قراءة أدبية في رواية “أميرة”* لجميل السلجوت بقلم:انتصار عطية

ق
أميرة لغة : اسم علم مؤنث عربي مذكره أمير. وهي من ولدت في بيت الملك وأبوها ملك. ويسمون به بناتهم لتكون الآمرة الناهية في منزلها، تحببا بها.
آمره وحاكمة وملكة وذات أصل شريف
هذا الاسم يفتح أمامي تساؤلات كثيرة :
من هي أميرة ؟ وما علاقتها بأحداث الرواية؟ ومن هي تلك الحاكمة والآمرة والناهية ذات الأصل الشريف، ابنة الحسب والنسب؟
أهي المولود البكر لعبّاس طاهر المحمود لتكون أميرة قلبه؟
هذا ما تبادر لذهني عند قراءة الصفحات الأولى للرواية، فهي الطفلة الصغيرة التي أنجبتها سعدية، ذات الخصلات الذهبية التي تكاد تغازل خيوط الشمس اللامعة في جمالها وحسن محياها. هي تلك الطفلة التي نزلت على يد الداية  كاترينا في ليلة  من الليالي الجميلة التي عاشتها تلك العائلة الثرية، فرح الجميع بأميرة ابتداءً بوالدها وصولا إلى عمال السيد طاهر المحمود، فايز وسعيد حتى عوائلهما، ذبحت الذبائح ووزعت الهدايا، كوفئت القابلة ” الداية ” بليرة انجليزية ذهبية مطوقة مع سلسالها وبعض الجنيهات. عمّ الفرح جميع أرجاء هذا القصر الفاخر، باستثناء قلب خديجة جدّة الطفلة أميرة، وأمّ عباس فقد أصابتها غصة وانزوت في برندة غرفتها تداعب خرزات مسبحتها، فقد عكر عباس صفوها عندما أطلق على المولودة اسم أميرة، ولم يسمها على اسم جدتها خديجة، ظنا منها عدم محبة ابنها لها وأنَّ زوجتَه سعدية و أمها زليخة هما من حرضتاه على فعل هذا الأمر .
عمّ الفرح، أُقيمت الاحتفالات الكبيرة على شرف المولودة الجديدة، وتم دعوة الكثير من أهالي قرية بيت دجن اليافاوية، أما طاهر المحمود فقد دعا صديقه حنّا اندراوس المحامي وزوجته جورجيت، و صديقيه اسحاق مردخاي ويعقوب عوباديا تاجرا الحليب ….و إن دلَّ هذا على شيء إنما يدل على العلاقة الطيبة  القائمة آنذاك بين العرب واليهود من سكان فلسطين في تلك الحقبة،  اسمحو ا لي هنا …إذن الشعب الفلسطيني تعايش مع الديانات الأخرى وخاصة المسيحية واليهودية فلم تكن مشكلته اليهود أبدا كما يدعي أرباب الصهيونية باستمرار، فنحن كشعب له أرضه ووطنه ننبذ الصهيونية المقيتة بجميع مجالاتها ولا عداء لنا مع الديانة اليهودية، فقد عاش اليهود في كنف الدولة الإسلامية منذ عهد قديم وقد عوملوا بأحسن المعاملات دون اضطهادهم كما تدعي الصهيونية المقيتة.
إذن، من هي أميرة جميل السلحوت؟
تفتح أميرة نوافذ الماضي المشبع بشهقات وآلام هذه الأرض وما عليها من أناس وشجر وحجر حتى هوائها قد لُوِث، استجدى الخلاص ولكنه ما نالهُ، قبع يبكي ترياقه، لعله يرشده إلى قبس من نور، ولكن كف القدر كان له بالمرصاد .
هذه الرواية سلطت الضوء على أوضاع وهمّ الشعب الفلسطيني، الذي ما لبث أن تنفس من ظلم الأتراك إلى أن يقبع تحت نيْر احتلال همجي حقير مسميا نفسه ” انتدابا” مخلّصا لهذا الشعب من الاضطهاد العثماني، ولا سيما المجاعة التي عاشها هذا الشعب في تلك الحقبة الزمنية العثمانية، وما عاناه من تخلف وفرض سياسة التتريك العثمانية واضطهاد مسيحيي البلاد ومسلميها، فعملت بريطانيا على فتح المدارس وإدخال التكنولوجيا إلى فلسطين بشتى أنواعها آنذاك .
ولكن هيهات ، هيهات …فهناك مأربٌ استعماريٌّ دنيء ومؤامرة قد حيكت بليل ضد هذا الشعب المسالم، ابتداءً من معاهدة سايكس بيكو مرورا بوعد بلفور المشؤوم، وتسهيل الهجرات اليهودية إلى فلسطين، وتدريبهم على السلاح من قبل بريطانيا وتجريد أبناء الشعب الفلسطيني من أي سلاح يذكر، تسهيل بيع وشراء الأراضي و العقارات للصهاينة اليهود، تمليكهم الكثير منها عدوانا وقصرا، وذلك كله تمهيدا لإنشاء وطن قومي لليهود على أرض فلسطين، تحت شعار ” إقامة وطن لشعب لا وطن له على أرض لا شعب لها ” وهكذا سقطت فلسطين وهجّر أبناؤها واستشهد الكثير الكثير منهم، وذلك عند إعلان المندوب السامي البريطاني خروج بريطانيا من فلسطين في الخامس عشر من أيار سنة ألف وتسعمئةٍ وثمانٍ وأربعين ميلادية. لتدخل العصابات الصهيونية كما خطط لها وتفعل بأهل فلسطين الأفاعيل ابتداءً من مجزرة دير ياسين وقرية الطنطورة والدوايمة وغيرها الكثير لبثِّ الرعب في قلوب سكانها كي يهربوا ويهجروها تاركين وراءهم كنزا عظيما ثمينا لبني صهيون …و انتهاءً بنكبة 1948 ميلادية …وهكذا ضاعت البلاد .
لنكتشف الويلات تلوَ الويلات ، والتآمر العربي قبل الغربي على هذه البلاد وأهلها ..فما حيك قد أتمت حياكته بحنكة ودهاء …ولازلنا نقبع تحت نير الاحتلال وهمجيته الغاشمة على أبناء هذه البلاد …..
أما بالنسبة للعناصر الأدبية في هذه الرواية فنبدأ بالعنصر الأهم :
* الشخصيات : فالشخصيات تعددت وتنوعت، فطاهر المحمود وابنه عباس وزوجته خديجة وكنته سعدية، كانوا مترفي الحال يعيشون في القصور، وثراء فاحش وبيارات ومصنع للبلاط  الذي كان محط أنظار اليهود الصهاينة والغنيمة التي لا تنال إلا بالغصب والعدوان، فقد رفض طاهر المحمود بيع المصنع أو شبر واحد من أرضه مع كل المغريات المادية، والاضطهاد الذي لحق به عندما رفض ذلك، فقد قبع ستة شهور إدارية دون سبب يذكر إلا أنه رفض التفريط بأرضه وعرضه ….
شخصية أبي عباس من الشخصيات النامية في القصة، فقد تبدل حاله من الانتهازية والإقطاعية والقيام بالعلاقات غير الشرعية، و عدم حبه للسياسة وأهلها، و نظرته للثوار ” نظرة رجعية ” فإن انتصروا فالعز للجميع وإن استشهدوا فلهم الجنة ولنا الرياء والنفاق مع أصحاب المصالح من بريطانيين وغيرهم، فهو مع الواقف كما يقول. إلى شخصية مختلفة تماما بعد هول ما رأى في سجن عكا …فقد تبدّل حاله وتاب لله وأعلن توبته لزوجته وإخلاصه لهذا البلد …وكذلك زوجته فهي من الشخصيات النامية أيضا فمن الحب إلى الكره بسبب الخيانة والانتقام من الحياة والتنكيد والعبوس، ثم من الكره إلى الحب بعد أن أعلن طاهر المحمود توبته عن أفعاله المحرمة أمامها مخلصا لها وللوطن، حيث أصبحت العلاقة بينهما حميمة جدا ..ومن هنا يدل ذلك أن الزوجة لا ترفض زوجها إلا لذنب اقترفه بحقها .
عباس طاهر المحمود أيضا تبدل حاله ونمت شخصيته ليتعرف على الثورة وأهلها من خلال فايز العامل في البيارة، الثائر ..الذي يتحلى بكامل المروءة والرجولة، المتزوج من فاطمة وعنده عدد من الأولاد، فلم يتوانَ لحظة عن الالتحاق بمجموعة الجهاد المقدس بقيادة عبدالقادر الحسيني، ومحاربة قوات الانتداب، كما أنه رجل عصاميٌّ صامت ..يعمل بالخفاء لمساعدة الجميع دون انتظار مقابل من أحد …تبدل حاله بعد النكبة ليصبح عاملا في وكالة الغوث الدولية ومساعدة اللاجئين في المخيمات الفلسطينية ….أما زوجته فهي مثال للزوجة العاقلة الرزينة، المرأة الفلسطينية الثائرة مع زوجها …فقد زوجته صبحة زوجة الشهيد سعيد صديقه الذي كان يعمل معه في البيارة ليعيلها ويعيل أطفالها بعد ما فقدوا معيلهم …ومن هنا يتبين لنا أن الهمّ الفلسطيني واحد ..وتآزر الشعب الفلسطيني مع بعضه  البعض وتقديم المصلحة العامة على المصلحة الشخصية …
نعود إلى عباس الذي تشبَّع دروسا من صديقه الثائر فايز، فقد تبدل حاله ليساعد الثوار قدر المستطاع بالمال و شراء السلاح، وتحسسه لأخبار الثورة والثائرين ..ليفقد والده شهيدا في عام النكبة، ويحرم من ابنته أميرة التي هربت مع جدتها خديجة وصديق العائلة حنا اندراوس إلى لبنان بعد الهجوم البريطاني الصهيوني على حيفا وتشريد أهلها …أما عباس فقد نزح مع زوجته سعدية وابنه محمد عيسى إلى الضفة الغربية ليستقر أخيرا في القدس بجوار المسجد الأقصى مع  فايز ومجموعة من العوائل الفلسطينية المهجرة من قرية بيت دجن.
لينتهي به الحال للعمل مدرسا للغة العربية في مدرسة تابعة للأوقاف الإسلامية.
أما زوجته سعدية فهي من الشخصيات الجامدة التي بقيت كما هي دونما  تغيير يذكر.
حفلت الرواية بمجموعة كبيرة من الشخصيات الرئيسة والثانوية…كما ذكرت أسماء لشخصيات ثورية حقيقية مثل :
عبدالقادر الحسيني وأسماء الضباط  البريطان أيضا، الشيخ ياسين البكري، مهيبة خورشيد، بهجت أقبو غربية، احمد علي العيساوي، الشيخ عبدالفتاح المزرعاوي …وغيرهم  .
كما ذكرت بعض الأسماء اليهودية: اسحاق مردخاي..ويعقوب عوباديا وغيرهما أيضا
وشخصيات مسيحية منها: المحامي الذي يسكن وادي النسناس في حيفا حنّا اندراوس وزوجته الدكتورة جورجيت ذات الصوت الغنائي الجميل.
أما منصور حمدان فهو شخصية ثانوية في هذه الرواية، ولكن من خلاله سلط الكاتب الضوء على شريحة معينة من الشعب الفلسطيني، والعداوة الشخصية التي تؤدي إلى الانتقام بطريقة شرسة، فقد قاما ابنا عمّ منصور الحمدان بالوشاية عنه للثوار بحجة أنه عميل للبريطانيين، وذلك انتقاما منه ولسلب أرضه أيضا، حيث شكلت بهذا الخصوص محكمة ثورية للحكم عليه جزافا دون التثبت من الوشاية المتهم بها، وإطلاق الحكم مباشرة دون إعطاء فرصة حتى للتوبة والرجوع عن فعلته كما يزعمون، فحكم عليه بالرمي بالرصاص من قبل قاضي الثورة “الحاج محمد” اللامبالي من أحكامه الجائرة …فهذه شريحة أخرى من الشعب.
* اللغة: في الرواية سردية يتخللها الكثير من الحوار …سهلة واضحة لا غموض فيها ..ذكر كثير من المصطلحات الفلسطينية الشائعة آنذاك وإلى يومنا الحاضر مثل الفاردة، الطابون، الحنتور والهودج الفلسطيني وغيرها.
تخلل الرواية تسليط الضوء على الأهازيج الشعبية الفلسطينية في مختلف المناسبات، فلكل مناسبة ترويدة وأهزوجة تناسبها …فهناك الأغاني الشعبية للعروس وللعريس وإطلاق النساء الزغاريد تعبيرا عن فرحتهن ..وأهازيج الختان للذكور…إلى  أهازيجٍ  للطفل الذكر والمبالغة في تفضيل الصبيان على الإناث .
ولكن…كان الأحرى بكاتبنا السلحوت عدم ذكر بعض المفردات والأهازيج الواردة بتفضيل الذكر على الأنثى، فلها مرادفات كثر لا تخدش الحياء من أمثالها :
وها الصبي صبوله.
شو ما طلب حطوله
وإن طلب خبزة وزبدة قومي
يا أمه يا عبده
ويوم قالولي بنية انهدت الحيطة عليه
طعموني البيض بقشره يا
ميت ويل عليّه
ويوم قالولي غلام انسند  قلبي وقام
وطعموني البيض امقشر مع زغاليل الحمام
فهذه المفردات أولى وأفضل مما ذكر في الرواية بخصوص هذا الموضوع، ولا سيما أنّ الموضوع يتحدث عن هم وطني ومصيبة جلل وتاريخ حافل، وإن أردت تدريسها أو إعطائها لسن مراهق حرج لا أستطيع أن أدعها في متناول الطلاب بسبب هذه المفردات ..ونحن سيدي الفاضل قد تعلمنا من رسولنا الكريم أن نتحاشى ألفاظ وعبارات تخدش حياء الفرد المسلم وهو خير معلم لنا .
الاهتمام بالأمثال الشعبية الفلسطينية ، التي تنسجم مع الوضع القائم آنذاك، مثل المكتوب على الجبين بتشوفه العين
راعي مالك من عيالك
النساء وديعة الأجاويد
اطعم الثم تستحي العين
والكثير الكثير من أمثالها
– حفلت الرواية بالصور الفنية وجمال التصوير والتشخيص والحذق في تصوير المشهد المعاش الواقعي ببراعة فائقة: على سبيل المثال لا الحصر بالنسبة لجمال التصوير
“أشعة الشمس تتهادى على سفح الجبل…الجبل يخلع رداءه الليلي من قمته… ينزلق الظلام هاربا من أشعة الشمس التي تطارده.
أما بالنسبة للحوار فقد حفلت الرواية بنوعيه …
– المونولوج ” الحوار الداخلي للشخصية ” وذلك عندما استغرقت سعدية بذكرياتها الجميلة قبل النكبة، وكذلك عباس وغيرهما من الشخصيات التي حاورت داخلها المكنون .
– الديالوج ” حوار الشخصيات مع بعضها البعض” وهو كثير جدا .
اتسم الحوار بالتسلسل والنمو …واللغة الفصيحة وقليل من اللغة العامية الفلسطينية .
* الأحداث متسلسلة نامية متدرجة من الأحسن إلى الأسوأ بسبب ما ألمّ بالمواطن الفلسطيني من تهجير وتشريد .
*المكان ، تعددت الأمكنة في الرواية، فمن بيت دجن إلى مدينة يافا، وادي النسناس في حيفا، حي العجمي بيافا، اللد، الرملة …حيث ذكرت الكثير من المدن والبلدات الفلسطينية وأحياءها تقريبا…ولا سيما القدس وحاراتها و أبوابها.
– ذكر مخيمات الشتات الفلسطيني :
مخيم شتيلا في جنوب لبنان، مخيم الأمعري ، مخيم قلنديا في رام الله ، مخيم الوحدات في الأردن، مخيم جباليا في قطاع غزة .
* الزمن حسب ما ورد وفُهِمَ من الرواية وبالذات عند زواج سعدية وعباس، في عام 1944 ميلادية، قبيل النكبة بأربع سنوات، وتنتهي الأحداث قبل عام النكسة 1967 ميلادية ما بين 1944__1967 ميلادي
وأخيراً أستاذنا جميل السلحوت …
لم أكن أعلم أنَّ أميرتك ستبكي مقل العين، وتجشم صدري ضيقا فوق ضيق، اختنق النفس في حَنجرتي، انسَّلت روحي مني، غابت وسرحت مع أميرتك هذه في دهاليز الأسى والحزن على وطن ضاع ويضيع، بسبب خنوع العرب والمسلمين ، لأننا نسينا ذواتنا ومن نحن، نسينا عراقتنا وأصالتنا وعروبتنا…غابت الروح في حكاية بلا نهاية ولا حتى بداية ..للحظات عادت الروح أدراجها لتصافح الحروفَ من جديد وتهيمُ معها عبر ماضٍ سحيق …
ولازلنا نندب حظنا ، ونبتهل أن يعود صلاح الدين وحقيقة كلنا صلاحا، إن صلح الحال، وتعاضد الكتف مع الكتف، ورصت الصفوف، عندها فقط سينهض صلاح ويتمترس في مقدمة الخيول والجيوش ليبزغ الفجر العتيق وتخرج الغزالة من وكرها وتضيء الطريق…
22/10/2014
*صدرت رواية”أميرة” للأديب الفلسطيني جميل السلحوت عام 2014 عن دار الجندي للنشر والتوزيع في القدس وتقع في 222 صفحة من الحجم المتوسط.

قراءة أدبية في رواية “أميرة”* لجميل السلجوت بقلم:انتصار عطية أميرة لغة : اسم علم مؤنث عربي مذكره أمير. وهي من ولدت في بيت الملك وأبوها ملك. ويسمون به بناتهم لتكون الآمرة الناهية في منزلها، تحببا بها.آمره وحاكمة وملكة وذات أصل شريفهذا الاسم يفتح أمامي تساؤلات كثيرة : من هي أميرة ؟ وما علاقتها بأحداث الرواية؟ ومن هي تلك الحاكمة والآمرة والناهية ذات الأصل الشريف، ابنة الحسب والنسب؟أهي المولود البكر لعبّاس طاهر المحمود لتكون أميرة قلبه؟هذا ما تبادر لذهني عند قراءة الصفحات الأولى للرواية، فهي الطفلة الصغيرة التي أنجبتها سعدية، ذات الخصلات الذهبية التي تكاد تغازل خيوط الشمس اللامعة في جمالها وحسن محياها. هي تلك الطفلة التي نزلت على يد الداية  كاترينا في ليلة  من الليالي الجميلة التي عاشتها تلك العائلة الثرية، فرح الجميع بأميرة ابتداءً بوالدها وصولا إلى عمال السيد طاهر المحمود، فايز وسعيد حتى عوائلهما، ذبحت الذبائح ووزعت الهدايا، كوفئت القابلة ” الداية ” بليرة انجليزية ذهبية مطوقة مع سلسالها وبعض الجنيهات. عمّ الفرح جميع أرجاء هذا القصر الفاخر، باستثناء قلب خديجة جدّة الطفلة أميرة، وأمّ عباس فقد أصابتها غصة وانزوت في برندة غرفتها تداعب خرزات مسبحتها، فقد عكر عباس صفوها عندما أطلق على المولودة اسم أميرة، ولم يسمها على اسم جدتها خديجة، ظنا منها عدم محبة ابنها لها وأنَّ زوجتَه سعدية و أمها زليخة هما من حرضتاه على فعل هذا الأمر .عمّ الفرح، أُقيمت الاحتفالات الكبيرة على شرف المولودة الجديدة، وتم دعوة الكثير من أهالي قرية بيت دجن اليافاوية، أما طاهر المحمود فقد دعا صديقه حنّا اندراوس المحامي وزوجته جورجيت، و صديقيه اسحاق مردخاي ويعقوب عوباديا تاجرا الحليب ….و إن دلَّ هذا على شيء إنما يدل على العلاقة الطيبة  القائمة آنذاك بين العرب واليهود من سكان فلسطين في تلك الحقبة،  اسمحو ا لي هنا …إذن الشعب الفلسطيني تعايش مع الديانات الأخرى وخاصة المسيحية واليهودية فلم تكن مشكلته اليهود أبدا كما يدعي أرباب الصهيونية باستمرار، فنحن كشعب له أرضه ووطنه ننبذ الصهيونية المقيتة بجميع مجالاتها ولا عداء لنا مع الديانة اليهودية، فقد عاش اليهود في كنف الدولة الإسلامية منذ عهد قديم وقد عوملوا بأحسن المعاملات دون اضطهادهم كما تدعي الصهيونية المقيتة. إذن، من هي أميرة جميل السلحوت؟تفتح أميرة نوافذ الماضي المشبع بشهقات وآلام هذه الأرض وما عليها من أناس وشجر وحجر حتى هوائها قد لُوِث، استجدى الخلاص ولكنه ما نالهُ، قبع يبكي ترياقه، لعله يرشده إلى قبس من نور، ولكن كف القدر كان له بالمرصاد .هذه الرواية سلطت الضوء على أوضاع وهمّ الشعب الفلسطيني، الذي ما لبث أن تنفس من ظلم الأتراك إلى أن يقبع تحت نيْر احتلال همجي حقير مسميا نفسه ” انتدابا” مخلّصا لهذا الشعب من الاضطهاد العثماني، ولا سيما المجاعة التي عاشها هذا الشعب في تلك الحقبة الزمنية العثمانية، وما عاناه من تخلف وفرض سياسة التتريك العثمانية واضطهاد مسيحيي البلاد ومسلميها، فعملت بريطانيا على فتح المدارس وإدخال التكنولوجيا إلى فلسطين بشتى أنواعها آنذاك . ولكن هيهات ، هيهات …فهناك مأربٌ استعماريٌّ دنيء ومؤامرة قد حيكت بليل ضد هذا الشعب المسالم، ابتداءً من معاهدة سايكس بيكو مرورا بوعد بلفور المشؤوم، وتسهيل الهجرات اليهودية إلى فلسطين، وتدريبهم على السلاح من قبل بريطانيا وتجريد أبناء الشعب الفلسطيني من أي سلاح يذكر، تسهيل بيع وشراء الأراضي و العقارات للصهاينة اليهود، تمليكهم الكثير منها عدوانا وقصرا، وذلك كله تمهيدا لإنشاء وطن قومي لليهود على أرض فلسطين، تحت شعار ” إقامة وطن لشعب لا وطن له على أرض لا شعب لها ” وهكذا سقطت فلسطين وهجّر أبناؤها واستشهد الكثير الكثير منهم، وذلك عند إعلان المندوب السامي البريطاني خروج بريطانيا من فلسطين في الخامس عشر من أيار سنة ألف وتسعمئةٍ وثمانٍ وأربعين ميلادية. لتدخل العصابات الصهيونية كما خطط لها وتفعل بأهل فلسطين الأفاعيل ابتداءً من مجزرة دير ياسين وقرية الطنطورة والدوايمة وغيرها الكثير لبثِّ الرعب في قلوب سكانها كي يهربوا ويهجروها تاركين وراءهم كنزا عظيما ثمينا لبني صهيون …و انتهاءً بنكبة 1948 ميلادية …وهكذا ضاعت البلاد .لنكتشف الويلات تلوَ الويلات ، والتآمر العربي قبل الغربي على هذه البلاد وأهلها ..فما حيك قد أتمت حياكته بحنكة ودهاء …ولازلنا نقبع تحت نير الاحتلال وهمجيته الغاشمة على أبناء هذه البلاد …..أما بالنسبة للعناصر الأدبية في هذه الرواية فنبدأ بالعنصر الأهم :* الشخصيات : فالشخصيات تعددت وتنوعت، فطاهر المحمود وابنه عباس وزوجته خديجة وكنته سعدية، كانوا مترفي الحال يعيشون في القصور، وثراء فاحش وبيارات ومصنع للبلاط  الذي كان محط أنظار اليهود الصهاينة والغنيمة التي لا تنال إلا بالغصب والعدوان، فقد رفض طاهر المحمود بيع المصنع أو شبر واحد من أرضه مع كل المغريات المادية، والاضطهاد الذي لحق به عندما رفض ذلك، فقد قبع ستة شهور إدارية دون سبب يذكر إلا أنه رفض التفريط بأرضه وعرضه ….شخصية أبي عباس من الشخصيات النامية في القصة، فقد تبدل حاله من الانتهازية والإقطاعية والقيام بالعلاقات غير الشرعية، و عدم حبه للسياسة وأهلها، و نظرته للثوار ” نظرة رجعية ” فإن انتصروا فالعز للجميع وإن استشهدوا فلهم الجنة ولنا الرياء والنفاق مع أصحاب المصالح من بريطانيين وغيرهم، فهو مع الواقف كما يقول. إلى شخصية مختلفة تماما بعد هول ما رأى في سجن عكا …فقد تبدّل حاله وتاب لله وأعلن توبته لزوجته وإخلاصه لهذا البلد …وكذلك زوجته فهي من الشخصيات النامية أيضا فمن الحب إلى الكره بسبب الخيانة والانتقام من الحياة والتنكيد والعبوس، ثم من الكره إلى الحب بعد أن أعلن طاهر المحمود توبته عن أفعاله المحرمة أمامها مخلصا لها وللوطن، حيث أصبحت العلاقة بينهما حميمة جدا ..ومن هنا يدل ذلك أن الزوجة لا ترفض زوجها إلا لذنب اقترفه بحقها .عباس طاهر المحمود أيضا تبدل حاله ونمت شخصيته ليتعرف على الثورة وأهلها من خلال فايز العامل في البيارة، الثائر ..الذي يتحلى بكامل المروءة والرجولة، المتزوج من فاطمة وعنده عدد من الأولاد، فلم يتوانَ لحظة عن الالتحاق بمجموعة الجهاد المقدس بقيادة عبدالقادر الحسيني، ومحاربة قوات الانتداب، كما أنه رجل عصاميٌّ صامت ..يعمل بالخفاء لمساعدة الجميع دون انتظار مقابل من أحد …تبدل حاله بعد النكبة ليصبح عاملا في وكالة الغوث الدولية ومساعدة اللاجئين في المخيمات الفلسطينية ….أما زوجته فهي مثال للزوجة العاقلة الرزينة، المرأة الفلسطينية الثائرة مع زوجها …فقد زوجته صبحة زوجة الشهيد سعيد صديقه الذي كان يعمل معه في البيارة ليعيلها ويعيل أطفالها بعد ما فقدوا معيلهم …ومن هنا يتبين لنا أن الهمّ الفلسطيني واحد ..وتآزر الشعب الفلسطيني مع بعضه  البعض وتقديم المصلحة العامة على المصلحة الشخصية …نعود إلى عباس الذي تشبَّع دروسا من صديقه الثائر فايز، فقد تبدل حاله ليساعد الثوار قدر المستطاع بالمال و شراء السلاح، وتحسسه لأخبار الثورة والثائرين ..ليفقد والده شهيدا في عام النكبة، ويحرم من ابنته أميرة التي هربت مع جدتها خديجة وصديق العائلة حنا اندراوس إلى لبنان بعد الهجوم البريطاني الصهيوني على حيفا وتشريد أهلها …أما عباس فقد نزح مع زوجته سعدية وابنه محمد عيسى إلى الضفة الغربية ليستقر أخيرا في القدس بجوار المسجد الأقصى مع  فايز ومجموعة من العوائل الفلسطينية المهجرة من قرية بيت دجن.لينتهي به الحال للعمل مدرسا للغة العربية في مدرسة تابعة للأوقاف الإسلامية.أما زوجته سعدية فهي من الشخصيات الجامدة التي بقيت كما هي دونما  تغيير يذكر.حفلت الرواية بمجموعة كبيرة من الشخصيات الرئيسة والثانوية…كما ذكرت أسماء لشخصيات ثورية حقيقية مثل : عبدالقادر الحسيني وأسماء الضباط  البريطان أيضا، الشيخ ياسين البكري، مهيبة خورشيد، بهجت أقبو غربية، احمد علي العيساوي، الشيخ عبدالفتاح المزرعاوي …وغيرهم  .كما ذكرت بعض الأسماء اليهودية: اسحاق مردخاي..ويعقوب عوباديا وغيرهما أيضا وشخصيات مسيحية منها: المحامي الذي يسكن وادي النسناس في حيفا حنّا اندراوس وزوجته الدكتورة جورجيت ذات الصوت الغنائي الجميل.أما منصور حمدان فهو شخصية ثانوية في هذه الرواية، ولكن من خلاله سلط الكاتب الضوء على شريحة معينة من الشعب الفلسطيني، والعداوة الشخصية التي تؤدي إلى الانتقام بطريقة شرسة، فقد قاما ابنا عمّ منصور الحمدان بالوشاية عنه للثوار بحجة أنه عميل للبريطانيين، وذلك انتقاما منه ولسلب أرضه أيضا، حيث شكلت بهذا الخصوص محكمة ثورية للحكم عليه جزافا دون التثبت من الوشاية المتهم بها، وإطلاق الحكم مباشرة دون إعطاء فرصة حتى للتوبة والرجوع عن فعلته كما يزعمون، فحكم عليه بالرمي بالرصاص من قبل قاضي الثورة “الحاج محمد” اللامبالي من أحكامه الجائرة …فهذه شريحة أخرى من الشعب.* اللغة: في الرواية سردية يتخللها الكثير من الحوار …سهلة واضحة لا غموض فيها ..ذكر كثير من المصطلحات الفلسطينية الشائعة آنذاك وإلى يومنا الحاضر مثل الفاردة، الطابون، الحنتور والهودج الفلسطيني وغيرها. تخلل الرواية تسليط الضوء على الأهازيج الشعبية الفلسطينية في مختلف المناسبات، فلكل مناسبة ترويدة وأهزوجة تناسبها …فهناك الأغاني الشعبية للعروس وللعريس وإطلاق النساء الزغاريد تعبيرا عن فرحتهن ..وأهازيج الختان للذكور…إلى  أهازيجٍ  للطفل الذكر والمبالغة في تفضيل الصبيان على الإناث .ولكن…كان الأحرى بكاتبنا السلحوت عدم ذكر بعض المفردات والأهازيج الواردة بتفضيل الذكر على الأنثى، فلها مرادفات كثر لا تخدش الحياء من أمثالها : وها الصبي صبوله. شو ما طلب حطوله وإن طلب خبزة وزبدة قومي يا أمه يا عبده ويوم قالولي بنية انهدت الحيطة عليه طعموني البيض بقشره ياميت ويل عليّه ويوم قالولي غلام انسند  قلبي وقام وطعموني البيض امقشر مع زغاليل الحمام فهذه المفردات أولى وأفضل مما ذكر في الرواية بخصوص هذا الموضوع، ولا سيما أنّ الموضوع يتحدث عن هم وطني ومصيبة جلل وتاريخ حافل، وإن أردت تدريسها أو إعطائها لسن مراهق حرج لا أستطيع أن أدعها في متناول الطلاب بسبب هذه المفردات ..ونحن سيدي الفاضل قد تعلمنا من رسولنا الكريم أن نتحاشى ألفاظ وعبارات تخدش حياء الفرد المسلم وهو خير معلم لنا .الاهتمام بالأمثال الشعبية الفلسطينية ، التي تنسجم مع الوضع القائم آنذاك، مثل المكتوب على الجبين بتشوفه العينراعي مالك من عيالكالنساء وديعة الأجاويد اطعم الثم تستحي العين والكثير الكثير من أمثالها – حفلت الرواية بالصور الفنية وجمال التصوير والتشخيص والحذق في تصوير المشهد المعاش الواقعي ببراعة فائقة: على سبيل المثال لا الحصر بالنسبة لجمال التصوير “أشعة الشمس تتهادى على سفح الجبل…الجبل يخلع رداءه الليلي من قمته… ينزلق الظلام هاربا من أشعة الشمس التي تطارده. أما بالنسبة للحوار فقد حفلت الرواية بنوعيه …- المونولوج ” الحوار الداخلي للشخصية ” وذلك عندما استغرقت سعدية بذكرياتها الجميلة قبل النكبة، وكذلك عباس وغيرهما من الشخصيات التي حاورت داخلها المكنون .- الديالوج ” حوار الشخصيات مع بعضها البعض” وهو كثير جدا .اتسم الحوار بالتسلسل والنمو …واللغة الفصيحة وقليل من اللغة العامية الفلسطينية .* الأحداث متسلسلة نامية متدرجة من الأحسن إلى الأسوأ بسبب ما ألمّ بالمواطن الفلسطيني من تهجير وتشريد .*المكان ، تعددت الأمكنة في الرواية، فمن بيت دجن إلى مدينة يافا، وادي النسناس في حيفا، حي العجمي بيافا، اللد، الرملة …حيث ذكرت الكثير من المدن والبلدات الفلسطينية وأحياءها تقريبا…ولا سيما القدس وحاراتها و أبوابها.- ذكر مخيمات الشتات الفلسطيني :مخيم شتيلا في جنوب لبنان، مخيم الأمعري ، مخيم قلنديا في رام الله ، مخيم الوحدات في الأردن، مخيم جباليا في قطاع غزة .* الزمن حسب ما ورد وفُهِمَ من الرواية وبالذات عند زواج سعدية وعباس، في عام 1944 ميلادية، قبيل النكبة بأربع سنوات، وتنتهي الأحداث قبل عام النكسة 1967 ميلادية ما بين 1944__1967 ميلادي وأخيراً أستاذنا جميل السلحوت …لم أكن أعلم أنَّ أميرتك ستبكي مقل العين، وتجشم صدري ضيقا فوق ضيق، اختنق النفس في حَنجرتي، انسَّلت روحي مني، غابت وسرحت مع أميرتك هذه في دهاليز الأسى والحزن على وطن ضاع ويضيع، بسبب خنوع العرب والمسلمين ، لأننا نسينا ذواتنا ومن نحن، نسينا عراقتنا وأصالتنا وعروبتنا…غابت الروح في حكاية بلا نهاية ولا حتى بداية ..للحظات عادت الروح أدراجها لتصافح الحروفَ من جديد وتهيمُ معها عبر ماضٍ سحيق …ولازلنا نندب حظنا ، ونبتهل أن يعود صلاح الدين وحقيقة كلنا صلاحا، إن صلح الحال، وتعاضد الكتف مع الكتف، ورصت الصفوف، عندها فقط سينهض صلاح ويتمترس في مقدمة الخيول والجيوش ليبزغ الفجر العتيق وتخرج الغزالة من وكرها وتضيء الطريق…22/10/2014 *صدرت رواية”أميرة” للأديب الفلسطيني جميل السلحوت عام 2014 عن دار الجندي للنشر والتوزيع في القدس وتقع في 222 صفحة من الحجم المتوسط.

التعليقات

جميل السلحوت

جميل حسين ابراهيم السلحوت
مولود في جبل المكبر – القدس بتاريخ 5 حزيران1949 ويقيم فيه.
حاصل على ليسانس أدب عربي من جامعة بيروت العربية.
عمل مدرسا للغة العربية في المدرسة الرشيدية الثانوية في القدس من 1-9-1977 وحتى 28-2-1990

أحدث المقالات

التصنيفات