في الجزائر بلد الشّهداء

ف

من الأيّام التي شعرت فيها بكرامتي وإنسانيّتي هي مشاركتي في أسبوع فلسطين الثّقافيّ في مدينة قسنطينة الجزائرية عاصمة الثّقافة العربيّة للعام 2015، وبما أنّ الجزائر رئيسا وحكومة وشعبا تعتبر فلسطين قضيّتها الأولى قولا وفعلا وثقافة وانتماء، فقد ارتأت أن تبدأ احتفالاتها بأسبوع فلسطين الثّقافيّ، والعربيّ الذي يزور الجزائر سيشعر وسيرى بأمّ عينيه ما معنى أن يكون عربيّا في قطر عربيّ اسمه الجزائر.

في الطّريق

صباح السّبت 25 نيسان- ابريل- شاهدنا حسن الترتيب والنّظام والمعاملة الحسنة في مطار الملكة علياء في العاصمة الأردنية عمّان….استقلينا طائرة شركة الخطوط الجوّية التّركيّة إلى استانبول التي وصلناها في حدود العاشرة صباحا، وما أن هبطت الطائرة مطار استانبول الدّوليّ حتى أخبرنا قائد الطّائرة أنّ هناك خللا في كهرباء الطائرة، وهذا سيعرقل فتح باب الطّائرة…لكنّه ما لبث أن فتح بطريقة يدوية فتنفسنا الصّعداء، ونحن لا نعلم إن كان ذلك الخلل قد حصل أثناء تحليق الطّائرة في الجوّ أم أثناء سيرها على مدرّج المطار!

وبعد انتظار حتى الرّابعة من بعد الظّهر صعدنا إلى الطائرة التّركيّة التي ستقلّنا إلى مطار هواري بومدين في الجزائر العاصمة، على أمل الوصول إليه في السّادسة مساء حسب توقيت الجزائر الذي يتأخّر عن توقيت القدس ساعتين، وبقينا داخل الطّائرة التركية من الرّابعة حتى الثّامنة والنّصف وهي رابضة في مطار استانبول بحجة اصطدام سيّارة باحدى طائرات شركة الطّيران التّركيّة على مدرّج المطار في اليوم السّابق، وهذا أخّر وصولنا الجزائر حتّى الحادية عشرة بتوقيت الجزائر العاصمة، حيث وجدنا في استقبالنا عددا من طاقم سفارة فلسطين في الجزائر، الذين أجلسونا في إحدى غرف الاستقبال نحتسي القهوة والعصائر حتى الانتهاء من اجراءات المطار. انتقلنا بعدها في حافلة سياحيّة إلى فندق “السّلطان” في العاصمة الجزائريّة، وهو فندق في بناية قديمة لا يوحي منظره الخارجيّ بالفخامة والديكورات والأثاث الفاخر الذي في داخله، وهناك نمنا ليلتنا بعد أن تناولنا وجبات عشائنا كلّ في غرفته.

وصباح اليوم التّالي- الأحد- غادرنا في حافلة سياحيّة إلى مدينة قسنطينة التي تبعد عن الجزائر العاصمة حوالي 420 كيلومتر، وكان بصحبتنا شاب من وزارة الثقافة الجزائريّة اسمه محمد، وهو شابّ دمث طيّب الأخلاق. وأخذنا ننحدر في سلسلة جبال أاطلس الشّرقيّة في شوارع عريضة ذات اتجاهين…كلّ اتّجاه من ثلاثة مسارب، وهي سلسلة جبال طويلة ومرتفعة جدّا وتمتد لآلاف الكيلومترات….وتعلو قممها الثّلوج، في حين تغطّي منحدراتها الغابات الكثيفة بما فيها أشجار الزّيتون…مررنا خلالها بثلاثة أنفاق اثنان منها يزيد طول الواحد منها عن كيلو متر. وعندما وصلنا منطقة سهليّة عظيمة بدت من بعيد على يميننا سلسلة جبال وهران بينما استمرت سلسلة جبال أطلس الشّرقيّة على يسارنا، ومن المعلوم أنّ مساحة الجزائر حوالي مليونين وثلاثمائة واثنين وثمانين ألف كيلو متر. لكن اللافت أن المنطقة التي قطعناها جميعها خضراء وهي دائمة الاخضرار كما أفادنا الأهالي…وهناك سيول ماء في الأودية يبدو أنّها تتغذّى من الثّلوج التي تذوب على قمم الجبال.

مررنا بمئات القرى الجزائريّة… ولفت انتباهنا أنّها مبنيّة على طراز الفنّ المعماريّ الأوروبيّ…ولم أشاهد أيّ بناء حجريّ كما في بلادنا، وغالبيّة الأبنية مقامة من الطّوب الأحمر الجميل، وكثير من أسطح المنازل من القرميد الأحمر اللافت.

قسنطينة عاصمة الثقافة العربيّة للعام 2015

“مدينة قسنطينة (بالفرنسية :Constantine )، وتسمى مدينة الجسور وعاصمة الشرق الجزائريّ، وتعتبر من كبريات مدن الجزائر تعدادا. تتميز المدينة القديمة بكونها مبنيّة على صخرة من الكلس القاسي، مما أعطاها منظرا فريدا يستحيل أن يوجد مثله عبر العالم في أيّ مدينة.و للعبور من ضفة إلى أخرى شُيّد عبر العصور عدّة جسور، فأصبحت قسنطينة تضمّ العديد بعضها تحطم لانعدام الترميم، وبعضها ما زال يصارع الزّمن، لذا سمّيت قسنطينة مدينة الجسور المعلقة. يمر وادي الرمال على مدينة قسنطينة القديمة وتعلوه الجسور على ارتفاعات تفوق 200 متر.

دخلت المدينة بعدها تحت سلطة الرومان. وأثناء العهد البيزنطيّ تمرّدت سنة 311 م. على السّلطة المركزيّة فاجتاحتها القوّات الرّومانيّة من جديد، وأمر الإمبراطور ماكسينوس بتخريبها وتمّ إعادة بنائها في عهد قسنطينين .

أعاد الإمبراطور قسطنطين بناءها عام 313 م. واتّخذت اسمه وصارت تسمّى القسطنطينة أو قسنطينة. عرفت ابتداء من سنة 429 م غزوات الوندال، ثم استعاد البيزنطيّون السّيطرة عليها.

مع دخول المسلمين إلى شمال أفريقيا عرفت المدينة نوعا من الاستقلال، فكان أهلها يتولّون شؤونهم بأنفسهم، وحتى القرن التاسع. وفي القرن الثاني عشر عرفت المنطقة قدوم القبائل الهلاليّة.

عادت المدينة للأمازيغ عن طريق الإمارات الأمازيغيّة الإسلاميّة، ومنها الزيريّين ثم الحمّاديّين و الموحّدين، وبعد سقوط الأندلس استوطن المدينة الأندلسيّون كباقي مناطق شمال أفريقيا، كما استقرّت بها جالية يهوديّة، وتعامل معهم أهل المدينة بالتّسامح.

قسنطينة مدينة الجسور:

تتميّز مدينة قسنطينة الجزائرية او “سيرتا” وهو الاسم القديم لها، عن جميع المدن العربيّة جغرافيا ومعماريا، بكونها مدينة الجسور المعلقة، ويمكن القول إنها تستحق عن جدارة لقب عاصمة الشّرق الجزائري.

حضارة وثقافة:

وأهالي قسنطينة محبّون للثّقافة لذا فإنّ هناك عدّة قصور ومسارح ودور عرض للثّقافة في المدينة، أقيم في إحداها أسبوع الثّقافة الفلسطينيّة ما بين 27 نيسان- ابريل- و2 أيار-مايو- 2015 على هامش احتفالات المدينة بكونها عاصمة للثقافة العربيّة للعام 2015 ، حيث كانت أمسيات شعريّة شارك فيها كلّ من الشعراء الفلسطينيّين: مراد السّوداني رئيس اتحاد الكتّاب الفلسطينيّين، سميح محسن ونصّوح بدران، كما قدّم الزّجال الشاب عبدالله غانم أكثر من أمسية زجليّة. وكانت هناك محاضرات ثقافية حيث قدّم الأديب وليد أبو بكر محاضرة عن الفنّ الرّوائي عند الشّباب الفلسطينيّين، وقرأ القاصّ الفلسطيني المقيم في تونس توفيق فيّاض إحدى قصصه. وقدّم أسعد القادري رئيس جمعيّة الصدّاقة الفلسطينيّة الجزائريّة محاضرة عن العلاقة الأخويّة الحميمة بين الشّعبين الجزائريّ والفلسطينيّ، في حين قدّمت الروائيّة المقدسيّة ديمة السّمان محاضرة عن وضع التّعليم في مدارس القدس العربيّة المحتلّة، وحاضر جميل السّلحوت حول الصّراع الثقافي في القدس الشّريف والتّهويد الذي تتعرض له المدينة، وتحدّث موسى أبو غربيّة عن “القدس عاصمة دائمة للثّقافة العربيّة”. كما حاضر الدكتور فيصل غنادرة عن المقارنة بين الرواية الفلسطينيّ والجزائريّة

وقدّمت فرقة “أوف المقدسيّة للرّقص الشعبيّ” أمسيتين واحدة في قسنطينة وأخرى في الجزائر العاصمة تجلّى فيها زهرات وأشبال الفرقة في عروضهم التي سحرت جمهور الحاضرين، ولاقت قبولا واقبالا منقطع النّظير.

وكان رئيس الوفد الثقافيّ الشاعر عبد السّلام العطاريّ، المعروف بدماثته وخفّة دمه زمبرك الحراك في هذا الأسبوع الثّقافيّ. في حين تابع الاعلاميّ احمد زكارنة نشر الفعاليات في وسائل الاعلام.

أمّا الرّسام سميح أبو زاكية فقد أضفى على الأسبوع الثقافيّ رونقا ونشاطا واستقطابا فريدا.

الفنّان أحمد الدّاري:

وهو فنّان مطبوع ينحدر من قرية العيسويّة المقدسيّة، ولد في الكويت، ويعيش الآن في باريس، وهو من كوادر وزارة الخارجيّة الفلسطينيّة، قدّم عدّة أغاني وعزف على العود أكثر من مرّة. وقد كان لافتا بخفّة دمه، ودماثة خلقه وسعة ثقافته وهدوئه. ذكّرته بحلف الواديّة القبليّ” الذي يجمع قرى السّواحرة، سلوان، الطّور، العيزريّة، أبو ديس والعيسويّة” فضحك ملء شدقيه على ذلك.

في جامعة الأمير عبد القادر الجزائريّ:

وبترتيب من الأخ منصور المغربي مندوب سفارة فلسطين في قسنطينة، وبرفقة الأخت أمّ خليل زوجة الدّكتور لؤي عيسى سفير فلسطين في الجزائر، رتّب الدّكتور عبدالله بو خلخال رئيس جامعة الأمير عبد القادر الجزائري المسكون بحبّ فلسطين وشعبها. لقاء مع الرّوائيّة ديمة السّمان وجميل السلحوت حيث حاضرا عن التعليم والصراع الثّقافي في القدس.

السّفارة والسّفير:

سفارة فلسطين في الجزائر خليّة نحل لا تعرف الملل، لا تدّخر جهدا في عملها الدّبلوماسيّ، وخدمة فلسطين وقضاياها، وسعادة السفير الدكتور لؤي عيسى دينامو حركة وعمل، شعرنا برفقته في اليومين الأخيرين أنّه شخصيّة قياديّة دبلوماسية وشعبيّة، رجل لمّاح صاحب نكتة وابتسامته لا تفارق وجهه، فالرّجل المولود في مخيّم اليرموك قرب دمشق فلسطينيّ حتّى النّخاع، لا يرى نفسه موظّفا دبلوماسيّا بمقدار ما هو مواطن فلسطينيّ مكافح يعيش هموم شعبه وأمّته، ويخدم قضاياها عن طيب خاطر ودون تصنّع… لذا فقد جعل من السّفارة ملاذا لكلّ الفلسطينيّين الذين يعيشون في الجزائر، ومن يزورونها أيضا، تماما مثلما هي مفتوحة للأخوة الجزائريّين…والسّفير أبو خليل صاحب الشّخصيّة القيادية يعرف جيّدا كيف يمؤسس عمله، لذا فقد عمل عدّة دوائر في السّفارة، ولكل دائرة مهمامها المعروفة والمحدّدة.

وزوجة السّفير السّيدة الفاضلة أمّ خليل ماجدة فلسطينيّة تعرف دورها تماما، لذا فقد رافقت الوفد الثقافيّ الفلسطينيّ في قسنطينة، وشاركت في وداعه في مطار هواري بومدين،  حضرت الفعاليّات جميعها…تعمل بصمت ودون ضجيج، لم تفرض رأيها على أحد، ولم تتأفّف من أحد أيضا. شعر الجميع بأنّها أختهم تماما مثلما أشعرت زهرات وأشبال فرقة “أوف” بأمومتها.

ومن العاملين بصمت الأخ علي الشّامي، وهذا الرّجل لافت بعمله الدّؤوب والمتواصل بصمت وابتسامته الدّائمة، وهو ينحدر من قبائل الأمازيج الجزائريّة، هاجر جدّه الأوّل إلى القدس وعاش فيها، وبعد حزيران 1967 هاجرت الأسرة إلى مخيّم اليرموك قرب دمشق، وعليّ المناضل طيلة حياته لا يتحدّث عن نفسه شيئا…هو قريب من قلوب من يعرفونه…ويواصل عمله في السّفارة وعلى أكثر من محور.

ومن الذين رافقوا الوفد الثقافيّ منذ دخوله الجزائر وحتّى مغادرته الأخ هيثم عمايرة الملحق الثقافيّ الذي شارك في كافّة الفعاليات وحتّى السّهرات…وكذلك الأخ حمزة الذي كان يرتّب طريقة الحضور والمغادرة أيضا ويرافق الوفود في دخولهم ومغادرتهم إلى المطار ومنه.

الأوركسترا:

مساء الخميس 30 نيسان دعينا لحضور حفل أوركسترا في دار الأوركسترا في قسنطينة، حفل موسيقي وغنائيّ غاية في الابداع، شارك فيه مئات الموسيقيّين وفرقة الكورال وفرقة النّشيد في الحرس الرّئاسيّ، وقدّموا رائعة “الوئام والسّلام” بقيادة المايسترو أمين قويدر، وقدّمت فيه الفنّانة الجزائريّة صاحبة الصّوت الشّجيّ ندى الرّيحان أغنية وطنيّة.

الأخوّة الجزائريّة الفلسطينيّة:

والشّعب الجزائريّ بأعراقه كافة، بعربه وبأمازيجه مجبول على حبّ فلسطين وشعبها، والحكومة الجزائرية تساعد فلسطين ولم تحاول يوما التدخّل في الشّأن الفلسطينيّ الدّاخلي، وهم يستشهدون بمقولة الرّئيس الرّاحل هوّاري بومدين ” نحن مع فلسطين مظلومة أو ظالمة” و” استقلال الجزائر منقوص ما دامت فلسطين محتلة” وغيرها. وممّا يتميّز به الشّعب الجزائريّ هو قول الأفراد العاديّين عندما يرحّبون بأيّ فلسطين” أنت جزائريّ وأنا فلسطيني” فلله درّك يا شعب المليون ونصف المليون شهيد.

بيت لكلّ أسرة:

ومن الأمور اللافتة تلك الأبنية متعدّدة الطّوابق والممتدّة أفقيا على مساحات واسعة، وفي أكثر من مكان، فكانت الإجابة عن استفسارنا حولها بأنّها مشاريع اسكانيّة تبنيها الدّولة، وتوزّع الشّقق مجانا على الأسر الجزائريّة، لأن من حق كلّ جزائريّ أن يكون له بيت مستقل.

الماجدات الجزائريّات:

للمرأة الجزائريّة حقوق تفوق مثيلاتها في الدّول العربيّة والاسلاميّة، وقد حفظ لها القانون الجزائريّ تلك الحقوق، ونسبة الجزائريّات المتعلّمات والعاملات مرتفعة جدّا، ومن الّلافت أنّ الغالبيّة العظمى من النّساء الجزائريّات يرتدين الّلباس الشرعيّ أو بالأحرى يرتدين الحجاب، وبعضهنّ منقّبات أيضا…وظاهرة الحجاب والنّقاب انتشرت في الجزائر منذ تسعينات القرن العشرين كما أفادنا بعض المواطنين. وعندما سألت أحد الصّحفيّين عن الحجاب بقولي:

هل حجاب المرأة في الجزائر عبادة أم عادة أم خوف من التّيارات الدّينيّة؟

أجابني ضاحكا: كلّها مشتركة!

العشرية الظلماء:

يتحدث الجزائريّون بمرارة عن المرحلة السّوداء التي أشعل فيها المتأسلمون الجدد خلالها نار الفتنة في الجزائر ما بين الأعوةام 1992 و2002 والتي حصدت أرواح ما يزيد على مائتي ألف جزائري، عدا عن آلاف الجرحى، وعن الدّمار الذي ألحقوه بالبلاد ومؤسساتها واقتصادها، ويصفونها “بالعشريّة الظلماء” أو السّوداء أو المعتمة.

التعليقات

جميل السلحوت

جميل حسين ابراهيم السلحوت
مولود في جبل المكبر – القدس بتاريخ 5 حزيران1949 ويقيم فيه.
حاصل على ليسانس أدب عربي من جامعة بيروت العربية.
عمل مدرسا للغة العربية في المدرسة الرشيدية الثانوية في القدس من 1-9-1977 وحتى 28-2-1990

أحدث المقالات

التصنيفات