الضّدّية الثقافية

ا

كثيرون منا على سبيل المثال يتظاهرون بالتديّن والدّين منهم براء، أو هم بريئون من الدّين، فيحلّلون ويحرّمون كيفما يشاؤون، ويخلطون أحكام الشريعة بالعادات والتقاليد دون أن يعوا ذلك، أو يعونه لتمرير مآربهم. والحديث يطول في هذا المجال. لكنّني سألفت الانتباه هنا إلى قضيّة هامّة، تتعلق بموروثنا الشعبيّ، لما يمثّله هذا التراث في مكوّنات هويّتنا الوطنية، والتأكيد على أنّ “من لا ماضي له، لا حاضر ولا مستقبل له” والتأكيد أيضا على أنّ ثقافتنا الفلسطينية جزء من الثقافة العربية الأصيلة، وسيكون تركيزي على التراث الشعبيّ الفلسطينيّ، كونه يتعرّض للسّرقة والطمس والتشويه وحتى الضّياع بسبب النكبات المتلاحقة التي يتعرض لها وطننا وشعبنا، وفلسطين التاريخية تكاد تكون متحفا كبيرا يحوي في جنباته شواهد على الحضارات التي تعاقبت على هذه البلاد، فشعبنا لم يكن يوما على هامش التاريخ تماما مثلما هي بلادنا فلسطين.

وتراثنا العمليّ كفنّ العمار والبناء، والمنحوتات، والأدوات التي نستعملها كالأدوات الزراعية وأدوات البناء، والأثاث المنزلي، وأدوات المطبخ التقليدية، وأدوات الصناعة…كلها شواهد على عراقة هذا الشعب، وعلى جذوره الممتدة عبر التاريخ.

وكذلك الحال بالنسبة للموروث القولي كالحكايات والأمثال والنوادر والأغاني والأهازيج الشعبية وغيرها.

وفي تراثنا ما هو ايجابي وما هو سلبي، والسلبي لم يكن في زمنه سلبيا، لذا يجب الانتباه الى تطوّر الحياة وما يصاحبها من متغيرات، لكن الحقيقة التي يجب أن لا تغيب عن أحد، بأنّه يجب الحفاظ على هذا التراث، فمثلا البيوت القديمة يجب ترميمها والحفاظ عليها، وليس هدمها واستبداله ببيوت حديثة كما يفعل البعض، وكذلك الموروث القولي يجب تسجيله وحفظه ودراسته ونشره. وحفظ التراث القديم لا يعني قداسته، ولا يعني أيضا عدم تطويره، وسأعطي أمثلة على ذلك، منها قضية الحراثة والزراعة التقليدية، فحراثة الأرض على الدّواب لا تعني عدم استعمال آلات الحراثة الحديثة، لكنّ بلادنا الجبلية، في جبالها أراض يستحيل استعمال الآلات الحديثة في زراعتها وفي حصادها لوعورتها، وفلّاحونا يستعملون المحراث التقليدي في حراثتها، وهذا شاهد على حضارة شعبنا الزّراعية، وتمسّكه بزراعة أرضه ما استطاع ذلك. وهذه قضية حضارية  لصالحنا ولصالح الحفاظ على أرضنا واستغلالها قدر المستطاع، في حين أنّ شعوبا غيرنا لديهم أراض شاسعة سهلية وخصبة ولا يستغلونها زراعيا حتى أيامنا هذه.

وقضيّة “الطّابون” و”الصّاج” مثلا، فعندما استعملت أمّهاتنا وجدّاتنا الطابون والصّاج لعمل الخبز، لم يكن غيرنا يعرف الخبز، وهذا طبعا لا يتناقض مع استعمال جيلنا المعاصر للفرن الكهربائيّ، وهكذا.

أمّا تراثنا القوليّ، وهو غنيّ جدا، ويتطوّر باستمرار ليعاصر الأحداث التي يعيشها كلّ جيل،

مع التأكيد مرّة أخرى على أنّ هذا التراث وهذه الآداب الشعبية جزء من الموروث الشعبيّ العربيّ، مع بعض الخصوصيّة لكلّ بيئة محليّة، فالأمثال والحكايات الشعبية مثلا تروى في الأقطار العربية كافّة، وقد يجري بعض التحريف عليها هنا وهناك لتتطابق مع البيئة المحليّة التي ترويها.

والآداب الشعبيّة ليست وليدة هذا العصر في موروثنا العربيّ، بل هي قديمة جدّا، ومنها ما هو متوارث من مراحل ما قبل الاسلام كبعض الحكايات والأمثال والأقوال. وتدوين الآداب الشعبيّة ليس جديدا أيضا، وغالبيتها جرى تدوينه ونشره في العصر العباسي، فهناك كتب السّير الشعبية مثلا مثل سيرة كل من:” معن بن زائدة، عنترة بن شدّاد، الزّير سالم، أبو زيد الهلالي” وغيرها. وهناك حكايات “ألف ليلة وليلة” التي جرت ترجمتها لمختلف لغات العالم، فأذهلت قارئيها، وهي حكايات جنسية صريحة من ألفها إلى يائها، بل هناك مؤلفات في الجنس كتبها ودوّنها أئمة مشهود لهم بالتقوى والورع مثل” الامتاع والمؤانسة” لأبي حيّان التوحيدي” ” 922-1023م” وغيرها.

وهناك من أمّهات الكتب ورد فيها أبواب لأدب العامّة وفيها جنس صريح كثير مثل كتاب “الحيوان” للجاحظ، والعقد الفريد لابن عبد ربّه وغيرها.

وتجدر الملاحظة بأن غالبية الحكايات الشعبية هي حكايات في الجنس، ليس عندنا فقط بل عند مختلف الشعوب، حتى أنّ بعض الدارسين للحكايات الشعبية اعتبروا أنّ سبب وجودها وكثرتها يعود إلى أنها كانت تسعى إلى فَهْمِ العلاقة بين الرّجل والمرأة.

ولم يقتصر ورود الجنس على الآداب الشعبية فقط بل جاء ذلك مصاحبا للآداب الفصيحة والرسمية، وبامكان من يريد الاستزادة في ذلك أن يعود إلى شعراء النقائض في العصر الأمويّ، وإلى غزليات أبي نواس وغيره في العصر العباسي.

وقصيدة قيس بن الملوّح بليلى والتي مطلعها:

سألت الله يجمعنى بليلى***أليس الله يفعل ما يشاء

لا يجرؤ على كتابتها شاعر معاصر، نظرا لاختلاف المفاهيم.

ويجب الانتباه الى أن الآداب الشعبية كانت متناسقة مع الآداب الفصيحة والرسمية، ولم تكن حكرا على الذّكور دون الاناث. فكلا الجنسين يتداولونها. وهي ليست حكرا على عمر معيّن أيضا، فأمّهاتنا وزوجاتنا وأخواتنا وبناتنا يهدهدن أطفالنّ الذّكور بأغان يفاخرن بها بذكورة أبنائهنّ، وبأعضائهم الذّكوريّة بل بوظيفتها الجنسيّة المستقبليّة، وبغضّ النظر من هذه الأغاني  ومن التربيّة الذكورية إلا أنّ هذا ما يحصل، فهل في ذلك ما يخدش الحياء؟ وهل من يستشهد ببعض هذه الأغاني في عمل أدبي لتنفير القارئ من التربية الذكورية يخدش حياء القارئة أو القارئ؟ وهل جيلنا أكثر أصالة من الأجيال السابقة؟ وهل تجاهل هكذا أغاني ينفي وجودها ويمنع استعمالها؟ وهل ناقل الكفر كافر؟ أم أنّنا كما قال الشعر العراقي مظفر النّواب:” إنّ الواحد منّا يحمل في الدّاخل ضدّه”؟وأترك الاجابة للقرّاء الكرام.

3-12-2014

التعليقات

جميل السلحوت

جميل حسين ابراهيم السلحوت
مولود في جبل المكبر – القدس بتاريخ 5 حزيران1949 ويقيم فيه.
حاصل على ليسانس أدب عربي من جامعة بيروت العربية.
عمل مدرسا للغة العربية في المدرسة الرشيدية الثانوية في القدس من 1-9-1977 وحتى 28-2-1990

أحدث المقالات

التصنيفات