إلى الجهة الشّرقيّة…رأى من هناك جانبا من مستشفى جمعيّة المقاصد الخيريّة الذي يقوم على قمّة جبل الزّيتون.

زينب وسامح يتهامسان بنعومة…رُلى وجدت نفسها في موقف لا تحسد عليه…فقد شعرت أنّها تشكّل إزعاجا غير مقصود لسامح ولزينب، وتمنعهما من البوح كما يشاءان…فهذه هي المرّة الوحيدة التي أتيحت لهما ليجلسا منفردين…حملت حقيبتها…استأذنتهما بأنّها تريد مشاركة خليل في اغتراف نظرات إلى المدينة المقدّسة…وقفت بجانب خليل باسمة تنظر القدس، ابتسم لها هو الآخر…أبدت إعجابها الشّديد بما يريانه من جنبات مدينتهما…انتقلا إلى الجهة الجنوبيّة…بدت لهما الواجهة الشّمالية الشّرقيّة من سور القدس التّاريخي…كما بدا لهما باب السّاهرة…خليل يعيش تناقضا رهيبا عندما يرى القدس القديمة…فهو يرى التّاريخ والأمل والنّصر…تماما مثلما يرى خيبات الهزيمة…ولا يستوعب مطلقا أن تكون مدينته بقدسيّتها وبهائها ترضخ لاحتلال همجيّ…الحزن والفرح يعزف كلّ منهما نغماته في عقل الرّجل…أخبر رُلى بأنّه يشعر بتقصير كبير، فمنذ الإفراج عنه قبل أسبوع لم يتجوّل في مساجد وكنائس وأسواق وحارات المدينة…دخلها عابرا بسرعة إلى بيت صديقه جورج في حارة النّصارى، وعاد طريقه كما دخلها….لم يخبرها أنّه ذهب لبيت صديقه جورج لمهاتفة صديقته البريطانيّة ستيفاني، فهي لا تعلم علاقته مع ستيفاني ولا مع غيرها…وهو يتكتّم على ذلك.

اقتربت منه رُلى حتى لامس جانبها الأيسر جانبه الأيمن…تطاير شعرها ليلامس وجهه…شعر بدفء لم يعرفه من قبل…سألته إن كان وقوفها بجانبه يزعجه…نفى ذلك مؤكّدا أنّه سعيد بوجود فتاة حسناء مثلها برفقته…لكنّه شرح لها عن هموم القدس التي تسيطر عليه…أخبرته بأنّها سعيدة بلقائه…وهذه أمنية لها تحقّقت بعد انتظار طويل…فقد سمعت عنه الكثير أثناء اعتقاله…فالأساتذة والطلبة في معهد بير زيت ذكروا اسمه أمامها كثيرا…كما أنّها قرأت وسمعت عنه من خلال وسائل الإعلام…رحّب بها خليل وشكرها على اهتمامها…لكنّها سألته عن رقم هاتفه قبل أن يعودا إلى الجلوس مع زينب وسامح…قال لها بأنّه لا يوجد عنده هاتف…ففي قريته لا توجد هواتف…قالت أنّ في بيتهم الكائن في حارة السّعديّة هاتفا…وفي البيت الذي تستأجره في رام الله مع زميلات هناك هاتف أيضا، ورقمه هو الذي كتبته له، أمّا هاتف بيت الأهل فهي لا تستطيع أن تستعمله في الحديث مع شاب…اتفقا أن يلتقيا يوم الجمعة القادم في نفس المكان…وعادا ليجلسا مع زينب وخطيبها سامح.

تمنّت زينب لو أنّ وقفة خليل ورُلى قد طالت…ابتسمت لهما وقالت:

يبدو أنّكما تعرفان بعضكما البعض منذ سنوات.

ارتبكت رُلى قليلا …لكنّ خليلا أنقذ الموقف عندما قال بأنّه يعرفها منذ أيّام دراسته في معهد بير زيت، فانفرجت أسارير رُلى.

عندما جاء النّادل طلبت زينب عصير برتقال طازج…سامح طلب قهوة عربيّة…سأل خليل رُلى إن كانت تريد أن تأكل شيئا…فردّت عليه سائلة إذا ما كانوا هم أيضا يريدون أن يأكلوا شيئا…فهم خليل من سؤالها أنّها جائعة…طلب صحن مشاوٍ لشخص واحد، كأس عصير برتقال لرُلى…وطلب لنفسه زجاجة مشروب غازيّ.

طلبت زينب من سامح أن يرافقها للنّظر إلى القدس من جوانب المطعم…هي في الواقع تريد الانفراد به…وضع يده على خاصرتها…وبادلته الفعل نفسه…شعرت بأنفاسه تردّ إليها روحها…تراقص حواسّها…تهدم كلّ الحواجز بينهما…سألها عن السّاعة التي ستنهي دوامها في معهد بير زيت…أعطته برنامج دوامها الأسبوعي…قال لها بأنّه سينتظرها يوم غد أمام المعهد…ليحملها معه إلى رام الله…يتناولان غداءهما سويّة ثمّ يعيدها إلى سكنها في شارع الإرسال…تظاهرت بعدم الاكتراث وسألت من باب عزّة النّفس المصطنعة:

وماذا سيقول النّاس عنّا؟

صعقته إجابتها وقال بنبرة حادّة: سيقولون رجل يمشي مع زوجته.

–         لكنّنا لم نتزوّج بعد.

–         أنسيتِ أنّنا كتبنا عقد زواجنا؟

احمرّ وجهها وهي تقول بأنّ الناس لا يعترفون بزواج اثنين ما لم يكن هناك حفل وإشهار للزّواج…وافقها على ذلك…لكنّه قال:

سنقيم حفل”طبيخ” ندعو إليه الأهل والأصدقاء…أمّا الغناء فلم يعد موجودا بعد حرب حزيران…فليكن كيفما يرتضيه.

ردّت زينب: على رأي جحا:”سألوه شو دينك. فأجاب :مثل أهل بلدي”…وفي الأحوال كلّها لا بدّ من إخبار الأهل بأنّني سأخرج معك في رام الله.

عندما طلب خليل وجبة شواء لشخص واحد، ظنّته رُلى بأنّه طلبها لنفسه…أشار خليل للنّادل أن يضع وجبة الشّواء أمام رُلى، حاولت رفضها…لكنّه قال لها بأنّهم أكلوا منسفا قبل ساعات ثلاث…وهدّد بأنّه سيغادر الجلسة إن لم تتناول طعامها…مدّت يدها إلى الطّعام على استحياء وهي تقول:

لم أعتد أن آكل طعامي وحدي.

ابتسم خليل وقال ضاحكا: أنت لست وحدك! أم أنّك لا ترينني؟

تحدّثت رُلى شيئا عن أسرتها في محاولة منها للتّعارف مع خليل…أخبرته أنّ أباها طبيب يعمل في الكويت…وحالت حرب حزيران دون عودته إلى البلاد…عملت له زوجته “جمع شمل” لكنّها لم تحصل على الموافقة بعد…وهي تعيش الآن في بيتهم في حارة السّعدية مع زوجة أبيها وشقيقيها الّلذين يكبرانها عمرا…كبيرهما اسمه خليل أيضا…سينهي دراسة الهندسة في جامعة القاهرة هذا العام، والثّاني ناصر يدرس الطبّ سنة ثالثة في الجامعة الأردنيّة، أمّا شقيقتها الكبرى سماهر فهي متزوّجة…قالت بأنّها من بيتها تستطيع أن ترى المسجد الأقصى ومآذن الكثير من المساجد والكنائس داخل المدينة القديمة…غبطها خليل على ذلك…تفاجأ عندما قالت له بأنّها تعشق الرّيف، وتحبّ العيش فيه…لمّا سمع كلامها عرض عليها مازحا أن يتبادلا السّكن…وقال بأنّ القدس القديمة عشيقته السّاحرة التي يستوحي من عبقها التّاريخ والقداسة والجمال، فردّت عليه بأن لا أحد يعشق القدس أكثر منها، وهذا العشق لا يمنعها من عشق الرّيف أيضا، فبلادنا جميعها جميلة ومقدّسة.

***

تنتظر فاطمة فترة انتهاء الاحتفاء بالإفراج عن خليل كي تطرح قضيّة زواج ولديها صالح والأستاذ خليل، وترى أنّ هذا الزّواج سيتمّ مصاحبا لزواج زينب، زوجها منصور يرى أنّ زواج خليل له الأولويّة كي يشعر بالمسؤوليّة تجاه بيته وأسرته، فيبتعد عن السّياسيّة وأهلها؛ حتى يرتاح ويريحهم.

عاد خليل، زينب وسامح من القدس قبل غروب الشّمس…أبو كامل يجلس في بيت الشَّعَر صحبة زوجتيه وأبنائه…يتحدّثون حول زواج صالح وخليل الذي طرحته والدتهم بإلحاح…شاركوا في الجلسة…سأل أبو كامل خليلا:

شو رايك يا خليل نطلب لك بنت على شان نفرح فيك؟

ابتسم خليل وردّ سائلا: لِمَ هذه العَجَلَةِ؟

–         الزّواج نصف الدّين.

فاطمة: يمّه – الله يرضى عليكم ويخلّيكم…بدنا نفرح فيكم.

خليل: ستفرحون بإذن الله…زوّجوا “صالح” هذا العام…لنفرح به…وأنا سأتزوّج عندما يحين وقتي!

كامل ضاحكا: ومتى سيحين وقتك؟ هل لم تنضج بعد؟

أمّ صالح غاضبة: أنت رجل وللا لأ؟

لم يرد عليها، لكنّ صالح قال:

نحن لسنا مؤهلّين للزّواج بعد…دعونا نبني بيتا نسكنه أوّلا.

أمّ صالح: البيت ليس مشكلة…سنبنيه بسرعة.

صالح: رائع…بعد بناء البيت وتجهيزه سأتزوّج أنا.

أبو كامل: كل واحد منكم يحطّ عينه على بنت لنخطبها له.

زينب ضاحكة: خليل عينه خارج البلد!

انتبهوا جميعهم للقنبلة التي فجّرتها زينب…قالت والدته بأنّه على الشّباب أن يدركوا أنّ من يسترنهم هنّ بنات البلدة “من طين بلادك لطّ خدودك” ولم تؤمن للحظة أنّ خليلا يمكنه الزّواج من خارج بنات البلدة، إلّا أن أبا كامل قال:

كلّ الناس خير وبركه…ولّلي منكم عينه ع بنت يقول عنها وسأطلبها له.

ضحك كامل وتساءل: هل تعتقدون أنّ بنات النّاس معروضات للبيع كالخضار والفواكه، وينتظرن من يشتري؟

سأل أبو كامل “سامح”: شو رايك يا عمّي يا سامح؟

سامح: الرأي للعرسان.

أبو كامل: الله يرضى عليك يا عمّي تقنع خليل بالزّواج…هذا ولد “مش معجبه العجب ولا الصيام في رجب”

سامح: اتركوا خليلا وحده…فهو أدرى بمصلحته.

أمّ صالح: يعني فكركم إنّا بدنا نغشّه؟

سامح: أعوذ بالله! من قال هذا؟

أبو كامل: فكّروا بالموضوع وبكره يفرجها ربنا.

أمّ صالح: فكّرنا وخلّصنا…سنخطب لصالح بنت خاله موسى.

فتح صالح فمه لينفي ذلك، لكنّ “خليل” سبقه قائلا:

اتركونا من زواج الأقارب…فهو لا يجلب إلّا العاهات.

ضحك الجميع إلّا والدته التي قالت غاضبة:

يا خيبتك يا فاطمة…ما تحرّيت منّك هالكلام يمّه يا خليل…مين قال لك إنه خالك واولاده عاهات؟

ردّ خليل بهدوء قائلا: أنا لم أقل ذلك عن خالي ولا عن أولاده، بل عن زواج الأقارب…وهذا ما يعرفه جميع البشر.

لم يُرد سامح أن يخوض معهم في أمر عائليّ…استأذن وانصرف…فقال أبو كامل:

شو رايك يا صالح بفريدة بنت أبو السّعيد؟

انتفض كامل وقال: هذا تفكير خاطئ…لأنّها ستصبح زواج بدل مع زينب…دعوا زينب تعيش حياتها مع سامح دون تأثيرات خارجيّة، فهناك نساء كثيرات طلّقوهنّ دون سبب، وإنّما بسبب زواج البدل.

أثنى خليل وزينب وصالح على رأي كامل…لكنّ والدتهم سألت:

شو الّلي يرضيكم. ولّلا نجيب لكم عرايس من الملائكة؟

ضحك خليل وقال مازحا: إذا كنت تستطيعين ذلك فأسرعي بإحضارهنّ.

عاد أبو كامل وكرّر الطلب منهم أن يفكّروا بالموضوع حتّى يوم غد.

بعد أن انصرفوا بقي أبو كامل وأمّ كامل فتحدّث عن ابنه خليل شارحا تميّزه عن اخوانه…فقالت أمّ كامل:

ربنا يحميه لكن يبدو إنّك تحبّه أكثر من اخوته.

استغرب أبو كامل ما قالته، فقال لها:

الآباء والأمّهات يحبّون أبناءهم جميعهم، ونظرتهم إليهم كما هي النّظرة لأصابع اليد، فهي ليست بنفس الطّول، مع أنّها لا يمكن الاستغناء عن واحد منها، والأبناء جميلون كما هي حقول الرّبيع…فالزّهور كلّها فاتنة، ولكلّ نوع من نباتات الزّهور شكله الخاصّ وزهوره الخاصّة، وقدراته على  الصّمود في وجه الرّياح، وتشترك جميعها في بثّ الجمال وراحة نفوس النّاظرين إليها…ومنها من لا يعمّر سوى لأيّام قليلة، كأنّه يغامز الحياة، ولا يلبث أن ينهزم أمامها…ومنها من يستمرّ طول فصل الرّبيع، وكأنّه في وفاق مع الطّبيعة الخلّابة. ومنها من ينعقد ثمارا تملأ بطونا جائعة.

استمعت أمّ كامل لما يقوله زوجها…لم تستوعب كلّ ما قاله، فعادت تسأل بسذاجة:

يعني فكرك خليل أفضل من اخوته؟ شو الفرق بينه وبين كامل وصالح والآخرين؟

فردّ عليها ضاحكا: كالفرق بين عينك اليمين وعينك اليسار.

فقالت محتارة: أنا لا أفرق بين عينيّ.

فقال: وأنا لا أفرّق بين أولادي!

–         لكنّك تميل لخليل أكثر من بقيّة اخوته.

فقال: الأبناء هم من يحبّبون الآباء بهم!

–         كيف؟

–         بتصرّفاتهم ولباقتهم.

–         والله ما انا فاهمه عليك.

–         أحسن لك ولي.

فقالت: يا خيبتك يا أمّ كامل! لا انت ولا هالوقعه!

*****

في الصّباح الباكر نهض خليل…خرج إلى شجرات التّين…أصغى لسيمفونيّة الطّبيعة التي تنبعث من أوراق الشّجر عندما يداعبها نسيم الصّباح، وتنطلق منها زقزقات العصافير…التهم بضع حبّات…مرّ بدالية…التقط قطفي عنب…أعطاهما لوالده وزوجة أبيه أمّ كامل في بيت الشَّعَرِ…جلس معهما…تناولت أمّ كامل قطف العنب وهي تطلب من الله أن يرضى على خليل…وما لبثت أن قامت…غابت بضع دقائق وعادت تحمل دلّة القهوة…وعدّة فناجين على صينيّة…صبّت لهما القهوة…وضعت الدّلة على الموقد لتبقى القهوة ساخنة…قالت لخليل:

ربنا ما يحرمنا منّك يمّه يا خليل…والله وانت في السّجن حملنا همّك…وافتقدناك كأنه ما فيه لنا أولاد غيرك.

شكرها خليل على ذلك، في حين رمقها أبو كامل بنظراته، وطلب منها أن تُعدّ إبريق شاي…فقامت متثاقلة…التفت أبو كامل إلى خليل وسأل:

شو مشاريعك يابا يا خليل.

–         لم يرتح دماغي بعد…لكنّني أفكّر بأشياء كثيرة.

–         الله يرضى عليك…فكّر كيف ما بدّك…لكن ابعد عن السّياسة وأهلها…الله أعلم كيف كانت حالتنا وانت في السّجن…والله كان لا ليلنا ليل ولا نهارنا نهار.

–         توكّل على الله يا أبي.

–         لا إله إلّا الله…لكن قل لي هل وقع اختيارك على بنت ع شان نفرح بك؟

–         إن شاء الله سأفكّر بالموضوع.

–         يعني اليوم تعطيني الجواب؟

ضحك خليل وقال: وهل نحن في سباق على الزّواج؟ سأتزوّج عندما يأتي النّصيب.

الوالد: الله يهديك يا ابني.

خليل: آمين…نسأل الله أن يهدينا جميعنا.

احتسى كلّ منهما كأس شاي…استأذن خليل بالانصراف؛ لأنّه على موعد في القدس…بعدها قال أبو كامل لأمّ كامل:

سبحان الله “الأولاد أولاد النجوم” لم يسبق لواحد من أبنائي أن يأتيني بحبّة تين أو قطف عنب دون أن أطلب منه…إلّا خليل- الله يرضى عليه- فهو ينتبه لكل شيء، وحده ودون طلب.

أمّ كامل: بقيّة الأولاد مشغولون في الورشات وحيلهم مهدود…وربنا يعطيهم العافية، لولا تعبهم ما كنّا بالنّعمة الّلي احنا فيها.

أبو كامل: الّلي يسمعك يحسب إنّك كنت جايعة قبل ما يكبروا الاولاد.

خرج كامل من غرفته يريد الذّهاب إلى عمله…نادى “خليل” بصوت عال…اختلى به جانبا…نقده ماية ليره اسرائيلية وهو يقول:

دبّر حالك فيها يا أخي حتّى يفرجها ربّنا…عن إذنك لا وقت لديّ.

أكبر خليل هذه الّلفتة الكريمة من كامل…استبدل ملابسه دون استحمام…فأشقّاؤه الأطفال لا يزالون نياما في الغرفة…ولا يوجد مكان آخر يستحمّ فيه…مرّ بوالده وزوجة أبيه…وقف أمامهم قليلا وهو يقول:

أنا ذاهب إلى القدس…هل توصونني شيئا.

أخرج أبو كامل من جيبه خمسين ليرة وقال لخليل:

خذ هذه تمصرف بها.

خليل: شكرا لك يا أبي…لست بحاجتها فقد نقدني كامل ماية ليرة.

–         وخذ هذه أيضا.

استلمها خليل وغادر…فوجدت أمّ كامل فرصتها للثّناء على كامل، وقالت لأبي كامل:

شفت كيف كامل- الله يرضى عليه- أعطى خليل مصاري بدون طلب.

التفت إليها أبو كامل وقال:

وحدّي الله يا مره ع ساعة هالصّباح.

***

وصل خليل صالة الفندق الوطنيّ قرابة السّاعة التّاسعة…جلس مواجها لباب الفندق ينتظر رُلى بعد أن أخبروه أّنّ “الرّوف” لا يفتح إلّا عند الثّانية عشرة…طلب فنجان قهوة…نظر إلى الفنجان كأنّه يغازله…رائحة القهوة تفتح شهيّة من يستنشقها كأنّها تحرّضه على احتسائها…قرأ عناوين الأخبار في صحيفة الاتّحاد الحيفاويّة…لكنّه لم يغفل عن مراقبة باب الفندق…دخلت رُلى في العاشرة تماما…تتمايل بدلال فوق حذائها ذي الكعب العالي…رنّة خلخالها تطرب الأذن…خصرها يتمايل بدلع أنثويّ…ابتسم لها خليل عندما التقت نظراتهما…عيناها ترميان سهامهما…نبضات قلبها تزداد…تظاهرت بعدم اللامبالاة…طرحت عليه تحيّة الصّباح بغنج مع ابتسامة تنبئ عن فرح بداخلها…صافحته وهي تسأل عن عدم انتظاره لها على “الرّوف”…طلب منها الجلوس…اقترحت عليه أن يجلسا داخل الصّالة بعيدا عن عيون المارّة…انتقلا إلى طاولة في الزّاوية الشّرقية للصّالة…قالت له بأنّها أصيبت بالأرق في الّليلة الماضية…سألها:

لماذا.

–         طيفك تلبّسني…وفكّرت بك كثيرا….هل فكّرت بي كما فكّرت بك؟

–         فكّرت بك وبغيرك.

–         من هو غيري الذي شغل فكرك؟

–         هذه أمور خاصّة لا علاقة لكِ بها.

–         هل تنوي العودة لاستكمال دراستكَ في معهد بير زيت؟

–         لم أقرّر بعد.

–         حدّثني عنك يا أستاذ خليل فقد سمعت عنك الكثير؟

–         سمعتِ خيرًا أم شرّا؟

–         طبعا سمعت كلّ خير.

–         لا شيء مميّز عندي لأخبرك عنه…فأنا إنسان بسيط عاديّ عشت طفولة معذّبة.

–         حدّثني عن طفولتك…وأنا أيضا عشت طفولة كلّها عذاب في عذاب.

–         عن أيّ عذاب تتحدّثين.

–         عذابي يفوق عذابات الآخرين كثيرا…فقد ماتت أمّي أثناء ولادتها لي.

–         الله يرحمها.

–         لا يمكن لمن لم يعش التّجربة أن يدرك عذابات طفل حُرِم من حنان الأمومة…بل كانت ولادته سببا في وفاة أمّه.

–         وما ذنبك أنت في ذلك؟ هذا قدرها…ورحمة الله عليها.

نزلت دموع غزيرة من عينيّ رُلى وهي تتحدّث عن وفاة والدتها…وكيف كانت تفتقدها ولا يزال قلبها يحترق عندما ترى طفلا في حضن أمّه، تغبط الطّفل وأمّه لكنّها تتذكّر والدتها التي لم تعرفها…وازداد بكاؤها وهي تتحدّث عن سوء معاملة زوجة أبيها لها…وكيف كانت تتظاهر بأنّها تحبّها عندما ترى والدها.

مسحت دموعها وابتسمت وهي تتحدّث عن أبيها الذي بذل جهودا كبيرة ليعوضّها وشقيقيها عن حنان الأمّ الذي يفتقدونه…وأضافت بأنّه لم يبخل عليهم بشيء، وفي أيّام إجازته كان يصطحبهما معه في رحلات داخل الوطن…لكنّه الآن يعمل في الكويت…لم يستطع العودة بسبب وقوع البلاد تحت الاحتلال…زوجته قدّمت له طلب جمع شمل، ولا تزال تنتظر الجواب…لكنّه يبعث لهم ما يحتاجونه ماليّا بشكل مستمر.

أخذ خليل نفسا عميقا وقال بأنّ حياة شعبنا كلّها عذاب في عذاب، والسّبب هو الاحتلال…لكن علينا أن نصمد في وطننا مهما كانت التّضحيات…وقال لها بأنّها الآن في بداية شبابها وتستطيع أن تستغني عن حنان الأبوين، فردّت بلوعة:

تصوّر يا أستاذ خليل أنّني أقوم بدور الأمّ لشقيقيّ منذ وعيت الحياة رغم أنّهما يكبرانني عمرا….منذ حرب حزيران لم ألتق أشقّائي ولا أبي…وأشعر باليتم مرّات ومرّات…شقيقتي الكبرى تزوّجت بعد أن أنهت الثّانويّة…زوجة أبي دائما تختلق الأكاذيب لتعبّئها ضدّي، أخي غير الشّقيق اسمه يزيد وهو شابّ واع سينهي المرحلة الثّانويّة هذا العام…وهو حنون رقيق القلب…يمازحني في الخفاء عن والدته…يحاول التّرويح عن نفسي، وكأنّه يعلم ما بي رغم أنّني لم أفاتحه بالموضوع بتاتا.

أسند خليل ظهره على الكرسيّ مدّ رجله اليمنى تحت الطاولة…لامست ساقه ساق رُلى…شعر كلّ منهما بما يشبه التّيّار الكهربائيّ يسري في جسده…تفاعلت كيمياء التّواصل بينهما…حدّثها عمّا حصل ليده وكيف فقدها نتيجة للجهل…مدّت ساقها الأخرى…شدّت بساقيها على ساق خليل اليمنى…أصغت له باهتمام زائد…مسحت دمعتين نزلتا من عينيها…وتساءلت مازحة:

يبدو أنّ”المتعوس التفّ على خايب الرّجا”.

ضحكا وخليل يقول: “الطّيور على أشكالها تقع”.

انتبهت رُلى لما قاله خليل وقالت:

آسف إذا أزعجتك بتطفّلي عليك…فأنا أشعر بأنّك قريب منّي…فهل تبادلني نفس الشّعور؟

ردّ خليل عليها: بالعكس أنا سعيد بمعرفتك.

انتقلا إلى “الرّوف” عند الثّانية عشرة…طلبا وجبة غداء…أخبرت رُلى خليلا أنّها تعشق حياة الرّيف…تحدّثت عن الفضاء المفتوح فيه…وعن الحقول الزراعيّة، والأشجار المثمرة.

فردّ عليها خليل: كلامك صحيح، لكنّ السّعادة الكبرى هي لمن يعيش داخل سور القدس، فالمدينة القديمة تختصر حضارة المنطقة وتاريخ الإنسانيّة، ومن يسكنها يكسب الدّنيا والآخرة.

ردّت رُلى مازحة: ها نحن نعيش فيها وما كسبنا سوى الحسرة والّلوعة.

ضحك خليل وقال: هذه مرحلة عابرة في تاريخ المدينة ستزول عاجلا أم آجلا، وستعود البسمة للمدينة ولمواطنيها وزائريها.

يتناول خليل ورُلى طعامهما على مهل…يتحدّثان بحذر مع بعضهما البعض…فهما لا يعرفان بعضهما جيّدا…تجرّأت رُلى وسألت:

ما هي مخطّطاتك المستقبليّة يا أستاذ خليل؟

–         لم أتأقلم مع الحياة بعد…ولا مخطّطات لي حتّى هذه الّلحظة.

–         ألا تفكّر بالزّواج؟

–         الزّواج سنّة الحياة…من لا يتزوّج اليوم قد يتزوّج غدا.

–         قصدي…هل تفكّر بفتاة معيّنة؟

–         كيف أفكّر بالزّواج ولا عمل لديّ…ولا بيت لنا…فمتطلّبات الحياة صعبة.

–         لا تزال في بدايات حياتك، والحياة أمامك…ستبني نفسك…ستعمل…ستبني حياتك، وهذه طبيعة الحياة.

–         عندما يتحقّق لي ذلك سأتزوّج…لماذا تسألين؟

–         بصراحة…لقد عشقتك قبل أن أراك…فأحاديث النّاس عنك جذبتني إليك…احمرّ وجهها وهي تقول:

–         أعتقد أنّك لن تستغرب، ولن تتهمني بأخلاقي إذا ما عرضت عليك الزّواج منّي.

–         يشرّفني الزّواج منك عندما يحين موعد الزّواج.

–         هل أعتبر ذلك وعدا منك؟ وأنا أعاهدك بأنّني لن أقبل الزّواج من غيرك…وسأنتظرك حتّى يحين وقتنا!

–         أنت لا تعرفين ظروف حياتي الصّعبة حتّى تقبلين الزّواج منّي بهذه السّرعة…وأخشى أن تنقلبي رأسا على عقب عندما تعرفينني جيّدا.

–         ما هذا الكلام؟ قلت لك بأنّك فتى أحلامي الذي أحلم به حتّى قبل أن أعرفك…وعندما قابلتك وجدتك أفضل ممّا كنت أتخيّلك! ولعلمك رفضت أكثر من شخص تقدّموا لخطبتي…لأنّني ما وجدت فيهم ما أصبو إليه.

–         الأيّام بيننا…فربّما “ستبدي لك الأيّام ما كنت جاهلًا”!…والآن دعينا ننصرف…فأنا أريد أن أتجوّل في القدس القديمة لأشبع جوعا في داخلي.

–         هل لديك مانع أن أكون برفقتك؟

–         بالتّأكيد ليس هناك ما يمنع…وسأزور صديقا لي في حارة النّصارى، فهل تحبّين مرافقتي في زيارته؟

–         إذا لم يكن في ذلك إحراج لك أو له.

–         إذا هيّا بنا.

مشى خليل تلسع قلبه نار الشّوق لصديقته البريطانيّة ستيفاني…وجمر الرّغبة برُلى بنت بلاده…تذكّر ما قالته له أمّ جورج…فتشتّت بين حلاوة “طين بلاده” وجبنة الآخرين، هو متأكّد بأنّ علاقته مع ستيفاني مجرد إشباع رغبات عابرة…لكنّ الارتباط لن يكون إلّا من “طين البلاد”…لم يتعجّل البوح لرُلى مع قناعته التّامّة بصدق مشاعرها نحوه…لكنّه احتار فيما إذا كانت تحبّه فعلا أم هي محاولة منها للهروب من واقعها…الذي قلبته زوجة أبيها إلى جحيم لا يطاق.

عند باب االعامود مرّا بعدد من القرويّات يبعن نتاج أرضهن…العنب التين…البرقوق…الخسّ…السّلق…الباذنجان… سمعا امرأة شابّة تقول لجارتها:

إن شاء الله ربنا يبعث لنا ابن حلال يشتري تالي هالعنب ع شان أروّح للأولاد…الحين صياحهم واصل للسّما.

وقف خليل أمامها يسألها: بكم تبيعين العنب يا أختي؟

ردّت عليه: خذهن كلهن بنصّ دينار…والله يا خيّي إنهن أكثر من عشره كيلو…بس مستعجلة بدّي أرجع بسرعة لقطاطيم هالّلحم الّلي تركتهم وراي.

نقدها خليل نصف دينار…طلبت رُلى من البائعة أن تضع العنب في كيسين…حملت واحدا وتركت الثّاني لخليل…سألها خليل:

هل تأخذين هذا العنب لبيتكم؟

فردّت عليه سائلة: ولماذا لا تأخذه أنت لبيتكم؟

ضحك خليل وقال: أمام بيتنا كَرْمُ عنب وتين…خذيه أنت.

–         أنا لن آخذه لأنّني لم أعتد أن أشتري أغراض البيت.

إذن نأخذه لبيت صديقي جورج…وهذا سيقطع علينا جولتنا في أسواق مدينتنا.

ضغط خليل على جرس باب بيت صديقه جورج…فتحت الباب سلوى زوجة جورج…رحّبت بهما…عرّفها على رُلى…قالت:

أكيد هذا العنب من دوالي كرْمِكم.

فقال خليل: نعم من دوالي بلادنا.

خرج جورج من الحمّام يلفّ المنشفة على وسطه…شعر بالحرج عندما تفاجأ  برُلى…دخل غرفة نومه مسرعا…ارتدى ملابسه بسرعة…عاد إليهم مرحّبا.

سلوى تعدّ القهوة عندما رنّ جرس الهاتف…أمسك جورج سمّاعة الهاتف…على الطّرف الثّاني كانت ستيفاني تتكلّم من فندق “الأميركان كولوني” تسأل عن خليل…ناول جورج السّمّاعة لخليل…عندما سمعت ستيفاني صوته، تفاجأت به… صرخت بأعلى صوتها بالانجليزية: واووووووووو أين أنت يا خليل؟ وصلت “الأميركان كولوني” قبل دقائق قليلة…أنا في الغرفة 269 متى ستكون عندي؟

–         بعد ساعة.

–         سأنتظرك عند بوّابة الفندق…لا تتأخّر.

–         “أوكي”

أغلق خليل الهاتف مرتبكا…فما أحبّ هذه المكالمة بوجود رُلى.

سألت رُلى: من هذه المرأة التي تصرخ؟

ردّ خليل متظاهرا بعدم اكتراث: هذه صحفيّة أجنبيّة تريد إجراء مقابلة معي!

غمزت سلوى خليلا بعينها وقالت:

طبعا الأجنبيات يصرخن مثل”الواويّات” عندما يتكلّمن مع الرّجال.

جورج: الأجانب منفتحون ويتكلّمون على سجيّتهم…عاداتهم تختلف عن عاداتنا.

شعرت رلى أنّها قد أقحمت نفسها فيما لا يعنيها عندما رافقت خليلا في زيارته لبيت صديقه جورج…شربت قهوتها على عجل وسألت:

هل يمكنني أن أستأذن بالخروج؟

ردّ خليل: انتظري قليلا…سنخرج معًا.

سألت أمّ جورج خليلا: شو عامل يمّه…مش ناوي تتزوّج خلينا نفرح فيك؟ والله هالبنت الّلي معك ما شاء الله عليها…التفتت إلى رُلى وسألتها عن اسمها!

اسمي رُلى يا خالتي.

–         بتعرفوا بعض من زمان يمّه؟

جورج: كانا يدرسان في معهد بير زيت يمّه مع بعض قبل أن يسجن خليل.

–         ربّنا يوفّقهم وينجّحهم يمّه.

اكتسى وجه رُلى بالّلون الأحمر حياء من كلمات أمّ جورج…بدت وجنتاها كحبّتي تفّاح حان قطافهما…لكنّها فرحت بداخلها لكلمات أمّ جورج فقد عزفت لها على أوتار قلبها.

استأذن خليل من أصحاب البيت…خرج ورُلى…بعد أن ابتعدا قليلا عن بيت جورج…اقتربت رُلى من خليل وسألت:

هل تعرف الصّحفيّة التي هاتفت تسأل عنك؟

–         سأخبركِ لاحقا عن كلّ شيء.

هل تريد التّجوّل في حارات القدس الآن؟

–         سنتجوّل مرّة أخرى…أمّا الآن فأنا على موعد مع تلك الصّحفيّة.

–         هل تريدني أن أرافقك في مقابلتها لك؟

–         لا داعي لذلك.

عندما مرّوا أمام باب السّاهرة…اتّجهت رُلى يمينا عائدة إلى بيتها وهي تصافح خليلا وتقول: إلى الّلقاء…مشت والخيبة ترافقها…قالت لنفسها:

أخشى ما أخشاه أنّ “الّلي يدلّل ع بضاعته يرخّصها”.

*****

هرعت ستيفاني للقاء خليل عند مدخل “الأميركان كولوني” وهي تطلق صرخة مدوّية لفتت أنظار من كانوا في الصّالة الخارجيّة المكشوفة…هجمت عليه كما الّلبؤة…أحاطت رقبته بيديها…وساقاها ملتفّان على وسطه…مصّت شفتيه بشفتيها…

شعر خليل بالحرج أمام موظفي الفندق، وبعض الصّحفيّين العرب المتواجدين في الصّالة…حاول إنزالها بهدوء…لفّت خاصرته بيدها اليسرى وهي تقول بصوت مرتفع:

اشتقتك حبيبي.

لم يجلسا في الصّالة المكشوفة حيث كانت تجلس ستيفاني…جلسا بناء على اقتراح خليل في زّاوية الممرّ الذي يلي البوّابة الرّئيسة من اليسار؛ ليبتعدا عن عيون النّاس…قالت له:

أنا في الغرفة رقم 269 كما أخبرتك على الهاتف…سأسبقك إلى الغرفة لأستحمّ سريعا…اتبعني بعد سبع دقائق بالضّبط…طبعت قبلة على شفتيه وانصرفت.

مضت الدقائق السّبعة ببطء شديد…حسبها خليل سبع ساعات…كان مرتبكا حيّيا يشعر كأنه يجلس عاريا أمام النّاس…فما توقّع هذا الاستقبال الحميميّ من ستيفاني، لكنّه أقنع نفسه بأنّها تصرّفت كما لو أنّها في لندن…فهي لا تعرف عادات بلادنا، ولم تعطه الفرصة لاحترام هذه العادات بتصرّفها العفويّ.

طرق باب غرفتها وهو يلتفت إلى الجهات كلّها خوفا من أن يراه أحد ما…خصوصا ممّن يعرفونه…سمع صوتها من الدّاخل يقول:

ادخل الباب مفتوح.

رآها تتمدّد على السّرير عارية تماما…خلع ملابسه…استأذنها ليستحمّ…لكنّها قفزت من السّرير كما الفهد وهي تقول بأنّها تحبّ رائحة عَرَقَ الرّجال فهي تنعش قلبها! ضمّته إلى صدرها…أشبعته تقبيلا…ثنته على السّرير…استسلم لها مختارا…صهلت فوقه كفرس جموح.

تمدّدت بجانبه وقد ارتوى ظمأها…أحاطت ساقيه بساقها اليمنى…صدرها يحيط بصدره…قالت له وهي تحتضنه:

والداك البريطانيّان وأخوك براون في شوق عظيم لك…كانا قلقين عليك عندما علما أنّك معتقل…لم تسع الدّنيا فرحتهم عندما أخبرتهم بأنّك قد تحرّرت…إنّهم ينتظرونك لزيارتهم في لندن، وبإمكانك أن تكمل تعليمك الجامعيّ هناك…بعثا لك معي شيكا بنكيّا بعشرة آلاف جنيه لتتدبّر أمورك بها.

سأمكث معكَ في القدس لمدّة شهر… سأسافر بعدها إلى الهند…لي هناك صديق أيضا، أنا أحبّ الرّجال الشرقيّين كثيرا…وأجد فيهم ما لا أجده في الأوروبيّيّن…لكنّك الأفضل في حياتي…فأنت الرّجل الوحيد الذي قطفتُ ثمار بكارته…أنت إنسان رائع حقا…عندما ألتقيك تحلّق أنوثتي في سماء الذّكورة…والآن حدّثني عن أيّام السّجن…لماذا اعتقلوك؟ هل تعرّضت للتّعذيب؟ لا أعتقد ذلك…فالدّول الديموقراطيّة تحترم حقوق الإنسان…أليس كذلك؟

لوى خليل فمه استغرابا وقال:

هذه فترة صعبة مررت بها ولا أحبّ الحديث عنها.

انقلبت عليه مرّة أخرى وهي تقول:

أنا لا أرغب أن أكون أمّا…أحبّ الأطفال لكنّني لست مستعدّة لرعايتهم…سأعيش حياتي كما أريدها…بإمكانك أن تتزوّج الفتاة التي تريد إن كنت راغبا في الأبوّة…سأكون سعيدة عندما أرى أطفالك…لكن عليك أن لا تنسى مطلقا أنّني أحبّك…سألتقيك شهرا في السّنة هنا أو في لندن، أو في مكان آخر نتجوّل فيه…حسبما تريد أنت…ما رأيك؟

ضباب كثيف ارتسم أمام ناظري خليل…لم يتوقّع أن يسمع ما قالته ستيفاني…لكنّه كان سعيدا بما سمعه منها بأنّها لا ترغب بالزّواج…فهو لم يفكّر يوما أن تكون زوجته، وأن ينجب منها أطفالا.

لم يعد من خليل في الغرفة سوى جسده…سبحت أفكاره في السّماء البعيدة…غابت وسط الغيوم…فقد احتار في أمر هذه الفتاة…هل هي مومس تبحث عن المتعة أم عاشقة؟ لم يستوعب أن يكون للمرأة أكثر من عشيق…فقلب المرأة لا يتّسع لأكثر من حبيب واحد…ابتسم عندما تذكّر أنّ قلوب الذّكور تتّسع لأكثر من امرأة…لكنّهم في بريطانيا وغيرها من الشّعوب الغربيّة لا يسألون المرأة عندما تعشق أكثر من رجل واحد…وهو محتار بحقيقة ستيفاني…فهل هي تعشق حقّا أم تبحث عن المتعة أينما وجدتها؟ هل تستغلّ ثراءها الماديّ لتشتري أجساد الرّجال؟ صحيح أنّها امرأة فاتنة يشتهيها الرّجال…ولن تجد صعوبة في استمالة قلوب الكثيرين من الشّباب، ولو كانت قضيّتها شهوانيّة حقّا فالرّجال كثيرون في بلادها…وما الّذي يدفعها للقدوم إلى هذه البلاد باحثة عنه إذا كانت الأمور كذلك؟ أسقط من حساباته أن تكون عسسا عليه، فقد تعرّفت عليه وهو صبيّ غرّ لا ينتبه إليه أحد…قطعت حبال تفكيره عندما سألته:

بماذا تفكّر يا حبيبي؟

–         أفكّر بكِ! قالها وهو يبتلع غصّة يحاول إخفاءها.

–         ها أنا أمامكَ…بل في حضنك…ماذا تريد أكثر من ذلك؟ قل لي:

–         هل أعددت لنا برنامجا سياحيّا؟

–         بلادنا كلّها معالم سياحيّة…فأينما يذهب المرء يجد شاهدا تاريخيّا…ومناظر تأسر الألباب.

–         لكن هناك أماكن لا يشبع المرء من زيارتها…مثل كنيسة القيامة والحائط الغربيّ في القدس وكنيسة المهد في بيت لحم…والنّاصرة وطبريّا.

–         ماذا تقصدين بالحائط الغربيّ؟

–         الحائط الّذي يقدّسه اليهود ويصلّون أمامه.

–         هل أنت يهوديّة؟ هذا الحائط هو حائط البراق وهو الحائط الغربيّ للمسجد الأقصى، ألا ترين ذلك وتعلمينه؟

–         أنا مسيحيّة بروتستانتيّة…لكنّني لست متديّنة… على فكرة… المسجد الأقصى وقبّة الصّخرة جميلان جدّا…سأزورهما أيضا…أين تحبّ أن نسهر هذه الّليلة؟

–         لا أعرف إن كنت سأبقى معك هذه الّليلة أم لا…فأبواي سيقلقان كثيرا إن لم أعد إلى البيت؟

–         لماذا يقلقان؟ أنت الآن رجل مسؤول عن نفسك! هل يحسبانك طفلا؟

–         لا بأس…سأتّصل الآن بصديقي جورج كي يخبرهما أنّني لن أعود إلى البيت هذه الّليلة…والآباء في بلادنا يقلقون كثيرا على أبنائهم بسبب الاحتلال.

–         ما رأيكَ أن نخرج الآن…نتجوّل داخل القدس القديمة…نتناول عشاءنا ونعود إلى غرفتنا.

–         لا بأس…هيّا بنا.

فتحت واحدة من حقيبتي سفرها مليئة بالملابس الرّجّاليّة…وقالت:

هذه هديّة لك يا خليل…بإمكانك أن ترتدي ما تشاء منها!

اختارت لخليل بنطالا أسود وقميصا أبيض مع ربطة عنق حمراء…استبدلا ملابسهما…خرجا…قالت له: معي سيّارة مستأجرة ” rent a car” هل تريدنا أن نستقلّها أم نمشي على أقدامنا؟

–         نستقلّ السّيّارة كي ننظر المدينة القديمة من الجبال المطلّة عليها…وغدا نتجوّل داخلها.

قادها إلى الجهة الجنوبيّة من جبل الزّيتون”الطّور” أمام فندق”الانتركونتيننتال”

وجبل الزّيتون “يطلّ على المسجد الأقصى المبارك، ويعتبر أعلى جبال القدس حيث يبلغ ارتفاعه 826 مترا عن سطح البحر، وله أهمية تاريخيّة ودينيّة حيث تنتشر فيه كنائس من عصر الفلاسفة، وأديرة الصّعود لجميع الطّوائف المسيحيّة، وحسب الكتب المسيحيّة فإنّ يسوع المسيح صعد من هذا الجبل إلى السّماء، وفيه أيضا مقبرة كبيرة لليهود مساحتها 257 دونما. كما يوجد فيه مقام رابعة العدويّة، ومقام السّيّدة العذراء مريم، تقع البلدة القديمة على أقدامه الغربيّة، وتقع الأغوار على أقدامه الشّرقيّة، لذلك يُعدّ الجبل نقطة الفصل بين منطقتين مناخيّتين مختلفتين.”

جلسا على سور يعلو المقبرة اليهوديّة…نظرت إلى مقبرة اليهود وقالت:

هذه المقبرة دليل على أنّ القدس مدينة يهوديّة.

ردّ عليها خليل بلهجة غاضبة: بل هي دليل على التّسامح العربيّ الإسلاميّ مع اليهود…فهذه المقبرة أرض وقف إسلاميّة تمّ تأجيرها لليهود في أواخر القرن السابع عشر الميلاديّ.

–         لكنّ اليهود يقولون أنّها موجودة منذ ثلاثة آلاف عام قبل الميلاد.

–         لا غرابة في ذلك فالصّهاينة حاذقون في تزييف التّاريخ.

سحرهما منظر المدينة…حتّى خليل الّذي جاب أسواق وأزقّة المدينة القديمة، وزار كنائسها ومساجدها وزواياها وتكاياها وأديرتها مرّات عديدة، يكتشف أشياء جديدة في المدينة حينما يتجوّل فيها، أو ينظرها من الخارج…دهشت من معانقة مآذن المساجد والكنائس…استفسرت من خليل عن بعض الأماكن الّتي تراها…أجابها عمّا يعرفه…اعتذر عن عدم إحاطته بتاريخ كلّ ما في المدينة…فلكلّ بناء وسوق ومسجد وكنيسة وزقاق حكاية تحمل عبق تاريخ لا يكذب.

أخرجت”كاميرتها” والتقطت عشرات الصّور للمدينة من زوايا مختلفة.

التفتت إلى جنوب المدينة حيث قصر”المندوب السّامي”الذي يستعمل منذ أيّار – مايو – العام 1948 كمقرّ رئيس لقوّات الطوارئ الدّوليّة في الشّرق الأوسط، يرتفع فوقه علم المنظّمة الدولية، وتحيط به أشجار السّرو من كلّ الجوانب… سألت عن المكان فقال لها:

هذا جبل المكبّر واحد من جبال قريتي التي ولدت وأعيش فيها،

يفصل بينه وبين جبل الطور حيث نقف الآن وادي سلوان، المعروف بوادي قدرون، وبينه وبين جبل صهيون وادي الرّبابة.

سمّي بجبل المكبّر لأنّ الخليفة  الثّاني عمر بن الخطاب حين أتى المدينة  فاتحا، ورآها من قمّة ذلك الجبل، هلّل وكبّر وخرّ ساجدا لله، فسمّوا الجبل “جبل المكبّر”. ثم تسلم مفاتيح المدينة من بطريركها صفرونيوس عام 15 هجري، الموافق في 637 ميلادي.

“سمّي فيما مضى جبل المؤامرة وجبل المشورة الفاسدة، ويعتقد البعض أنّه كانت تقوم عليه دار المجمّع المعروف بـ”السنهدريم”، تلك الدّار الّتي قابل فيها يهوذا الأسخريوطي رؤساء الكهنة وقادة الجيش، واتفق معهم على تسليم السّيد المسيح، وقيل أيضا أن قصر قيافا رئيس الكهنة كان فوق هذا الجبل، وفيه اجتمع الكهنة ورؤساء اليهود لأجل التآمر على صلب السّيّد المسيح.

بنى الرّوم على جبل المكبر كنيسة باسم القديس برمزيوس، وبنى الإنكليز عليه عام 1922 قصرا اتخذوه مقرّا للمندوب السّامي. كما بنيت عليه في عهدهم الكلّيّة العربيّة، وهو يشرف على معظم أحياء القدس من الجهة الجنوبيّة.”

انتبهت ستيفاني إلى رأس طنطورة فرعون الذي يطلّ من جانب وادي قدرون وسألت عنه، فقال لها خليل:

“هذا طنطور فرعون ويتميّز بقبته التي تشبه رأس القنّينة، ويعتقد أنّه يعود إلى القرن الأول قبل الميلاد، ثم يليه ما يعرف بقبر زكريّا وله قبّة تشبه الهرم، ويعتقد أنّه أقدم من الأوّل، ويعود تاريخه إلى القرن الثّاني قبل الميلاد، وبجانبه قبر أخر مختلف بقبّة مكعّبة، ربّما يعود إلى القرن التّاسع قبل الميلاد، ويطلق عليه قبر بنت فرعون. ويضمّ كلّ ضريح منها ما يمكن اعتباره غرفة للدّفن، وبسبب أشكالها الهرميّة ، سمّي أشهرها طنطور فرعون ، وأشكالها على العموم تظهر تأثرها بالعمارة المصريّة القديمة.”

يقف على بعد عدّة أمتار من ستيفاني وخليل رجل معه ناقة على ظهرها رَحْلٌ يزيّنه خُرْج منسوج من الصّوف الملوّن…تتدلّى منه “شراشيب” جميلة تضفي عليه جمالا…بعض السّيّاح يمتطون النّاقة لالتقاط صورة على ظهرها وهي نائخة…وبعضهم يتجاسر ويطلب أن تقف به النّاقة وتمشي وهو على ظهرها…يلتقطون الصّور لبعضهم البعض وهم يتصايحون ضاحكين…يحرصون أن تكون القدس خلفيّة للصّورة…يدفعون لصاحب النّاقة مقابل ذلك… تجترّ النّاقة لتهضم ما في جوفها…شفتها السّفلى تتدلّى…قوارضها طويلة صفراء تميل إلى الّلون البنّيّ…يحسب النّاظر الّذي يراها للمرّة الأولى أنّها ستبتلعه…خصوصا عندما تطلق حنينها الّذي يشبه زئير الأسد.

طلبت ستيفاني أن تمتطي النّاقة كي يأخذ خليل لها صورة…عندما رفعت النّاقة قائمتيها الخلفيّتين لتقف متكئة على ركبتيها الأماميّتين، شعرت ستيفاني كأنّها ترتفع إلى أعلى؛ كي ترمي بها النّاقة على وجهها…صاحت خائفة…أمسكت بالخشبة الّتي تتوسّط الرّحل من الأمام…قاد الرّجل النّاقة بها لعشرات الأمتار… وعاد إلى المكان الذي انطلقا منه…قالت ستيفاني أنّها رأت القدس القديمة من ظهر النّاقة كأنّها كانت تقف على جبل يعلو جبلا آخر.

خيّم الظّلام على المنطقة…المصابيح الكهربائيّة تطرد الظّلام من الشّوارع المضاءة… المدينة الّتي تحتضن تاريخ وحضارة بلاد تكالبت عليها الأمم تبدو ليلا جوهرة تتلألأ…هذه المرّة الأولى التي يرى خليل فيها مدينته ليلا…جلس على السّور ورجلاه تتدلّيان راقصتان…طلبت منه ستيفاني أن يغادرا المكان…لم يستجب لها، فقد لفحت قلبه نار العشق لمدينته…جلست بجانبه…انتبهت إلى شروده الذّهنيّ فسألته:

ماذا تفعل يا خليل؟ هل أنت تصلّي؟

التفت إليها وقال: بل تتخدّر حواسّي أمام عشقي الأوّل والأخير.

حسبته يعنيها بما قال، فطوّقت رقبته بيديها وقبّلته وهي تردّد ما أروعك يا حبيبي! بينما ابتسم هو لسوء فهمها.

يلفح النّسيم القادم من الجهة الغربيّة الأجساد المتعرّقة من لهيب شمس شهر آب- أغسطس- فيشحنها بنشاط جديد…لاحظت ستيفاني ذلك فقالت:

كلّ ما في بلادكم جميل…مناخها معتدل وصاف…لا ضباب عندكم يحجب الرّؤية كما هي لندن…عظيمة هذه البلاد التي تشي جنباتها بالحضارات القديمة…والطّراز المعماريّ لأبنية المدينة القديمة يحمل صنوف فنّ المعمار العربيّ الإسلاميّ الشّرقيّ. لكنّ الّلافت هو تلك الأبنية الحديثة المقامة على الجهة الغربيّة للمسجد الأقصى!

تنهّد خليل تنهيدة عميقة وقال: هذه حارتا الشّرف والمغاربة هدمها المحتلّون بعد حرب حزيران 1967 مباشرة، بعد أن شرّدوا مواطنيها؛ ليخفوا معالمها التاريخيّة الّتي تشهد بعروبتها، وبنوا مكانها حيّا استيطانيّا.

دهشت ستيفاني ممّا سمعت وقالت: ما أغباهم! لقد هدموا تراثا إنسانيّا.

عادا إلى السّيّارة…ستيفاني سعيدة فرحة، خليل تركبه الهموم…لم يكن سعيدا بعلاقته بستيفاني…هموم مدينته تؤرّقه…تربيته الصّارمة تجلده…يشعر أنّه متناقض مع نفسه…حائر بين ما تربّى عليه، وبين الواقع الّذي وجد نفسه فيه…ضاق ذرعا بما يخطّطه له والداه، وبما يخطّط هو نفسه…غبط شقيقته زينب على ارتباطها بسامح…شعر بأنّهما متفاهمان وسيبنيان أسرة سعيدة…أخرجته ستيفاني من شروده عندما سألت:

أين سنتناول عشاءنا؟

– حيثما تريدين.

– أنا لا أعرف المدينة جيّدا…دعنا نتناول طعامنا في الفندق…ونعيش ليلتنا.

في الفندق اتجها إلى غرفة ستيفاني مباشرة…هاتفت خدمة الغرف طالبة طعاما لاثنين مع زجاجة نبيذ…شربا نبيذا حتّى تخدّر جسداهما…تمدّدا على السّرير…مارسا طقوس العشق…سألت ستيفاني:

متى ستصطحبني لزيارة والديك وبيتك؟

– بيتنا فقير…لا شيء فيه يستحقّ المشاهدة.

– أوه خليل…هذا أمر رائع…بيوت الفقراء جميلة أفرح برؤيتها والجلوس فيها.

قال خليل بالّلغة العربيّة: ربنا يسعدنك…يلعن اليوم الّلي شفتك فيه.

سألته: ماذا تقول حبيبي خليل؟

ردّ خليل: قلت بأنّني سأصطحبك إلى بيت أهلي ظهر غد!

نهضا في الصّباح متكاسلين…فقد سهرا حتّى ساعات الفجر…استذكرا زيارة خليل اليتيمة للندن، وكيف التقيا أوّل مرّة…هي ذكريات جميلة لكليهما…لكنّها كانت مخيفة بالنّسبة لخليل.

*************

في العاشرة صباحا نهض خليل من فراشه، وبينما هو يستحمّ تحت “الدّشّ”استذكر استحمامه بِلَجَنِ الغسيل الذي يصدر قرقعة مزعجة كلّما تحرّك فيه، فضحك على تلك الحياة الشّقيّة…سمع أصوات سيّارات الإسعاف والإطفاء تهزّ أركان المدينة…انطلقت سماعات مآذن المساجد تدعو المواطنين لنجدة المسجد الأقصى الّذي يحترق…خرج مسرعا من الحمّام يرتدي ملابسه وهو يقول بلهجة غاضبة:

أحرق أبناء الزّانيات الأقصى…أنا ذاهب إلى المسجد…طلبت منه أن ينتظرها قليلا لترتدي ملابسها كي ترافقه…فطلب منها أن تبقى في غرفتها حفاظا على حياتها، لأنّ المدينة ستشتعل غضبا.

يهرع النّاس من مختلف الأعمار إلى المسجد الأقصى، الأهالي يهاجمون شرطة الاحتلال…ويعلو صراخهم:

بالرّوح بالدّم نفديك يا أقصى.

وصل خليل المسجد الأقصى ركضا…بكى غضبا كما بكى الآخرون وهم يرون الدّخان يتصاعد من المسجد العظيم…أناس كثيرون يحملون دلاء الماء ويقتحمون الدّخان والنّيران لإطفاء الحريق…لفت انتباه خليل وجود عدد من خوارنة وبطارقة المدينة يحاولون المساعدة في إطفاء الحريق…بكوا حزنا على ما يجري في المدينة…هرعت سيّارات الإطفاء من مختلف المدن الفلسطينيّة…نادى قادة نقابيّون الشّباب أن يفسحوا المجال لسيّارات الإطفاء…ولسيّارات الإسعاف كي تنقل المصابين بالإغماء من كثافة الدّخان المتصاعد، أو لم تصمد أدمغتهم وهم يرون  المسجد العظيم يحترق أمامهم…خرجت الجموع غاضبة من باب المجلس الإسلامي…صعودا عبر طريق الواد إلى منطقة باب العامود…هدير الغاضبين يصل عنان السّماء…أغلقت المحلّات التّجارية أبوابها…مظاهرات الغضب تجوب المدن الفلسطينيّة…خليل يتقدّم الصّفوف هاتفا للمسجد الأقصى، متوعّدا الاحتلال بعظائم الأمور.

وجدت شرطة الاحتلال نفسها في مأزق كبير، فالغازات الخانقة الّتي تطلقها لم تكبح جماح المتظاهرين…وهي بين خيارين، إمّا أن ترتكب مجازر ستفضحها أمام العالم الذي غضب لحريق المسجد، أو أن تنسحب من المدينة مؤقّتا حتّى تهدأ الأمور…عند باب السّاهرة انسحب عدد من النّاشطين المقدسيّين؛ ليجتمعوا في نقابة عمّال الفنادق في شارع الزّهراء…كان خليل معهم…استمعوا إلى الأخبار من أكثر من محطّة إذاعية…راديو إسرائيل أعلن أنّ الشّرطة الإسرائيلية ألقت القبض على مشعل الحريق، وهو سائح استراليّ اسمه مايكل دنيس روهان، مسيحيّ الدّيانة و”مختل عقليّا”. لكنّ المجرم المتصهين أعلن أنّه يريد هدم الأقصى لبناء الهيكل مكانه؛ لتقريب يوم القيامة!

المظاهرات تجوب العواصم العربيّة والإسلاميّة تطالب بتحرير الأقصى…الملك المغربيّ الحسن الثّاني يدعو إلى قمّة إسلاميّة…الإذاعات والتّلفزة العربيّة تقطع برامجها المعتادة لتغطية الحدث الجلل…حريق الأقصى يتصدّر وسائل الإعلام… المجموعة العربيّة تطلب اجتماعا عاجلا لمجلس الأمن الدّولي…الأمين العام للأمم المتّحدة يدعو إلى ضبط النّفس.

أصدر المجتمعون في نقابة الفنادق بيانا أدانوا فيه جريمة إحراق المسجد العظيم…وحمّلوا الحكومة الإسرائيلية مسؤوليّة وعواقب تلك الجريمة…كما دعوا المواطنين إلى حماية المسجد الأقصى، وطالبوا بحماية دوليّة للأراضي العربيّة المحتلّة.

في صالة “الأميركان كولوني” عُقد في السّاعة الرّابعة بعد الظّهر مؤتمر صحفيّ شارك فيه كبار رجال الدّين الإسلاميّ والمسيحيّ، وعدد من الشّخصيّات المقدسيّة…جلس خليل بجانب المنصّة…خرجت ستيفاني من غرفتها لتستمع لما يجري…رأت خليلا، حاولت التّقدّم لتجلس بجانبه…أشار إليها بأن تبقى مكانها بعيدا عنه…وجوه الحاضرين شاحبة ينضح الغضب والحزن منها…قال رئيس الهيئة العلميّة الإسلاميّة بأنّ الحكومة الإسرائيليّة تتحمل مسؤوليّة الجريمة التي استهدفت أقدس مقدّسات المسلمين، وأنّ روايتها حول جنون المجرم ما هي إلّا لذرّ الرّماد في العيون، وأعلن رفض الأوقاف الإسلاميّة لأيّ تدخّل في عمليات تنظيف وإعادة ترميم المسجد العظيم…كما أكّد على مشاركة أكثر من شخص في إشعال هذا الحريق المخطّط والمدروس، وأضاف أنّ التّحقيقات الأوّلية تشير أنّ الأضرار الجسيمة النّاتجة عن الحريق تشمل:

“منبر صلاح الدّين ، محراب زكريا ، ثلاثة أروقة ، عمودين رئيسيّين ، قبّة خشبيّة و74  نافذة خشبيّة ، جميع السّجّاد العجميّ وغيرها، كما تضرّرت أجزاء من القبّة الدّاخليّة المزخرفة، والجدران الجنوبيّة، وتحطم 48 شبّاكا من شبابيك المسجد المصنوعة من الجبص والزّجاج الملوّن، واحترق كثير من الزّخارف والآيات القرآنية. وطال الحريق ثلث المسجد القبليّ، ودمّر أثرا إسلاميّا عظيما هو المنبر الذي أحضره القائد المسلم الكبير النّاصر صلاح الدّين الأيوبي عندما حرّر القدس من احتلال الفرنجة عام 1187م.” واختتم حديثه والدّموع تنساب على وجنتيه: خسارتنا كبيرة وفادحة، داعيا المواطنين إلى الدّفاع عن المقدّسات ومتسائلا بقوله: أين العرب والمسلمون؟

وأكّد أحد البطاركة أنّ الاعتداء على الأقصى اعتداء على كنيسة القيامة في القدس، وكنيسة المهد في بيت لحم…ودعا إلى إنهاء الاحتلال لحقن الدّماء.

انفضّ المؤتمر الصّحفي…خرج الحضور من قاعة الفندق…لحقت ستيفاني بخليل تقول له:

إلى أين أنت ذاهب؟ ابق معي.

–         عودي إلى غرفتك…لا تخرجي من الفندق فالوضع خطير جدّا…سأراكِ غدا.

المتظاهرون لا يزالون يغلقون الشّوارع بحاويات القمامة…يشعلون إطارات الكاوتشوك على مداخل…المواصلات العامّة توقّفت تماما…الرّايات السّوداء ترتفع على الأبنية.

توجّه خليل إلى بيت صديقه جورج في حارة النّصارى، مشى على غير هدى، والأمور تطوّرت بشكل خطير…لم ينتبه لأحد في طريقه…من يراه يظنّ أنّه يتحدّث مع نفسه.

في بيت جورج انتحى الصّديقان جانبا في زاوية الصّالون…سلوى أعدّت القهوة وذهبت مع أبنائها تلاعبهم في غرفة النّوم، أطلّت أم جورج عليهم وقالت لهما:

جريمة حرق المسجد الأقصى كارثة حقيقيّة…الله يرضى عليك يمّه يا خليل دير بالك كثير…عيون أولاد الحرام عليك بعد السّجن.

ردّ عليها خليل: ولا يهمّك يا خالتي.

احتسيا القهوة وخرجا…سألت أمّ جورج؟

وين رايحين؟

ردّ جورج: سأعود بعد قليل…سأوصل خليلا إلى بيته، فالمواصلات العامّة متوقّفة.

أمّ جورج: الله يسهّل طريقكم، ويحميكم من الظّلّام واولاد الحرام.

استقلّا سيّارة جورج المتوقّفة في المصرارة قبالة باب العامود…سارا باتّجاه باب الخليل…وواصلا طريقهما…عند مدخل جبل المكبّر حاجز عسكريّ يفتّش المارّة ويسجّل أسماءهم…مرّا بالحاجز…قال خليل لجورج:

سأعود إلى بيتنا؛ لأطمئن الأهل فلم أنم في البيت الّليلة الماضية، وسألحق بك بعد عدّة دقائق إلى بيت الأستاذ فؤاد.

في البيت يتحلّق الأهل حول المذياع…يستمعون للأخبار…حضنت فاطمة ابنها خليل وقبّلته باكية وهي تسأل:

وين كنت يمّه…والله خفت عليك؟

–         لا داعي للقلق يمّه…نمت في بيت صديق.

سأل أبو كامل: شو الأخبار يابا يا خليل؟

خليل: مثلما تسمعون…حرقوا المسجد الأقصى.

صالح: إذا لم يتحرّك العرب نجدة للأقصى، فهذا يعني أنّ الاحتلال سيطول.

كامل: الجيش المصريّ زاد من كثافة نيرانه في منطقة قناة السويس، وربّما ستتطوّر حرب الاستنزاف إلى حرب شاملة، إذا ما دعم العرب والمسلمون الرّئيس عبد النّاصر في مؤتمر القمّة الإسلامي الّذي دعا إليه الملك المغربيّ.

خليل: عرب أمريكا في المؤتمر لن يخرجوا من العباءة الأمريكيّة…والآن عن إذنكم فأنا مدعوّ للعشاء في بيت الأستاذ فؤاد.

في الطّريق مرّ ببيت أبي سالم…كان يتدثّر بعباءته جالسا على شرفة منزله ككلب أثر هرم…لم يطرح خليل عليه السّلام…فنادى بصوت عال:

وين رايح يا عمّي يا خليل؟ القيامه قايمه…والشّاطر يخبّي حاله…تعال اشرب شاي.

ردّ خليل دون اكتراث: أنا ذاهب إلى بيت المختار أبي سعيد كي نرتّب حفل زفاف زينب وسامح…وواصل طريقه.

قال الأستاذ فؤاد لخليل ولجورج: سيصدر هذه الّليلة بيان من القوى السّياسية يدعو إلى التّظاهر في كافّة المناطق المحتلة…سيوزّع هذا البيان على نطاق واسع. دعونا ننتظر ماذا سيحدث…سنلتقي غدا في المسجد الأقصى.

إذا دعونا ننصرف الآن…العسس يراقبون أيّ حركة…حتى الكلب أبو سالم يراقب المارّين في الطريق من أمام بيته.

استقلّ جورج سيارته عائدا إلى بيته…وغادر خليل إلى بيت المختار أبي سعيد.

صباح اليوم التّالي يوم الجمعة 22 آب- أغسطس- اكتظّ المسجد الأقصى بأكثر من ربع مليون شخص، عشرات الآلاف منهم جاءوا من المثلّث والجليل والنّقب وقطاع غزّة، رغم الحواجز الشرطيّة التي أقيمت على مداخل القدس وبقيّة المدن والبلدات الفلسطينيّة، وآلاف ممّن دخلوا المسجد لم يكونوا من المصلّين أو المواظبين على الصّلاة… جاءوا هذا اليوم يصلّون؛ ليقفوا على الأضرار الّتي لحقت بالمسجد العظيم، وللتّظاهر نصرة له…مئات الصّحفيّين ومراسلي التّلفزة ينصبون “كاميراتهم” على سطح المدرسة العمريّة الذي يعلو ساحات المسجد من الجهة الشّمالية…عدد منهم يجوبون ساحات المسجد أو يقفون عند بوّاباته يجرون مقابلات مع عدد من عامّة النّاس بشكل عشوائيّ…شيخ قرويّ يلفّ كوفيّته على رأسه بدون عقال كما يفعل الحصّادون، يعلّق طرفي قمبازه بحزامه…الشّرر يتطاير من عينيه، سأله مراسل لمحطّة تلفزة أجنبيّة:

شو رايك في اللي صار في الأقصى يا حاج؟

–         إسرائيل يا ابني تلعب بدمها…لكنّني والله خايف من الحكّام العرب يخربطوا الأمور ويضحكوا عَ النّاس ويهدّوا الوضع.

عندما استوقف أحد المراسلين أبا سالم سائلا إيّاه عن ردود فعل المواطنين على حريق الأقصى قال:

الحكومة الإسرائيليّة غير راضية عمّا جرى…ولازم النّاس يكونوا عاقلين…ولا يجوز أن ينجر النّاس لأعمال فوضى بسبب واحد مجنون ولّع النّار في المسجد.

من خلفه رفع مسنّ فلسطينيّ عصاه ليضربه على رأسه وهو يقول:

اخرس يا حتيت الشّيب…هل أنت مجنون أم جاسوس؟ وبصق على وجهه.

تلقّف المراسل العصا قبل أن تصل رأس أبي سالم، الذي مشى مطأطئا رأسه…تعمّد شابّ الاصطدام بأبي سالم فوقع أرضا…داس على بطنه ووجهه شابّان آخران وهما يردّدان: ماذا تفعل هنا أيّها الخائن.

نهض بمساعدة رجال لا يعرفونه…حسبوا أنّه سقط وسط الزّحام…قفل خارجا من المسجد ذليلا…امتطى حماره الذي ربطه في جانب حِسْبة الخضار الخلفيّ في واد الجوز، وعاد إلى بيته يئنّ من أوجاع في بطنه وأنفه، حسبته أمّ سالم أنّه سقط عن ظهر الحمار…فأكّد لها ذلك…تمدّد على فراشه يفكّر بالانتقام من الآخرين، وضرورة الرّحيل عن هذه القرية التي لم تحترمه يوما.

على الحائط الغربيّ للمسجد نصبت الشّرطة “كاميراتها” ترصد ما يجري في باحات المسجد…عند بوّابة المجلس الإسلاميّ الأعلى وقف عدد من المطارنة والبطاركة ينتظرون انتهاء صلاة الجمعة.

في خطبة صلاة الجمعة طلب خطيب الأقصى النّصرة من الأخوة العرب والمسلمين، وختم خطبته الأولى بـ “وامعتصماه” كرّرها ثلاث مرّات، وتردّد صداها في القرى المجاورة عبر مكبّرات الصّوت. بعد انتهاء الصّلاة خرج المصلّون كموج البحر يهتفون ضدّ الاحتلال وجرائمه، ويؤكّدون أنّهم يفدون الأقصى بدمائهم…عند باب المجلس الإسلاميّ تقدّم المظاهرة رجال الدّين المسيحيّون، القادة السّياسيّون والنقابيّون…انتظروا قليلا حتّى لحق بهم رجال الدّين المسلمون…آلاف الشّبّان ساروا عبر حارتي السّعديّة وباب حطّة باتجاه باب السّاهرة، وآخرون خرجوا من باب الأسباط عبر المقبرة الإسلاميّة باتجاه باب السّاهرة أيضا…شرطة الاحتلال قذفت مئات قنابل الغاز الخانق والمسيل للدّموع، عشرات النّساء خرجن من بيوتهنّ يحملن البصل لإسعاف من أصيبوا بحالات إغماء، عند بابي العامود والأسباط، دعا ضبّاط شرطة الاحتلال بواسطة مكبّرات صوت يدويّة المتظاهرين إلى التّفرق، وقرب الباب كان هناك عشرات من خيّالة شرطة الاحتلال… لكنهم هربوا تحت وابل الحجارة الّتي انطلقت باتّجاههم، طائرات الهليوكبتر تحوم هي الأخرى وتقذف المتظاهرين بقنابل الغاز، واصل المتظاهرون طريقهم…هرب رجال الشّرطة غربا عندما قلب المتظاهرون حصانا يمتطيه شرطيّ، وداسوا على “الخيّال” بأحذيتهم. جاب المتظاهرون شوارع القدس وأسواقها…وعند الغروب عادوا إلى المسجد الأقصى للرّباط فيه.

خليل واصل طريقه إلى ستيفاني في “الأميركان كولوني” بعد أن قال لشقيقه صالح بأنّه لن يعود إلى البيت لعدّة أيّام؛ لأنّه سيكون في ضيافة صديق عزيز، وربّما سيجد عملا.

شعرت ستيفاني بضيق شديد، فهي لم تستطع مغادرة الفندق منذ يومين…وتقضي يومها وحيدة….عندما رأت خليلا رمت نفسها على صدره باكية وسألت:

لماذا تركتني وحدي؟ كيف تقحم نفسك في أعمال شغب قد تعيدك إلى السّجن؟

–         الاحتلال هو من ارتكب جريمة إحراق المسجد الأقصى…وهذا اعتداء على عقيدة المسلمين، وانتهاك لحرّيّة العبادة…ومسّ خطير بحرمة المدينة.

–         هذه أمور لا تهمّني…يبدو أنّنا لن نستطيع التّجوّل في المدينة في ظلّ هذه الأوضاع المتوتّرة…ما رأيك أن نسافر إلى مدينة أخرى كحيفا أو إيلات؟

تفاجأ خليل باقتراحها وقال:

دعينا نمضي ليلتنا هنا…وغدا سنقرّر ماذا سنفعله.

لا بأس حبيبي…ما رأيك أن نتناول عشاءنا في غرفة الطّعام؟

–         بل في غرفة النّوم…فأنا لا أريد أن أرى أحدا غيرك!

في غرفة النّوم قالت لخليل وهي تستعرض محاسنها، بأنّها تخشى نشوب حرب في المنطقة، وسألته إن كان يوافقها الرّأي…فرد بانكسار:

لن تنشب حرب جديدة في المنظور القريب لأنّ العرب نيام…الرّئيس عبد النّاصر هو الوحيد الذي يعمل لتحرير الأراضي العربيّة المحتلّة، لكنّ بلاده تعاني مشاكل اقتصاديّة كبيرة…والدّول العربيّة الثّريّة تناصبه العداء.

اتّصل خليل بصديقه جورج واتفقا أن يلتقيا في صالة الفندق عند الثّامنة صباحا…واصل سهرته مع ستيفاني حتى منتصف الّليل…ناما وفي خاطرها أن تواصل سهرتها معه حتّى الصّباح.

فكّر خليل بطريقة للخلاص من ستيفاني لبضعة أيّام حتّى تنجلي الأمور بالنّسبة لتطوّرات الأوضاع بخصوص حرق المسجد الأقصى…اقترح عليها أن تبقى في الفندق دون الخروج منه حرصا على حياتها، أو أن تغادر إلى مدينة أخرى وحدها، فهو لن يستطيع مرافقتها بعد أن فرضوا عليه الإقامة الجبريّة في حدود القدس الشّرقيّة…فكّرت قليلا وقالت له بأنّها ستذهب إلى إيلات لعدّة أيّام…افترقا هي في طريقها إلى محطّة باصات إيجد في القدس الغربيّة؛ لتستقلّ الباص المغادر إلى إيلات، واستقلّ هو سيّارة أجرة عائدا إلى بيته…عندما أنزل حقيبة الملابس الفاخرة التي أتته بها ستيفاني من لندن…سألته والدته:

من وين الملابس هاي يمّة؟

–         هديّة من صديق.

–         باين إنك غالي عليه.

–         أكيد يعتبرونني مثل ابنهم…هذه من أسرتي البريطانيّة التي تبنّتني قبل ست سنوات…هل تذكرونهم.

–         بعثولك مصاري يمّة؟

–         نعم.

–         الله يخلف عليهم.

وجدهم ينتظرون استجلاء الأمور لتحديد يوم لزفاف سامح وزينب…سأله والده:

وين ها الغيبة يابا يا خليل؟

لم يجب خليل فواصل الأب حديثه:

اسمع يا خليل…المثل ما خلّى شي مخبّا

“عند مخالفة الدّول الشّاطر يخبّي راسه”.

ردّ خليل: عن أيّ دول تتحدّث؟

أبو كامل: أنا مش مرتاح من غيابك…والنّاس لا زالوا ييجوا يسلموا عليك بعد السّجن…وخلّيك عَ البرّ…ما بدّي اياك ترجع للسّجن مرة ثانية.

خليل: أنا لم أعمل شيئا، لكن جريمة حرق الأقصى لن تمرّ.

عند المساء جاء سامح وأبوه للحديث حول يوم زفاف سامح وزينب…اتفق الوالدان أن يكون الزّفاف يوم الجمعة القادم، دون أيّ مظهر من مظاهر الفرح…وسيقتصر الحضور على ذوي العروسين…مشى خليل وسامح بين دوالي العنب…قال خليل لسامح:

معي شيك بنكيّ بقيمة عشرة آلاف جنيه استرليني، جاءتني من الأسرة البريطانيّة التي تبنّتني…أتَذْكُرْ عندما سافرت إلى لندن وأنا في الرّابعة عشرة من عمري؟

سامح: هذه فرصة كي تبني نفسك بها.

خليل:كيف؟

سامح: هذه تساوي حوالي خمسة وثلاثين ألف دولار…ما رأيك أن تشاركني في شراء قطعة أرض في رام الله…وسنبني عليها بيتا مشتركا…هناك دونم أرض في حيّ الماصيون في رام الله بخمسة آلاف دولار.

خليل: سنشتري دونمين…ونبني بيتين متجاورين.

سامح: ممتاز…أنا موافق…كلّ بناء سيكلّف حوالي عشرة آلاف دولار…أنا سأتولّى ترتيب ذلك والإشراف على البناء.

خليل: سأعطي الوالد عشرة آلاف دولار لبناء بيت هنا، وكمساهمة في زواج أخي صالح…وسأشتري محلّا في شارع صلاح الدّين في القدس…سأجعله مكتبة لبيع الكتب.

سامح: تفكيرك سليم يا خليل.

*****

أبو سالم لم يهدأ له بال بعد ما حصل معه يوم الجمعة الماضي، فقد دبّ الخوف في قلبه…يتألّم كثيرا من أثار الأقدام الّتي داسته…تمنّى أن لا يكون أحد من أبناء البلدة قد رآه، كي لا ينفضح أمره وسط قريته…فهؤلاء سريعون في نشر الأقاويل والإشاعات…لم يجرؤ أن ينام على برندة البيت المكشوفة رغم حرارة الجوّ التي لا تحتمل…عندما فرشت أمّ سالم الفراش على البرندة سألها:

لمين الفراش هذا يا مَرَهْ؟

ردّت عليه : إلك.

–         أنا تعبان مريض… خلّي فراشي داخل الغرفة.

–         طيّب أنام عليه أنا.

–         كويّس إذا صرتِ زلمه، وتنامي خارج البيت…قالها ساخرا.

–         ليش الزلام أحسن منّي؟

–         الدّنيا ما عاد فيها أمان يا بنت النّاس…دَخْلي فراشك في الغرفة.

–         توكّل على الله…ما فيه شي يخوّف….استلقت على فراشها في البرندة مطمئنّة.

لم ينم ليلتها…بقي يتقلّب في فراشه على غير هدى…توقّع بأن يأتي أحدهم ويقتل أمّ سالم في الفراش ظنّا منهم أنّه هو…استهوته هذه الفكرة وقال في نفسه:

“كلّ الأمّهات تبكي ولا إمّي تبكي” لعلّها تفديني…تساءل عن الذي وشى به للشّباب الّذين داسوه في الأقصى…فدارت شكوكه حول خليل…قال في نفسه:

ما فيه غير الولد خليل الأكتع ملعون الوالدين.

فكّر كثيرا بمخاوف كثيرة على حياته…قرّر الرّحيل عن البلد…فربّما يجد ملاذا آمنا في مكان آخر، بعد أن يستشير سيّده الكابتن نمرود…فبالتّأكيد سيختار له مكانا آمنا في مكان آخر.

صباح اليوم التّالي خرج من البيت في ساعات الصّباح الأولى كي لا يراه أحد، قال لزوجته بأنّه متعب من شدّة الألم؛ جرّاء سقوطه عن الحمار بعد صلاة الجمعة، وسيذهب إلى الطبيب.

أخبر الكابتن نمرود بمخاوفه بعد أن وشى بخليل فقال:

هذا الولد خليل الأكتع مش قليل…كلّ البلاوي منه.

–         فرضنا عليه الإقامة الجبريّة بعدما علمنا أنّه شارك في المظاهرات بعد حريق الأقصى…ولن يعود منه خوف.

–         ومن يضمن حياتي أنا، فربمّا سيقتلونني؟

–         لا تخف فالمثل العربي يقول”كعكورة الخرا مانعه ما تنكسر”.

–         وهل أنا خرا يا زلمه؟ قلت لك ابحث لي عن مكان آمن أعيش بقيّة عمري فيه.

–         إذا قتلوك لن يحدث شيء …كلب ومات…وهذا مصير الكلاب الهرمة.

اسودّت الدّنيا في وجه أبي سالم فقال غاضبا:

صحيح أنا كلب…لأنّي رضيت أشتغل معكم! الحق عليّ مش عليكم، قالها وانصرف دون استئذان.

مشى كالمضروب على رأسه…لا يدري أين ستحطّ به الرّحال…عاد إلى بيته كمن يمشي على وجهه…طلب من زوجته أن تنادي ابنه “سالم” ليتشاوروا في أمر مهم … جاء سالم على غير رضا منه…قال أبو سالم لهما:

شو رايكم نبيع بيتنا وأرضنا ونرحل عن هذه القرية الوسخة ؟

سالم: هل من سبب يوجب ذلك؟

–         نعم…أهل هذه القرية ما يحبّوني…ويجوز يقتلوني.

سالم: لماذا كلّ هذا الخوف؟ وكيف عرفت ذلك؟

–         ما فيه سبب غير الحسد! وهذا الولد خليل الأكتع لا يطيقني.

أمّ سالم: هذه بلاد مقدّسة لا يخفى فيها خافي…وانت اخترت عداوة أهل البلد…كلهم بقولوا انك انت اللي  وَرا حَبِس خليل، وإبعاد الأستاذ داود.

أبو سالم: اخرسي يا مره…هو أنا باقي مسؤول عنهم…هم حبسوا حالهم؛ لأنهم ما قعدوا ساكتين مثل بقيّة النّاس.

سالم: لماذا تخرس؟ أنت اخترت الطّريق الخاطئ، وقد سبق وحذّرناك، لكنّك لم تسمع منّا…أهل البلد يحبّون بعضهم البعض، ولا يؤذون من لا يؤذيهم…حتّى أنا يتغامزون عليّ كوني ابنك، مع أنّهم يعلمون أنّني لا أتدخّل بأيّ شيء.

أبو سالم: يعني مش رايحين ترحلوا معي…”ذنبكم على جنبكم” أنا رايح أرحل وحدي و”يا روح ما بعدك روح”.

قالت أمّ سالم بينها وبين نفسها: “طريق تاخذ وما تردّ” الله يلعن اليوم الّلي شفتك فيه يا نذل.

حمل أبو سالم ملابسه في شوال بلاستيكيّ وخرج تائها…من القدس استقلّ الباص إلى بئر السّبع…ومن هناك ذهب إلى بيت شيخ قبيلة بدويّ في النّقب…دخل البيت وقال لصاحبه:

يا شيخ أنا دخيل عليك.

الشيخ: يا جهد البلاء…الدّخل مصيبة…حيّاك الله في الّلي أقدر عليه.

–         إن شاء الله تقدر.

–         تفضّل اشرب قهوتك…وخلّينا نسمع قصتك.

–         قصتي يا شيخ بدّي أظلّ في حمى حماك…لحد مّا ربنا ياخذ وداعته.

–         لويش…وين أهلك وقرايبك؟ إذا لك حق ضايع أجيبه لك…وإذا إنّك زعلان نرضيك.

–         أهلي وقرايبي يا شيخ يتهموني بالعمالة…وخايف يذبحوني.

–         لا حول ولا قوّة إلا بالله…ومين قال لك إنّي ركيزة للجواسيس؟ تعشّى ونام ليلتك ولا تخلّيني أشوف خلقتك.

–         اسودّ وجه أبي سالم…أقعى في زاوية “المضافة” ككلب هرم…يبكى وهو يضع رأسه بين يديه على ركبتيه.

سأله شيخ القبيلة: لماذا تبكي؟ هذه عواقب من يخون ويضرّ أبناء النّاس…أكيد كثيرون بكوا من أكاذيبك السّوداء، واليوم دورك تبكي…أنصحك أن تعود إلى جماعتك، وتعترف لهم بكلّ شي عملته، وتتوب لربّك أمامهم…وتلتزم بيتك ما تخرج منه…أكيد رايحين يعفو عنك…ويعتبروك كلب انتهى وقته.

أبو سالم: أنا جيت عندك تحميني ما تبهدلني يا شيخ.

الشّيخ: قلت لك من البداية هذا بيت شريف ما يحوي الزبالة فيه. و”للي ما فيه خير لنفسه ما فيه خير للنّاس.”

صباح اليوم التّالي خرج أبو سالم من بيت الشّيخ مطأطئا رأسه…لم يسأله الشّيخ عن وجهته، فهذا لا يهمّه…المهم أنّه خلص من رؤيته القبيحة…أشار بيده إلى سيّارة خاصّة يقودها رجل من بدو المنطقة كما تشي بذلك ملابسه…أقلّه الرّجل معه إلى بئر السّبع…في الطّريق سأله:

أشوفك مهموم يا عمّ…خير إن شاء الله؟

أبو سالم: خلّيها على الله…مين مش مهموم هالأيّام؟

–         لهجتك مش من المنطقة، من وين حضرتك؟

–         أنا مقطوع من شجرة…وكل يوم في بلد.

التزم الرّجل الصّمت ظنّا منه أنّ هذا الرّجل معتوه…أو ربّما يكون مهرّب مخدّرات قادما من صحراء سيناء، ولا يريد أن يعرفه أحد…ويتظاهر بالذّل والمسكنة كي لا يلتفت إليه أحد…وزادت شكوك الرّجل عندما سأل أبا سالم عن محتويات الكيس البلاستيكي الكبير الذي يضع ملابسه فيه، فتجاهل أبو سالم السّؤال…شعر الرّجل أنّه في ورطة…فمن يضمن له أن لا يكون هذا الرّجل مراقبا من الشّرطة؟ وكيف سيخلّص نفسه إذا ما قبضوا عليه؟ عند مدخل بئر السّبع توقّف عند محطّة بنزين، طلب من أبي سالم أن ينزل من السّيّارة بحجّة أنّه يريد العودة لبيته، ليحضر شيئا نسيه هناك…جلس أبو سالم على رصيف الشّارع ككلب جريح…واصل الرّجل طريقه إلى بئر السّبع وهو يتعوّذ بالله من شرور هذا الصّباح.

****************

مرّ خليل من الشارع القريب من بيت أبي سالم…هو في طريقه إلى بيت المختار أبي سعيد…رأته أمّ سالم من شرفة المنزل حيّته وقالت له:

تعال يمّه يا خليل بدّي أقول لك إشي مهم.

–         أنا على عجلة من أمري يا خالة.

–         تعال يمّه الملعون مش هون…في أمر ضروري لازم البلد كلها تعرفه.

ذهب إليها خليل على غير رغبة منه…طرح عليها السّلام…احتضنته وقبّلت وجنتيه بحنان أمومة ظاهر…أدخلته إلى الصّالون بعد أن تمنّع في البداية…قالت له:

اسمع يا ابني…غضيب الوالدين الملعون أبو سالم…ما نام في اليومين السّابقين…الخوف كسّر رجليه وصار أصفر مثل الّليمونة…قرّر الرّحيل عن القرية لأنّ أهل البلد يقولون عنه عميل…ولا يطيقون رؤيته…حاول إقناعنا أن نرافقه…لكنّنا رفضنا أنا وسالم بشدّة…حمل ملابسه وخرج ذليل لا ردّه الله، “طريق تودّي ما تجيب” يا ربّ العالمين…فضحنا وهبّط روسنا بين النّاس” الله يلعن اليوم الّلي شفته فيه” و”ربنا يجازي الّلي كانوا السّبب ” والله يمّه “ما شفنا معه يوم سرور نحكي عنّه” ولا عمره نزل لي في جوزة…وكنت مغلوبة على أمري لكن”العين بصيرة واليد قصيرة”…المهم إنّا ارتحنا منه.

استمع إليها خليل دون أن يتفوّه بكلمة واحدة…استأذنت منه لتعدّ إبريق شاي…لم يستطع إقناعها بالعدول عن ذلك…قالت له:

والله إنك غالي عندي يا بنيّي…وخلّيك عندنا يمّه على شان نعمل لك غدا…سالم يرجع بعد ساعة تقريبا.

تسلمي يا خالتي قال لها خليل…احتسى كأس الشّاي بسرعة…استأذن بالخروج إلّا أنّها أمسكت به وسألته:

صحيح يمّه الملعون هو الّلي حبسك؟

–         هذا ليس وقته يا خالة…المهم أنّكم ارتحتم من وساخته.

–         طيّب يمّه…الله يرضى عليك تخبّر الشّباب الّلي قلت لك إيّاه….وين مستعجل بدّك تروح يمّه؟

–         أنا ذاهب إلى بيت المختار أبي سعيد.

–         خذني معك يمّه عَ شان أقول له عن غضيب الوالدين.

–         تفضّلي يمّه.

مشت أمّ سالم بجانب خليل فرحة سعيدة…فقد شعرت بحديثها معه أنّها أزاحت عن صدرها حِملا ثقيلا كاد يخنقها.

في بيت المختار أبي سعيد جلست أمّ سالم مرفوعة الرأس بطريقة لم تجرؤ عليها من قبل… احتست قهوتها…أخبرته بقصّة هروب أبي سالم…استمع إليها جيّدا وقال:

ربنا يخزيه…طول عمره نذل ورخيص.

استأذنت لتعود إلى بيتها…حلف أبو سعيد بالطّلاق أنّها لن تخرج قبل أن تتناول طعام الغداء معهم…فجلست محرجة…ثمّ استأذنت لتساعد أمّ سعيد في إعداد الطّعام، بقي خليل وسامح مع أبي سعيد في المضافة…وبعد صلاة الظّهر لحق بهم أبو كامل…قصّ أبو سعيد على أبي كامل ما قالته أمّ سالم عن زوجها…فقال أبو كامل:

شو استفاد النّذل غير البهدلة؟ الله لا يردّه.

سأل أبو سعيد أبا كامل: هل تذكر يا منصور قصّة موسى ابن أبو عزيز؟

–         الله يسهل عليه…الله اعلم شو صار فيه؟

سأل خليل: ما قصّته؟ وأين هو؟

ردّ أبو سعيد: موسى ابن أبو عزيز… أبو عقاب ماغيره ابن عمّه لزم…كلكم تعرفونه…هذا مات أبوه وعمره أربع سنين…هذا الكلام كان في أواخر العهد العثماني…النّاس كانوا يموتوا جوع… كسب فيه أجر واحد من أفنديّة القدس…أخذه وربّاه عنده…علّمه القراية والكتابة…وتركه خدّام عنده حتى صار عمره 14 سنة…وبنات الأفندي حبّينه…كانت عينيه خضرا…وبشرته شقرا كأنّه من أولاد الانجليز…فطرده الأفندي… أعطاه عشر جنيهات وقال له…ارجع لأهلك…لا تخلّيني أشوفك بعد هاليوم…رجع الولد للسّواحرة…لا أمّ ولا أب ولا أخت ولا أخو…راح عند أولاد عمّه . في وقت الحصيدة…الحمار يشخ دمّ من شدّة الحرارة…أخذوه معهم عالحصيدة…وكلّ ما مرّ من جانب زرع…يهبشه ويسأل بلهجته المدنيّة اللي كانوا يضحكوا عليه بسببها:

“دول”-هذه- زرعاتنا؟

ويقولوا لأ…حتى وصلوا أرضهم في منطقة الزّرّاعة مشي…وصل تعبان وحط راسه ونام…ما حصد شي…عند ما حطّوا الفطور…كان لبن رايب محمّض ريحته طالعة…وقمر دين…نظر للأكل وما أعجبه…أخذ لقمة خبز وأكلها ناشفة، ورجع نام…المسخّم كان عايش مدلّل عند الأفندي…الّلي يفطر منه ما يتغدّى منه…عند الغدا حطّوا نفس الأكل…لبن وقمر دين…شاف الأكل وزعل…قال لهم:

يلعن أبوكم عرب غماسكم “أَمَر”-قمر- دين…ما تعرفوا غيره…والله ما أنا “آعد”-قاعد- عندكم…تركهم وراح…ضحكوا على كلامه وتركوه…ابن عمّه الكبير أبو عقاب قال: وين بدّه يروح؟ رايح يرجع للبيت وينام فيه.

يا عمّي الولد ناعم ومش متعوّد على الحياة الخشنة…المغرب رجعوا للبيت وما لاقوه…قالوا أكيد رجع عند الأفندي في القدس…وغاب وغابت علومه…بعد النّكبة الزلمه ظهر إنّه في لبنان…ظل ماشي لشمال البلاد…يا عمّي كانت الحدود مفتوحة مش مثل اليوم…لا حدود ولا جوازات سفر ولا تفتيش ولا غراب بين…كان الواحد يفطر في القدس ويتغدّى في الشّام ويتعشّى في بيروت…الله يلعن أبو الانجليز همّ الّلي خرّبوا البلاد وقسّموها، وجابوا لنا اليهود يذبحونا ويطردونا من بلادنا…مالنا ومال هالحكي…موسى وصل لبنان…واشتغل هناك…اتعرف على مَرَهْ-امرأة- أرملة عندها بنتين…وارثة دار وأرض واسعة…تزوّجها وعاش معها…قبل حوالي عشرين سنة ردّه أصله…رجع للبلاد وراح عند اولاد عمّه…رجع يحكي الّلهجة الّلبنانيّة، وكأنه لبناني مثل الّلي بنسمعهم في الرّاديو … والله النّعمة كانت باينة عليه…معه سيّارة خاصّة…ملابسه نظيفة وشكله الأمور متيسره معه…قال لاولاد عمّه عندي بنتين متعلمات وزينهن ياخذ العقل…خلّصن جامعة…حرام يطلعن خارج العيلة…إذا عندكم شباب عزّابيّة ومتعلمين…خليهم يزورونا وإذا أعجبوهن وأعجبنهم مباركات عليهم…ما أريد منكم غير السّترة…والله الجماعة ما حطّوا كلامه في بير خارب…راح معه عقاب ونمر ولاد أبو عقاب…ومثل ما تعرفوا الاثنين متعلمين وما شاء الله عليهم…غابوا سبع أيّام ورجعوا يضحكوا…قالوا إن البنات بنات مرته من زوجها الأوّلاني…وقرابتنا عاقر ما خلّف لا ولد ولا بنت…ومرته رحّبت فيهم وقالت لهم:

اللي بدّو يتزوّج بنتي لازم يعيش عندي أن ما بترك داري وأرضي وبلادي.

قالوا لها بأنّهم سيعودون لإحضار أهلهم ع شان ينفدوا بريشهم.

سامح: لكن يابا حذاء  موسى هذا أشرف من رأس أبي سالم الوسخ.

أبو سعيد” يقطع أبو سالم وسيرته…يجوز انّه الآن عايش في مزبلة من هالمزابل…الله لا يردّه.

خليل: وماذا حصل مع موسى بعد ذلك؟

أبو سعيد: بقي يراسل قرايبه ويراسلوه حتى وقعنا تحت الاحتلال…وانقطعنا عن العرب مثل ما انتو شايفين.

بعد الغداء عادت أمّ سالم إلى بيتها مرفوعة الرّاس…جمعت كلّ أثر من أبي سالم، وأحرقته في مزبلة البيت…حتّى فراشه أحرقته.

**************

سافر أبو سالم من بئر السّبع إلى الرّملة قاصدا أحد معارفه من تجّار المخدّرات، فقد شاهده أكثر من مرّة مع الكابتن نمرود، وتعرّف عليه… وصله منهكا…شرح له قضيّته راجيا أن يبقى عنده حتّى الممات!

سأله تاجر المخدّرات: أين سأبقيك؟ لا يوجد عندي مكان سوى ذلك المخزن…إذا رضيت أن تعيش فيه فلكَ ذلك.

–         إن شاء الله مع الكلاب…المهم مكان أتذارى فيه.

ضحك تاجر المخدّرات وقال له:

لا تخف فبيت الكلب بجوارك…سأحضر لك فرشة اسفنج وبطّانيّة ووسادة، بشرط أن تلتزم بالمخزن…لا أريد وجع رأس بسببك.

أبو سالم: توكل على الله، وما يصير إلا ما يرضيك.

استأنس أبو سالم بالكلب مع أنّه ينبح عليه…تمدّد في المخزن وقال للكلب:

لا تنبح سأكون أخاك…ستتعرّف عليّ جيّدا…لا تتعب نفسك بالنّباح.

*****************

جاء جورج إلى بيت خليل…قال له:

ستيفاني موجودة في أحد فنادق البحر الميّت، وتتّصل باستمرار تسأل عنك…تركت رقم هاتف الفندق كي تحادثها.

طلب خليل من جورج أن يخبرها بأنّه مشغول بالإعداد لزفاف شقيقته زينب الذي سيكون يوم الجمعة القادم.

لم تسافر ستيفاني إلى إيلات…نزلت من الباص عندما توقف في محطّة استراحة أمام فنادق البحر الميّت في منطقة سدوم؛ لأنّها وقعت في هوى البحر الميّت، وجدتها فرصة لها للتمتّع بجمال المنطقة والاستحمام بالبحر…تدهن جسدها بطين البحر الفريد…تتمدّد على الشاطئ لتأخذ حمّاما شمسيّا…تعشق أن تسمرّ بشرتها…فهي تعشق البشرة السّمراء…لفحتها شمس الصّيف اللاهبة…تساقطت بشرتها…بدا جسدها كلون “أبو بريص” فأصبحت كمرضى البهاق…دهنت جلدها بالعديد من الزّيوت و”الكريمات”…نظرت إلى نفسها بالمرآة…بكت بحرقة…تمنّت أن تعود كما كانت…شكت وضعها لموظّفة الاستقبال في الفندق، فطمأنتها بأنّها ستعود إلى سابق عهدها خلال ثلاثة أيّام…وهذا ما يحصل دائما مع ذوي البشرات الشّقراء.

عندما أخبرها جورج هاتفيّا بأنّ”خليل”مشغول بالاستعدادات لحفل زفاف شقيقته، قالت له بأنّها فرصة مناسبة لرؤية حفل زفاف فلسطينيّ! فأخبرها جورج أنّه لا تقام حفلات زفاف منذ وقوع البلاد تحت الاحتلال في حرب حزيران 1967، فلا غناء ولا موسيقى ولا ثوبا أبيض للعروس…هو مجرد حفل غداء لذوي العروسين…يباركون للعروسين…يأخذ العريس عروسه وينتهي الحفل.

وجدتها ستيفاني فرصة مناسبة أن تبقى حتّى نهاية الأسبوع في الفندق على شاطئ البحر الميّت، كي تعود بشرتها التي تساقطت…أخبرت”جورج” أن يخبر “خليل” بأنّها ستعود إلى “الأميركان كولوني” يوم السّبت.

***

أثناء سهرة المساء في بيت الشَّعَر سألت فاطمة “أمّ صالح” زوجها أبا كامل:

إيمتا نطلب عروس لصالح.

صالح: قلت لكن أنّني لن أتزوّج قبل أن يكون عندي بيت.

أبو كامل: وحدي الله يا بنت النّاس…لا تنكدي علينا فرحتنا بعرس زينب.

فاطمة: ليش ما نعمل الفرح فرحين…نفرح بزينب وبصالح…ونبني لصالح غرفه جنب غرفتي…كلها ثلاث حيطان…لا تكلّف شي.

صالح: غرفة واحدة ما عادت تكفي…يجب أن يكون لي شقّة كاملة…ونحن نعمل…وإن شاء الله سيكون بإمكاننا بناء بيت في الصّيف القادم.

كامل: دعونا نشتري حجارة…نحن سنحفر الأساسات…سنتّفق مع “أبو دلو” كي يحفر الصّخر بالكمبريسة، وأنا وصالح نعمل معه…وبعدها سنبني شقّتين واحدة لي والثّانية لصالح بتكلفة بسيطة، أنا أبني وهو يناولني الحجارة والطّينة.

ذهب خليل إلى غرفة النّوم دون أن يتكلّم شيئا…ودون استئذان…فبدا لهم كأنّه غير راض عمّا يقولونه…فتح حقيبته…أخرج منها خمسة عشر ألف دولار…عاد إليهم، نقدها لوالده قائلا:

هذه خمسة عشر ألف دولار تفي لبناء شقّتين وزواج صالح.

مفاجأة جميلة لم يتوقّعها أحد…فرحوا بها…نظروا إلى وجوه بعضهم البعض دون أن يتكلّموا…قال أبو كامل:

ربنا يرضى عليك يا خليل.

وسأل: مِن وين هاي الدّولارات يابا.

خليل: من خير الله يابا.

ابتسم كامل لخليل وغمزه بعينه وكأنّه يعلم مصدر الدّولارت…فقد اعتقد أنّها مكافأة من منظّمة التّحرير  لخليل!

فهم خليل ما يظنّه كامل فقال: لا تذهب بك الظّنون بعيدا يا كامل…هذه الدّولارات أرسلتها لي الأسرة البريطانيّة الّتي تبنّتني.

أم كامل: الله يرضى عليك يمّه يا خليل…إن شاء الله نفرح بك يوم ما تبني دار كبيره وتتزوج.

فاطمة: هالوقت ما ظلّ شي تتحجّجوا فيه…خلّينا نطلب عرايس لصالح ولخليل.

خليل: يا جماعة…ربّنا خلق الكون في ستّة أيّام…بعد عرس زينب سنطلب عروسا لصالح…وسنبني بيتا نحلّ به ضائقتنا السّكنيّة…وسيتزوّج صالح…وأنا سأتزوّج عندما يقع النّصيب…لا تقلقوا بي.

أبو كامل يسأل صالحا: هل في ذهنك بنت معيّنة يا صالح؟

كامل: أقترح أن نطلب له ماجدة بنت ربحي أبو ريالة…فهي بنت متعلمّة وجميلة.

خليل: ما رأيك يا صالح؟

سكت صالح ولم يُجب…فقال أبوه:

السّكوت رضا…يوم السّبت ثاني يوم عرس زينب نروح لأهلها ونطلبها.

سكتت فاطمة على مضض، ففي خاطرها أن يتزوّج ابنها ابنة أخيها موسى…لكنّها تذكّرت أنّ أحدا منهم لم يوافق عليها…ومع ذلك فهي سعيدة بموافقتهم على تزويج ابنها صالح…التفت إلى خليل وسألته:

شو ناقصك يمّه؟ ليش ما تتزوّج مع أخوك صالح؟

خليل: عندما يقع النّصيب سأتزوّج…لا تقلقي…لن أبقى عازبا.

لوَت والدته وجهها إلى الجهة الأخرى لأنّ كلام خليل لم يعجبها…لاحظ خليل ذلك فقال لها: ما دمت على عجلة لتزويج أبنائك…ما رأيك أن تزوّجي ” زعل وفرح “، فانفرط الحضور ضاحكين لأن التّوأمين “زعل وفرح” لا يزالان في السّادسة من العمر.

لم يوزّع المختار أبو سعيد بطاقات دعوة في حفل زفاف ابنه سامح وزينب…أرسل ابنه الصّغير عارف ليدعو الأعمام والأخوال والنّسايب والمختار “أبو محمّد” وإمام المسجد…طلب من عارف أن يخبرهم أنّه لن تكون سهرة…ولن يكون حفل…لأنّ ظروف البلاد لا تسمح بذلك…سامح دعا الأستاذ  فؤاد وثلاثة مهندسين يعملون معه…وطبيبين صديقين…خليل دعا صديقه جورج وزوجته ووالدته، ودعا سالم ووالدته أيضا.

زينب دعت صديقتين زميلتين لها في الدّراسة.

ليلة الحنّاء مرّت بهدوء لم يكن حنّاء ولا غيره…سهرت الخالات والعمّات والجارات في بيت الشَّعَر…فالرّجال يسهرون في بيت العريس.

قالت أمّ كامل: سقى الله عَ ايّام زمان…يوم تزوّجت منصور جابت الحنّا الحجّة كافية أمّ المختار أبو سعيد ومعها الحجّة صبحة أمّه للغضيب أبو سالم…جابن معهن نص كيلو حنّا وبكيت حلقوم…وبكيت حامض حلو، ورطلين رزّ مصري، وكيلو قهوة حبّ مش مطحونة…طبخت أمّي – الله يرحمها- طنجرة رزّ بلبن…وزغرتن وهاهين…وتحنّينا وانبسطنا….كانوا النّاس مش كثار…ما فيه بنات يغنّين ويرقصن، ولا شوكلاته ولا غيرها مثل اليوم.

ضحكت ضرّتها أمّ صالح وقالت:

الله يرحم أيّام زمان…ما يطلع لنا ناخذ وقتنا ووقت غيرنا.

صباح يوم العرس جاء الخبر بوفاة الحاج عبد الرّؤوف…المجبّر الشّعبيّ المسؤول عن شلل يد خليل وقطعها…هو مات مطمئنّا وعلى قناعة بأنّ الأطبّاء هم من قطعوا يد خليل…وهم من يتحمّلون مسؤولية ذلك، وهو واثق من قدراته “الطّبّيّة” خصوصا في التّجبير، فقد سبق وأن جبّر قوائم لمئات من الماعز والغنم…وجميعها شفيت – حسب رأيه- ومن لم تشف منها فإن مالكيها ذبحوها ولم يعطوها الوقت الكافي للشّفاء …لكنّ خليلا فقد يده اليسرى…ولا يزال يعاني جرّاء ذلك، وسيبقى إلى آخر يوم في حياته بسبب الأطبّاء كما قال الحاجّ عبد الرّؤوف، أمّا مجايلوه فقد اعتبروا ذلك قضاء وقدرا من الله…عندما وصل خبر وفاته…ترحمّوا عليه وطلبوا له الغفران…تشاور المختار أبو سعيد مع منصور والد زينب، ومع المختار أبي محمّد حول تأجيل الزّفاف إلى يوم آخر…خليل مؤمن بأنّ الجميع سيموتون…وبالتّالي لا شماتة في الموت…لكنّ ذلك لم يمنعه من القول في سرّه: لا ردّه الله…ارتحنا من جهله.

وقال أمام الجميع: الحاج عبد الرّؤوف عمره وصل التّسعين، وشبع من الحياة…موته رحمة له ولغيره…وكلّنا سنموت…والعرس بدون أغاني – كما الجنازة – ولا داعي للتّأجيل خصوصا وأنّ أهل العريس ذبحوا الذّبائح ووضعوها في القدور. ومن مات الله يرحمه…ومن سيتزوج –الله يبارك له-.

أيّد المختار أبو محمّد وإمام الجامع وبقيّة الحضور ما قاله خليل، باستثناء والدي العروسين التزما الصّمت لأنّ الأمر يتعلّق بابنيهما.

تنحنح المختار أبو سعيد وقال: ما دام هذا رايكم…لا أستطيع مخالفتكم…نؤجّل الغداء إلى ما بعد الدّفن.

طلب من ابنه عارف أن يضع على ظهر الحمار شوالي سكّر ورزّ…وقال للحضور:

خلّونا نروح ناخذ بخاطر الجماعة…نستسمح خاطرهم…ونشارك في الدّفن، ونرجع نتغدّى ونجيب العروس وسلامتكم.

بقي سامح وخليل في البيت…لم يذهبا إلى بيت الفقيد كما فعل الآخرون…عندما خلا لهما الجّو قال خليل ضاحكا وساخرا :

هذا الحاجّ عبد الرّؤوف يوزّع “بركاته” على النّاس حتى آخر لحظة في حياته…هو السبب الرّئيسي في قطع يدي اليمنى…والكارثة أنّه كان مقتنعا بأنّه طبيب! ويجد من يصدّقونه – مع الأسف – وها هو يموت في يوم زفافك أنت وزينب.

ضحك سامح وتساءل: وهل هو مسؤول عن وفاته؟

ارتدت زينب صباح يوم الزّفاف ثوبا مخمليّا حريريّا أسود مطرّزا…طرّزن جانبيه “بعروق الحبش، البط، والسّنابل” أمّا “القبّة” و “الذيال” فقد طرّزنه” بعروق الورد”…رفضت تجديل شعرها أو تغطية رأسها…سرّحت شعرها على طوله فبدا موجا هادئا يتطاير خلف رأسها، أو على جانب من وجهها حسب حركة النّسيم.

بعد الغداء جاء سامح ووالداه وشقيقاه الكبيران سعيد وماهر إلى بيت أبي كامل لأخذ العروس…احتسوا القهوة فقال أبو سعيد لأبي كامل:

بدنا عروسنا يا وجوه الخير…وإذا لكم طلبات احنا جاهزين.

أبو كامل: مباركة عليكم وان شاء الله بتشوفوا الخير على وجهها، وتملي بيتكم ذرى وذرّيّة…التفت إلى أبنائه قائلا:

اطلعوا أختكم يابا.

وقفوا جميعهم…ذهب كامل وصالح…أخرجا زينب…كامل يمسك يدها اليمنى…وصالح يدها اليسرى.

فتح سامح باب السّيارة وقال لها باسما:

تفضلّي.

استدار إلى الباب الثّاني…دخل السّيّارة…شغّل الماتور وقال:

عن إذنكم…لوّح لهم بيده اليسرى وغادر مسرعا.

فاطمة والدة العروس كانت تستعدّ للجلوس مع ابنتها في المقعد الخلفيّ…بينما يجلس زوجها أبو كامل في المقعد الأماميّ بجانب سامح…أصيبت بخيبة أمل عندما تركوها…قلبت وجهها …تلثّمت بخرقتها…دخلت غرفتها وبكت.

تساءل أبو كامل متفاجئا:

وين رايح الولد هذا في البنت يا أبو سعيد؟

–         رايحين شهر العسل على شطّ طبريّا يا أبو كامل.

–         أبو كامل غاضبا: وين بدهم يناموا في طبريّا؟

–         في “أوتيل”.

–         ليش بنتي خطيفة تتدخل في “أوتيل”؟

–         أبو سعيد: ما تحرّيت هالكلام منك يا منصور…زينب زوجته لسامح الآن على سنّة الله وسنّة رسوله.

تدخّل كامل قائلا: سامح أخذها شهر العسل إلى طبريّا يابا…وسيزوران حيفا والناصرة والجولان…وهذا احترام لك ولنا يا أبي…ودلال وحبّ لزينب.

أبو كامل: ليش ما أخبرنا بنيّته هذي؟

كامل: أخبرني أنا و”خليل وصالح”.

–         يا خسارة هيك خُلْفِه! قالها متحسّرا…ليش ما خبّرتوني؟

أبو سعيد: وحّد الله يا رجل…عَ إيش زعلان؟ الدّنيا اختلفت…زماني وزمانك انتهى..خلّي الاولاد يعيشوا حياتهم.

سكت أبو كامل مغلوبا على أمره…لم يقتنع بسفر العروسين إلى طبريّا، بل اعتبره إهانة لا تليق به وبسمعته في القرية…فقال:

عليّ الطلاق من شاربي، ولّلا النسوان ما فيهن خير، لو كنت أعلم إنّه بدّه يعمل هالعملة السّودا عمره ما فحّج عليها.

ضحك أبو سعيد وقال مازحا: عليّ الطّلاق عّ هالرّاس النّاشف الّلي حامله، لو إنّك لحقت الجاهليّة ما أسلمت! اخزي الشّيطان وشوف لك سالفة غير هالسّالفة.

***************

تركهم خليل دون استئذان…ذهب إلى بيت الأستاذ فؤاد…تحدّثا بأمور كثيرة…وجّه الأستاذ فؤاد حديثه لخليل قائلا:

موقف سالم ووالدته وشقيقاته من حماقات وتفاهة وخيانة أبي سالم يحمدون عليه، لذا يجب ردّ الاعتبار لهم من خلال إشراكهم في المناسبات العائليّة والعامّة، والتّعامل معهم بأريحيّة تامّة.

خليل: طبعا “ولا تزر وازرة وِزْرَ أخرى.”

حدّث خليل ضاحكا الأستاذ فؤاد عن موقف والده من سفر زينب وسامح لقضاء شهر العسل هناك…ضحكا معا على ذلك.

قال الأستاذ فؤاد: أنا لا ألوم أبا كامل على موقفه…فهذه أمور تربّى عليها…ولا يمكن ثنيه عنها أو إقناعه بغيرها في شيخوخته…واقترح على خليل أن يذهبا سويّة للسّهر عنده.

لمّا وصلا وجدا سالم ووالدته أمامهما…وصلا قبلهما بلحظات…أمّ سالم تبارك لوالدي كلا العروسين…توجّه حديثها لأبي كامل قائلة:

جينا الّليلة نبارك لأهل العروس…وبكرة إذا بقينا عايشين نبارك لأهل العريس.

عانق خليل والأستاذ فؤاد “سالم”…أمّ سالم قبّلت وجنتيهما…جلسوا في بيت الشَّعَر…انضمّت إليهم أمّ سعيد وأمّ كامل وأمّ صالح…الأطفال يلعبون فرحين…يتراكضون بين الأشجار…قال خليل ساخرا:

الله يرحم الحاجّ عبد الرؤوف فبموته فقدت القرية طبيبا لا مثيل له!

ضحك الشّباب وقال أبو كامل: عيب عليك يابا يا خليل…الرّجل مات وخربت ذمته.

ردّ خليل: لكن خسارتي ليدي لا تزال قائمة….وأريد أن أسألكم:

هل حضر ابنه عليّان الجنازة؟ وهل عزّيتموه؟

ماهر بن أبي سعيد: لم يحضر عليّان الجنازة…وربّما لم يسمع بوفاة والده…فأخباره مقطوعة منذ أكثر من عام…ولا أحد يعرف عنوانه…كان يعيش في القدس الغربيّة مع صديقه اليهوديّ المخنّث ويعتبره زوجة له…لكنّهما رحلا إلى تل أبيب.

أبو كامل: لا تؤاخذوني…مين الزّوج؟ ومين الزّوجة؟

ماهر: عليّان الزّوج وزوجته شاب يهودي مخنّث.

أبو كامل: لا حول ولا قوّة إلا بالله…معقول اللي تقولوه يا اولاد؟

ماهر: نعم…و”زوجة” عليان يلبس ويتزيّن كما النّساء، وغيّر اسمه إلى اسم مؤنث…وهما مدمنان للخمور وللمخدّرات.

سأل خليل: هل كان الحاج عبد الرّؤوف يعلم أفعال ابنه؟

شعر سالم بالحرج الشّديد…فإذا كانوا يحمّلون الحاجّ عبد الرّؤوف مسؤولية انحراف ابنه عليّان، فهذا يعني أنّهم يحمّلونه مسؤوليّة عمالة والده، فقال وفي نفسه الدّفاع عن نفسه، “كلّ شاة بعرقوبها معلّقة”.

التقط الأستاذ فؤاد ما يدور بذهن سالم، فتدخّل قاصدا رَفْع الحرج عنه وقال:

الآباء يحملون جزءا من مسؤوليّة انحراف أبنائهم لأنّهم المسؤولون عن تربيتهم، والأبناء لا يتحمّلون مسؤوليّة انحراف الآباء لأنّهم غير مسؤولين عن ذلك.

سكتوا جميعهم…لم يتكلّم أحد منهم…التفت إليهم خليل وسأل:

لماذا لا تجيبون؟ هل كان الحاجّ عبد الرّؤوف يعلم انحراف ابنه؟

قال المختار أبو سعيد: اتركونا من هالحكي الفاضي…”الميّت لا تجوز عليه إلا الرّحمة”.

ابتسم سعيد وقال: رحمة الله على الحاج عبد الرّؤوف كان عليّان يعطيه أموالا يأخذها من “زوجته” اليهوديّة.

أبو كامل: يعني تزوّج يهوديّة؟ وشو صار بالمخنّث الّلي قلتوا عنه؟

ماهر ضاحكا: المخنّث هو زوجة عليّان…عليّان يعاشره كما يعاشر الرّجل زوجته.

عبد الباري: والله سمعت هالكلام من زمان وما  صدقته…ويعلم الله لو ابني يعمل مثل عليّان..لأربطه مع الحمير تيطيح العقل راسه…ولأضربه ضرب ما يحمله حمار.

الأستاذ فؤاد: هذه أمور موجودة عند الشّعوب كلّها، لكن هناك شعوبا تجاهر بهكذا أمور، وهناك شعوب تتستّر عليها، ونحن من الشّعوب الّتي تتستّر.

أبو سعيد: لا أعتقد ذلك…هذا كلام مبالغ فيه…ولو كان هناك عندنا مثل ما تقولوا لسمعنا بها…فبلادنا لا يخفى فيها خافي.

خليل ضاحكا: أنتم تعلمون ذلك…وتعرفون أسماء المخنّثين…وبعض أسماء من يمارسون الرّذيلة معهم…لكنّكم تتستّرون على الموضوع…وتحاولون نسيانه…ولا تتكلّمون بذلك أمام النّاس…وقد سمعتكم تتكلّمون بذلك أكثر من مرّة! وكنتم أنتم والحاج عبد الرّؤوف تعلمون عن علاقة  ابنه عليّان مع المخنّث اليهودي…وتستّرتم عليه…أم نسيتم ذلك؟

ضحكوا من صراحة خليل وصدقه…وقال المختار أبو سعيد:

الله يستر على خلقه…والله يستر ما يجينا يوم يعزمونا فيه على عرس لشابّ على مخنّث، فالدّنيا آخر وقت.

تعمّد الأستاذ فؤاد الابتعاد عن الموضوع وإشراك سالم بالحديث فسأله:

ما هي أوضاع المدارس والطلّاب يا أستاذ سالم؟

سالم: المدارس الرّسميّة في القدس شبه خالية من الطّلاب…فهم يهربون منها إلى المدارس الخاصّة، وإلى المدارس الموجودة خارج حدود البلديّة حسب تقسيمات الاحتلال الإداريّة، بسبب المنهاج الإسرائيلي. بعض المدارس الثّانويّة عدد المعلّمين فيها أكثر من عدد الطلّاب…ومع ذلك فالاحتلال يواصل غطرسته بفرض منهاجه الدّراسيّ، وهو لا يستطيع إغلاق المدارس الرّسميّة لأهداف سياسيّة، وخوفا من الرّأي العامّ العالميّ…والأوقاف الإسلاميّة وجمعيّة المقاصد الخيريّة تزيدان عدد المدارس الخاصّة سنة بعد أخرى، لأنّ المدارس الخاصّة تدرّس المنهاج الأردنيّ المعدّل والمعمول به في بقيّة مناطق الضّفّة الغربيّة.

سعيد: لكن هناك تسيّبا ظاهرا للطّلاب من مدارس القدس…فكثير منهم يترك مقاعد الدّراسة في مراحل مختلفة.

سالم: الاحتلال معنيّ بسياسة التّجهيل…لكن المشكلة في جهل الآباء الّذين يخرجون أبناءهم من المدارس قبل إنهاء المرحلة الثّانويّة؛ ليعملوا في ورشات البناء الإسرائيلية، تحت إغراءات الأجرة المرتفعة قياسا بمرحلة ما قبل الاحتلال.

سعيد: الاحتلال له مخطّطاته الّتي تتعدّى الطّلاب إلى أجيال أخرى…فكثير من الفلّاحين تركوا أرضهم وانضمّوا إلى سوق العمل الأسود في إسرائيل.

الأستاذ فؤاد: هذه ظاهرة خطيرة…سيندم عليها شعبنا جميعه…فصراعنا مع الاحتلال يتمحور حول الأرض…وأطماع الاحتلال بأرضنا ليست خافية على أيّ إنسان عاقل.

أبو سعيد:  يا عمّي العامل في الورشات الإسرائيليّة يكسب أكثر ممّن يفلح الأرض، وسنة المحل خراب ديار على الفلّاحين.

الأستاذ فؤاد: هو كسب مؤقّت…وخسارة الإنسان لأرضه خسارة كبيرة لا تعوّض…والأرض إذا ما اعتني بها بشكل صحيح، تعطي مردودا أكبر بكثير من العمل في الورشات.

أبو كامل: والله كلامك صحيح يا أستاذ فؤاد…مضى عمري ومن فضل الله وأنا عايش من خير الأرض وحليب هالنّعجات…والحمد لله مستورة معنا، وعايشين على راس الشّوكة…والواحد في أرضه مسؤول عن حاله…ما واحد يقول له هات ولا خذ.

تدخّل كامل موجّها حديثه لأخيه خليل:

اسمع يا خليل…لا نختلف بأنّ المرحوم أبو عليّان هو المسؤول عمّا جرى ليدك…لكنّه لم يقصد ذلك مطلقا…بل هو نفسه ضحيّة مثلك…هو وأبناء جيله ضحايا للجهل والخرافات…والمجتمع يقرّ له بأنّه كان “طبيب” القرية الوحيد، والرّجل اعتاد بل ورث عمليّة تجبير الأغنام التي تُكسر واحدة من قوائمها…وذوو الأطفال الذين كانت تُكسر واحدة من أيديهم أو أرجلهم كانوا يرجونه لتجبيرها…وكان يقوم بذلك بناء على طلبهم! ولو لم يستجب لهم لغضبوا منه وخاصموه، فبالتّالي أنت وهو ضحايا لذلك الجهل…فانسَ الموضوع يا أخي.

أبو كامل: يسلم ثمّك يا كامل…والله أنا من بعثتك لإحضار الحاج عبد الرّؤوف لتجبير يد خليل…وزعلت منك عندما ما قلت خلّينا ناخذه للدّكتور…والغلطة غلطتي أنا…وما لكم عليّ يمين لو قطعوا يديّ الثنتين وظلّت يد خليل سليمة كان أهون عليّ، فالله يرضى عليك يا بنيّي يا خليل تسامحه وتسامحنى، أو قوم اقطع يدي بدل يدك.

تعاطف خليل مع ما قاله والده…شعر بصدق أقواله…قال ودمعتان تنزلان من عينيه وهو ينظر يده المبتورة:

لا أملك إلّا أن أسامحكم.

ضحك المختار أبو سعيد وقال:

بأشوف اولادك ردّوا الحفلة على راسك يا أبو كامل!

على كلّ اتركونا من هالكلام، فالحديث بالماضي يقصّر العمر.

أبو كامل: الله يلعن الشّيطان…قبل ما أنسى يا أبو سعيد…خليك بكرة بعد صلاة العصر تروح معنا نطلب يد ماجدة بنت ربحي أبو ريالة لصالح.

أبو سعيد: الله يحيينا لبكرة.

**************

انتظر خليل ستيفاني في صالة فندق “الأميركان كولوني”…لم ينتظرها كثيرا فقد وصلت بعده بدقائق قليلة…عانقته بشوق لكن ليس كما رأته في المرّة الأولى…حجزت غرفة لاثنين في الفندق…لها ولخليل الذي رفض تسجيل اسمه عند موظّف الاستقبال…سحب خليل حقيبة سفرها…قاع الحقيبة يمشي على عجلين صغيرين…في الغرفة سألته:

هل تحبّ رائحة عَرَقي كما أحبّ أنا رائحة عَرَقِك؟

–         بالتّأكيد.

عندما تمدّدت على السّرير بدا جسدها المحروق بحرارة الشّمس عند منطقة فنادق البحر الميّت كجلد السّمكة…وهذا إغراء لخليل…فأن يرى الرّجل عشيقته سمكة، تذكير له بعرائس البحر…ابتسم لأنّه لا يعرف إن كانت حوريّات البحر حقيقة أم خيال أساطير قديمة . لكنّه في كلا الحالتين أمر جميل…هي كانت خائفة من إمكانيّة نفوره منها…لكنّها شعرت بالرَضا من حرارة الّلقاء وهو يتحسّس جسدها من قدميها حتى رأسها.

سألته: هل وجدتني جميلة كما تعرفني؟

–         بل وجدتك متجدّدة الجمال…تمدّد بجانبها…تذكّر ما رواه أحد شيوخ البلدة عن أحد الشّباب عندما رأى على الجبل المقابل لمكان وقوفه امرأة ترتدي ثوبا مطرّزا…فلحق بها لينعم بجمالها…وكلّما اقترب منها ازداد حماسا…لاحظت هي ذلك…فغطت فمها وأنفها بطرف منديلها متظاهرة بالحياء، كانت سعيدة بذلك لأنّها عرفته، اعتقدت أنّه عرفها هو الآخر…رأى بريق عينيها كسهام تخترق جسده، أسرع الخطو إلى أن أصبح بمحاذاتها…طرح عليها السّلام…ردّت تحيّته بابتسامة عريضة بعد أن أزاحت المنديل عن فمها وأنفها…تفاجأ بأنّها رمّانة الفنساء صاحبة الفم المائل والأنف الأفطس الذي أورثها خَنَبا دائما…قفل طريقه عائدا وهو يشتمها:

هذا الثّوب خسارة أن ترتديه واحدة مثلك!

ردّت عليه بلؤم واضح:

–          وما تحت الثّوب حرام أن يراه واحد مثلك!

سألته ستيفاني التّي أخذت حمّاما باردا تاركة باب الحمّام مفتوحا:

لماذا كنت تبتسم وتتحدّث مع نفسك؟

ردّ عليها: تذكّرت ما كان بيننا في لقائنا الأوّل.

قالت له: لكنّك كنت ترتعد خوفا في لقائنا الأوّل!

خليل: كلّ بداية صعبة…لكنّه لقاء لا ينسى.

ستيفاني: طبعا فالثّمار الأولى لذيذة.

ارتدت بنطالا وقميصا ذا ردنين طويلين…فهي لا تريد إظهار بشرتها المحروقة من شمس البحر الميّت الّلاهبة…جلست على كرسيّ بجانب السّرير…رأته ناعسا فقالت: هل تريد أن تنام؟

–         لا…لا…فقط هي لحظات كسل ستتلاشى بالحمّام البارد.

بعد أن استحمّ استعاد نشاطه…جلس على كرسيّ قبالتها…قالت له:

أنا مضطرّة للعودة إلى لندن قبل نهاية الأسبوع…اتصلت بمكتب الطّيران وحجزت للعودة يوم الخميس القادم… فقد قرّر الأطبّاء إجراء عمليّة جراحيّة لوالدتي لاستئصال حصى من مرارتها، وطلبت منّي في محادثة تلفونيّة بأن أكون بجانبها…والدتي متخوّفة من الجراحة وتشتاقني.

خليل: أتمنّى لها الشّفاء العاجل.؟

–         شكرا لك…متى ستأخذني لزيارة والديك؟

خليل محرج من تلبية هذا الطّلب…يحاول التّهرب منه، لكنّه رضخ لإصرارها…اتصل بصديقه جورج…طلب منه أن يحضر إلى الفندق لاصطحابهما بسيّارته…أخبره جورج بأنّه سيحضر مساء.

عندما وصلوا البيت كان أبو كامل وولداه كامل وصالح وزوجتاه يجلسون في بيت الشّعَر…أمام البيت نعجة وضعت حَمَلَها قبل ساعتين…النّعجة تثغو وتشمشم وليدها بحنوّ زائد…صغيرها يمأمئ باحثا عن ثدي أمّه…فرحت ستيفاني بمنظر النّعجة وحَمَلِها…التقطت لهما صورة…اقتربت من الحَمَل…حملته على صدرها…قرّبت رأسها من رأسه تداعبه….النّعجة تثغو رافعة رأسها تريد صغيرها…تركت ستيفاني الحمل…صافحت الحضور…جلست على كرسيّ خشبيّ صغير…عرّفها خليل عليهم واحدا واحدا، هزّت رأسها باسمة بعد كلّ اسم…أشار خليل إلى البيت الحجريّ وقال:

هذا بيتنا، بيت فقير كما قلت لك.

نظرت إلى بيت الشَّعَر وقالت:

هذه خيمة جميلة، ليت لي واحدة مثلها.

عندما ترجم جورج ما قالته لأبي كامل قال:

والله ريت عزرين يقشعك يا لعينة الوالدين…من وين جبتوا هالمسخوطة؟

جورج: هذه صحفيّة بريطانيّة، عملت مقابلة مع خليل حول أوضاع السّجون!

وأصرّت أن ترى المكان الذي يعيش فيه.

التفتت ستيفاني إلى خليل وسألته:

هل وُلدت هنا يا خليل؟

خليل: بل وُلدت في مغارة جدّي لأمّي.

–         رائع…إذن نزور المغارة لالتقاط الصّور فيها.

خليل:المغارة بعيدة من هنا ولا تصلها السّيارات…ونحتاج إلى ساعتين مشيا على الأقدام في البراري حتى نصلها.؟

–         ستيفاني: مدهش…جميل…هذه فرصتنا لنتمشّى في الهواء الطّلق…وسط الطّبيعة بعيدا عن ضوضاء المدينة.

قال جورج محاولا إخراج خليل من ورطته:

المغارة في منطقة عسكريّة مغلقة من قبل الاحتلال.

ستيفاني: لماذا؟

جورج: لديهم قوانين يستطيعون من خلالها إغلاق أيّ منطقة لاستعمالات الجيش.

ستيفاني: هذا غير قانونيّ.

جورج: وهل وجود الاحتلال قانونيّ؟

جاءت أمّ صالح بإبريق شاي…التفتت ستيفاني إلى خليل وسألت:

أين تنام يا خليل؟

خليل: أنام أحيانا هنا تحت شجرة التّين، أو في بيت الشّعَر…وأحيانا في تلك الغرفة.

ستيفاني: يا إلهي! أنت محظوظ لأنّك تنام في أحضان الطّبيعة…هل يمكنني أن أنام عندكم تحت شجرة التّين؟ هي فرصة نعدّ فيها النّجوم ونتابع حركتها.

ضحك جورج وخليل من طلبها…سأل أبو كامل:

شو قالت الحيّة البرقا هاي تضحّكتكم؟

خليل: بدها تنام تحت التّينة.

أبو كامل: يا حليلك يا منصور…من وين أجتنا هالمصيبة؟

كامل ضاحكا: قل لها لا مانع…نفرش لها ولخليل تحت التّينة.

أبو كامل: لا تترجموا لها ما قاله كامل.

التفت إلى كامل وقال:

هذا كلام عيب…ما بدّي أسمعه منك مرّة ثانية…تراكم تحسبوا أعراض النّاس لعبة.

ستيفاني: الطٌقس عندكم جميل جدّا…باستطاعة الإنسان أن ينام في الحقول…على عكس مناخ لندن…فالضّباب يملأ الفضاء…الأمطار تتساقط بدون إنذار مسبق.

قال جورج لستيفاني: العادات هنا لا تسمح للنّساء المبيت خارج الغرف…لأنّهم يخافون عليهنّ.

ستيفاني مستغربة: يخافون؟ ممّ يخافون… لماذا لا يخافون على أنفسهم؟

خليل: يخافون عليهنّ من الوحوش المفترسة.

ستيفاني: رائع…هل تصل الوحوش المفترسة إلى هنا؟ هي فرصتي لرؤيتها في بيئتها الطّبيعيّة…لا تخافوا عليّ…أنا أعرف كيف أتعامل معها…لقد رأيت في دول افريقيّة نمورا، فهودا، أسودا، فيلة، ضباعا، ثعالب، غزلانا…بقرا بريّا…منظر جميل أتوق لرؤيته دائما.

خليل: لا حول ولا قوّة إلا بالله…من يخلّصنا من هذه الورطة؟

أبو كامل: اتركوا هالكلام الفاضي…اسمع يا جورج…يا عمّي أنت ضيف علينا…شو رايكم نذبح خروف…نشويه ونتعلّل في هالّليلة الحلوة؟

ستيفاني: ماذا يقول الأب؟

جورج: يريد أن يذبح لك خروفا…يشوونه هنا على هذا الموقد.

ستيفاني: من يذبحه؟

أشار جورج إلى كامل وقال:

سيذبحه كامل أخو خليل.

ستيفاني غاضبة: يذبحه بالسّكّين هنا أمامنا؟ يا إلهي هذا أمر مريع…أنا لا أطيق رؤية الدّماء.

طلب خليل من جورج أن يعيد ستيفاني إلى الفندق، قال له:

أَرِحنا من هذه المصيبة…يبدو أنّها سعيدة برؤية تعاستنا.

جورج: أيّ تعاسة يا رجل…هذه البيئة تفتقدها…هي سعيدة حقّا؛ لأنّها لا ترى مثلها في بلادها…التفت إلى ستيفاني وسألها:

ما رأيك أن نغادر الآن…هيّا بنا لأعيدك إلى الفندق.

ستيفاني تقول لخليل: هيّا بنا يا خليل.

خليل: سألحق بك غدا صباحا…أنا لا أستطيع مرافقتك الآن.

–         لماذا.

خليل: لا أريدهم أن يعرفوا أنّ بيننا علاقة ما…فعاداتنا لا تقرّ ذلك.

ستيفاني: هل تخاف منهم؟ ممّن تخاف…من والدك؟ هل هم مجانين؟ لماذا لا يتركونك تعيش حياتك فلم تعد طفلا؟ أم أنّك تريد أن تنفرد بالنّوم تحت الشّجر؛ لتراقب النّجوم وحدك؟

–         سأشرح لك هذه الأمور غدا.

عند امتداد قمّة جبل المكبّر باتّجاه حيّ البقعة…تحديدا قبالة الكلّيّة العربيّة الّتي غيّر المحتلّون اسمها إلى”كريات موريه” يستقبلون فيها طلابا جامعيّين من الدّول الغربيّة، يدرّسونهم فيها عن الصّهيونيّة…التفتت ستيفاني إلى يمينها…رأت القدس القديمة جوهرة تتلألأ…قبّة الصّخرة المذهّبة تشعّ بريقا تنكسر خيوطه باتّجاه الشّرق، طلبت من جورج أن يتوقّف…نزلا من السّيّارة…سحر المدينة المقدّسة دفعهما إلى الجلوس أرضا…التقطت صورا عديدة للمدينة…لم يفتها أن تلتقط عددا من الصّور لقرية سلوان التي تنحدر من راس العامود إلى وادي قدرون…التقطت صورا أخرى لسفح جبل الزّيتون الغربيّ…انتبهت لكنيسة الجسمانيّة التي تنعكس الأضواء عليها…التقطت صورا لها…طاب لها أن تمضي ليلتها هناك…إلّا أنّ جورج أخبرها بأنّه لا يستطيع الانتظار أكثر فزوجته بانتظاره.

أوصلها جورج الفندق…دعته لشرب كأس ويسكي معها إلّا أنّه اعتذر عن قبول الدّعوة… جلست في صالة الفندق، فهي لا تستطيع النّوم في ساعة مبكّرة…طلبت زجاجة جعّة…شربتها طلبت زجاجة أخرى..شعرت بخيبة أمل من خليل…فهي تشتاقه…تشتهيه…جاءت من لندن خصّيصا لتلتقيه…كيف يتركها وحيدة؟ لم تستوعب عذره بعدم مرافقته لها هذه الّليلة…لم تفهم ما عناه بالعادات الّتي تمنعه من ذلك…تساءلت عن سطوة الأهل على الأبناء في هذه البلاد…فهل يُعقل وجود والدين يقفان عائقا أمام سعادة أبنائهما…هل يخافون في هذه البلاد من علاقة الرّجل بالمرأة؟ أم أنّهم يحصرونها في العلاقة الزّوجيّة فقط؟ استمرّت في احتساء الجعّة وتفكيرها بموقف خليل غير المقنع لها هذه الّليلة…بقي لها خمس ليال ستترك بعدها هذه البلاد التي يصعب فهمها وفهم أهلها…فرغم جمالها وقدسيّتها إلّا أنّ حروبها كثيرة…مشاكلها كثيرة…عادات أهلها غريبة…تذكّرت كيف كان صديقها الهنديّ يحضنها ويقبّلها أمام أسرته…لا يعترضون على ذلك…بل يفرحون له…مع أنّ الهنود شرقيّون مثل العرب…أرهقتها المقارنة..وإن أبدت إعجابها بفحولة العرب لا بثقافتهم خصوصا فيما يتعلّق بعلاقة الرّجل بالمرأة.

خليل هو الآخر لم يعد مرتاحا من علاقته بستيفاني…يراها فتاة لعوبا…ليس لديها هدف في الحياة سوى استغلال ثرائها لإشباع شهواتها…أمضى ليله يفكّر بمخطّطاته المستقبليّة…لم يعد راضيا عن نفسه بخصوص علاقته مع الأستاذ فؤاد…فلم يعد يلتقيه كما يجب…وفؤاد مشغول ليل نهار بقضايا سياسيّة…خصوصا بعد إحراق المسجد الأقصى…لم يرد الإثقال على خليل بعد تحرّره من الأسر…تركه يمارس حياته بعد معاناته في المعتقل.

استيقظت ستيفاني على طرقات خليل الخفيفة على باب غرفتها في الفندق…فتحت له الباب…وقفت أمامه تتثاءب وهي ترتدي ملابسها الدّاخليّة…رائحة الخمور تفوح منها…احتضنها…قبّلها وهو يقول:

تزدادين سحرا وجمالا عندما تكونين ناعسة.

قالها من باب المجاملة لا أكثر، فأشبع غرورها الأنثويّ بكلامه هذا فسألته:

أحقا ما تقوله؟

–         بالتأكيد فالمرأة التي تبدو جميلة في ساعات الصّباح قبل أن تستحمّ وتتزيّن، يعني أنّها جميلة حقّا…وهذا هو الجمال الطّبيعيّ الذي ينشده الرّجال.

استلقت على السّرير بدلال لا تصنّع فيه…عاتبته على عدم مرافقته لها في الّليلة الماضية…ابتسم لها وقال:

عليكِ أن تتفهّمي الاختلاف الثّقافي بين الشّعوب…فالقدس ليست كلندن.

خرجا للتّجوال في القدس القديمة…قادها خليل إلى المسجد الأقصى…حاولا دخوله من باب السّلسلة بعد أن مرّا بباب العامود…سوق خان الزّيت…سوق العطّارين…أغرتها رائحة التّوابل والبخّور والعطارة في السّوق… دخلا سوق الباشورة…فباب السّلسلة الذي تحوّلت غالبيّة محلّاته التّجارية لمحلّات سياحيّة تستهوي السّيّاح، الذين هم في غالبيتهم من اليهود المارّين إلى الصّلاة أمام حائط البراق- الحائط الغربيّ للمسجد الأقصى-  الّذي حوّله المحتلون إلى “مبكى” لليهود… عند مدخل الأقصى منع الحرس ستيفاني من الدّخول…فدخول السّياح يتمّ من باب المجلس الإسلامي فقط…التفّ بها خليل إلى سوق الواد…توقّفا قليلا عند حمّام العين…الحمّام العثمانيّ مغلق لسبب لا يعرفانه… مشيا باتجاه باب المجلس الإسلاميّ الأعلى…اشترى خليل كوفيّة فلسطينيّة رثّة لتغطي ستيفاني رأسها بها عند دخول المسجد…ابتاعت ستيفاني تذكرة دخول كما بقيّة السّيّاح..توقّفا في فناء المسجد …فالدّاخل إلى المسجد الأقصى يحتار من أين يبدأ…فللمكان هيبته وتاريخه الذي يحمل عبق تاريخ طويل…أشارت ستيفاني لخليل كي يذهبا إلى قبّة الصخرة…صعدا الدّرج من الجهة الغربيّة الشماليّة…توقف خليل وشرح  لستيفاني عن المسجد العظيم قائلا:

” يتكون هذا المسجد الأقصى من عدّة أبنية كما تشاهدين ، ويحتوي على عدّة معالم يصل عددها إلى مائتي معلم، منها قباب وأروقة ومحاريب ومنابر ومآذن وآبار، وغيرها من المعالم. ويضم سبعة أروقة: رواق أوسط، ثلاثة من جهة الشّرق، ومثلها من جهة الغرب، ترتفع هذه الأروقة على ثلاثة  وخمسين عمودا من الرّخام، وتسع وأربعين سارية من الحجارة.

في صدر المسجد قبّة ، كما أنّ له أحد عشر بابا ، سبعة منها في الشّمال وباب في الشّرق ، اثنان في الغرب وواحد في الجنوب.

يوجد في ساحة الأقصى الشّريف خمس وعشرون بئرا للمياه العذبة ، ثمانية منها في صحن الصّخرة المشرّفة، وسبع عشرة في فناء الأقصى، كما توجد بركة للوضوء. وأمّا أسبلة شرب المياه فأهمّها سبيل قايتباي المسقوف بقبّة حجريّة رائعة، لفتت أنظار الرّحالة العرب والأجانب الذين زاروا المسجد، إلى جانب سبيل البديري وسبيل قاسم باشا. وللمسجد الأقصى أربع مآذن، والعديد من القباب والمساطب التي كانت مخصّصة لأهل العلم والمتصوّفة والغرباء ،ومن أشهر القباب قبّة السّلسلة، وقبّة المعراج، وقبّة النّبيّ. أمّا بالنّسبة للأروقة فأهمّها الرّواق المحاذي لباب شرف الأنبياء، والرّواق الممتدّ من باب السّلسلة إلى باب المغاربة، كما يوجد فيه مزولتان شمسيّتان لمعرفة الوقت.”

عندما أطلّا على المسجد القبليّ من البائكة الجنوبيّة – وهي: ” إحدى بوائك الأقصى ، وتقع في منتصف الرّكن الجنوبيّ لصحن الصّخرة، وقد أنشئت أوّل مرّة في العهد الأمويّ ، ولكن من المؤكّد أنّها جدّدت في العهد العبّاسيّ ، ثمّ الفاطميّ والعثمانيّ \، رمّمتها دائرة الأوقاف الإسلاميّة عام 1402هـ – 1982م . وهي عبارة عن ثلاثة أعمدة أسطوانيّة في الوسط، تحفّها عن اليمين واليسار ركبتان عظيمتان، ويبلغ ارتفاعها ستّة أمتار ونصف المتر. ويصل ساحة المسجد بصحن الصّخرة درج حجريّ درجاته عشرون .

وفي الواجهة الجنوبيّة من هذه البائكة الجنوبيّة، توجد مزولة شمسيّة يستعين بها المصلّون، وهي من صنع مهندس المجلس الإسلاميّ الأعلى رشدي الإمام، وذلك في سنة 1907م ، للتعرّف على أوقات الصلوات.”

وقفا وجها لوجه أمام المسجد القبليّ…نزلا بضع درجات…أخذ خليل “الكاميرا” من ستيفاني…طلب منها أن تقف مكانها وأن تمدّ يدها اليمنى على أن تقلب كّف يدها مفتوح الأصابع إلى أسفل…التقط لها صورة بدت فيها وكأنّ هلال قبّة الصّخرة في قبضتها. وقف بجانبها…طلب من أحد المارّة أن يلتقط لهما صورة في نفس المكان.

التقطت ستيفاني مئات الصّور للمسجد من داخله ومن خارجه…وللمعالم الموجودة في فنائه…بقيا في المسجد حتّى نادى المؤذّن لصلاة الظهر، فانسحبا خارجين من باب السّلسلة…عند أولّ بناية على يسارهما وهما خارجان من المسجد إلى باب السّلسلة أوقفهما جنديّان من حرس الحدود الإسرائيليّ يحرسان البناية…أرادا التحقّق من هويّة ستيفاني، فقد ظنّاها يهوديّة إسرائيليّة تصاحب عربيّا…تبيّن أنّهما لا يجيدان الانجليزيّة…شاهدا جواز سفرها البريطانيّ…وتركاهما بعد أن علا صوت ستيفاني غضبا…فحصا هويّة خليل…وقال له أحدهما بعربيّة ركيكة:

“صختين خبيبي”.

قال خليل لستيفاني: هذه البناية هي جزء من المدرسة التنكيزيّة…وهي بناء عربيّ إسلاميّ خالص…في داخله محراب صلاة من الفسيفساء القديمة…وهي تعلو حائط البراق من الجهة الشّماليّة، استعملت في العهد الأردنيّ كمدرسة دينيّة إسلامية كانت تسمّى:”المعهد العلميّ الإسلاميّ” وطابقها العلويّ كان مكاتب للمؤتمر الإسلاميّ…استولى عليها المحتلّون وحرموا طلبتها من دخولها…فانتقلوا إلى مبنى آخر في رواق المسجد الأقصى قريبا من باب الأسباط.

على مقربة منها أشار خليل إلى المكتبة الخالديّة وقال لستيفاني:”

هذه مكتبة تاريخيّة فيها الكثير من المخطوطات القديمة…أسّسها راغب الخالدي أحد أبناء عائلة الخالدي المقدسيّة العريقة عام 1899م- 1214هجري..باعتبارها وقفا إسلاميّا، وذلك بمبلغ من المال أوصت به جدّته خديجة الخالدي ، بنت موسى أفندي الخالدي، الذي كان قاضي عسكر الأناضول في عام1832م.

وقد كانت نواة المكتبة الخالديّة مجموعة من المخطوطات التي توارثتها الأسرة الخالديّة، ثم ضُمّت إليها مكتبات أفراد الأسرة الذين توفوا وأشتهروا بالعلم، فتجمّع في المكتبة عدد كبير من المخطوطات، والكتب النّادرة والجرائد، والمجلات في أكثر من لغة. عندما تأسّست المكتبة كانت تضمّ 1318 كتابا، وفي عام 1928 بلغ عدد كتبها أربعة آلاف ثلثها تقريبا من المخطوطات. وفي عام 1936 وصل عدد الكتب إلى 7000 كتاب. وفي عام 1945، ازداد عدد الكتب إلى 12 ألفا بالّلغات العربيّة والإنجليزيّة والتّركيّة والفرنسيّة والفارسيّة.”

طلبت ستيفاني من خليل دخول المكتبة لإلقاء نظرة عليها…طرقا على الباب التّاريخيّ القديم للمكتبة، والذي تتوسطه حلقة نحاسيّة تعلو قاعدة نحاسيّة أخرى على شكل رأس أسد، وتستعمل كجرس يقرعه من يريد الدّخول…لم يكن أحد في المكتبة؛ ليفتح لهما الباب…التقطت ستيفاني صورة للباب الخارجيّ بعد أن أبدت إعجابها بالجرس…واصلا طريقهما صعودا في السّوق…مرّا ببائع فلافل…رائحتها الزّكيّة تنبعث في السّوق، طلبت ستيفاني أن تتذوّقها…اشترى خليل “ساندوشي” فلافل له ولها…نقد البائع عشر ليرات إسرائيلية…لم تنتظر ستيفاني ليعيد لهما ما زاد على ثمن الرّغيفين فقالت له بالانجليزية:

أيّ “احتفظ بما تبقّى”.Keep the change

التهمت رغيفها بشهيّة واضحة…وهي تقول:

هذا طعام لذيذ.

قال لها خليل: صباح غد سنتناول طعامنا حمّصا وفلافل.

ستيفاني: القدس مدينة لا مثيل لها في العالم…ليتني أستطيع زيارة كلّ موقع فيها.

خليل: ستحتاجين عاما كاملا لذلك!

Oh my God ستيفاني:

خليل: لكن يمكنك إلقاء نظرة على المدينة من مكان مرتفع فيها.

ستيفاني: رائع.

قادها خليل إلى كنيسة المخلّص” وهي كنيسة لوثرية بروتستانتيّة في حارة النّصارى بالقدس القديمة. مشهورة ببرجها العالي المطلّ على كافّة حواري المدينة واتّجاهاتها.”

تجوّلا قليلا في الكنيسة ثمّ صعدا برجها…بدت المدينة القديمة لوحة من الفسيفساء يصعب وصفها، لكنّها تسلب لبّ النّاظر إليها…انتبهت ستيفاني إلى البنايات الاستيطانيّة المقامة في حارتي الشّرف والمغاربة غرب حائط البراق…لم ترَها متوافقة مع جماليّات تاريخ المدينة، فسألت عن ماهيّة هذا الأبنية؟

أجاب خليل بعد أن نفث زفير لوعة من رئتيه:

هاتان حارتان قامت إسرائيل بهدمهما قبل أن يسكت هدير المدافع في حرب حزيران 1967،هدمت فيها ألفا واثني عشر بيتا تاريخيّا، من ضمنها مساجد ومدارس، وطردت مالكيها الفلسطينيّين منها…لتبني هذه البيوت النّاشزة؛ لتكون حيّا استيطانيّا يهوديّا في قلب المدينة القديمة.

ستيفاني: أمر محزن أن يقوموا بهدم الحضارة الإنسانيّة في هذه المدينة.

خليل: لا غريب عليهم…فحضارتهم تقوم على القوّة والقتل والتّدمير.

أشغلت ستيفاني”كاميرتها” في التقاط الصّور من الاتّجاهات كافّة…طاب لها الوقوف… في أعلى البرج…سألت عن الحدّ الفاصل ما بين القدس الشّرقيّة والقدس الغربيّة…أشار خليل إلى الغرب وقال:

القدس القديمة بكاملها من ضمن القدس الشّرقيّة الّتي وقعت تحت الاحتلال في حرب حزيران 1967، القدس الغربيّة تقع خارج سور المدينة من الجهة الغربيّة…حدّقت ستيفاني إلى القدس الغربيّة…أشارت إلى أبنية قديمة وقالت:

تلك الأبنية تشي بأنّها عربيّة.

خليل: نعم إنّها بيوت عربيّة تمّ تشريد أهلها منها في نكبة العام 1948…يقطنها الآن مستوطنون يهود…ويسمّون كلّ بيت منها “البيت العربيّ”.

ستيفاني: أين تمّ تشريد أصحابها العرب؟

خليل: تشردوا في أصقاع الأرض كافّة…وإن كان غالبيّة اللاجئين الفلسطينيّين يعيشون في مخيمات في الضّفة الغربيّة وقطاع غزّة، والدّول العربيّة المجاورة.

ستيفاني: أمر محزن ما يجري في هذه البلاد.

خليل: هذا ما خطّطت له بريطانيا ونفّذته.

ستيفاني أنا لا أهتمّ بالسّياسة ولا أحبها…دعنا من هذا…هيّا بنا لنغادر هذا المكان.

نزلا درج البرج الذي يتلوّى كأفعى هرمة…كان لافتا وجود قاذورات يلقي بها الزّائرون في الدّرج…اقترح عليها خليل أن يخرجا من المدينة القديمة عبر باب الخليل…ليلتفّا حول سور القدس في طريقهما إلى باب العامود…وافقت على اقتراحه، عندما خرجا من باب الخليل، وقفت ستيفاني على بعد أمتار من السّور لتلتقط صورا للباب، فسألها خليل:

هل تلاحظين أن منظر هذا الباب يختلف عن غيره من أبواب القدس القديمة؟ لم يترك لها فرصة للإجابة وأضاف هذا الباب كان مزخرفا كبقيّة أبواب المدينة…لكن الإمبراطور الألماني غليوم عندما زار القدس في شهر أكتوبر عام 1898 بصحبة زوجته أوغستا فكتوريا…بقصد الحجّ وتدشين كنيسة القيامة بعد إعادة ترميمها على أيدي”المبشّرين الكاثوليك الألمان…أعدّوا لهما دخول المدينة على عربية فاخرة تجرّها الخيول…وكان الباب لا يتّسع لدخول العربة…فهدموا السّور من لِصق الباب إلى أعلاه،   فبدا ولا يزال مشوّها، وهذه واحدة من الجرائم التي ارتكبت بحقّ سور المدينة التّاريخي لا يمكن التّكفير عنها.

سارا شمالا في طريقهما إلى الفندق…مرّا بالباب الجديد “الذي اكتسب اسمه هذا؛ لأنّه جديد نسبيا ويعرف أيضا بباب عبد الحميد، حيث أنشئ عام 1886 في زمن السلطان عبد الحميد الثّاني بمناسبة زيارة الإمبراطور الألماني فيلهلم الثّاني إلى القدس. والسّبب كان أن مضيفه أراد تكريمه حتى يصل بموكبه إلى كنيسة القيامة، ولم تكن أيّ من البوابات تمكّنه من الوصول مباشرة إليها.

تقع البوّابة في النّاحية الشّمالية الغربيّة من السّور وتواجه الشّمال، وقد أغلقت خلال حرب 1948 وبقيت كذلك حتى عام 1967 بعد سقوط القدس الشرقيّة تحت الاحتلال الإسرائيليّ.

ضحك خليل وهو يقول:

يبدو أنّ سور المدينة منكوب بزيارات الأباطرة الألمان….وهذا السّور بني بأمر من السّلطان العثمانيّ سليمان الأول خلال عامي 1535 و1538 ، عندما كانت القدس جزءا من الإمبراطوريّة العثمانيّة.”

يبلغ طول السّور 4018 مترا (2.4966 ميل)، ويبلغ متوسط ارتفاعه 12 مترا (39.37 قدم) ويبلغ متوسط سمكه 2.5 مترا (8.2 قدم)، وتحتوي الجدران على 34 برج مراقبة و8 بوّابات.

أمضيا ليلتهما في “الأميركان كولوني”، يطيب لستيفاني أن تستعيد ذكرياتها عن لقائها الأوّل بخليل في لندن…قالت له:

كنتَ حينها ابن أربعة عشر عاما يا خليل…جميل جدّا أن تبدأ المرأة علاقتها برجل غِرّ لا تجارب سابقة له…فهي تكسر عنفوان الذّكورة الهجوميّ…فرحتي بك كانت كبيرة وأنت تتصبّب عرقا من شدّة الحياء…لكن هل تعلم لو أنّ الشّرطة علمت بفعلتي معك لاعتقلوني وحاكموني بتهمة الاعتداء على قاصر…حتى أنّ والدتي سألتني عن عمرك حينها…استغلّيت طول قامتك فكذبت عليها وقلت لها أنّك ابن عشرين عاما.

فقالت أمّي: يبدو من وجهه أنّه لا يزال طفلا.

لم ينتبه خليل يوما بأنّ ابن الرّابعة عشرة يعتبر طفلا…ففي قريته من هم في هذا السّن يتزوّجون، وبعض البنات يتزوّجن في سنّ أصغر من هذا العمر…لكنّه كان سعيدا بأنّه اكتشف عالم النّساء في مثل هذا العمر.

صباح اليوم الثّاني أخذها خليل إلى مطعم شعبيّ في شارع صلاح الدّين؛ ليتناولا طعام الإفطار حمّصا وفلافل…اقتربت ستيفاني من مقلى الفلافل…أعجبها منظر حبّات الفلافل وهي ترقص وسط الزّيت…على طاولة الطّعام راقبت الآخرين وكلّ واحد منهم يغمس لقمته بالحمّص…يضعها في فمه ويتبعها بقرض جزء من حبّة فلافل…قلّدتهم وعادت تتحدّث عن مذاق هذا الطّعام الّلذيذ الشّهيّ…فقال لها خليل:

هذا طعامنا الشّعبيّ، وهو غذاء رئيسيّ للفقراء الّذين يرتادون المطاعم…دهشت ستيفاني ممّا قاله خليل وسألت:

إذا كان هذا طعام الفقراء…فماذا يأكل الأغنياء. ألا يأكلون من هذا الطّعام الّلذيذ؟

ضحك خليل وقال: هذا طعام ثانويّ للأغنياء يضعونه كمقبّلات للوجبات الرئيسيّة.

ستيفاني: ما هي الوجبات الرّئيسيّة للفقراء؟

خليل: الفقراء يأكلون ما تيسّر لهم…لا يهتمّون بوجبات رئيسيّة أو ثانوية…المهمّ عندهم أن يملأوا بطونهم الجائعة.

ستيفاني: المطبخ الشّرقيّ جميل ولذيذ…تعجبني الأكلات الشّرقيّة…الطّعام الهنديّ لذيذ هو الآخر…لكنّه يعتمد كثيرا على البهارات الحارقة والفلفل.

خرجا من المطعم…سارا على مهلهما باتّجاه باب العامود في طريقهما لزيارة كنيسة القيامة، ستيفاني تغرف بعينيها من جماليات سوق خان الزّيت…عند مدخل السّوق انتبهت لرائحة القهوة الفوّاحة من محلّ زحيمان الذي يطحن القهوة ويسلّمها لزبائنه المشترين…توقّفت قليلا وفالت:

رائحة هذه القهوة تنعش القلب وتدعو المرء لاحتسائها.

خليل: لا عليك…سنجلس قليلا في أحد المقاهي لنحتسي القهوة.

عند نهاية سوق خان الزّيت…لم يدخلا سوق العطّارين…التفّا يمينا في طريقهما إلى كنيسة القيامة…وقفا أمام كنيسة القيامة أو كنيسة القبر المقدس كما يسمّيها البعض،”وهي كنيسة داخل أسوار البلدة القديمة في القدس. بنيت الكنيسة فوق الجلجلة أو الجلجثة ، وهي مكان الصّخرة التي يعتقد أنّ المسيح صلب عليها. وتعتبر أقدس الكنائس المسيحيّة والأكثر أهميّة في العالم المسيحيّ، وتحتوي الكنيسة وفق معتقدات المسيحيّين على المكان الذي دفن فيه السّيّد المسيح عليه السّلام، واسمه القبر المقدّس. سميت كنيسة القيامة بهذا الاسم نسبة إلى قيامة يسوع من بين الأموات في اليوم الثالث من الأحداث، التي أدّت إلى موته على الصليب، بحسب العقيدة المسيحيّة.”

وكنيسة القيامة (بالإنجليزية: Church of the Resurrection) أو كنيسة القبر المقدّس بالإنجليزية: Church of the Holy Sepulture.” أشرفت على بنائها الملكة هيلانة والدة الإمبراطور الرّوماني قسطنطين، واستمرّ بناؤها من عام 325م وحتى عام 336م.

و”مفاتيح كنيسة القيامة محفوظة مع عائلتين مقدسيّتين عريقتين مسلمتين، فبينما تقوم عائلة نسيبة بفتح وغلق باب الكنيسة يوميّا، تتولى عائلة جودة حفظ مفاتيحها.

ويروى أنّ عائلة جودة تسلمت مفاتيح الكنيسة من بطريرك القدس للرّوم الأرثوذكس “صفرونيوس” في العام 638 ميلادية، أي بعد أن فتحها المسلمون بقيادة عمر بن الخطاب. إلا أنّ المفاتيح نزعت من العائلة عندما دخل الفرنجة مدينة القدس في العام 1099.

ويروى أن سبب تسليم مفاتيحها للمسلمين يعود إلى خلاف ظهر بين الطّوائف المسيحيّة إبّان تحرير صلاح الدّين الأيّوبي للمدينة المقدسة في العام 1187 ميلاديّة، حين قرّر أن تحتفظ بمفتاح الكنيسة عائلة مسلمة، وقد تمّ ذلك بتوافق مع جميع الطوائف المسيحيّة آنذاك.”

“وفي أسفل هضبة الجلجلة  نافذة زجاجيّة مضاءة (وكذلك جهاز لقياس الزّلازل) ويؤمن بعض المسيحيّين أنّ كنيسة القيامة هي كنيسة الإنسان الأوّل (منقصّة آدم وحواء) وأهميتها كبيرة في المسيحيّة، ويعتقدون بأنّ آدم وحوّاء دفنا هنا.”

تجوّلت ستيفاني وخليل في الكنيسة، ركعت ستيفاني أمام القبر المقدّس بخشوع…أدّت صلاتها وهي تطبق كفّيها أمام صدرها…ضمّت أصابع يدها اليمنى وأشارت بالثّالوث المقدّس على صدرها وجبينها. جابا أرجاء الكنيسة…وخرجا…نظرا مسجد عمر المقابل لبوّابة الكنيسة من الخارج…لم يدخلاه…عادا إلى باب العامود، ومن هناك استقلّا سيّارة إلى كنيسة المهد في بيت لحم، حيث وُلد السّيّد المسيح.

وكنيسة المهد هذه بناها أيضا الإمبراطور قسطنطين تحت إشراف والدته الملكة هيلانة عام 326م وانتهى بناؤها عام 335م، فوق المغارة التي يعتقد أنّ السّيّد المسيح ولد فيها.

ركعت ستيفاني في أكثر من مكان على ركبتيها في الكنيسة تؤدّي صلواتها…غادرا المكان بعد حوالي ساعتين…عادا بعدها إلى فندق “الأميركان كولوني” في القدس.

لم يتناولا طعام الغداء فقد قالت ستيفاني بأنّ وجبة الحمّص والفلافل تغني عن وجبتين…خصوصا وأنّها شربت من بعد وجبة الفطور أكثر من زجاجتي ماء سعة الواحدة منها لِترا.

سألت ستيفاني: ماذا يوجد عندكم من الأكلات الشّعبيّة غير الفلافل والحمّص؟

خليل: لدينا أكلات شعبيّة كثيرة.

–         أيّها تحبّ أنت؟

–         أنا أحبّ ” المجدّرة ” و”المفتول”.

–         إذن…سنجرّبهما عند وجبة العشاء.

–         هذه أكلات لا توجد في المطاعم…تطبخها النّساء في البيوت فقط.

–         هل بإمكاننا تناولها في بيتكم؟

احتار خليل بهذه المرأة الّتي تفاجئه بأمور لم يكن يتوقّعها…فهو غير معنيّ بعودتها مرّة ثانية إلى بيتهم…لكنّه وجد نفسه أمام أمر واقع لا يستطيع القفز عنه…فكيف سيرفض تقديم أكلة شعبيّة لها تورّط في قوله بأنّه يحبّها….اتّصل بصديقه جورج وقال له:

أريد منك خدمة يا صديقي… أرجو أن تحقّقها لي…بنت الحرام ستيفاني تريد أن تأكل “مجدّرة” و”مفتول” فأرجوك أن تذهب بسيّارتك إلى بيتنا، وتخبر والدتي بأن تجهّز لنا واحدة من الطّبختين عشاء لنا.

جورج: لا عليك يا خليل…سأطلب من زوجتي أن تُعِدّ طبخة “مجدّرة” وأدعوك أنت وستيفاني للعشاء عندنا.

فرح خليل بعرض جورج…فهذا يبعده عن استفسارات والديه السّاذجة وغير المبرّرة.

مع ساعات الغروب خرج خليل وستيفاني في طريقهم إلى بيت جورج في حارة النّصارى في القدس القديمة…احتسيا القهوة العربيّة في مقهى “زعترة” الواقع على درجات باب العامود، قبيل مدخلي سوق خان الزّيت وطريق الواد…جلسا على كرسيّين خشبيّين صغيرين…عيون المارّة وروّاد المقهى تنهش جسد ستيفاني، لم تفهم هي سببا لذلك…سألت خليلا إن كانت نظراتهم لها كونها أجنبيّة أم ماذا؟

أجاب خليل بأنّه لا يعرف، وإن كان في داخله يردّ ذلك إلى الكبت والحرمان الجنسيّ، وكثير منهم يعتقدون أنّ النّساء الأجنبيّات يسهل النّيل منهنّ.

استقبلهما جورج وزوجته ووالدته…وضع أمامهما زجاجة ويسكي… زجاجة عَرَق، خمس زجاجات جعّة…وعاء فيه قطع ثلج…وخمسة كؤوس…صحنين في واحد منهما فستق، وفي الثّاني لوز…وصحن ثالث فيه شرحات بندورة وخيار، سألهما عمّا يريدان احتساءه…قالت ستيفاني:

سأشرب زجاجة جعّة في البداية فأنا عطشى…بعدها سأشرب الويسكي، فتح جورج زجاجة جعّة…صبّ جزءا منها في كأس قدّمها لستيفاني…فعل الشيء نفسه لخليل، زوجته سلوى تناولت زجاجتها…فتحتها وشربت من بابها…قدّمت زجاجة أخرى لحماتها…رفعت ستيفاني كأسها وقالت:

في صحّتكم.

رفع خليل كأسه في حين رفع كلّ من الآخرين زجاجته.

انتهوا من المشروب…تناولوا عشاءهم “مجدّرة”…صعب على ستيفاني لفظ كلمة “مجدّرة”… كتبها لها جورج بأحرف لاتينيّة…تذوّقتها في البداية على رأس الشّوكة، ثمّ بدأت تتناولها وهي تردّد بأنّها لذيذة…سألت عن “المفتول” فقالت سلوى:

هذه أكلة تجيد والدة خليل إعدادها وطبخها.

خليل: غدا سنتناولها ساعات الظّهيرة في بيتنا.

وجّه دعوة لجورج وزوجته سلوى ووالدته ليشاركوهم تناول الوجبة.

عندما عادا إلى الفندق قال خليل لستيفاني:

غدا صباحا سأتركك وحدك لمدّة ساعة…سأعود خلالها إلى بيتنا؛ لأطلب من والدتي أن تعدّ لنا “المفتول”.

استيقظ خليل في الساّدسة صباحا…ارتدى ملابسه بخفّة، غادر الغرفة بهدوء؛ كي لا يوقظ ستيفاني…استقلّ سيّارة أجرة من باب العامود…وجد والديه جالسين في بيت الشَّعَر…شرح لهما أنّ الصحفيّة الانجليزيّة التي كانت بصحبته طلبت “طبخة مفتول” وأنّه سيأتي بصحبتها عند الغداء لتناولها، كما سيأتي جورج وزوجته ووالدته.

قال أبو كامل: إذا كانت هذه الانجليزيّة تحبّ المفتول، فلا يليق بنا أن يكون المفتول غداء لجورج وأسرته…نذبح خروف…ونجهّز منسف أيضا.

التفت إلى زوجته فاطمة وقال لها:

جهزي خبز شراك ومفتول…وحطّي مع المفتول ديك بلدي.

قام ليذبح الخاروف…استأذن خليل منهما أن يعود مع السّائق الذي ينتظره في السّيّارة…استبدل ملابسه في الغرفة وخرج.

عاد خليل إلى غرفة ستيفاني في “الأميركان كولوني” فتح الباب بهدوء…شقشقت عينيها فهي لا تزال نائمة…ابتسمت له ولم تتكلّم…تمدّد بجانبها…فتحت عينيها…ابتسمت مرّة أخرى وهي تضع يدها على صدره…انقلب عليها…قبّلها..ضمّته إلى صدرها وغابا في فضاء النّشوة…نهضا من فراشهما…استحمّا سويّة…قالت له:

ستفتقد هكذا لقاءات يا خليل…فأنا مسافرة بعد أقلّ من ثمان وأربعين ساعة.

سألها: هل ستفتقدينها أنت؟

ردّت ضاحكة: لا تخف عليّ…سأتدبّر أمري.

جوابها أثار أسئلة كثيرة عند خليل…هذه الفتاة بنت الخامسة والعشرين لا قيود عليها في علاقتها مع الجنس الآخر…بينما أبي استكثر على زينب أن تقضي شهر العسل مع عريسها في أحد فنادق طبريّا…يخشى أن يعتبرها النّاس خطيفة! فهل يريد أن تكون ليلة دخلتها في غرفة يحيط بها المتطفّلون والمتلصّصات من أقرب نساء العائلة؟ ليدخلن بعدها يستكشفن ما جرى بين العروسين في لقائهما الجسديّ الأوّل.

اقترحت على خليل أن يأكلا حمّصا وفلافل هذا الصّباح أيضا…بينما اقترح خليل عليها أن يذهبا بعد ذلك في جولة مشيا على الأقدام حول سور القدس التّاريخيّ…فخليل معنيّ أيضا بأن يشبع ناظريه من مدينته الّتي تأسر قلبه…كما أنّ ستيفاني ستعتبرها جولة سياحيّة فريدة من نوعها.

قادها خليل إلى مطعم شعبيّ يبعد عشرات الأمتار عن باب السّاهرة داخل القدس القديمة…المطعم أكثر ترتيبا ونظافة من شبيهه في شارع صلاح الدّين…سألت ستيفاني إذا ما كان العرب كلّهم يفطرون على الحمّص والفلافل كونها من المأكولات الشّعبيّة؟

ردّ خليل باسما: الحمّص والفلافل يقدّم في المطاعم…قليلون جدّا من يحضّرونه في البيوت.

ستيفاني: ماذا يأكل من لا يرتادون المطاعم؟

خليل: لديهم ما يأكلونه كالجبن والّلبن والزّيتون وزيته والزّعتر.

–         ما هو الزّعتر؟

–         نبات برّيّ يقطفه النّاس في الرّبيع…يجفّفونه ويطحنونه كما القهوة…يغمسون لقمتهم بالزّيت، ثم يضغطونها بالزعتر ويأكلونها.

–         هل يمكنني أن أتذوّقه؟

–         طبعا.

سأل خليل النّادل إن كان عندهم زيت وزعتر في المطعم؟ فأجاب بأنّ لديهم زجاجة زيت بلديّ وزعترا للاستعمال الشّخصيّ لصاحب المطعم، الذي ملّ من الحمّص والفول والفلافل…فطلب منه خليل أن يحضر لهذه السّائحة صحن زيت صغير وقليلا من الزّعتر.

غمس خليل لقمته بالزّيت والزّعتر وهو يقول لستيفاني:

هكذا نأكله.

غمست لقمتها مثلما فعل…تذوّقته…وجدته لذيذا…أضافت:

هل تعلم بأنّني بدأت أفكّر بافتتاح مطعم للمأكولات العربيّة في لندن؟

–         فكرة جميلة…لكنّ هذا يستلزم أن تتعاقدي مع طبّاخ عربيّ يجيد إعداد هذه المأكولات.

–         هذه قضيّة سهلة…عندما يتذوّق البريطانيّون هذه المأكولات…سيتردّدون على المطعم الذي سيزدهر…وسيحقّق أرباحا طائلة.

خرجا من المطعم بعد أن ابتاع خليل قنّينتي ماء بارد من البقّالة المجاورة…خرجا من باب السّاهرة…مشيا خارج السّور باتّجاه باب الأسباط…مشيا على أقلّ من مهلهما…ستيفاني تلتقط الصّور للسّور ولغيره.

دخلا المقبرة الإسلاميّة من شمالها…أشار خليل إلى ضريح الجنديّ المجهول، الذي يخلّد شهداء الجيش العربيّ الأردنيّ، الذين سقطوا دفاعا عن المدينة المقدّسة

في حرب حزيران 1967، وقف أمام الضّريح خاشعا يقرأ الفاتحة على أرواحهم، واصلوا سيرهم جنوبا عبر الطّريق التي تتوسّط المقبرة…نزلا الدّرجات إلى شارع باب الأسباط الّذي يقسم المقبرة إلى قسمين…أصبحا أمام باب الأسباط مباشرة، صوّرت ستيفاني الباب…لفت انتباهها الأسدان المنحوتان فوق الباب…سألت خليلا عنهما فقال:

هذان الأسدان يشيران إلى بطولات من دافعوا ويدافعون عن المدينة، ويردّون الغزاة عن اقتحامها…واصلا طريقهما جنوبا عبر الجزء الثّاني من المقبرة…أشار خليل إلى باب الرّحمة المغلق في سور المدينة…حيث يرقد الصّحابيّان الجليلان الّلذان شاركا بالفتح الإسلاميّ للمدينة وهما: عبادة بن الصّامت وشدّاد بن أوس.

واصلا طريقهما حتّى نهاية المقبرة…جلسا على تلّة مقابل”طنطورة فرعون”

نظرت ستيفاني إلى كنيسة الجثمانيّة.  “وهذه الكنيسة مبنيّة فوق صخرة الآلام التي يعتقد أن المسيح صلّى وبكى عليها قبل اعتقاله. وهي أيضا المكان الذي اختبأ المسيح وتلاميذه في حديقتها.

ويعود تاريخ الكنيسة الأولى في الموقع إلى الفترة البيزنطيّة، عام 389 بعد

الميلاد، دمّر الفرس الكنيسة أثناء غزوهم لفلسطين عام 614 م، ولكن الفرنجة أعادوا بناءها في القرن الثّاني عشر أثناء احتلالهم للمدينة المقدّسة.

وبنيت الكنيسة الحاليّة والتي تعتبر من أجمل الكنائس في الأراضي المقدّسة عام 1924م ، وقد أسهمت ستّ عشرة دولة بتمويل بنائها، ولذلك صارت تعرف باسم ” كنيسة كلّ الأمم “. وتضمّ حديقتها ثماني أشجار زيتون من الفترة الرومانيّة.

والّلوحة المرسومة على واجهة الكنيسة هي لوحة (يوم القيامة) للرّسام الإيطاليّ الشّهير”ليوناردودافنشي”وهي لوحة لافتة بألوانها الّتي لا تتأثّر بتقلّبات الطّقس.

و”أصل اسم هذه الكنيسة يعود إلى الّلغة الآرامية “چتشمنا”(Gethsemane/i” وجرى تحريفه بالّلغة العربية إلى “الجثمانيّة” أو “الجسمانيّة”

ومن هذه الكنيسة تبدأ طريق الآلام التي مشاها المسيح على أربعة عشر مرحلة حتّى كنيسة القيامة حسب المعتقد المسيحيّ، وهذه المراحل هي:

” نزاع يسوع المسيح في البستان، خيانة يهوذا وإلقاء القبض على يسوع؛ مجمع السنهدرين يحكم على يسوع، إنكار بطرس ليسوع، حكم بيلاطس البنطي على يسوع، جلد يسوع وتكليله بالشّوك، حمل يسوع لصليبه، مساعدة سمعان القيروانيّ ليسوع في حمل الصّليب، إلتقاء يسوع بنساء “أورشليم”، صلب يسوع، وعد يسوع للّصّ التائب بالفردوس، حديث يسوع إلى يوحنا ومريم من على الصّليب، موت يسوع على الصّليب، دفن يسوع.”

أعجبت ستيفاني بجمال هذه الكنيسة مع أنّها لا تعرف شيئا عن تاريخها. التقطت لها عدّة صور.

تكاسلت ستيفاني وخليل عن مواصلة طريقهما حول سور القدس…تعبا من حرارة الجوّ، فيومهما في منتصفه…حيث تكون الشّمس عموديّة في هذه المنطقة في مثل هذا الوقت…استقلّا من هناك سيّارة أجرة، أوصلتهما إلى بيت أهل خليل في جبل المكبّر…استقبلهما أبو كامل وزوجتاه الّلتان احتضنتا ستيفاني وقبّلتاها وسط ضحكاتها استغرابا لهذه القُبَل.

قال لها خليل نساء بلادنا يقبّلن النّساء الّلواتي يألفنهنّ.

سألت ستيفاني: لماذا لا يقبّلن الرّجال؟

خليل: يقبّلن المحرّمين فقط.

ستيفاني: هل يقبّلن أزواجهن؟

خليل باسما: هم يقبّلونهنّ في غرف النّوم المغلقة.

ستيفاني: بلادكم جميلة…مقدّسة…طعامكم لذيذ…لكنّ ثقافتكم غريبة!

وصل جورج وأسرته…انتبهت ستيفاني لزوجتي أبي كامل وهنّ يحتضنّ سلوى زوجة جورج ووالدته ويقبّلنهما…وأبو كامل عانق”جورج” مرحبّا به…التقطت ستيفاني طفل جورج…احتضنته…تحدّثت إليه…ابتسم لها كأنّه يعرفها ويفهم ما تقوله…حاولت أمّ صالح مداعبة الطّفل مجاملة لوالديه…لكنّه رفضها.

وصلت زينب وزوجها سامح عائدين من شهر العسل دون سابق إنذار…نزلا من السّيّارة ضاحكين…زينب رشيقة كما غزلان البراري، وسامح رشيق مثل الفهد…أحضرا معهما بقلاوة نابلسيّة، ناما ليلتهما السّابقة في أحد فنادق النّاصرة…وعادا من طريق العفولة –  جنين –  نابلس فرام الله، حيث تركا حقيبتي ملابسهما في بيتهما في رام الله…جاءا للسّلام على الأهل بعد شهر العسل…سيعودان إلى بيتهما في رام الله هذه الّليلة…استقبلوهما بالأحضان…زينب لم تعانق ستيفاني كما فعلت والدتها وزوجة أبيها…بارك لهما الحضور بزواجهما.

قال أبو كامل: جَمْعَة حلوة يا الرّبع.

أوعز باحضار الطّعام في البيت…استعانت أمّ صالح بصهرها سامح ليحمل المنسف…حملت زينب صحن المفتول…حملت أمّ صالح  طنجرة الشّراب… وضع خليل كرسيّا أمام ستيفاني…أتت زينب بصينيّة عليها صحون وملاعق وشوكات طعام وخبز شراك.

عبّأوا صحن مفتول عليه صدر الدّيك البلديّ لستيفاني…وصحنا آخر لزينب…عبّأوا صحنا بالّلحم والثّريد وضعوه أمامهما… التفّ الآخرون حول المنسف…تناولت سلوى ملعقة لتأكل بها…قال لها أبو كامل:

المنسف لا يؤكل إلا باليد يا بنتي.

لم تستمع لكلامه ممّا اضطره إلى تقسيم قطع لحم صغيرة وضعها أمامها.

سألت ستيفاني: ما هذا الطّعام؟

أجابتها زينب: هذا مفتول وهذا منسف.

تذوّقت المفتول واستطابته…قالت:

أنا سآكل مفتولا وقطعة دجاج فقط…أنا لا آكل لحوم الغنم.

قالت لها زينب: تذوّقيها فهي طيّبة.

لكنّها رفضت وقالت أنا معتادة على أكل لحوم البقر فقط.

احتسوا القهوة المرّة بعد الغداء…فهم يعتقدون أنّها تساعد على هضم الموادّ الدّسمة…وتريح المعدة…بينما اعتبرتها ستيفاني ذات مذاق مميّز.

اتّفق خليل وسامح أن يلتقيا مساء الجمعة… استأذن سامح ليذهب وزينب للسّلام على والديه…سمحوا لهما بالمغادرة بعد جدال.

سأل أبو كامل خليلا: إيمتا يا خليل نقدر نقعد مع بعضنا عَ شان نتفق على مكان نبني الدّار فيه؟ لا تنس يوم الجمعة خطبة أخوك صالح على بنت ربحي أبو ريالة.

خليل: سيكون لديّ وقت كاف اعتبارا من يوم الخميس.

***

طلب ربحي أبو ريالة أن يتمّ عقد زواج ابنته ماجدة وصالح بن أبي كامل قبل خطبتهما؛ حتى يستطيع العروسان “تلبيس” خاتمي الخطوبة…وهكذا طلب لم يكن معتادا في القرية، حتّى أنّ أبا كامل قال:

الله يرحم أيّام زمان…يوم كنّا نتزوّج بدون عقد زواج…أنا تزوّجت أمّ كامل بدون عقد، ولليوم ما في عندنا عقد زواج…إشهار الزّواج عقد…الرجال كانوا ينصبوا السّامر…والنّسوان يغنين ويرقصن…يذبحوا نعجة…ياكلوها… والعريس يدخل على عروسه…وسلامتكم…وعلى ذمّة الرّاوي انهم كانوا أيّام زمان العريس يقول للعروس أمام النّاس: ” انت عّ حجر وأنا عّ حجر تقبليني لك ذكر” وإذا قبلت تصير زوجته!

ربحي: اختلفت الدّنيا يا أبو كامل…ما بدنا النّاس يسبّوا عرضنا…والشّيخ قال:

لا يجوز لَمس العريس للعروس قبل عقد الزّواج.

أبو كامل: يا رجل شيخ الأقصى قال: إذا رضي العرسان ببعضهم ووافق وليّ أمر العروس بوجود شاهدين، فهذا زواج…لكن مع ذلك حيّاك الله يا أبو مازن…بكرة في جاهة الخطبة يكون إمام الجامع معنا…نطلب العروس مرّة ثانية أمام النّاس…والشّيخ يكتب عقد الزّواج.

ربحي: بارك الله فيك.

بينما جاهة الخطبة تتواجد في بيت والد العروس أبي مازن…لم تكن جاهة كبيرة…أسرة العريس وعمّه وأولادهم وبناتهم ونسوانهم وموسى خال العريس، والمختاران أبو محمّد وأبو سعيد…دخل الطّفل رائد العلي وقال للمختار أبو سعيد: عمّي أبو سعيد في واحد بسيّارة يسأل عنك.

أبو مازن: اطلع شوف مين هذا يا مازن…وقل له يتفضّل.

عاد مازن يصطحب الرّجل الغريب معه…طرح الرّجل السّلام بغير لباقة…بدا أنّه على عجلة من أمره… احتسى فنجان قهوة مرّة…وقال:

لا تؤاخذونا يا إخوان…أنا محمّد جمال من الرّملة…أبو سالم بلديّاتكم كان عايش عندي…لقيته متوفّي ظهر هذا اليوم…وقلت أخبّركم تاخذوه وتدفنوه…سألت عن داره ورحت عليها… خبّرت زوجته وابنه وقالوا بأنهم ما يعرفوه! ولا اهتمّوا بالموضوع…وبعد ما حفي لساني نادت أمّ سالم على ولد وقالت  إنّه المختار أبو سعيد موجود في دار أبو مازن عَ شان خطبة بنته… وطلبت منه يرافقني ويدلني على بيت أبو العروس، على شان أخبّر المختار.

أبو سعيد: لا حول ولا قوّة إلّا بالله…هذا يا عمّي هرب من البلد لأنّه خاين، واحنا ما نتعرّف عالأشكال هذي…ادفنوه عندكم…أو دبروا حالكم.

الرّجل: وحدوا الله يا ناس…وين أدفنه أنا.

أبو سعيد: دبّر حالك…هذي مشكلتك.

الرّجل: كيف مشكلتي؟ الرّجل أجا عندي حالته بالويل…وقال لي أنا دخيل على ولاياك…مش عارف وين أروح…دبّرني بمكان أعيش فيه…شفقت عليه وتركته ينام في “كراج” السّيارة…واليوم لقيته ميّت…تعالوا خذوه…انتم أهله وأولى فيه.

الأستاذ خليل: من يبيع أهله…لا أحد يتعرّف عليه…وأبو سالم باع الأهل وغيرهم، ولم نتعرّف عليه حيّا حتّى نتعرّف عليه ميّتا.

الرّجل: يا ناس أنا لمّا لقيته ميّت…خبّرت الشّرطة…جابوا سيّارة إسعاف وأخذوه…وأنا تركت أعمالي عّ شان أخبّركم…والباقي عندكم.

أبو سعيد: شكرا لك…الشرطة تعرف ما يترتّب عليها.

استأذن الرّجل وانصرف مستغربا من موقف هؤلاء النّاس…بعد أن عرف سبب هروب أبي سالم من هذه البلدة.

أرسل أبو سعيد ابنه سامح ليأتي بسالم ووالدته… دخل سالم بيت أبي مازن وهو مطأطئ الرّأس دون كلام…بينما والدته دخلت خلفه وهي تقول بصوت مرتفع:

سوّد الله وجهه فضحنا وهو حيّ وميّت…الله لا يرحمه ولا يرحم اليوم الّلي شفته فيه.

قال عدد من الحضور: صلّي على النّبي يا بنت الحلال.

لكنّها لم تصلّ على النّبيّ ولم تسكت…أمسك بها عارف ابن المختار أبي سعيد وأدخلها عند النّساء…جلس سالم وسط الرّجال يكتسي وجهه بالسّواد.

قال المختار أبو محمّد:

اسمعوا يا جماعة الخير…اتركوا الزّعل…علينا التّصرف بحكمة…الشّرطة ستأتي بجثمان أبو سالم…ما بدنا فضايح…أقترح عليكم أن يذهب سالم وياخذ معه اثنين أو ثلاثة…ويجيبوه ويدفنوه…و”لا من شاف ولا من دري.”

الأستاذ فؤاد: مع احترامي لسالم كونه ابن المتوفّى الذي لم يرض عن تصرّفاته يوما، فإنّ من يخون وطنه وشعبه، يجب أن لا يدفن في مدافن المسلمين…ومع أنّ الخيار والرّأي الأخير يبقى لسالم، إلّا أنّني أؤيّد رأي المختار أبي محمّد…لا مناص من دفن الرّجل.

إمام المسجد: أنا لا أصلّي صلاة الجنازة على خائن.

المختار أبو محمّد: لا داعي لكلّ هذا الكلام…اذهب يا سالم أنت وماهر ومازن، احفروا  قبر في طرف المقبرة…وجيبوا الجثمان وادفنوه وخلصونا.

لم يعترض أحد من الحضور على اقتراح المختار أبي محمّد…ذهب شابّان مع سالم لحفر القبر؛ وجلب جثمان أبي سالم ومواراته التّراب.

وقفت أمّ سالم عند مدخل غرفة النّساء…وهاهت قائلة:

هاي يا ريته مبارك

وهاي يا ريته سبع بركات

وهاي مثل ما بارك محمّد عَ جبل عرفات

ثمّ زغردت ثلاث مرّات متتاليات حتى انقطعت أنفاسها…أمسكت بها النّساء يهدّئنها، لكنّها أصرّت على الغناء وهي تقول: هذا يوم فرح وسرور لا تفوتوه.

ذهب أبو مازن يستطلع أمر النّساء بالغناء، أخبرنه بموقف أمّ سالم…عاد إلى الرّجال ضاحكا وهو يقول:

لا حول ولا قوّة إلا بالله…أمّ سالم مبسوطة لموت زوجها…وتهاهي وتزغرد بجنون.

المختار أبو محمّد: عندي اقتراح يا إخوان…تركنا الفرح من يوم ما وقعنا تحت الاحتلال…وأقترح أن نعود للفرح والغناء في حفلات الزّواج اعتبارا من هذه السّاعة.

صمت الجميع ولم يتكلّم أحد سوى الأستاذ فؤاد الذي قال:

أشكر المختار أبا محمّد على اقتراحه الذي أؤيده أنا بقوّة…نحن شعب يستحق الحياة، ويجب أن نعيش حياتنا بشكل اعتياديّ.

لم يعترض أحد…فقال أبو سعيد:

قولوا للنّسوان يغنين ويطبلن على راحتهن.

تمّ عقد زواج صالح وماجدة…واستمرّ الغناء في بيت والد العروس أكثر من ساعتين…ثمّ انتقل إلى بيت العريس واستمرّ حتى منتصف الّليل.

***********

حصل الأستاذ خليل على رخصة سياقة سيّارة…في نفس اليوم اصطحب صديقه جورج معه ليساعده في ابتياع سيّارة مستعملة من أحد معارض السّيّارات…اشترى واحدة بألفي دولار…هاتف رُلى…التقاها في “روف” الفندق الوطنيّ…كانت عاتبة عليه لأنّه لم يسأل عنها كلّ هذه المدّة…برّرت عدم سؤالها عنه بعدم وجود هاتف تتّصل عليه…لكنّها كانت دائمة التّفكير به…أخبرته بأنّه قد تمّت الموافقة على الطّلب الذي تقدّمت به زوجة أبيها لجمع شمل أبيها…كانت فرحة كما الأطفال وهي تتحدّث عن قرب عودة والدها….هنّأها خليل على هذا الخبر متمنّيا لوالدها عودة سالمة…شكرته وهي تسأل:

هل ستعود لتكملة دراستك في معهد بير زيت؟

خليل: لا أعتقد ذلك، ولا أستطيع، بسبب الإقامة الجبريّة…سأشتري محلّا في شارع صلاح الدّين وأجهّزه مكتبة لبيع الكتب.

رُلى: رائع…مع أنّ تجارة الكتب في بلادنا خاسرة لافتقادنا لعادة المطالعة.

خليل: سيكون الجيل الجديد أفضل من سابقيه…وسيهتم بالمطالعة أيضا.

رُلى: هل اشتريت المحلّ؟

–         هناك محلّان معروضان للبيع…وأنا محتار في اختيار أحدهما…سأتشاور في الموضوع مع صهري سامح وصديقي جورج…سأحسم الوضع خلال اليومين القادمين.

رُلى : أبارك لك سلفا بالمكتبة…وسأكون إحدى زبائنها.

–         بل ستكونين إحدى مالكيها.

رُلى: لم أفهم عليك.

–         ستفهمين لاحقا مع أنّني متأكّد من فهمك الصّحيح لما قلته.

رُلى ضاحكة: ما هو الفهم الصّحيح لما قلته؟

–         عندما يعود والدك ستجدين الجواب.

رُلى: نسيت أن أبارك لك بالسّيّارة…مباركة.

–         شكرا لك.

رُلى: ما رأيك أن تأخذنا بها إلى شاطئ يافا؟

–         قلت لك سابقا أنّني ممنوع من الخروج خارج حدود القدس الشرقيّة.

رُلى: الّلعنة على الاحتلال.

تتيح السّماء الصافية للمرء أن يتمعّن بجمال المكان…يطيل خليل النّظر في الفضاء البعيد…التفت إلى رُلى وسأل:

هل تعلمين أنّ كلّ ما في القدس جميل وساحر؟

ابتسمت رُلى فارتسمت حدائق الحسن على شفتيها وقالت:

طبعا القدس جميلة بمواطنيها.

خليل: ما قصدت جمال ناسها…بل للقدس سحر لا يوجد في مكان غيرها…من يعيش في المدينة أو يدخلها زائرا، فإنها تسبغ عليه من جمالها…تنثر عطورها عليه، يكسوه فضاؤها ثوبا شفيفا لا يرى بالعين المجرّدة…وكأنّها تأسره بذلك حتّى يعود إليها مرّات ومرّات…المدينة تعرف ناسها وعشّاقها…وتعرف غزاتها أيضا…تحتضن العشّاق…تسكت على الغزاة بعض الوقت، فإن لم يرحلوا عنها تبتلعهم وتلقي بهم في مزابل بعيدة.

استمعت رُلى لخليل مذهولة…فعشقه للقدس لا يعادله وَلَهُ العشّاق ووجدهم…قالت له مازحة :

حسبتك تتغزّل بفتاة حسناء…وإذا بك تتغزّل بالقدس.

خليل: جمال النّساء يبتلعه تعاقب الأيّام والسّنون…أمّا القدس فإنّها تزداد جمالا يوما بعد يوم…صحيح أنّ الغزاة يحاولون استئصال تاريخ المدينة…لكن سيوفهم ترتدّ إلى نحورهم…فهذه المدينة “لا يعمّر فيها ظالم.”

ارتشفت رُلى قهوتها بصوت مسموع…انتبه لها خليل فسألته:

هل تعشق ناس القدس كما تعشقها.

خليل: أحبّ ناس القدس لكنّ لا عشق يعلو عشقي للقدس!

رُلى: وهل تحبّ بنات القدس؟

خليل: من لا يحبّ النّساء لا يحبّ القدس…وأنا أحبّ القدس ومن فيها…يميل قلبي لإحدى فتياتها…وآمل أن يتحوّل حبّي لها إلى عشق.

رُلى: هل سبق وأن عشقت امرأة؟

خليل: اشتهيت امرأة لكنّني لم أحبّها ولم أعشقها! ربطتني بها علاقة عابرة.

رُلى: لم أفهم عليك.

خليل: خير لك أن لا تفهمي ذلك.

رُلى غاضبة : لماذا تتعامل معي بهذه الطّريقة؟

–         أيّ طريقة؟ ماذا تقصدين؟

رُلى: هل أفهم من كلامك أنّك تشتهيني ولا تحبّني.

–         ما عنيتك مطلقا…وماذا تقصدين بأسئلتكِ هذه؟

رُلى: قصدي أن أعرف موقفك منّي؟

–         أحترمكِ وأقدّركِ.

–         هل تفكّر بي كما أفكّر بكَ؟

–         أحيانا!

–         ماذا تتوقّع أن تصل إليه علاقاتنا؟

–         اسمعيني جيّدا يا رُلى…أنتِ لا تعرفين عنّي شيئا…ولا تعرفين ظروفي وأحوالي…وأنا أيضا لا أعرف عنكِ شيئا…اتركي الأمور تسير على طبيعتها…والأيّام كفيلة بتعريف كلّ منّا على الآخر.

رُلى: أنا أزعم أنّني أعرفك جيّدا…فقد سمعت عنك الكثير…وأمنيتي تحقّقت بمعرفتك…ولا حاجة لي بمعرفة المزيد عنك…وإذا ما كنت ترغب بمعرفة شيء عنّي فاسأل؟ وسأجيبك بصدق.

خليل: التّعارف بين الرّجل والمرأة لا يتمّ من خلال الأسئلة والأجوبة، بل من خلال الاختلاط بينهما.

رُلى تسأل بخبث: وهل كان اختلاط بين شقيقتك زينب وزوجها سامح قبل خطبتهما؟

ابتسم خليل وقال: لو كان بينهما اختلاط فإنّني لم أعلم عنه.

رُلى: لو كان بينهما اختلاط وعلمت بذلك…ماذا ستكون ردّة فعلك؟

خليل: زينب وسامح الآن زوجان…وأسئلتك ليست في مكانها.

رُلى: هل اختلطت أنت بنساء؟

خليل: نعم…ومجتمعنا يمارس الاختلاط بشكل وآخر…هناك اختلاط في الأسواق، في وسائل النّقل، في المعاهد العلميّة، في أماكن العمل، في الطّرقات وفي غيرها.

رُلى: لا تتهرّب من الإجابة! هل لك علاقات غرام مع نساء؟

–         نعم…كانت مع فتاة بريطانيّة.

ابتسمت رُلى وقالت:

كثيرون يتحدّثون عن هذه العلاقة…وأنا شخصيّا علمت بها.

خليل: لكنّ هذه العلاقة انتهت أوّل أمس.

رُلى: ومتى ستعود هذه العلاقة؟

خليل: انتهت بسفرها أوّل أمس ولن تعود ثانية…لأنّني سأعمل وسأتزوّج من فتاة عربيّة…وسأعيش حياة مستقرّة هادئة.

رُلى: متى سيكون ذلك؟

–         خلال عام من الآن.

رُلى: اسمح لي بالمغادرة…فزوجة أبي “ستقيم الدّنيا على رأسي ولن تقعدها.”

خليل: سنتناول طعامنا وننصرف.

جلست رُلى دون كلام…تفكيرها يقودها بأنّها ستلتقيه كثيرا في المكتبة التي ينوي افتتاحها في شارع صلاح الدّين….كانت تسترق النّظر إلى خليل محاولة عدم إشعاره بذلك…كلّما نظر إلى وجهها كانت تسبّل جفني عينيها إلى أسفل، فتبدو ناعسة بدلال…وجهها تكسوه حمرة حياء العذارى…يقارن خليل بين نظرات رُلى الحييّة، وبين نظرات ستيفاني التّي كانت تخترقه كالسّهام…تاه بين جرأة ستيفاني، وحياء رُلى…لم يميّز أيّهما على حق…لكنّه يعلم أنّ ستيفاني تحقّق ما تريد وتصله مباشرة دون التواء…على عكس رُلى الّتي كانت تكبت رغباتها في دواخلها…انتبه لنفسه…فهو أيضا كان منفتحا مع ستيفاني…متردّدا ومتحفّظا مع رُلى…ابتسم وهو يفكّر بالاختلاف بين لندن والقدس…فرأى أنّ القدس وناسها هم الأجمل…لكنّ المكبّر بعيد جدّا عن القدس بناسه رغم قربه الجغرافيّ من المدينة.

تناولا طعامهما وكلّ منهما يختلس النّظرات على الآخر…افترقا في صالة الفندق وخليل يقول ضاحكا:

سنلتقي في مكتبتنا العتيدة خلال أيّام.

ابتسمت رُلى لذلك…اعتبرت كلامه دعوة مفتوحة منه كي يلتقيا، فأضفى ذلك عليها فرحا طفوليّا.

****************

عاد خليل فرحا إلى بيته في سيّارته الّتي اشتراها اليوم…في الطّريق قرب راس العامود توقّف لشابّين من البلدة كانا ينتظران الباص…كان الوقت عصرا عندما دخلا طريق حيّ الصّلعة من مفترق الطّرق الذي يؤدي إلى بلدة سلوان…واصل طريقه إلى أن توقّف أمام صراخ تختلط فيه أصوات عديدة…قبل أن ينزل ومن معه سقط زجاج السّيارة الأماميّ من حجر عشوائيّ من طرفي المشاجرة…دماء تنزف من بعض الرؤوس التي تعرّضت لضربات قويّة من مواسير معدنيّة وعصيّ خشبيّة غليظة، يحملها بعض المتخاصمين…أطراف محايدة تحاول فضّ الاشتباك…وقف المختار أبو سعيد على تلّة مرتفعة ونادى بأعلى صوته:

هذي عطوة لمدّة يوم مكفولة بوجهي…ولّلي له حقّ عند الآخر فأنا كفيل لحقّه.

أعاد عقلاء العائلتين أبناء عائلاتهم إلى بيوتهم…كلّ عائلة تحشد رجالها في بيت “وجيهها”، كثيرون من الأطراف المحايدة لم يكونوا على علم بأسباب ما جرى…انضمّ المختار أبو محمّد وعدد من وجهاء البلدة إلى المختار أبي سعيد، ذهبوا أوّلا إلى بيت أبو فوّاز كبير عائلة أبو زناد؛ ليستمعوا منه أسباب المشكلة، وليكشفوا على الإصابات التي لحقت بأفراد العائلة.

قال أبو فوّاز:

المشكلة ما هي سهلة يا أجاويد…سعديّة الحسن الّلي ودّيناها لعمّان بعد الحرب مع أبو سالم، ع شان تتزوّج خطيبها محمّد نايف أبو خنانه اللي يشتغل أستاذ في السّعوديّة…كلكم تذكرون ذلك…راحت هي وبنات مثل حالتها…تزوّجت ابن أبو خنانه…وأخذها معه للسعوديّة…وما شاء الله عليهم…خلّفوا ولد عمره والعلم عند الله حوالي سنة…وفي ليلة ما فيها ضوّ قمر…طلّقها وطردها لعمّان هي وابنها… والكلّ يعرف إنّه ما لها ناس في عمّان غير ابن خالتها إبراهيم بن أبو فاطمة…الله يخلف عليكم وعليه حطها عنده في الدّار…وبعث خبر لأهلها…ولمّا سمعوا بالخبر هجموا على بيت نايف أبو خنانه…وطبّشوه وهو ما يعرف سبب للهجمة…فصاحت زوجته بصوتها وين راحوا دار بلبط…جاي يا أهل البلد جاي…وبلّشوا ببعض ضرب مثل ما شفتوا وثلثينهم مش عارف شو القصّة! وسلامة تسلّمكم.

المختار أبو محمّد: يجوز الخبر يكون مش صحيح.

أبو فوّاز: إن شاء الله يكون الخبر مش صحيح.

المختار أبو محمّد: يا جماعة الطّوَش ما تحل المشاكل…حتى لو كان الخبر صحيح ما فيه داعي للمشاكل…شو فيه عندكم إصابات؟

أبو فوّاز: الحمد لله ما فيه إصابات عندنا تستاهل…أربع اولاد مطبوشين.

تشاور المختار أبو محمّد  مع الآخرين وقال:

هذي رفعة في وجوهنا تنشوف شو فيه عند الطّرف الثّاني.

محمّد الحسن أخو سعديّة قال: لن تكون بيننا وبينهم لا رفعات ولا عطوات ولا صلحات حتّى لو ذبحناهم جميعهم.

صاح به الآخرون وسكّتوه.

استأذنوا وخرجوا ذاهبين إلى بيت أبي مسعود وجيه عائلة بلبط عائلة محمّد نايف أبو خنانة طليق سعدية الحسن…وجدوا تهديدات كثيرة…فنايف أبو خنانه وأولاده في المستشفى يعانون من جراح صعبة في رؤوسهم…وكسور بأيديهم… حتى إحدى بنات نايف أصيبت بجرح دام برأسها…لم يأخذوها إلى المستشفى كونها أنثى…وضعت أمّها على رأسها قهوة مطحونة ولفّت رأسها بمنديل وهي تدعو بكسر يد من ضربها.! كلّ عائلة بلبط مجتمعة يريدون الثأر…دخل وسطاء الخير وسط صخب وضجيج…قال المختار أبو محمّد:

صلّوا على النّبي يا ناس.

لم يسمع أحدا منهم يصلّي على النّبيّ…فصاح بأعلى صوته:

استحوا شويّة يا بشر…احنا واسطة خير مش خصم لكم…وينك يا أبو مسعود. تقدر تسكّت جماعتك وللا نروّح لدورنا.

أبو مسعود: أهلا وسهلا بكم.

التفت إلى شباب عائلته وقال لهم:

كل واحد يسكّر ثمّه…ما بدّي أسمع ولا كلمة.

جلست جاهة الوساطة فسأل المختار أبو محمّد:

شو القصّة يا إخوان؟

أبو مسعود: والله ما احنا عارفين شو فيه…ما شفنا إلا عيلة أبو زناد هاجمين على دار نايف…طبّشوها وطبّشوا اللي فيها…ما وفرّوا واحد حتى البنات ضربوهن… وما نخبر بيننا وبينهم إلا المحرّمات…يا ليتكم تعرفوا لنا السّبب؟

المختار أبو محمّد: لا حول ولا قوّة إلّا بالله…الله يلعن الشّيطان…عندكم خبر إنه محمد نايف الأستاذ الّلي في السّعودية طلّق سعديّة الحسن وطردها لعمّان؟

أبو مسعود: :”هذا خبر هالسّاعة عبر.”

التفت إلى الآخرين يسألهم إن كانت عندهم أخبار حول الموضوع…فنفوا جميعهم علمهم بذلك.

أبو مسعود: حتّى لو كان الخبر صحيح…فهل يجوز الهجوم على بيوت النّاس…بيننا وبين السّعودية حدود ودول…وشو دخل النّاس الّلي هون يا اولاد الحلال؟

تدخّل المختار أبو سعيد وقال: للبيوت حرمات…ولا يجوز مهاجمتها حتى لو كان فيه قتيل…وإذا ابن أبو خنانه طلق سعديّة وهي ما لها قرايب في الأردن ولا في السّعوديّة… والله إنه غلطان وملعون والدين…لكن المشاكل مرفوضة تحت أي ظرف…يكفينا مشاكل الاحتلال وهي لحالها فوق طاقتنا…والآن اعطونا عطوة اعتراف باسم عيلة أبو زناد لمدّة 24 ساعة، تنشوف شو إصابات الّلي في المستشفى.

صاح عدد من الشّباب:

لن نعطي عطوة لساعة واحدة…دمنا مش رخيص.

صاح بهم أبو مسعود قائلا:

الّلي عنده كلمة زيادة يضبها ويحط في ثمّه رغيف خبز، ويسكت أحسن له…أنا لا أخرج عن العادات.

التفت إلى جاهة الوساطة وقال لهم:

حيّاكم الله…طلبكم مجاب…لكن بعدها لازم تعرفوا إنّه المعتدي على حرمات البيوت وعلى النّاس خسارته كبيرة.

المختار أبو محمّد: حيّاكم الله وهذي العطوة مكفولة بوجوهنا.

اسـتأذنت جاهة الوساطة وعادوا إلى بيت أبي فوّاز…بعد أن شربوا القهوة المرّة، قال المختار أبو سعيد:

يا إخوان…نايف أبو خنانه وأولاده مطبّشين ومكسّرين وبيتهم مدمّر… وحالتهم بالويل…غلطتكم كبيرة…والجماعة ما معهم خبر عن طلاق سعديّة…

أخذنا عطوة اعتراف لمدّة 24 ساعة…دبروا ألف دينار مصاريف وتعمير للبيت تناخذ عطوة اعتراف لشهر زمان…وعند الصّلحة ربنا يجيب الّلي فيه الخير.

سكت أبو فواز قليلا…لفّ سيجارة هيشي…أشعلها وقال:

يا وجوه الخير…عارفين ليش ملعون الوالدين طلّق سعديّة في بلاد ما لها حدا فيها غيره…الله لا يسعد مساه؟

–         شو عرّفنا؟

أبو فوّاز: هذا ملعون الوالدين حلم إنّه باني بيت … وسكنه…وفي الحلم شاف إنه يغير عتبة البيت…راح لشيخ نصّاب وسأله عن تفسير الحلم…فقال له:

تغيير عتبة البيت يعني لازم تغيّر زوجتك…وبعدها رايح تبني بيت كبير وتتزوج وتعيش سعيد.

رجع الحمار للدّار وقال لسعديّة:

إنت طالق بالثّلاث.

ولمّا قالت له: شو صار لك يا ابن الحلال …انجنّيت؟

بلّش فيها ضرب…وطردها من الدّار… ولولا أستاذ ثاني من مخيّم البقعة جار له…بيّض الله وجهه ووجوهكم فزع على صراخها وخلّصها من بين يديه…وحطّها في بيته يجوز ذبحها الهامل…حاول يصلح بينهم وما قدر…فاشترى لها ولابنها تذكرة وردّها لعمّان…وهاي هي عند ابن خالتها ابراهيم ابن أبو فاطمة.

أبو السّعيد: هذا مجنون ملعون الوالدين…لكن اليد ما منها سلامة يا إخوان…وأنتو ضربتوا وكسّرتوا…ولّلي يزعل روح يرضيها…وما بدنا المشاكل تتطوّر…ودار بلبط مش قلال…و”إذا ما خفت من غريمك خاف من يدك”…ناخذ العطوة وان شاء الله قصّة سعديّة نحلها.

أبو مسعود: بارك الله فيكم…وبكرة السّاعة عشرة الألف دينار تكون عندكم.

أبو كامل: ويكون عندكم علم…اولادكم كسروا “قزاز” زجاج سيّارة الأستاذ خليل…ولولا اللّه ستر ونزل هو ولّلي معه قبل شويّة…كان تصاوبوا.

أبو مسعود: حيّاكم الله…كم ثمن “قزاز” السّيّارة؟ ندفعه ونطيّب خاطركم…الأستاذ خليل والله عزيز علينا…وخاطركم غالي عندنا يا أبو كامل.

وقف الأستاذ خليل وقال أمام الجميع:

أنا أعرف من ضربوا سيّارتي وهم لم يقصدوا ذلك…وسامحهم الله دنيا وآخره…أنا سأعمّر زجاج سيّارتي على حسابي…مع أنّني لا أؤيد هذه الأعمال المحزنة.

المختار أبو محمّد: بارك الله فيك يا خليل…والله إنّك يا عمّي طول عمرك ترفع الرّاس…يا عمّي خُلفة سبع…والكرم عاداتكم أب عن جد.

***

وضع سامح مخطّط  بيت جديد لبناء بيت لصهره أبي كامل، البيت سيكون من طابقين…كلّ طابق مكوّن من شقّتين…الشٌّقة من ثلاث غرف نوم، مطبخ، صالة، صالون مع برندة وحمّامين…ويقوم بتخطيط الأساسات على الأرض بوجود كامل، صالح وخليل…أبو كامل يتوكّأ على عصاه، يراقب كأنّه من كبار المهندسين…طلب سامح منهم أن يحفروا الأساسات حسب ما خطّط وسألهم:

هل تريدون أن أتّفق لكم مع بنّاء ليبني البيت لكم؟

كامل: أنا من سيبني البيت…سيساعدني صالح مع عامل آخر…وأضاف مازحا…خليل سيكون المهندس والوالد المراقب العامّ.

غادر سامح وخليل بسيّارتيهما…وضع خليل سيّارته في المنطقة الصّناعيّة في واد الجوز؛ لتبديل الزّجاج الأماميّ المكسور…ذهب مع سامح…سارا باتّجاه رام الله…ليُري سامح خليلا الأرض التي اشتراها لهما…قال سامح:

اتّفقت على شراء نمرتي أرض متجاورتين في حيّ الماصيون…مساحة النّمرة 700م2، لا حاجة لنا بمساحات أكبر…ثمن النّمرة 1500 دولار…سندفع الثّمن الآن وسنذهب مع البائع إلى المحامي، لتحويل الأرض باسمينا في دائرة الأراضي…سأعدّ مخطّطات البناء خلال أيّام؛ لنقدّمها لدائرة التّرخيص في البلديّة…وسنباشر البناء بعد ذلك مباشرة…بناء كلّ منّا سيكون “فيلّة” فاخرة بنفس مواصفات الأخرى…وتحتها تسوية عبارة عن نصف شقّة سنستعملها كمخزن.

وافق خليل على ما قاله سامح قبل أن يصلا الأرض…فثقته بسامح وقدراته الهندسيّة كبيرة جدّا…عندما وقفا داخل الأرض قال سامح:

هاتان هما قطعتا الأرض…اختر ما تشاء منهما يا خليل  .

قال خليل: الخيار لك يا سامح.

ردّ سامح: إذن القطعة الأعلى لك يا خليل، مع أنّها أثمن وموقعها أفضل من السّفلى…فلا فرق بيني وبينك.

في مكتب المحامي قال خليل لسامح: ما رأيك؟ هناك من عرض عليّ شراء دونمي أرض في بيت حنينا قرب “جسر النّص” ثمن الدونم ألف دينار…هل أبتاعها؟

سامح: طبعا ابتعها فسعر الأرض يرتفع باستمرار.

أثناء عودتهما من رام الله أشار خليل إلى الأرض التي ينوي شراءها في بيت حنينا…فقال سامح:

هذه المنطقة لها مستقبل باهر…فبناء المنطقة يمتدّ إليها…وبعد عدد من السّنين ستكون جميعها مكتظة بالبناء…سيرتفع سعر الأرض هنا إلى مئات المرّات، واسأل إن كانت هناك أرض أخرى معروضة للبيع؛ كي أشتري أنا أيضا عددا من الدونمات لنكون متجاورين هنا أيضا.

في القدس وأثناء جلوسهما في المطعم للغداء…اتّصلا بجورج…تناولوا طعام الغداء سويّة…تشاوروا حول المحلّ الذي ينوي خليل شراءه في شارع صلاح الدّين…أقرّوا شراء المحلّ الواقع على الجهة اليسرى من الشارع…فهو أكثر مساحة من الواقع على اليمين، وأقلّ سعرا بمائتي دينار…اشتروا حقّ المنفعة بألف دينار، واتفقوا مع البائع، كي يذهبوا في اليوم التّالي إلى قسم العقارات في الأوقاف الإسلاميّة المالكة للعقار؛ لتحويل المحلّ باسم خليل.

عاد خليل وسامح إلى البيت فرحين بما أنجزاه…زينب تنتظر سامح في بيت أهلها،

فاطمة والدة زينب كانت تتفاخر بين النّساء بمصاهرتهم لسامح…كانت تقول لهنّ:

الله يرضى عليه سامح…والله زينب عايشة معه “على راس الشّوكة” تركها تتعلم “شوفيرة” اليوم أخذت الرّخصة مع خليل”ربنا يبعد عيون الحسّاد عنهم”وسامح وصّى لها على سيّارة جديدة.

وجدا كامل وصالح وعددا من أبناء الجيران قد انتهوا من حفر أساسات البيت حسب ما خطّط لهم سامح…لم يكن هناك الكثير من التّراب، فالصّخر قريب.

شاهد سامح الأساسات فقال لهم:

اتفقوا مع “أبو دلو” كي يأتي “بالكمبريسة” ليحفر الصّخر ليكون بنفس المستوى، كي يركب عليه جسر الحديد.

أبو كامل: ليش الحديد يا عمّي يا سامح؟ الصّخر قوي ومش بحاجة لحديد، وكل أهل البلد بنوا على الصّخر بدون حديد.

سامح: الحديد ضروريّ يا عمّي، كي تستطيعوا إضافة عدد من الطّوابق متى شئتم في المستقبل…يجب أن يكون حديد في الأساسات، وأعمدة حديديّة على الزّوايا لتقوية البناء.

أبو كامل غير راض: على راحتكم.

بعد أن أنهوا معاملة شراء المحلّ لخليل…أتى بنجّار ليجهّز رفوف مكتبة فيه…وعد بأن ينهيها في ثلاثة أيّام…ترك في آخر المحلّ ثلاثة أمتار كمخزن للكتب…ولتكون مكتبا لخليل أيضا.

ذهب خليل صحبة سامح إلى مكتبة في النّاصرة…اتفقوا أن يكون خليل وكيلا لها يتقاضى نسبة 40% على الكتب التي يبيعها…صاحب المكتبة وعد بإرسال عشرة نسخ من كلّ كتاب لخليل معبّأة بصناديق كرتونيّة في اليوم التّالي…وقال بأنّ لديه أربعماية عنوان لكتب مختلفة…وفي اليوم التّالي كان خليل وسامح في مكتبة بالخليل…عرض عليهم صاحب المكتبة أن يبيعهم ما يريدونه من الكتب مع حسومات تصل إلى 50% من سعرها لجمهور القارئين…وبعض الكتب أعطاهم عليها نسبة 60%، فاشتروا منه حمولة سيّارة متوسّطة الحجم…وفعلا نفس الشيءّ في رام الله في يومهم الثّالث، غير أن صاحب المكتبة في رام الله – والذي تشغل مكتبته شقّة كبيرة في الطّابق الثّاني لإحدى البنايات قرب المنارة – نصحهما باستخراج ترخيص لطباعة الكتب ونشرها…وهذا سيوفّر عليهما الكثير.

خلال أسبوع كان حفل افتتاح ” مكتبة الأمل”، حضر الافتتاح عدد من النّقابييّن والنّاشطين… اشترى كلّ منهم عددا من الكتب.

في اليوم الثّاني للافتتاح كانت رُلى أوّل من دخل المكتبة تحمل بطاقة زهور مهنّئة بالافتتاح مع ابتسامة عريضة…جلست مقابل خليل في المكتب الدّاخلي، استأذنت للخروج لبضع دقائق على أن تعود بعدها…اشترت سخّان ماء على شكل إبريق…عددا من فناجين القهوة والكاسات…نصف كيلو قهوة وعلبة شاي…عادت إلى خليل تسأله:

هل تريد قهوة أم شايا؟

أجاب: لِمَ هذه الغلبة يا رُلى؟ لو تكلّمتِ حول الموضوع لذهبتُ واشتريتها أنا.

غلت رُلى القهوة…احتسى كلّ منهما فنجانا…قامت رُلى تستعرض الكتب على الرّفوف…قالت لخليل:

هل تتقبّل ملاحظات؟

–         طبعا…بكلّ سرور.

–         يجب عليك أن ترتّب الكتب بصورة لائقة ومريحة.

–         كيف؟

–         ضع كلّ صنف على حدة…خصّص للكتب الفكرية مثلا زاوية محدّدة…للأبحاث زاوية أخرى…للمجموعات القصصيّة زاوية ثالثة…للرّوايات زاوية رابعة وهكذا.

–         اقتراحك منطقيّ ومقبول.

–         إذن سأساعدكَ في إعادة ترتيبها منذ هذه الّلحظة…إذا لم يكن في ذلك إزعاج لك.

خليل: بل يسعدني ذلك أيّتها الرُّلى.

استمرّت رُلى ثلاثة أيّام متتاليات وهي تساعد “خليل” في ترتيب المكتبة، قالت بعدها لخليل:

لن أشتري منك كتبا…سأستعير كتابا…عندما أطالعه سأعيده إليك وسآخذ غيره.

ابتسم لها خليل وقال:

حسن ما تفعلينه…المهم طالعي…أنا أفرح لكلّ إنسان يقرأ كتابا…فكنوز العلوم والمعرفة بين دفّات الكتب…وأنا أجد فرصتي في هذه المكتبة كي أطالع وأغذّي عقلي.

رُلى: لن أحضر غدا…لأنّ أبي سيعود إلى البلاد ضمن شمل العائلات.

خليل: خبر جميل…أتمنّى له عودة سالمة…هل سيقيم هنا أم هي زيارة سيعود بعدها إلى عمله في الكويت؟

رُلى: بل هي عودة دائمة…سيعمل في مستشفى المقاصد الخيريّة الإسلاميّة.

خليل مازحا: إذن سنكسب زبونا جديدا للمكتبة.

رُلى: لعلمك أبي من الأشخاص الذين يطالعون…ولدينا في البيت مكتبة تحوي الكتب الّتي طالعها والدي…أنت ستكسب زبونا، وأنا سأعود إلى الحضن الدّافئ الذي افتقدته منذ وقوع البلاد تحت الاحتلال…على الأقل سأتحرّر جزئيا من “احتلال” زوجة أبي لإرادتي وحريّتي وإنسانيّتي.

خلال تلك الأيّام الثّلاثة الّتي قضتها رُلى في المكتبة…راقب خليل تصرّفاتها كاملة…هي الأخرى كانت تراقبه…تنتبه لحديثه مع من يدخلون المكتبة…وهم في غالبيّتهم من معارفه…ازداد إعجاب كلّ منهما بالآخر…لكنّها كما يبدو لم تكن كافية لخليل كي يحسم موقفه من رُلى…هل ستكون زوجته المستقبليّة أم لا؟ يضاف إلى ذلك أنّه كان ينتظر الانتهاء من بناء البيت في رام الله.

حسم خليل أمره…اشترى دونمي الأرض في بيت حنينا…اتفق مع شخص آخر على شراء خمسة دونمات لسامح…ليست بعيدة عن الأرض التي اشتراها…جاء سامح وتمّم عمليّة الشّراء بعد أن دفع ثمنها.

************************

في بيت الأهل كانت فاطمة على عجلة من أمرها…تلحّ دائما للتّسريع بزواج ابنيها صالح وخليل…نهرها أبو كامل وقال:

اصبري يا بنت الحلال شهرين زمان تتخلص البناية الجديدة…ع شان يسكن العرسان…وخلّينا نقنع الأستاذ خليل يشوف له بنت حلال تستره.

خليل: أنا سأتزوّج في الرّبيع القادم…بعد ستّة شهور من الآن.

أبو كامل: إن شا الله حطّيت عينك على بنت يا خليل:

–         البنات كثيرات يا أبي.

أبو كامل: الله يهدّي بالنا.

انسحب خليل من النّقاش بين والديه حول زواجه…فهو يعتبر الزّواج شأنا خاصّا، يؤمن بأنّ خيار الزّواج هو للعروسين فقط…وما استشارة الأهل إلّا احتراما للعادات والتّقاليد…لكن في النّهاية فإن العروسين هما من يحسمان أمرهما.

*************************

عاد الدّكتور محمّد عبد العظيم – والد رُلى- عبر الجسر…وصل بيته في حارة السّعديّة فجأة ودون سابق إنذار…كانوا يتوقّعون عودته….لكنّهم لا يعرفون اليوم الذي سيعود فيه…عند مدخل البيت سمع صراخ زوجته على رُلى…وسمع رُلى تردّ عليها بصوت غاضب:

أنت لست مسؤولة عنّي…سيعود أبي قريبا، وسيوقفك عند حدودك.

ضغط على جرس الباب الكهربائيّ…فتحت رُلى الباب…تفاجأت به…صرخت بصوت عال وهي تركض إليه تحتضنه وتقبّله بابا حبيبي بابا…نزلت دموعها ودموعه…دموع فرحة بلقاء بعد غياب قسريّ…حملت حقيبة والدها…بينما وقفت زوجته عند الباب…استقبلته بالأحضان…جلسوا في صالون البيت…بدأ الأقارب والجيران يتوافدون للسّلام عليه.

بعد أسبوع من عودة الأب وبينما كان يتمشى الدّكتور مع ابنته رُلى في شارع صلاح الدّين…قادته إلى مكتبة الأمل…صافحت خليلا وهي تقدّمه لأبيها قائلة:

هذا خليل منصور كان زميلنا في معهد بير زيت…اعتقلوه لمدّة أربعة عشر شهرا، وهو من خيرة الشّباب…قدّمت والدها لخليل…رحبّ بهما خليل وهو يقول للدّكتور:

تهانينا بعودتك سالما إلى البلاد يا دكتور…فالقدس تحتاجك وتحتاج أمثالك…قادهما خليل إلى المكتب…أقسم على الطّبيب أن يجلس خلف طاولة المكتب…لم يسمح لهما بالخروج قبل أن يحتسيا القهوة…تبادلا أطراف الحديث عن أوضاع الوطن، الدّكتور يستفسر عمّا جرى ويجري في القدس وبقيّة المناطق المحتلّة، وخليل يسأل عن الأوضاع في الدّول العربيّة…استمرّ لقاؤهما أكثر من ساعة.

بعد أن خرجا من المكتبة قال الدّكتور لابنته رُلى:

هذا الشّاب وعيه أكبر من عمره.

ضحكت رُلى وقالت:

كان شعلة في معهد بير زيت…وعندما اعتقل كتبت عنه الصحافة كثيرا…وعندما أفرجوا عنه كان حديث القدس بكاملها.

الدّكتور: يبدو أن مقارعة الاحتلال قد صقلت وعي شبابنا.

رُلى: هذا الشّاب كان لافتا في المعهد منذ بداياته.

في اليوم التّالي مرّت رُلى بالمكتبة…قالت لخليل:

أبي أبدى إعجابه بك بعد أن تعرّف عليك يوم أمس.

ضحك خليل وقال: شكرا لك ولأبيك…أخبريه أنّني معجب بابنته!

احمرّ وجه رُلى حياء…قالت لخليل:

كثيرون يأتون للسّلام على أبي وتهنئته بسلامة العودة…لماذا لا تأتي مثلهم؟

خليل: سآتي أنا وأبي ووفد من قريتنا.

–         أهلا بكم.

رجع خليل إلى البيت…جلس مع والديه بوجود كامل، صالح، والدته، صهرهم سامح، وزينب…سأل خليل:

ما رأيكم…أريد أن أخطب رُلى ابنة الدكتور محمّد عبد العظيم…الذي عاد إلى البلاد قبل أيّام ضمن شمل العائلات؟

زينب: رُلى التي رأيناها يوم محاضرتك في سينما الحمراء؟

نعم.

زينب: إنّها فتاة جميلة وذكيّة.

سامح: وهي واعية أيضا.

أبو كامل: المثل يقول يا اولاد:”من طين بلادك لطّ خدودك.”

كامل: القدس بلادنا يابا.

أبو كامل: قصدي إنّه الواحد يتزوج من ناس”طوله ع طولهم”.

كامل: ومن قال لك أنّنا أقصر من النّاس؟

أمّ صالح: خليل شو ناقصه يا أبو كامل…البنت الّلي خليل يرضى يتزوّجها تحمد ربها و”تبوس ايدها وجه وقفا.”

ضحكوا عندما سمعوا ذلك وقال صالح:

ما رأيكم أن نطلب من أهلها كي يأتوا لطلب يد خليل منّا؟

أبو كامل: يا ناس الزّواج مش لعبه…وبنت عايشه في القدس معقول ترضى تعيش معنا؟ هذي أبوها دكتور وعايشه بدلال مش رايحة تلقاه عندنا…وأبوها ممكن ما يزوجها إلا لدكتور مثله…خلينا يابا يا خليل ببياض وجوهنا…وحط عينك على بنت من بنات البلد…وربنا يجيب الّلي فيه الخير.

خليل: هل أفهم من كلامكم أنّكم غير موافقين؟ رُلى بنت الدّكتور محمد عبد العظيم هي خياري الوحيد…ولن أتزوّج غيرها…فما رأيكم؟

أبو كامل: إذا ما وافقوا أهلها يعطونا البنت…شو نعمل؟

خليل: لماذا تضعون العراقيل دائما…إذا لم يوافقوا سنعود طريقنا ولن نخسر شيئا.

سامح وزينب: سيوافقون على خليل بكلّ رضا وسرور.

أبو كامل: إذا وافقوا وين رايح تسكن انت ويّاها يا خليل.

خليل: سنتدبّر أمرنا…لا تقلق بذلك.

أبو كامل: لا حول ولا قوّة إلا بالله…متى تريدون أن نذهب لطلب يدها؟

سامح: أقترح بعد صلاة الجمعة القادمة.

أبو كامل: على بركة الله…خلّينا ناخذ المخاتير معنا.

خليل: وسنأخذ والدتي وأمّ كامل وزينب أيضا.

أم صالح باسمة: الله يرضى عليك يمّه يا خليل، ويجبر بخاطرك.

أبو كامل: أيوه! شو بدنا في الحريم؟

كامل ضاحكا: “الحريم” لم يعدن “حريما ” يا أبي…سيذهبن معنا للتعرّف على العروس وقريباتها.

هاتف خليل رُلى وقال لها:

بعد صلاة الجمعة سأكون أنا وأبي وأمّي وأختي وإخواني ومختارا البلدة في ضيافتكم.

رُلى: نتشرّف بكم…هل تعرف البيت يا خليل…إنّه بجانب مسجد القبّة الحمراء؟

خليل: مرّي عليّ كي أذهب معك لنشرب القهوة مع والدك.

–         سأمرّ عليك في السّاعة الثّالثة…وبعدها أخبري والدك أنّنا سنأتي لطلب يدك.

–         لك ما طلبت…قالتها وهي ترقص فرحا.

بعد صلاة الجمعة التقوا جميعهم في المكتبة عند خليل… توجّهوا إلى بيت الدّكتور محمّد عبد العظيم في حارة السّعديّة…مشى أبو كامل والمختاران في المقدّمة…بينما سار خليل بجانب زينب ووالدته وزوجة أبيه…رحّب بهم الدّكتور وبجانبه زوجته وابنته رُلى…جلسوا في غرفة الضّيوف…عرّف خليل على والديه والآخرين…وعرّف الدّكتور على زوجته وعلى رُلى…بعدها أتى يزيد بصينيّة القهوة…وضعوا الفناجين أمامهم وسط ترحيب الدّكتور بهم…قال أبو كامل للمختار أبي سعيد: تفضّل يا أبو سعيد…تكلّم في الموضوع.

التفت أبو سعيد للمختار أبي محمّد وقال له تفضّل يا أبو محمّد تكلّم.

قال سامح: لا تعملوها قصّة يا حجّاج ليتكلم واحد منكم.

قال أبو سعيد: لنا طلب عندك يا دكتور…بدنا نطلب يد بنتك رُلى لابننا خليل على سنّة الله وسنّة رسوله.

الدّكتور: حيّاكم الله…طلبكم مستجاب.

ردّوا عليه: بارك الله فيك…يعني نشرب قهوتنا؟

الدّكتور: تفضلوا يا إخوان.

أبو سعيد: خلّينا نقرا الفاتحة أولا.

فتحوا أكفّهم أمام وجوههم…قرأوا الفاتحة، مسحوا وجوههم بأيديهم وقالوا:

مبارك على الجميع.

أطلقت فاطمة زغرودة…احتضنت رُلى قبّلتها وهي تقول:

مبارك يا حبيبتي…والله غير تكوني عندي أغلى من زينب…وانشاء الله نشوف الخير على وجهك…ذهبت النّساء إلى صالة مجاورة…قال أبو كامل:

خلّونا نتفق على الطّلبات…يا دكتور شو طلباتك احنا جاهزين لكل شيء.

الدكتور: لا طلبات لي.

أبو كامل: أقصد المهر وتوابعه كالمصاغ والكسوة.

الدّكتور: المهر المعجّل دينار واحد ولا توابع له…العروسان يدبّران أمورهما بدون تدخّل منّا…والخطبة كيفما تريدونها…إن أردتموها مختصرة في بيتي فأهلا بكم…وإن أردتموها في قاعة فأنا سأتكفّل بها.

أبو سعيد : بارك الله فيك.

وصلت صينيّتا كنافة…قامت رُلى وأخوها يزيد بتقسيمها في صحون…حملت رُلى صحون الكنافة على صينيّة؛ لتقدّمها للرّجال في الصّالون…تناولها صالح منها وقام بالمهمّة.

أبو كامل: مليح يوم الجمعة مثل هالوقت نكون عندك…والعريس يشتري خلال هالأسبوع ما تريده العروس…وربنا يجيب الّلي فيه الخير.

استأذن المختار بالانصراف هو ومن معه…فأذن لهم صاحب البيت…لكنّ خليلا قال لهم…مع السّلامة…أنا والوالدة وأمّ كامل وزينب سنبقى هنا.

في منتصف شهر آذار وسط نوّار الّلوز والبرقوق تمّ حفل زفاف خليل وصالح في يوم واحد…سهروا قبلها ثلاث ليال…نصبوا السّامر والدّبكات الشعبيّة…رقصت النّساء وغنّين وزغردن في الطّابق الثّاني من البناية الجديدة…حضر الدّكتور محمّد عبد العظيم وزوجته وابنتاه سماهر ورُلى وابنه يزيد سهرة الّليلة الثّانية…استغربت نساء القرية حضور رُلى لسهرة العرس في بيت العريس قبل زفافها.

بعد زّفة العرسان سافروا إلى حيفا في سيّارة خليل لقضاء شهر العسل في فندق على قمّة الكرمل.

بعدها أوصل خليل أخاه صالحا وعروسه إلى بيتهم في المكبّر…تناولوا طعام العشاء سويّة وغادر وعروسه إلى الفيلّة في رام الله…كانت الفيلّة وأثاثها مفاجأة لرُلى…في اليوم الثّاني زارا بيت الدّكتور محمّد عبد العظيم…دعيا الأسرة إلى حفل في الفيلّة في رام الله… صباح الحفلة ذهب خليل وأحضر والديه وصالح وعروسه وأخاه كامل لحضور الحفل…زينب وسامح كانا أوّل الحضور بحكم الجوار في السّكن.

**************

أنهت رُلى وزينب دراستهما في معهد بير زيت…عملتا مدرّستين في دار الطّفل العربيّ في القدس…رُلى تساعد خليلا في المكتبة بعد دوامهما المدرسيّ.

بعد شهرين من الزّواج ظهرت عوارض”الوحام” على رُلى…تابع والدها رعايتها طبيّا في فترة الحمل…فرح الجميع لها باستثناء زوجة أبيها التي لم تتورّع أن تدعو ربّها كي تموت رُلى في المخاض، كما ماتت والدتها…بل زادت على ذلك بقولها:

ليتها ماتت مع والدتها وارتحنا منها.

عندما أنجبت رُلى بكرها بنتا قالت لخليل وهي تبكي:

لي عندك طلب آمل أن تلبّيه يا حبيبي!

–    تفضّلي اطلبي ما تشائين.

–    سنسمّي ابنتنا  ياسمين على اسم المرحومة والدتي.

–    لك ذلك يا أمّ ياسمين.

عندما علمت أمّ يزيد باسم ابنة رُلى جنّ جنونها وقالت:

أسمتها ياسمين ليس حبّا بوالدتها الرّاحلة…فهي لم تعرفها، وإنّما نكاية بي!

لم تزر رُلى في المستشفى أو البيت، بينما كان الدّكتور والد رُلى في غاية السّعادة…حمل ياسمين بين يديه…قبّل جبينها…وقال:

رحم الله “ياسمين” ولك العمر الطّويل يا ياسمين…نزلت من عينيه دمعتان وهو يتذكّر زوجته ياسمين الرّاحلة وأضاف:

هذه الطّفلة تشبه جدّتها الرّاحلة…فلك الحياة يا “ياسميني”.

فرح يزيد كثيرا بياسمين…أحبّها كثيرا…كان يزورها في أيّام العطلة المدرسيّة…يمضي ساعات وهو يداعبها ويقول:

ياسمين حبيبة خالها.

بعد عام من ولادة ياسمين…حملت رُلى مرّة أخرى، أنجبت طفلها الثّاني في مستشفى المقاصد…عندما رأى الطفل النّور ملأ صراخه ساحة المستشفى، وأذاعت وكالات الأنباء أنّ الجيش المصريّ قد اقتحم قناة السّويس…والجيش السّوري يدكّ المواقع المعادية في الجولان…أسموا الطّفل “جمال” تيمّنا بزعيم الأمّة الرّاحل جمال عبد النّاصر.

انتهى الجزء السّادس من سباعيّة”درب الآلام الفلسطيني”

اصدارات جميل السّلحوت:

– شيء من الصراع الطبقي في الحكاية الفلسطينية .منشورات صلاح الدين – القدس 1978

– صور من الأدب الشعبي الفلسطيني – مشترك مع د. محمد شحادة .منشورات الرواد- القدس 1982

– مضامين اجتماعية في الحكاية الفلسطينية .منشورات دار الكاتب –

القدس-1983

– القضاء العشائري. منشورات دار الاسوار – عكا 1988

– المخاض – مجموعة قصصية للأطفال .منشورات اتحاد الكتاب الفلسطينيين- القدس.1989

– حمار الشيخ.منشورات اتحاد الشباب الفلسطيني -رام الله2000

– أنا وحماري .منشورات دار التنوير للنشر والترجمة والتوزيع – القدس2003

– معاناة الأطفال المقدسيين تحت الاحتلال مشترك مع ايمان مصاروة، منشورات مركز القدس للحقوق الاجتماعية والاقتصادية – القدس آب 2002

– عشّ الدبابير رواية للفتيات والفتيان ،منشورات دار الهدى – كفر قرع،تموز 2007

– الغول –  قصة للأطفال منشورات مركز ثقافة الطفل الفلسطيني- رام الله2007

– كلب البراري-مجموعة قصصية للاطفال، منشورات غدير -القدس في اواخر كانون اول 2009

– ظلام النهار-رواية، دار الجندي للنشر والتوزيع- القدس –ايلول 2010

– جنّة الجحيم-رواية – دار الجندي للطباعة والنشر- القدس-حزيران 2011

– – هوان النعيم. رواية- دار الجندي للنشر والتوزيع-القدس-كانون ثاني-يناير-2012

– – كنت هناك- من أدب الرحلات-منشورات وزارة الثقافة الفلسطينية-رام الله-فلسطين-تشرين أول-اكتوبر-2012

– – برد الصيف- رواية- دار الجندي للنشر والتوزيع –القدس- آذار-مارس- 2013

– – العسف-رواية-دار الجندي للنشر والتوزيع-القدس-2014

– – أميرة- رواية- دار الجندي للنشر والتوزيع القدس 2014

– الحصاد- رواية للأطفال-منشورات جمعية الزيزفزنة لثقافة الطفل-رام الله 2014

– البلاد العجيبة- رواية لليافعين-جمعية الرّازي-القدس-2015

– أعدّ وحرر الكتب التسجيلية لندوة اليوم السابع في المسرح الوطني  الفلسطيني – الحكواتي سابقا – في القدس وهي:

– يبوس. منشورات المسرح الوطني الفلسطيني – القدس 1997

– إيلياء. منشورات المسرح الوطني الفلسطيني – القدس تموز 1998

– قراءات لنماذج من أدب الأطفال. منشورات المسرح الوطني الفلسطيني – القدس كانون اول 2004

– في أدب الأطفال .منشورات المسرح الوطني الفلسطيني – القدس تموز 2006

– الحصاد الماتع لندوة اليوم السابع.  دار الجندي للنشر والتوزيع-القدس كانون ثاني-يناير- 2012

– أدب السجون.  دار الجندي للنشر والتوزيع-القدس-شباط-فبراير-2012

– نصف الحاضر وكلّ المستقبل.دار الجندي للنشر والتوزيع-القدس-آذار-مارس-2012

– أبو الفنون. دار الجندي للنشر والتوزيع-القدس نيسان 2012

– حارسة نارنا المقدسة-دار الجندي للنشر والتوزيع-القدس- أيار 2012

– بيارق الكلام لمدينة السلام- دار الجندي للنشر والتوزيع- القدس –حزيران 2012

– – من نوافذ الابداع- دار الجندي للنشر والتوزيع-القدس- نيسان 2013

– – نور الغسق- دار الجندي للنشر والتوزيع-القدس – نيسان 2013

– – مدينة الوديان- دار الجندي للنشر والتوزيع-القدس-2014

التعليقات

جميل السلحوت

جميل حسين ابراهيم السلحوت
مولود في جبل المكبر – القدس بتاريخ 5 حزيران1949 ويقيم فيه.
حاصل على ليسانس أدب عربي من جامعة بيروت العربية.
عمل مدرسا للغة العربية في المدرسة الرشيدية الثانوية في القدس من 1-9-1977 وحتى 28-2-1990

أحدث المقالات

التصنيفات