العسف -رواية

ا

العسف

الجزء الخامس

درب الآلام الفلسطيني

دار الجندي للنشر والتوزيع القدس

2014

تصميم الغلاف: الفنانة رشا السرميطي

ملاحظة:أسماء الشخصيّات والعائلات غير حقيقيّة، واذا ورد تشابه بينها وبين شخصيّات حقيقيّة، فذلك بمحض الصدفة.

“1”

في أول حزيران بعد عام من الاحتلال، وبينما كان أبو سالم عائدا من صلاة العشاء في المسجد، رأى خليل الأكتع خارجا من بيت الأستاذ داود، وفي يده رزمة أوراق ملفوفة، تحاشاه خليل ولم يطرح عليه التحية، بل سار في طريق أخرى لا توصله الى بيته، انتبه أبو سالم لذلك….و(لعب الفار في عبّه) حكّ أنفه وكأنه يستعيد وعيه، تساءل بينه وبين نفسه عمّا يريده هذا الفتى؟ هل هو غرور الشباب المبكّر؟ أم هو يتعالى على الآخرين؟ لا…لا يمكن ذلك فهو لا يترك مناسبة في القرية إلّا يشارك فيها، بغضّ النّظر إن كانت فرحا أم ترحا…لكنه يتعالى عليّ أنا، فهل هو متأثر بأحاديث الكبار…أعلم أنّهم لا يذكرونني بالخير، لكنّهم (عندما تناطح العين العين) يرحبّون بي، ويجالسونني، بل ويتملقونني، وهذا الفتى يبدو أنّه مخلوق من طينة أخرى، يختلف عن أقرانه الآخرين، فالآخرون عندما يرونني يطأطئون رؤوسهم احتراما وهم يطرحون التحيّة عليّ، بل ويصافحونني باحترام شديد، إلّا هذا الأكتع فإنه يتخذ منّي موقفا معاديا، فهل يرى نفسه أفضل من الآخرين خصوصا بعد سفره الى بلاد الانجليز، فقد عاد إلينا بيد اصطناعية، وبملابس جديدة فاخرة، ومن يومها ظهرت النّعمة على والده وأسرته، وهو يجالس الكبار والصغار، بمن فيهم الأساتذة، وأصبح النّاس يطلقون عليه لقب أستاذ، مع أنّه ليس أستاذا…صحيح أنّه أكمل المدرسة، وصحيح أنّني سمعت أنّه يدرس في كليّة بير زيت، لكنّه لم يكن يوما أستاذا ولم يُعلّم تلميذا….فليذهب الى الجحيم.

وصل أبو سالم بيته….طلب من زوجته أن تنقل فراشه الى “البرندة” المكشوفة التي هي سطح السكنة التّحتية التي يسكنها ابنه سالم…أسند ظهره الى الحائط القصير المكوَّن من مدماكين، احتسى كأس شاي….وشعر أنّ النّوم يهرب من عينيه….في حوالي منتصف الليل انتبه الى حركة في الطّريق التي تبعد عن بيته عدّة أمتار…رفع رأسه ونظر…الجوّ صاف والقمر بدر…والحرارة فوق معدّلها العام…رأى “خليل” بصحبة شاب آخر لم يتبيّن ملامحه، كلّ واحد منهما يسير على رصيف…يمشي عشرة أمتار وينحني الى الأرض…يضع شيئا ويمشي…بعد أن ابتعدا بضع مئات من الأمتار…نزل الى الطّريق يستطلع ما كانا يضعانه على الأرض…وجد أوراقا كلّ واحدة منها مثبّتة بحصاة فوقها…أخذ اثنتين منها وعاد الى فراشه…لم يستطع قراءة المكتوب فيها…طواها في جيبه…وقال:(في الصّباح رباح) لكنّ هذه الأوراق لا تبشر خيرا…وبالتأكيد هي من الرّزمة التي خرج بها خليل من بيت الأستاذ داود، وربما تكون منشورات ضدّ الدولة…سآخذها غدا الى الكابتن نمرود…وسيرى أن عينيّ أبي سالم ساهرتان لا تنامان…

بعد منتصف الّليلة التّالية كانت سيّارات المخابرات وحرس الحدود تحيط ببيت الأستاذ داود، الجنود يتمركزون حول البيت شاهرين أسلحتهم…كشّافات الإضاءة تخترق النّوافذ، جنود يضربون باب البيت بكعاب بنادقهم، وهم يصرخون طالبين فتح الباب بسرعة، وما أن فتح الأستاذ الباب حتى اندفعوا فيه بقوّة… قيّدوا يديه خلف ظهره…انتشروا في الغرف يفتشون كلّ شيء، طوّحوا بالملابس من الخزانة، وفي المطبخ خلطوا الطّحين بالسّكر والعدس والملح….كانت زوجته وبناته يرتعدن خوفا…فقال رجل المخابرات لزوجة الأستاذ ساخرا :

لماذا ترتعدون أنت وأطفالك؟ ألهذا الحدّ الطّقس بارد؟

كانت درجة الحرارة 28  مئوية…..ابتلعت غيظها وإهانتها ولم ترد…بعدها قال :

نريد الأستاذ ساعة من الزمن لاستيضاح بعض الأمور….وعندما خرجوا من البيت عصبوا عينيه، وألقوا به في سيّارة حرس الحدود الذين انهالوا عليه ضربا بقبضات أيديهم وبكعاب بنادقهم، وركلا بأقدامهم….واتّجهوا الى بيت الأستاذ خليل….

اقتحموا البيت بالوحشيّة ذاتها، وعندما تبيّنوا شخصيّة خليل احتاروا في كيفيّة تقييده…فهو بيد واحدة…فقيّده ضابط حرس الحدود بيد أحد جنوده…فتّشوا البيت ولم يعثروا على شيء…حملوا معهم بعض كتب لم يفهموا محتواها…وعندما سألهم أبو كامل والد خليل عمّ يريدون من خليل؟ أجابه رجل المخابرات :

نريده نصف ساعة لاستيضاح بعض الأمور.

في الخارج فكّوا قيد الجنديّ المقيّد مع خليل وربطوا “الكلبشات” بجدار سيّارة حرس الحدود، عصبوا عينيّ خليل، وانهالوا على مختلف أعضاء جسده ضربا ولكما.

في مقر التّحقيق وضعوا الأستاذ خليل والأستاذ داود- بعد أن فكّوا قيديهما في زنزانتين-…كلّ واحد منهما في زنزانة تشبه القبر…لا نوافذ لها…مضاءة بلامبات صفراء إنارتها قويّة…جدرانها مدهونة بالّلون الأصفر…فيها دلوان بلاستيكيّان…واحد لمياه الشّرب وآخر لقضاء الحاجة…وفيها بطانيّة قذرة…رائحة العفونة تملأ المكان…لم يتكلّموا معهما أيّ شيء…ولم يسألوهما عن أيّ شيء…خليل لا يعلم بأن الأستاذ داود معتقل، بينما الأستاذ داود قدّر – لأنّه كان معصوب العينين- بأن الدّورية قد انطلقت من بيته بعد اعتقاله الى بيت خليل….افترش كلّ واحد منهما البطّانية…تحسسّ جسده وتفقّد مواضع الضّربات التي تلقّاها…ودارت في رأسه مئات الأسئلة حول التّهمة التي ستوجّه له…وشرع يرتّب في رأسه الاجابات على كلّ سؤال….لم يعرف النّوم طريقا لعيونهما…ومع ذلك كانا يسمعان صرير مفاتيح حديديّة كلّ بضع دقائق…وضربات قويّة على باب الزّنزانة..حتى يُخيّل للواحد منهما أنّهم سيفتحون باب زنزانته لأخذه للتّحقيق…أرّقهم أصوات رجال ونساء يصرخون ألما تحت تعذيب شديد…وصوت جلّاديهم يعلو بلا رحمة مردّدا بلهجة آمرة ولئيمة : إن لم تعترف فستبقى تحت التعذيب حتى تموت ببطء…يشتمون الأعراض…ويشتمون الرّسول محمد – صلّى الله عليه وسلم-….أصوات لا تنقطع ولا تتوقّف…لكنّها تضع سامعها في حالة نفسيّة سيّئة…فالإنسان يبقى إنسانا في كلّ الأحوال والظروف….فما بالك إذا كان مستهدفا…وسيقف في نفس الموقف الّذي يسمعه الآن سياطا تجلده…استمراريّة هذه الأصوات أكّدت للأستاذ داود أنّها اسطوانات مسجّلة؛ القصد منها تدمير نفسيّة المعتقل قبل التّحقيق معه، ليقف أمام المحقّق منهارا…بينما خليل لم تخطر له فكرة التّسجيل…فانطوى على نفسه يتألّم، ويسأل الله أن ينقذه من هذه الأوضاع…صحيح أنّ الأستاذ داود لم يكن مرتاحا…لكنّ وضعه النّفسي كان أفضل من حالة خليل…لم يغمض أيّ منهما جفنا.

في ساعات الصّباح فُتحت نافذة صغيرة بباب كلّ واحدة من زنزانتيهما… قذف شرطيّ لكلّ واحد منهما قطعة خبز، وقطعة جبنة صفراء مغلفة، وبيضة مسلوقة…قذفها بشراسة مصحوبة بسيل من الشّتائم البذيئة…أغلق النّافذة وانصرف….أكل الأستاذ داود ما قُدّم له من طعام، وفي ذهنه أن ذلك سيساعده على الصّمود…بينما خليل لم يستطع أن يأكل شيئا…حاول أن يأكل قطعة خبز صغيرة لكنّه لم يستطع ابتلاعها…أصوات من يتألّمون من التّعذيب لم تنقطع…أمضيا يومهم وليلتهم في الزّنزانة دون أن يسألهم أحد شيئا.

لم يغفُ جفن لفاطمة والدة خليل الأكتع، ولا لرائدة زوجة الأستاذ داود، وكلّ واحدة منهما شرعت تلملم أشلاء الموادّ الغذائية المختلطة ببعضها البعض، تبكي بصمت، تحاول أن تعيد أطفالها الى فراش النّوم دون جدوى، فوحشيّة الجنود أصابتهم بالرّعب، وطيّرت النّعاس من عيونهم، ولتهدئة الأطفال تركت فاطمة المطبخ وعادت الى غرفة نومهم، أطفأت لامبة الكاز، وطلبت منهم أن يناموا، لم يستجيبوا لها…لكنّها تظاهرت بالنّوم وهي تحتضن طفلتها خديجة بنت الثالثة من عمرها، عادت بذاكرتها الى مغارة والدها، حيث أنجبت “خليل” في زاويتها وسط صراخ صالح شقيقه الأكبر وخوار بقرة والدها العجفاء، وشتائم والدها التي لا تنقطع، وأمنياته ودعواته بأن تموت هي وجنينها وابنها صالح الذي يصرخ…دموعها تنساب غزيرة على وجنتيها، لا يقطع صفوها سوى تنهدّات وحشرجة تكاد تخنقها…من يومك وأنت سيّء الحظّ يا ولدي، قالت في نفسها، وتذكّرت كيف انهال زوجها منصور عليها ضربا وهي حامل بخليل، وطردها الى بيت والدها، الذي استقبلها بدوره بشتائم لا تنقطع…لتلده في تلك المغارة شديدة الرّطوبة، والتي تعجّ برائحة العفونة المقزّزة…ما المكتوب على هذا الولد؟ تساءلت في سرّها، فالتعاسة تلاحقه منذ كان جنينا في رحمها، ولطمت وجهها بيديها وهي تتذكّر كيف وقع في “فاردة” عرس أخيه كامل، وانكسرت يده، وتهشّمت الأخرى، وكيف تعفنت يده اليسرى من جبيرة”حتيت الشّيب”الحاج عبد الرؤوف، الى أن قام الأطبّاء في مستشفى الهوسبيس بقطعها، بعد أن شلّتها الغرغرينا، لكنّها ابتسمت عندما عادت بها الذّاكرة الى يوم عودته من زيارة بريطانيا بيد اصطناعية، وملابس جديدة، محمّلا بالهدايا وآلاف الدّنانير…وتمنّت لو أنّه بقي في أحضان الأسرة البريطانية التي تبنته، ولو فعلها لأكمل تعليمه وعاش حياة سعيدة، وتجنّب ويلات الحرب، ولنجا من ظلم هؤلاء الوحوش….وزوجها أبو كامل بقي قلقا يتقلّب في فراشه حتّى الصّباح…وعند صلاة الفجر في المسجد التقى بالمختارين أبى سعيد وأبي محمّد، فشرح لهما كيف تمّت عمليّة اعتقال خليل، وطلب منهما أن يتوسّطا لاطلاق سراحه، فابتسم أبو سعيد وقال:

“هذه دوله عدوّة مش مصليه ع النّبي” ولا أحد يستطيع أن يفعل شيئا، وأنصحك أن توكل له محاميا.

أمّا رائدة زوجة الأستاذ داود فلم تستوعب ما جرى لزوجها…فقد أمضت ليلها تبكي وتلطم حظّها العاثر…فزوجها من أعيان البلدة، وزواجها منه مفخرة لها ولوالديها…وعندما اختارها زوجة له طارت فرحا…فبنات القرية جميعهنّ كنّ يتمنّين الزّواج منه، فهو من أوائل من تعلّموا، وعاشت معه سعيدة يتوفّر لها كلّ ما تريده…لم تستوعب فراقه ولو لليلة واحدة…فهو زوج رحيم يحبّها كما تحبّه، ويرعاها وأطفالها بحنان زائد…

في صباح اليوم الثّالث لاعتقالهما أحضروهما للتّحقيق…جلس الأستاذ داود أمام محقّق شابّ في أواخر العشرينات من عمره…كان يقلّب أوراقا في ملفّ أمامه…بينما يقف خلف داود ثلاثة شبّان طويلي القامة، مفتولي العضلات…ينتظرون أوامر المحقّق بالانقضاض عليه. ارتعد جسد الأستاذ داود وارتجف …لاحظ المحقّق ذلك فسأل ساخرا :

لماذا ترتجف؟ الجوّ هذا اليوم بارد، ودرجة الحرارة فوق معدّلها بأربع درجات…إنها 32 مئوية….شعر الأستاذ داود بقوّة داخليّة في جسده لم يعهدها من قبل…خصوصا بعد أن أمسك أحدهم بكتفيه ضاغطا بقوّة كبيرة…استجمع قواه الجسديّة والنفسيّة ولم يعد يرتجف…فقد تبخّرت هيبة المحقّق من مخيّلته…قال له المحقق :

سأعرفك على نفسي…اسمي أبو سامح…اسمعني جيّدا…نحن نعرف قصّة حياتك منذ ولدتك أمّك حتى هذه الّلحظة…ونعرف نشاطاتك الحزبيّة من يومها الأوّل حتى يومنا هذا…ونعرف مع من كنت تجتمع…وأين طبعتم المنشورات المناوئة لنا…ونعرف المهامّ الحزبيّة لكلّ واحد منكم…ولا نريد أن نتعبك أو نتعب أنفسنا معك، ولا نريد أن نستعمل القوّة معك…فأرحنا واسترح…هذه هي الأوراق…وهذا قلم…سأطلب لك الآن فنجان قهوة وكأس ماء وزجاجة عصير…وسأتركك وحدك…نريد منك أن تكتب لنا سيرتك الذاتيّة منذ وُلدت وحتى الآن…ونريد منك أن تكتب لنا عن علاقتك بخليل الأكتع منذ تعرفت عليه، حتى المنشور الذي أعطيته إيّاه لتوزيعه في شوارع وطرقات البلدة…فهو قد اعترف لنا بكلّ شيء، وإذا كنت جائعا فسأحضر لك الآن طعاما…فكّر بهدوء،  واكتب…واعلم أننا لا نحبّ استعمال القوّة مع أحد إلّا إذا هو أجبرنا على ذلك…وبالتأكيد فإنّك تعلم بأنّ أمن الدّولة مقدّس…ولم ولن نسمح لأحد بأن يمسّه.

حاول الأستاذ داود أن يتكلّم لكنّه منعه من ذلك…وقال له :

أنا خارج الآن وكلّي أمل بأنّك ستكتب لنا ما طلبته منك بصدق، ولن تستطيع الكذب علينا….فلدينا المعلومات كلّها…باي…قالها واستدار ليخرج….فالتقى بأحدهم وقد أحضر فنجاني قهوة…فطلب منه قائلا :

ضع واحدا للأستاذ وخذ واحدا لي في المكتب الآخر…والتفت الى الأستاذ داود وقال: آسف…لقد نسيت أن أعطيك علبة سجائر…هذه علبة سجائر Kent من نفس السجائر التي تدخّنها…ومعها علبة كبريت…قالها وخرج…أغلق الباب خلفه…شرع يراقب الأستاذ داود من المكتب الآخر…فكاميرات التّصوير الخفيّة تنقل كلّ حركة من حركاته.

تلفّت الأستاذ داود ناظرا الى أرجاء الغرفة كلّها…لم يشاهد شيئا غريبا…غرفة فارغة…لا شيء فيها سوى طاولة وكرسيّين…كرسيّ أمامها كان المحقّق يجلس عليه…وكرسيّ آخر قبالته يجلس عليه الأستاذ داود.

لم يحتسِ الأستاذ داود القهوة، فقد خاف أن يكون فيها شيء ما قد يفقده وعيه، أو يخفّف من قوّته في إدراك الأمور…التقط علبة السّجائر…أشعل سيجارة…والأفكار تتزاحم في رأسه…لكنّه قرّر أن لا يكتب شيئا.

أشعل سيجارة أخرى…المحقّق يراقبه من خلال البثّ المباشر لكاميرات التّصوير…يراقب انفعالته التي ترتسم قلقا على قسمات وجهه…قرّر أن يُدخل مفتولي العضلات الى الغرفة في حركة استعراضيّة أمام الأستاذ داود…دخل ثلاثة منهم بطريقة استفزازيّة…لم يتكلّموا شيئا…كانوا فقط ينظرون بعيون غاضبة الى الأستاذ داود….يتنافخون حقدا وكراهيّة…واحد منهم ضرب الطّاولة بقبضة يده ضربة قويّة،  كادت تكسرها….أمسك الثّاني علبة السّجائر، ومزّقها بأسنانه…مضغها بطريقة كريهة….ثمّ لفظها أرضا…أوجس الأستاذ منهم خيفة…لكنّه تظاهر بالثّبات…فليس أمامه خيارات أخرى….بينما كان الثّالث يدور حول الأستاذ كوحش يدور حول فريسته….استمرّوا في حركاتهم هذه حوالي ربع ساعة، ثم خرجوا غاضبين، والمحقّق يراقب انفعالات الأستاذ.

بعد حوالي ساعة دخل المحقّق المكتب حيث يجلس الأستاذ داود…جلس على الطّاولة…سأل: أين ما كتبته؟

–      لم أكتب شيئا.

–      لماذا؟

–      ولماذا أكتب؟

–      يبدو أنّك لا تقدّر مدى خطورة عنادك….لا بأس…سأسألك أنا وأنت تجيب…وأنا سأكتب إجاباتك.

–      متى وُلدت؟

لا جواب

–      أين درست؟

لا جواب.

–      هل أنت أخرس؟

لا جواب.

تظاهر المحقّق بالغضب وقال:

أنت الآن أمام أبي سامح….وبالتّأكيد فإنّك تعلم بأنّ هذا ليس اسمي الحقيقيّ…ولكنّهم لقبّوني بأبي سامح؛ لأنّني أتسامح مع الآخرين مهما كانوا قذرين….وإن خرجتُ من هنا فلن ترى وجهي مرّة أخرى….سترى آخرين لا يعرفون معنى التّسامح…سترى أشخاصا فقدوا أعزّاء عليهم على أيدي مخرّبين أمثالك….قلوبهم ملأى بالحقد والثأر….وعندها لا أحد غير الله يعلم ماذا سيحلّ بك…فأنصحك بالإجابة على أسئلتي وإلّا فـ (ذنبك على جنبك) ولا تنسَ أنّني يهوديّ من أصل فلسطينيّ….ولدت كما وُلد آبائي وأجدادي على هذه الأرض…وأنا أتعاطف مع الفلسطينيّين كوني عشت بينهم…لكن عندما تصل الأمور الى تهديد أمن الدّولة والمواطنين…فلا مكان للتّسامح ولا للمتسامحين…أنصحك مرّة أخرى بأن تجيب على الأسئلة كلّها…والآن.. من هم أصدقاؤك؟

تنحنح الأستاذ داود وقال: قلت لي سابقا بأنّكم تعرفون كلّ شيء عنّي…فما دمتم تعرفون فلماذا تسأل؟

أسأل لأنّني أريد أن أسمع منك مباشرة.

–      وأنا لن أجيب على أيّ سؤال من أسئلتك.

ضحك المحقّق ضحكة صفراويّة وقال ساخرا:

لا تتظاهر بالبطولة…فقد سبقك آخرون أقوى منك…وادّعوا البطولة…وعندما أحسّوا بأنّ الأمر جدّيّ، انقلبوا الى أرانب ضعيفة خلال دقائق…فلا تكن مثلهم.

سكت الأستاذ داود ولم يتكلّم شيئا….غضب المحقّق وعلا صوته صارخا :

قل لي لماذا لا تجيب؟ أعطني سببا منطقيّا.

–      إن كنت تعرف المنطق، فاعلم أنّني لن أجيب على أسئلتك، لأنّني أتعامل معكم كدولة محتلّة….ولا سيادة لكم عليّ ولا على شعبي ولا على وطني…وما عليكم إلّا الرّحيل عن أرضنا.

ابتسم المحقّق وقال ساخرا : فصيح…أكيد إنّك فصيح…فالعالم جميعه يعلم أنّنا انتصرنا في حرب الأيّام السّتة قبل سنة…وأنّنا حرّرنا أرضنا التي وعدنا بها الرّبّ والتي كان العرب يحتلّونها…والعالم كلّه لن يستطيع زحزحتنا من شبر فيها.

–      لكنّكم اعترفتم بقرارات مجلس الأمن الدوليّ…ومنها قرار 242 الذي ينصّ على انسحابكم من الأراضي التي احتللتموها.

–      مشكلتكم أنتم العرب أنّكم لا تفهمون ما تقرأون…حسب قرار 242 لن ننسحب من شبر واحد من أرض اسرائيل…وأنا هنا لست صاحب قرار سياسيّ….ولا أحبّ النّقاشات السياسيّة…مطلوب منّي أن أحقّق معك…وأن أنتزع اعترافات منك..فإن تجاوبت معي فهذا لمصلحتك، وإن لم تستجب فهناك من يعرفون كيف يجبرونك على الاستجابة، وأنت صاغر…أمّا أنّا فقد عاهدت نفسي أن لا أمارس العنف مع أحد مهما كانت جنايته…فماذا تقول؟

–      ما أردتُ قولَه قلتُه…ولا شيء آخر عندي.

يبدو أنّ عقلك لا يسعفك…أنا سأرفع يديّ عنك، وسأترك الأمر لغيري.

خرج المحقّق من الغرفة…وبعد دقائق دخل شرطيّ…قيّد يديّ الأستاذ داود خلفه…واقتاده إلى الزّنزانة….فكّ قيده ودفعه فيها…استلقى الأستاذ على البطّانيّة القذرة…وقد أنهكه التفكير….كان قلقا على خليل…لكنّ ثقته به لم تتزعزع.

في ساعات الصّباح الأولى فتح شرطيّ باب الزّنزانة…طرح تحيّة الصّباح…قيّد يدي الأستاذ الى الخلف…عصب عينيه واقتاده بأدب…ألقاه في سيّارة فيها  معتقلون آخرون…سارت السيّارة حوالي نصف ساعة…فكّوا قيود من فيها، كانوا ستّة أشخاص، وقرأ ضابط عليهم قرارا من وزير الدفاع، يقضي بإبعادهم الى الأردنّ…كانوا على حافّة جسر الّلنبي الغربيّة…أشار اليهم ضابط بالتّوجّه شرقا بينما كان عدد من الجنود يصوّبون أسلحتهم باتّجاههم…مصوّر التلفاز الإسرائيليّ يصوّر الّلحظات الأخيرة…التفت الأستاذ داود الى الضّابط وقال:

سنعود الى وطننا رغما عن أنوفكم والأيّام بيننا…أقدام المبعدين تمشي بتثاقل الى جهة الشرق، وعيونهم ترنوا الى الوطن السّليب، فاستذكر الأستاذ داود ما قاله خاتم النبيين – صلّى الله عليه وسلّم- عندما أجبره كفّار قريش على الهجرة من مكّة، والتفت إليها وقال:” إِنَّكِ  لأَحَبُّ بِلادِ اللَّهِ إِلَيَّ ، وَأَحَبُّ أَرْضِ اللَّهِ إِلَيَّ ، وَلَوْلا أَنِّي أُخْرِجْتُ مِنْكِ مَا خَرَجْتُ ” فردّد الحديث النّبويّ بصوت باكٍ ومسموع، وبكى زملاؤه المبعدون معه.

كانت الصّدمة كبيرة على المبعدين، فأن تترك زوجتك وأبناءك ووالديك وذويك، وملاعب الصّبا في الوطن، وتجد نفسك في أرض أخرى لا تملك إلّا ملابسك التي ترتديها، أمر ليس هيّنا على المرء، ويصعب تقبّله، كما كانت كبيرة على زوجاتهم وأطفالهم ووالديهم وذويهم.

في الضّفة الشّرقيّة من النّهر، استقبلهم موقع عسكريّ أردنيّ…قدّموا لهم القهوة والشّاي…وطعام الفطور….لم تكن لهم شهيّة لتناول الطّعام …احتسوا القهوة والشّاي، وأقلتهم سيّارة عسكريّة إلى عمّان، حيث استقبلهم وزير الداخليّة، وعقد بصحبتهم مؤتمرا صحفيّا، استنكر فيه عمليّات الإبعاد، واعتبرها مخالفة واضحة للوائح حقوق الإنسان، ولاتفاقات جنيف الرّابعة بخصوص الأراضي التي تقع تحت احتلال عسكريّ، كما أنّها مخالفة للقانون الدوليّ. وردّا على سؤال لأحد الصحفيّين حول تعرّضهم للتّعذيب، أجاب الأستاذ داود :

تعرّضنا للضّرب أثناء اعتقالنا من بيوتنا وحتى وصولنا لمركز التّحقيق، وهناك وضعوا كلّ واحد منّا في زنزانة نتنة كريهة الرّائحة، ولم نتعرّض لتعذيب جسديّ بل الى تعذيب نفسيّ، وتهديدات بالتعذيب والتّصفيّة، وهذا لا يعني أنّهم لا يعذّبون، لكن يبدو أنّ قرار إبعادنا كان جاهزا…ونفّذوه قبل الخامس من حزيران ومرور عام على وقوعنا تحت الاحتلال بيوم واحد، وهم يخافون من حملات اعلاميّة مضادّة إن كانت علامات تعذيب على أجسامنا ظاهرة للعيان.

نشرت محطات الإذاعة المختلفة خبر الابعاد…فهرع الأهالي الى بيوت المبعدين…ليعلنوا تضامنهم مع أسرهم، وكان أبو سالم أوّل من وصل الى بيت الأستاذ داود، وفي اليوم التالي في 5 حزيران عمّ الاضراب العام كافة المناطق المحتّلة، كما اندلعت مظاهرات في مختلف المدن والقرى والمخيّمات…قمعها جيش الاحتلال بالهراوات وبالغاز المسيل للدموع، واعتقل مئات الأشخاص.

“2”

في صباح اليوم الثُالث لاعتقاله، اقتادوا “خليل” للتّحقيق، عندما فتح الشرطيّ باب الزّنزانة شعر خليل وكأن نسيم الصّباح يضحك له، كما شعر بالهواء الكريه يندفع خارجا، كان الجوّ حارقا في الخارج، بينما كانت الزّنزانة خانقة، عبّأ رئتيه بالهواء النقيّ من خلال الشهيق المتواصل بشكل عفوي….فجسمه بحاجة الى الأكسجين …أدخلوه غرفة ينتظره فيها محقّق…يبدو في الأربعينات من عمره…ربع القامة….أشقر البشرة….عيناه زرقاوتان….الشّيب يتسلل الى صدغيه، ويضع نظّارات طبّيّة. طلب من خليل أن يجلس على الكرسيّ قبالته، تصفّح ملفّا أمامه وقال اسمي أبو تامر وسأل:

ما اسمك؟

–      خليل منصور.

–      تاريخ ميلادك؟

– 8  نيسان 1949.

–      ماذا تعمل؟

–      أنا لا  أزال طالبا…أدرس سنة أولى في كلية بير زيت.

–      لماذا يدك مقطوعة؟

–      وما شأنك بيدي؟

–      عليك أن تجيب لا أن تسأل…هل تفهم؟ لماذا يدك مقطوعة؟

–      وقعت عليها وأنا في الخامسة من عمري، وتضاعفت حالتي حتى قطعت يدي.

–      منذ حرب الأيام الستّة وحتى الآن…ماذا عملت خلال هذا العام؟

–      قلت لك بأنّني طالب في كلية بير زيت.

–      من هم أصدقاؤك؟

–      لا أصدقاء لي.

–      وهل يُعقل ذلك؟

–      ولماذا لا يعقل؟

–      قلت لك أجب ولا تسأل.

–      من هم أصدقاؤك؟

–      لي صديقة انجليزيّة اسمها ستيفاني.

ابتسم المحقّق وقال: أعلم ذلك…أنا أسألك عن صديقاتك وأصدقائك العرب؟

–      أمّي وأبي.

–      وغيرهما….من هم أصدقاؤك؟

–      قلت لك أمّي وأبي.

–      لا تتظاهر بالغباء….لك أصدقاء آخرون …من هم؟

–      هذا غير صحيح.

–      ما علاقتك بالأساتذة داود وفؤاد ومحمّد؟

–      أبناء قريتي.

–      أعلم أنّهم أبناء قريتك…وأسألك عن علاقتك بهم؟

–      لا يوجد لي علاقة بهم.

–      لماذا كنت في بيت الأستاذ داود قبل ثلاثة أيام؟

–      لم أكن في بيته.

–      أنت تكذب…كنتَ في بيته…وخرجت برزمة منشورات تحريضيّة، قمت بتوزيعها في شوارع وطرقات البلدة….وقد اعترف الأستاذ داود بذلك، كما اعترف زميلك الذي كان معك.

–      هذا غير صحيح.

أخرج المحقّق منشورا من الملفّ، ودفعه الى خليل قائلا: هذا هو المنشور الذي وزّعتموه…انظر اليه وتأكّد أنّه هو.

لم يلمس خليل المنشور، وبقي صامتا….دخل شابّان مفتولي العضلات، واحد منهما يحمل عصا لبّاديّة سميكة، والثاني يحمل سلكا كهربائيّا مغطّى بالبلاستيك …طوله حوالي متر، وسمكه سنتمتر واحد. ووقفا خلف خليل…لم يتكلّما شيئا….فقال المحقّق لخليل:

أنصحك بأن تتكلّم صدقا وإلّا……لم يتحرّك خليل من مكانه، ولم يقل شيئا…فعاد المحقّق وسأل من جديد: من هم أصدقاؤك؟

–      قلت لك لا أصدقاء لي غير أمّي وأبي.

–      وأنا قلت لك إن لم تجب بصدق فستتحمل عواقب كذبك….على كلّ زوجتي في المستشفى…ولا وقت لديّ…أريد زيارتها للاطمئنان عليها…وخرج..

ما أن خرج المحقّق من الغرفة حتى انهال الشابّان على خليل ضربا، ضرباه بأيديهما، وركلاه بأرجلهما، وعندما سقط أرضا ضرباه بالعصا الّلبّاديّة وبالسلك الكهربائيّ …خليل يتلوّى، ويصرخ ألما…وكلّما ازداد صراخه…كلما ازداد الضّرب عنفا، وازدادا ضحكا وقهقهة….كانا يضربان دون أن يسألا شيئا…فقط يضربان من أجل الضّرب….لم يعرف خليل كم مضى من الوقت عليه وهما يضربانه،…لكنّه صحا عليهما وهما يسكبان ماء باردا على وجهه؛ لإعادته الى وعيه بعد أن سقط مغمى عليه…عاد الى وعيه منهكا…لا يقوى على الحراك…واذا بالمحقّق أبي تامر الذي كان يراقب من غرفة مجاورة، حيث كانت الكاميرات تنقل له ما يجري على شاشة تلفزيونيّة، يدخل الغرفة…رأى خليلا ممدّدا متورّم الوجه فصاح بهما:

ماذا تفعلان بهذا الأكتع المسكين؟ من أمركما بضربه؟ أنا لا أسمح بهذا، وسأحاسبكما على عملكما الشّنيع هذا! انصرفا من هنا أيّها المجرمان….انحنى فوق خليل…أمسك بيده…حاول مساعدته على النهوض، فنهض خليل متثاقلا…كانت دقّات قلبه متسارعة…ويلهث بطريقة مقلقة…أجلسه على الكرسيّ، وطلب له كأس ليمون، وكأس شاي وساندويتش….وقال:

كان العرب أيام زمان(يشترون النّصيحة بجمل) وأنّا قدمت لك نصيحة مجّانيّة، بأن تقول الصّدق كي تعود الى بيتك معزّزا مكرّما، لكنّك رفضت…وحتى الآن لم تشاهد شيئا….ومن حسن حظّك أنّني عدت بسرعة، وإلّا فلا أحد غير الله يعلم ماذا كان سيحلّ بك…اشرب الّليمون والشّاي…وكل الساندويتش كي تتعافى.

نظر خليل اليه باحتقار…لم تنطل عليه حركاته، وتعجب من غروره…فهل يُعقل أن يصل به الغرور الى درجة استغباء من يحقّق معهم…أم هو جنون القوّة؟ شرب خليل كأس الليمون؛ فقد كان فمه جافا…شربه دفعة واحدة وهو يئنّ….لكنّه رفض تناول الشّاي والساندويتش…..لم يتوقّف لهاث خليل، ولم يعد قادرا على الجلوس…فسقط من على الكرسيّ أرضا…تقيّأ، وازداد أنينه…خرج المحقّق من الغرفة…وطلب من شرطيّ أن يضع خليلا في زنزانة فيها تهوية، وأن يقدّم له طعاما وماء…فوضعه الصحيّ مقلق، ولا نريده أن يموت عندنا.

تمدّد خليل على “البورش” وغفا مرغما…فقد أنهكه السّهر والقلق في اليومين الماضيين، فزاده ما تعرّض له من ضرب اعياء…نام نوما عميقا، لم يعكّر صفوه سوى الشّيخ أبيض الملابس والّلحية، فقد جاءه زائرا بعد غياب طويل…جلس أمامه مبتسما وقال:-

“ما النّصر إلّا صبر ساعة ” قالها واختفى…وكان في ذلك شحنة قويّة لدعم صمود خليل…في ساعات المساء جاءه شرطيّ…قدّم له قطعة خبز وقليلا من المربّى..لم يلمسها خليل…كان يئنّ ويرتعد جرّاء حرارة جسمه المرتفعة…أكثر من شُرْبِ الماء الذي كان يخرج من جسمه عرقا…قاده الشرطيّ الى مكاتب التّحقيق…أوقفه أمام شاحط دَرَجٍ لا دَرَجَ عليه…دفعه من الخلف فتزحلق حتى نهاية الدَّرَجِ…لم يستطع النّهوض، وبقي يئنّ مكانه…نظر حواليه فوجد نفسه في قاعة كبيرة…نورها خافت…جدرانها وسقفها بدون ” قصارة ” فيها نعجة معلقة بكلّاب من فكّيها السفليّين…أمامها رجلان يحملان السكّاكين والبلطات…أجسامهم ضخمة…ملابسهم قذرة….وعلى مقربة منهما طاولة عليها هيكل عظميّ لإنسان…لم يتبيّن إن كان الهيكل العظميّ والنّعجة دُمى أم حقيقة…تقدّم منه أحدهما…أمسك بيده وسحبه بقوّة دون كلام…فوجد نفسه يقف مرتعدا، تقدّم منه الآخر شاهرا البلطة؛ يريد أن يهوي بها على رأسه…وفجأة ظهر المحقّق أبو تامر…وقف بينه وبينهما…وصاحب البلطة يحاول التّقدّم باتجاه رأس خليل، إلّا أن المحقّق حال دون ذلك، ومع ذلك هوى بظهر البلطة على رأس خليل…فشجّ رأسه؛ وسالت الدّماء منه…أمسك المحقّق بخليل وهرب به باتجاه بيت درج آخر، وخرج به…وهو يسأل:

من أتى بك الى هؤلاء؟ إنّهم لا يعرفون إلّا القتل والسلخ والتّقطيع…وأنت محظوظ لأنّني جئتك في الوقت المناسب، وأنقذتك من بين أيديهم….أخذه إلى غرفة التّحقيق…ولاحظ لهاثة المتزايد وجسده المرتجف…فقال له ساخرا:

أراك ترتجف…هل تريد تدفئة؟ ازداد أنين خليل…شعر بأسى شديد، وتذكّر ما قاله له الشّيخ ذو الملابس والّلحية البيضاء؛ فازداد عزيمة…لاحظ المحقّق العرق المتصبّب من جسد خليل…تقدّم منه، وضع يده على جبينه…فتأكّد أنّه يعاني من ارتفاع حرارة جسمه، وهذا سبب ارتجافه….واعتبرها فرصته كي يضغط عليه لانتزاع اعتراف منه…أحضر كأس ماء بارد، وقدّمه لخليل…وقال:

لا أريدك أن تموت يا خليل…ولا تغترّ بقدراتك…فأنت شابّ ضعيف البنية، ولا قدرة لك على الاحتمال…أنت بيد واحدة، وأخشى أن يكسروا يدك الأخرى، أو أن يقطعوها…وبعدها ماذا ستستفيد من فلسطين؟ أو ماذا ستستفيد فلسطين من شخص بلا يدين…أعلم أنّك انسان مضلّل…وأعلم أنّ هناك أشخاصا استغلّوك ليحقّقوا مكاسب شخصيّة على ظهرك، وهذا أمر لا يقبله عاقل مثلك…ساعدني حتى أساعدك…وأنا أعلم أنّك انسان ذكيّ، وتدرك الأمور جيّدا…قل لي من أصدقاؤك؟ وعد الى بيتك الآن….هل هذا صعب عليك؟

لم يجبه خليل…ولم يُعِرْهُ انتباها….تركه المحقّق، وخرج من الغرفة…دخل عليه الشابّان الّلذان ضرباه في ساعات الصّباح…أمسك واحد منهما بيده…وضع السّلك الكهربائيّ بين أصابعه…وهوى الآخر بضربة قويّة عليها…صرخ خليل من شدّة الألم…وشعر أنّ كلّ عقدة من أصابع يده قد انفلتت من مكانها…ولم يعد يسيطر على حركة أصابعه وكفّ يده…تركاه وانصرفا دون كلام…فجاء شرطيّ وأعاده الى زنزانة أخرى…فيها شخصان عربيّان ملتحيان…وجدهما يصليّان، ويدعوان الله بالفرج القريب…استقبلاه بترحاب زائد…تعاطفا معه…وأبديا حزنهما عليه…وعندما أراد أن يقضي حاجته لم يستطع حلّ بنطاله، فهو لم يعد قادرا على التحكم بأصابعه التي تؤلمه كثيرا…تقدّم منه أحدهما وحلّ له البنطال وأدخله الى الحمّام، وألبسه إيّاه عندما انتهى…جلس واحد عن يمينه، والثّاني عن يساره، فقال أحدهما:

أهلا يا بطل…نحن فخورون بأمثالك الّذين يصمدون أمام المحقّق….وكي يطمئنّ ثوارنا وأهلك في الخارج، فإنّنا نطلب منك أن تزوّدنا بالمعلومات الكافية عنك..فإلى أيّ تنظيم تنتمي؟ ومن معك في التّنظيم؟ ومن جنّدك في هذا التّنظيم؟ وما هي الأعمال التي قمتم بها؟…نريد هذه المعلومات لنهرّبها بطريقتنا الخاصّة الى الخارج، كي يأخذ الرّفاق والأخوة احتياطاتهم.

نظر خليل إليهما تنهشته الوساوس حول أسئلتهما، فقال بهدوء تامّ:

–      أنا لا أعرف شيئا ممّا تقولانه…فماذا تقصدون بالتّنظيمات وغيرها؟

–      نقصد هل أنت مع فتح أم مع الجبهة أم مع الحزب؟

–      لا مع هذا ولا مع ذاك…أنا مع دراستي.

انتفض الآخر من مكانه؛ يريد استفزاز خليل فقال:

إذا أنت مدسوس على المناضلين…أنت جاسوس…أشفقنا عليك، وساعدناك كي تدخل الحمّام، ظنّا منّا بأنّك مناضل، وهذا ما تقابلنا به؟ يا للعجب!

ابتسم خليل رغم حرارة جسده المرتفعة….ولم يتكلّم….فسأله أحدهما:

هل تضحك علينا أيّها الأكتع الجاسوس؟

لم يجب خليل….لكنّه كان يغفو ويستيقظ تحت تأثير ارتفاع حرارته…فقال أحدهما لزميله:

يبدو أنّه مريض فعلا…أعطه حبّتي دواء لتخفيف حرارته…وبعدها سيكون لنا معه شأن آخر إن لم يعترف لنا بكلّ شيء….تناول خليل حبّتي الدّواء ونام….استيقظ في ساعات الصّباح على ضربات الشّرطة على الباب….لقد جاء اثنان منهما لتعداد المعتقلين…وقف خليل وعاد الى فراشه بسرعة….فقال أحدهما للشّرطيّين:

إنّه مريض وعندما يتعافى سنحصل منه على المعلومات المطلوبة كلّها…وإن لم يتجاوب معنا فسيندم على اليوم الذي ولدته أمّه فيه…كان خليل يتظاهر بالنّوم لكنّه سمع كلّ شيء…فتيقّن بأنّهما جاسوسان، يحاولان الايقاع به….تقدّما منه…وضع أحدهما يده على جبينه يتحسّس حرارته…فوجدها قد انخفضت…وطلب منه أن يتناول افطاره كي يساعده على الصّمود…أكل خليل وذهب لقضاء حاجته…ساعده أحدهما على حلّ البنطال…كما فتح له صنبور الماء كي يشرب…فعل ذلك وهو يشتم اليهود، ويشتم الاحتلال…ويشتم اليوم الذي وقعنا فيه تحت الاحتلال…يشتم ويحوقل ليوهم خليل بأنّه ضحيّة مثله، وأنّه متعاطف معه.

عندما عاد خليل الى مكانه…قاما وتوضأ كلّ منهما، وأقام أحدهما الصّلاة في حين وقف الثّاني إماما…وقبل تكبيرة الاحرام التفت(الإمام) الى خليل وسأل:

لماذا لا تقوم للصّلاة يا أخي الكريم؟ إذا أردت سأساعدك على الوضوء.

فردّ خليل عليه:

أنا لا أصلّي…

فقال “الإمام”: هداك الله يا أخي …فالصّلاة عمود الدّين.

صلّيا وسبّحا، ودعيا الله بأن يفرّج الكرب، وبأن ينصر الاسلام والمسلمين…ورفع أحدهما صوته داعيا:

اللهم يا الله فرّج كرب أخينا خليل منصور…اللهم اشف يده الوحيدة يا الله، واكلأه بعين رعايتك…اللهم إنّنا نحمدك ونشكرك بأن سخّرتنا لخدمته، لا نريد إلا رحمتك ورضاك يا ربّ العالمين….تمتم ومسح وجهه بيديه وهو يردّد: آمين…آمين يا مجيب الدّعاء يا رحمن يا رحيم.

وعلى “برشه” كان خليل يدعو الله في سرّه قائلا: اللّهمّ احمني من شرور هذين الخائنين…اللهم إنّك تعلم أنّ ” كلب الشيخ أوسخ من الشيخ.”

جلسا بجانب خليل وقال كبيرهم : اعطنا معلومات عنك وعن نضالاتك…كي نطمئن اخوتنا ورفاقنا في الخارج…وكي يتحقّقوا من أنّ موقفك مشرف.

فردّ عليهم بهدوء: إن كانت لكما اتّصالات مع الخارج، فأوصلا خبرا لوالدي بأنّني بخير…وأن لا شيء عندي…وما أنا معتقل إلّا لمجرّد شبهة غير صحيحة…وبعد أيام سيطلقون سراحي ولا داعي للقلق عليّ.

فصاح به أحدهما: ومن لا يقلق في أوضاع كهذه؟ هل أنت مجنون أم جاسوس؟

التفت إليه خليل ولم يجب، فازداد الرّجل صراخا وأمسك بيد خليل، وأخذ يضغط على أصابع يده…صرخ خليل من شدّة الألم…تلوّى مكانه…وتحيّن الفرصة ورفع قدمه، وضربه بها على وجهه بقوّة، دافعا إيّاه الى الحائط المقابل…نزلت الدّماء من أنفه…فعاد الى خليل، وهجم عليه بشراسة…في حين أخذ الشخص الآخر دور العاقل، فأمسك بزميله وهو يردّد:

وحّد الله يا محمّد…فصاحبنا مناضل طيّب…وليس جاسوسا كما تتوهّم…وسيثبت لنا الآن أنه مناضل أكثر منّي ومنك…والتفت الى خليل سائلا:

أليس كذلك يا خليل؟….فلم يرد خليل. واذا بالشرطيّ يفتح الزّنزانة ويقتاد خليلا، وهو يتغامز مع الرّجلين.

وجد خليل أمامه محقّقا جديدا…ما أن رأى خليلا حتى صاح به مستهزئا:

هل أنت خليل الأكتع؟

نظر خليل اليه ولم يتكلم،  فصاح به: لا وقت لديّ…ولا رحمة عندي لأحد…أريد اجابات صادقة على كلّ سؤال، واذا لم تجب فأنا لا أحبّ تعذيب الآخرين …رصاصة واحدة تكفي…وكلب آخر يذهب الى الجحيم…أخرج مسدّسا ووضعه أمامه على الطّاولة وسأل:

من هم أصدقاؤك أيّها الأكتع؟

ردّ خليل بهدوء: أمّي وأبي.

صاح المحقّق وهو يصفع وجه خليل بقوّة : يا ابن الشرمو…………هل تستهزئ بي؟ أسألك من أصدقاؤك؟

لم يتكلّم خليل…..فحمل المحقّق المسدّس، وصوّبه إلى جبين خليل، وسأل:

ماذا فعلت مساء الاثنين الماضي في بيت الاستاذ داود؟

–      لم أكن في بيته.

لطمه بكعب المسدّس على أمّ رأسه وهو يصرخ: كيف لم تكن في بيته وهو من أخبرنا بذلك؟ كما أن صديقك الذي وزّع المنشورات معك أخبرنا بذلك.

–      قلت لك بأنّ هذا الكلام غير صحيح.

–      هل أنت على استعداد لمواجهة الأستاذ داود وتكذيبه؟

–      نعم أنا على استعداد.

–      أنا خارج الآن لاحضاره….خرج من الغرفة وذهب الى غرفة مجاورة، وأخذ يراقب حركات خليل….أسند خليل رأسه الى الحائط الذي على يمينه…أغمض عينيه وتظاهر بالنّوم…لكنّه غفا حقيقة، فقد كان مرهقا…وعندما تأكّد المحقّق من ذلك طلب من شرطيّ أن يأخذه الى زنزانة صغيرة…ففعل.

بعد ساعات من مكوثه في الزّنزانة…لم يستطع شرب الماء…ولم يستطع افراغ مثانته…فهو لا يتحكم بحركة أصابع يده التي تؤلمه كثيرا…اقترب من باب الزّنزانة وأخذ يركل بابها بقدمه اليمنى، ويصرخ بأعلى صوته….جاءه شرطيّ…فتح نافذة باب الزّنزانة الصّغيرة وصاح به: اخرس…لماذا تصرخ وتضرب الباب؟

–      أريد أن أفرغ مثانتي.

–      ومن يمنعك من ذلك…افرغ مثانتك….قالها وأغلق النّافذة وانصرف….فعاد خليل يضرب الباب، ويصرخ من جديد…كان يتلوّى على نفسه محاولا حبس البول حتى يأتي من يساعده على حلّ بنطاله….تلوّى وتلوّى وتألم حتى نفذ صبره…وانطلق البول خارجا يبلّل رجليه وبنطاله…وينساب على أرض الزّنزانة كأفعى…ينساب على نفس المكان الذي يجلس خليل وينام عليه….بقي واقفا….سقطت الدّموع من عينيه ثأرا لكرامته المهدورة…لكنّه شعر بأنّه انتصر، وقال في نفسه:(بيت الظّالمين خراب) وهذه بلاد مقدسة ” لا يُعمّر فيها ظالم.”

لم يتناول طعام الغداء على رداءته ولا طعام العشاء…فقد كان خائفا من كيفيّة قضاء الحاجة…فارتأى أن لا خيار أمامه سوى الامتناع عن تناول الطّعام.

في صباح اليوم التّالي اصطحبه شرطيّ الى غرفة التّحقيق..أبدى تقزّزه من رائحة خليل الكريهة..أخبره خليل بأنّه يريد قضاء حاجته..فردّ عليه الشرطيّ:

ومن يمنعك؟ ولماذا تطلب منّي ذلك؟ ألم تشاهد الدّلو المخصّص لذلك في زنزانتك؟

فأجابه خليل بأنّه لا يقوى على حلّ بنطاله….فصاح به الشرطيّ قائلا:

وهل تحسبني baby sitter – مربيّة أطفال- أيّها القذر؟

أدخله الشرطيّ الى غرفة التّحقيق، فصاح خليل بأنّه يريد قضاء حاجته، وأنّه لا يقوى على حلّ بنطاله…فطلب المحقّق من الشرطيّ أن يعيده الى غرفة فيها “معتقلون أمنيّون” كي يساعدوه على حلّ بنطاله…وأوصاه بأن ينتظره؛ كي يعيده الى غرفة التّحقيق دون أن يسمح له بالحديث مع أحد.

في غرفة التّحقيق أخبره المحقّق أن قاضي محكمة الصلح قرّر توقيفه أسبوعا آخر على ذمّة التحقيق…ولوّح له بقرار المحكمة…ووضعه في الملف…ثم قال:

هل يعجبك يا خليل ما أنت فيه؟ هل تشمّ رائحتك النّتنة؟ ألا تريد أن تريحنا وأن تستريح؟…أجب على الأسئلة وأنا أعدك بالافراج عنك فورا.

لماذا كنت في بيت الأستاذ داود قبل اعتقالك بيوم؟

–      لم أكن في بيته؟

–      بل كنت في بيته، وهو من زوّدك بالمنشورات التحريضيّة.

–      هذا غير صحيح.

–      بل صحيح 100%.

–      وأنا أقول لك بأنّه كذب 200%

دعنا من هذا الموضوع، وأخبرني من هم أصدقاؤك في كليّة بير زيت؟

–      لا أصدقاء لي.

أيعقل أن تدرس عاما كاملا في كليّة جامعيّة، وأن لا تتّخذ صديقا فيها؟

–      قد يعيش المرء عمره دون أن يكون له صديق.

–      من هم أقرب زملائك إليك؟

–      جميع الطلبة.

–      ما هي أسماؤهم؟

–      سجل أسماء الطلبة جميعهم.

احتدّ المحقّق غضبا وسأل: أيّ المعلّمين في الكليّة قريب الى قلبك؟

–      جميعهم.

–      هل أفهم من كلامك أن لا أصدقاء لك  سوى ستيفاني تلك الفتاة الانجليزيّة.

–      نعم.

–      ما مدى علاقتك بها؟

–      هذه أمور خاصّة لا تعني أحدا سواي.

–      سأشيع في قريتك وأخبرهم بأنّك داعر تمارس الدّعارة مع فتاة انجليزيّة.

ردّ خليل دون مبالاة: اذهب الآن وأخبرهم.

–      هل تتحدّاني؟

–      أنا لا أتحدّى أحدا.

اسمعني جيّدا قال المحقّق…يبدو أنّك لا تفهم مصلحتك…إن لم تجبني بصدق، فستبقى على هذا الحال الى أن تموت.

–      لقد أجبتك بصدق.

–      أنت تكذب في كلّ شيء…قالها وخرج من الغرفة…فدخل ثلاثة شباب مفتولي العضلات، وانهالوا على خليل ضربا وركلا….ولم يصحُ على نفسه إلا وهو متكوّر على نفسه في زنزانة يئنّ من شدّة الألم.

تركوه في الزّنزانة، ووضعوا معه سجينا عربيّا جنائيّا اسمه فايز….اعتقلوه بعد أن ضبطوه متلبّسا بسرقة محلّ تجاريّ في شارع يافا…أشفق السّجين الجنائيّ على خليل، وساعده في كلّ شيء…ساعده في تناول طعامه وشُربِ مائه…كما ساعده في حلّ بنطاله عند قضاء الحاجة….بل إنّه بكى حزنا على حالة خليل….بقيا ثلاثة أيّام دون أن يستدعي المحقّق خليلا، لم ينغّص وجودهما سوى سماع أصوات رجال ونساء يبكون تحت التّعذيب…وأصوات معذّبيهم وهم يصرخون بهم طالبين منهم الاعتراف….فقال فايز لخليل:

هذه الأصوات مسجّلة على اسطوانة…رأيتهم يشغلّونها عندما أوقفوني أمام مكتبهم لمدّة ساعتين قبل أسبوع…إنّهم يريدون تحطيم المعتقلين الأمنيّين نفسيّا…فلا تسأل عنهم.

ابتسم خليل لفايز، وحزن عليه في سرّه كونه يلجأ الى السّرقة والمخدّرات….لكنّه كان واثقا من صدقه فقال له:

عندما تخرج أريدك أن تذهب الى أهلي في جبل المكبر، وأن تخبرهم بأنّني بخير، وقل لهم بأن يوكلوا لي محاميا- لم يكن يعلم بأنّهم قد أوكلوا له محاميا منذ اليوم الثّاني لاعتقاله، لكنّهم لم يسمحوا لمحاميه بلقائه بحجّة عدم انتهاء التّحقيق-.

استدعوا خليلا للتّحقيق…ولم يكن هناك جديد…. الأسئلة نفسها والأجوبة نفسها والتّعذيب نفسه…لكنّه أقلّ قسوة …وبعد مرور سبعة عشر يوما أخرجوا “خليل” الى محكمة الصّلح لتجديد توقيفه…وجد محاميته فليتسيا لانجر في انتظاره أمام قاعة المحكمة…لم يستطع مصافحتها لأنّ كفّ يده وأصابعها تؤلمه…شاهدت أصابعه متورّمة، وأنّه لا يستطيع تحريكها… وشاهدت آثار الضّرب على وجهه وظهره وصدره وبطنه، فأبدت حزنها على ذلك وقالت له:

لا تقل لهم شيئا غير ما قلت.

فقال لها: لم أقل لهم شيئا.

فردّت عليه: ممتاز…ستتحرّر قريبا.

دخلا الى قاعة المحكمة، فتكلّم المدّعي العامّ وقال:

سيّدي القاضي هذا مخرّب شرس، قام بأعمال تخريبيّة وأزهق أرواحا، وسيواجه عقوبة الصّلب، وبما أنّه لا يوجد في اسرائيل عقوبة الاعدام، فسيواجه السّجن مدى الحياة…وأطالب بتمديد توقيفه خمسة عشر يوما حتى استكمال التّحقيق معه.

وتكلّمت محامية الدّفاع بعد أن سمح لها القاضي فقالت:

سيّدي القاضي…ما قاله زميلي المدّعي العام ليس صحيحا، فلم توجه تهمة القتل لموكّلي، وهو يتعرّض لتعذيب قاس، انظر الى يده الوحيده…تقدّمت الى خليل وأمسكت بيده من المرفق ورفعتها…كما رفعت قميصه ليرى القاضي جسمه…إنّني أطالب بالافراج عن موكّلي تحت الكفالة، حتى يوم المحكمة إن كانت هناك تهمة…كما أطالب بعرضه على طبيب فورا وبوقف تعذيبه.

فردّ المدّعي العام قائلا: هؤلاء المخرّبون هم من يعذبون بعضهم بعضا، لتظهر آثار التّعذيب عليهم لتشويه ديموقراطيّتنا التي يشهد بها العالم أجمع.

فصاحت به المحامية كي يتوقف عن هذه الأكاذيب….غير أن القاضي أنهى الجلسة بتوقيف خليل خمسة عشر يوما أخرى.

اقتادوه من قاعة المحكمة مقيّدا الى غرفة التّحقيق، شعر بنوع من الرّاحة بعد لقاء محاميته، سأله المحقق عمّن أوكل له المحامية لانجر؟ فأجابه:

أبي.

–      ومن أين يعرفها أبوك؟

–      لا أعلم.

–      هل تعرفها من قبل؟

–      لا.

–      وهل تعرف أنّها يهوديّة شيوعيّة؟

–      لا يهمّني ذلك.

–      هذه المحامية تهاجم الحكومة…ودفاعها عن موكّليها يجلب لهم أحكاما عالية، ونحن على استعداد أن نوكّل لك محاميا عربيّا بدون مقابل إذا ألغيت وكالتك لهذه المحامية الشيوعيّة.

لم تنطل الخديعة على خليل، بل زادته اصرارا على التّمسك بالمحامية لانجر، فردّ على المحقّق قائلا:

سأبقى على المحامية التي اختارها أبي لي.

–      لكن هذا ليس في مصلحتك.

–      وأنا لا أستطيع مخالفة رأي أبي.

–      ماذا قالت لك المحامية؟

–      ما قالته مسجّل في ملفّات المحكمة.

–      ألم تقل لك لا تعترف لهم بشيء؟

–      لم تقل.

–      الشرطيّ سمعها….على كلٍّ هي ضَرّتك، وستضرّ بك ولن تنفعك…فهي لا تعاني مثلك….ما علينا…ألا تريد أن تقول لنا الحقيقة؟

–      قلت لكم الصّدق…لكنّكم ترفضون التّصديق.

–      أنت تكذب…ونحن نعرف أنّك تكذب…ونعرف عنك كلّ شيء.

–      إذا لماذا تسألونني ما دمتم تعرفون كلّ شيء؟

–      نريد اعترافك الشخصيّ.

–      ما أعرفه قلته لكم.

–      لكنّك لم تقل شيئا.

–      بل قلت كلّ ما أعرفه.

–      أأفهم من هذا أنك مُصرّ على أن تبقى على عنادك؟ وهذا سيكلفك ثمنا غاليا…وإذا ما تركتك الآن…فالله وحده من يعلم بالّذي سيجري لك.

–      أنا لست عنيدا، لكنّكم أنتم لا تصدّقون.

صاح المحقّق: أنت أحمق…لا وقت لديّ كي أضيّعه معك…أنا  ذاهب لأعمالي ولا ردّك الله.

بقي خليل في غرفة التّحقيق قلقا خائفا…تذكّر والديه، واستذكر حنان والدته الجارف…فدمعت عيناه عندما تذكّر دموع والدته التي تنهمر عندما يصيب أحد أبنائها أيّ سوء مهما كان بسيطا…وتمنّى لو يستطيع أن يراها كي يطمئنها عليه…ودارت في ذاكرته لقاءاته باستيفاني صديقته الانجليزية….استذكر أيّامه في المدرسة وكليّة بير زيت، وفجأة دخل عليه ثلاثة رجال يتطاير الشّرر من عيونهم، أحدهم يحمل حبلا، والثاني يحمل أسلاكا كهربائية، قاموا بتعرية خليل، لم يتركوا من ملابسه سوى سرواله الداخلي، أجلسوه على كرسيّ معدنيّ، لفّوا الحبل على جسده، وثبّتوه على الكرسيّ، أدخلوا الأسلاك في”ابريز”الكهرباء، ثبّتوا في رأس الأسلاك الخارجيّ ما يشبه سمّاعة الطّبيب التي يفحص بها المرضى…اقترب منه أحدهم وقال:

أمامك دقيقة واحدة عليك أن تعترف خلالها بكلّ شيء، وإلّا سنصعقك بالتّيّار الكهربائيّ لتموت أو لتصاب بالجنون، وفي كلتا الحالتين سنرتاح منك، ونحن جادّون بما نقول، وسأريك تجربة بسيطة لتتأكّد من أنّنا جادّون فيما قلته لك، أمسك بطرف السّلك الكهربائيّ، ولمس به ساق خليل اليمنى….انتفض خليل وصرخ من شدّة الألم، فقد سرى التّيّار الكهربائيّ في جسده…تعالت ضحكاتهم الهستيريّة القبيحة…تقدّم أحدهم منه وقال:

تكلم وإلّا سنواصل…لم يتكلّم شيئا…تلوى ألَما فانقلب به الكرسيّ، فتعالت ضحكاتهم من جديد، لم يتكلّم شيئا….  رفعوه والكرسيّ لحالة الجلوس….دخل شخص نحيف طويل القامة كريه المنظر، يرتدي مريولا أبيض، ويضع على رقبته سمّاعة طبيب، رحبّوا به، وقال أحدهم له بالعربيّة:

لو سمحت يا دكتور حدّد لنا مكان قلب هذا المخرّب حتى  نصعقه بالكهرباء مرّة واحدة، ليموت ونرتاح منه ونريحه، فنحن لا نحبّ التّعذيب.

تقدّم الرجل من خليل باسما، أخرج من جيبه قلما…وضع السّمّاعة على صدر خليل من الجهة اليسرى، ثم رسم دائرة بالقلم وهو يقول: القلب تحت هذه الدائرة تماما، ثمّ فعل الشيء نفسه من الخلف على ظهر خليل، وقبل أن ينصرف قال:

أنا كطبيب واجبي الانسانيّ يحتم عليّ أن أحافظ على حياة البشر، وبهذا أستأذنكم بأن تعطوا هذا المسكين فرصة كي يعطيكم ما تريدونه منه، حفاظا على حياته بدلا من أن تقتلوه، فمن حقّه أن يعيش….وتقدّم من خليل وقال:

أنا أكفل بأن يطلقوا سراحك فورا إذا أجبت على أسئلتهم بصدق، وسأقدّم لك العلاج الّلازم، وسأوصلك بسيّارتي الى بيتك.

لم يتكلم خليل شيئا، ورغم ألمه الشّديد، فقد كان على قناعة تامّة بأنّه أمام تمثيليّة تراجيديّة، البطل الضحيّة فيها هو نفسه، وحديثهم بالعربيّة أكّد له ذلك، وأنّ في انتظاره وجبة جديدة من التّعذيب لا يعلم إلّا الله متى ستنتهي؟ وكيف؟ لكنّه لا يزال مصرّا بأن لا خيار أمامه سوى الصّبر والصّمود في هذه المحنة القاسية، ولتكن النّتائج ما تكون، وما الحياة إلّا رحلة قصيرة نهايتها الموت.

تقدّم منه الرّجل الذي يزعم أنه طبيب وسأل:

ماذا قلت يا فتى؟

لم أقل شيئا ردّ خليل بانكسار وضعف.

–      أعلم أنّك لم تقل شيئا…ولكنّني أنصحك بأن تقول ما عندك كي تنقذ حياتك.

–      لقد قلت ما عندي لكنّكم لا تصدّقون.

–      أنت تكذب…وأنصحك مرّة أخرى بأن تقول الصّدق قبل أن أخرج من هنا، فلم تعد لك خيارات…فأنت أمام طريقين قصيرتين جدّا، واحدة توصلك الى النّجاة، والثانية الى الموت، فأيهما تختار؟

نظر إليه خليل نظرة ازدراء ولم يقل شيئا…..خرج الرّجل متظاهرا بالغضب، فتقدّم أحدهم من خليل… عصب عينيه وهو يقول:

لا أريدك أن ترى كيف ستموت فهذا حرام.

رغم آلام خليل الجسديّة والنّفسيّة إلّا أنّه تساءل في سرّه إذا ما كان هؤلاء الوحوش البشريّة يعرفون الحلال والحرام؟ أو أنّهم حتى يعرفون الله. ودعا الله بأن يخلّصه من هذه الورطة الّلعينة….وإذا بلسعة كهربائيّة سريعة في ساقه، فصرخ من شدّة الألم، فقد سرى التّيّار الكهربائيّ في جسده، وتعالت الضّحكات الشّامتة…وبينما خليل يئنّ ألما شعر بتيّار كهربائيّ خفيف جرّاء لسعة كهربائيّة جديدة على صدره… فسأله أحدهم: هل ستعترف أم تريدنا أن نواصل عملنا؟

لم يجبه خليل الذي ارتفع أنينه ألما….فصفعه أحدهم على وجهه وهو يسأل:

ألا تسمع يا ابن الشر..م…و..؟ ثم قال بالعربيّة لزملائه:

انا أنصح بعدم قتله ففي ذلك راحة له، وأقترح ضرب دماغه بالتيّار الكهربائيّ، فسيجنّ فورا، وبعدها سنطلق سراحه مجنونا لا علاج له، وبهذا سيصبح أضحوكة للآخرين….أعطوه دقيقة لتغيير موقفه، وإذا بقي على عناده…اصعقوا دماغه بالكهرباء.

لم يستبعد خليل أيّ عمل شرّير منهم، فهو يعرف إيغالهم في عالم الجريمة، لكنّه مستعدّ- رغم معاناته الشّديدة- لتقبّل الاحتمالات كلّها بما فيها الموت، بل إنّه تمنّى الموت للخلاص ممّا هو فيه، لكنّه كان يخشى أن يكون سببا في أحزان  ستصيب والديه إذا ما حصل له مكروه، وفجأة تقدّم أحدهم بالأسلاك الكهربائيّة من صدغيه، شعر ببرودة الأسلاك، ولم يشعر بالتيّار الكهربائيّ، فربما لم يكن تيّار هنا، أو أنّه خفيف جدّا، بعدها شرع أحدهم يضربه على رأسه بالأسلاك وهو يردّد:

هل جننت يا ابن الزّانية أم أنّ رأسك رأس حمار؟

تركوه على الكرسيّ حوالي ربع ساعة… تقدّم أحدهم منه…رفع قدمه اليمنى، وداس بها خصيتي خليل، ضغطهما بحذائه مستمتعا بصراخ خليل من شدّة الألم، بعدها فكّوا الحبل عنه، وساعدوه على ارتداء ملابسه…أعادوه الى الزّنزانة، وتركوه مع آلامه وأحزانه.

بعد اثنين وثلاثين يوما…حرّك خليل أصابع يده…واستطاع استعمالها مع ألمٍ خفيف…جاؤوه صباحا..قيّدوا رجليه، عصبوا عينيه واقتادوه الى سيّارة عسكريّة، ربطوا يده بحديد السيّارة…كان في السيّارة معتقلون آخرون لم يتبيّن مَنْ هم؟ كانوا مبطوحين على ظهورهم والعصيّ تنهال عليهم…ألقوا عليهم بطّانية وقالوا لهم:

من يتحرّك أو يتكلّم فلا يعتبنّ إلّا نفسه…سارت السيّارة بهم حوالي ساعة وتوقفت…أنزلوهم واحدا واحدا…وجد خليل نفسه في غرفة بابها خشبيّ مغلق… فيها سريران معدنيّان يفصل بينهما طاولة صغيرة، وفيها تلفاز معلّق على الجدار قرب الباب….. بعد أن حلّوا القيود من قدميه…وحلّوا العصبة عن عينيه….تفقّد الغرفة…وراودته أفكار كثيرة…فهو لا يعلم أين هو الآن؟ ولا ماذا يريدون منه في هذا المكان؟ لكنّه صمّم أن لا يغيّر من موقفه شيئا…بعد حوالي ساعة فتح البابَ رجلٌ طويل القامة…أسمر البشرة، شاربه كثّ أسود الشّعر، يرتدي بدلة سوداء وربطة عنق حمراء على قميص أبيض، ويرتدي كوفيّة حمراء مهدّبة، صافح خليلا مرحّبا وسأل: ما اسمك؟

–      خليل منصور.

–      أهلا بك…هل أنت بدويّ؟

–      نعم أنا بدويّ.

فقفز الرّجل مرّحبا مرّة أخرى وابتسامة عريضة تعلو وجهه وقال:

أنا بدويّ مثلك، اسمي ابراهيم…وسعيد جدّا بلقائك…وفَرِحٌ لأنّني رأيتك…وضعك لا يعجبني…سأحضر لك الآن ملابس جديدة كي تستحمّ، وتغيّر ملابسك القذرة هذه، وسأحضر لك طعامَ غداءٍ يليق بك يا ابن العمّ، فأنت ضيفي…خرج الرّجل وأغلق الباب خلفه…لكنّ خليلا دعا الله في سرّه قائلا:

اللهمّ استرنا من”ابن العمّ” هذا…فحتما وراءه مصيبة مؤكّدة…عاد الرجل بعد أقلّ من خمس دقائق يحمل ملابس داخليّة وبدلة عسكريّة، وقطعة صابون…قاد خليلا الى حمّام فيه “دشّ”باب الحمّام فوقه فراغ بارتفاع حوالي 30 سنتمتر…أعطاه الملابس، وطلب منه أن يضع ملابسه فوق الباب كي يأخذها للغسيل…استحمّ خليل…وشعر براحة والمياه تنساب على جسده ….استمرّ تحت الدّشّ أكثر من ساعة…وراودته وساوس كثيرة حول الملابس العسكريّة، فقرّر عدم ارتدائها مهما كلّف ذلك، وفكّر بأنّ هناك محاولة لاغتياله…فربّما سيطلقون عليه الرّصاص من الخلف وهو في اللّباس العسكريّ، وسيبرّرون قتله بأنّه حاول الهرب بلباس جنديّ….لكن “ابن العمّ الذي يدّعي البداوة” أعاد اليه ملابسه نظيفة مكويّة…وضعها له فوق الباب وقال:

أسرع يا ابن العمّ فالغداء جاهز…ارتدى خليل ملابسه وهو مدهوش من كيفية غسل الملابس وتجفيفها وكيّها بهذه السرعة، فلم يسبق له أن رأى أو سمع عن آلات التّجفيف من قبل…خرج فوجد ” ابن العمّ ” ينتظره…قاده الى غرفة فيها طاولة طعامٍ عليها صحنان، بجانب كلّ صحن شوكة، ملعقة وسكين، وجاءت امرأة حسناء بلباس عسكريّ…وملأت صحن خليل بالأرزّ، ووضعت قليلا منه في صحن ” ابن العمّ “: ثمّ جاءت بصحن آخر فيه قطعتا لحم خروف تزنان أكثر من نصف كيلو، ووضعته أمام خليل، وما يعادل نصفها أمام ” ابن العمّ “..ثم وضعت صحني مَرَقِ خضار… وزجاجتي كولا وعصير برتقال، وزجاجة ماء مثلج…سعة الواحدة لتران…وصحن فواكه كبيرا…رحّب “ابن العمّ ” بخليل قائلا: أنت ضيف عزيز عليّ…وأعلمُ أنّهم لم يقدموا لك طعاما لائقا وكافيا في الفترة السّابقة….فكُلْ كما تشاء يا ابن العمّ…

وبعد الغداء قدّمت الحسناء لهما كأسي قهوة سوداء كبيرين، بعد أن سألتهما عمّا يريدان احتساءه قهوة أم شايا؟ فأحال “ابن العمّ ” الاجابة لخليل…فاختار القهوة.

أكل خليل حتى الشّبع مع أنّ التفكير بما وراء هذا الطّعام قد أرهقه…عاد به “ابن العمّ ” الى الغرفة وقال له:

هذه غرفتي يا ابن العمّ…سننام أنا وأنت فيها…بامكانك مشاهدة التّلفاز كما تشاء…شاهِدْ محطّة التلفاز الأردنيّة أو الاسرائيليّة كما يحلو لك…وأدار “ابن العمّ ” التّلفاز على المحطّة الأردنيّة …صعق خليل عندما رأى بعد نشرة أخبار الثّانية ظهرا مقابلة مع الأستاذ داود، يتحدث فيها عن قسوة الابعاد…ويؤكّد فيها أنّ الاحتلال سينتهى حتما، وأنّه سيعود الى وطنه….لم ينتبه ابن العمّ بأنّ خليلا قد تفاجأ بما رأى وسمع….وفتح مع خليل موضوع تربية الأغنام، وكيفية صنع الأجبان والألبان والزّبدة والسمن البلديّ….وعند المساء تعشّى مع خليل دجاجا مشويّا على الفحم…قدّم لخليل دجاجة كاملة، بينما أكل هو نصف دجاجة…في حوالي العاشرة ليلا قال ابن العمّ لخليل:

آسف يا ابن العمّ أنا مرهق وأريد النّوم…ويجب أن أقيّد يدك ورجلك بالسّريرحسب التعليمات. في صباح اليوم الثاني قاد”ابن العمّ” خليلا الى الخارج…نزل به درجا…فوجد خليل نفسه في ساحة ترابيّة فيها أشجار وورود، ويحيط بها بناء حجريّ مستطيل الشّكل يتكوّن من طابقين…يتقدّمهما من الدّاخل برندة بعرض حوالي ثلاثة أمتار، وبعدها أقواس تفصلها أعمدة حجريّة جميلة…رأى خليل جنودا برتب مختلفة، يتحرّكون في البناء…لكنّه لم يتبيّن مدخل البناء…كانت تحت إحدى الأشجار طاولة بجانبها كرسيّان…جلس “ابن العمّ ” على كرسيّ، وطلب من خليل أن يجلس على الكرسيّ قبالته…سأل خليلا عن ماذا يحبّ أن يشرب صباحا…قهوة أم شايا…أم حليبا؟ فاختار خليل الشّاي بينما طلب “ابن العمّ ” قهوة… أحضرت الطّلب مجنّدة حسناء…عندما رفع خليل كأس الشّاي الى فمه…خبط “ابن العمّ ” كأس قهوته على الطّاولة وهو يقول:

أعوذ بالله من الشّيطان الرّجيم…كيف سيشرب المرء القهوة وهو يرى هذا المنظر المخيف؟ انظر ماذا فعل أبناء الزّانيات؟ كان على مقربة منهما ما يشبه القبر…عند شاهِدِه حجر ملفوف بكوفيّة سوداء…وعند آخره مقدّمة حذاء “بسطار” فقال ابن العمّ:

هذا مخرّب كانوا يحقّقون معه قبل يومين، ويبدو أنّهم قتلوه، لأنّه عنيد ولم يتجاوب معهم… ودفنوه هنا…ويبدو أنّه انتفخ، فخرج رأسه وقدماه من تخت التّراب…واصل خليل احتساء شايه وهو متيقّن من أن ما يراه تمثيليّة…فقال ابن العمّ:

يبدو أنّك لا تصدّق يا خليل ما قلته لك…ألا تصدّق بأنّ الاشكناز مجردّون من الرّحمة وأنّهم يقتلون المخرّبين؟

فأجاب خليل: بل أصدّق…ولا أستبعد عنهم فعلا قبيحا….لكنّني لا أستطيع عمل أيّ شيء.

قدّمت المجندّة لهم افطارا فاخرا، وكأنّهم في فندق فاخر…وبعدها عادا الى الغرفة ذاتها…جلسا على كرسيّين في البرندة حوالي ساعتين…شربا بعدها شايا…وعاد به “ابن العمّ “الى الغرفة…قيّده الى السرير واستأذن زاعما أنّه مشغول…وسيعود قبل وجبة الغداء…واستمرّ الحال هكذا…وفي اليوم الرّابع…أخذ “ابن العمّ ” خليلا الى غرفة قريبة…غرفة عارية تماما…فيها طاولة وكرسيّان..جلس خلف الطّاولة، وأجلس خليلا قبالته…أمامه على الطّاولة ملف بجانبه ورق أبيض…فوقه قلم رصاص…وقال لخليل باسما:

انتهت الضّيافة يا ابن العمّ…وهم يعلمون عنك كلّ شيء…وأنا تدخّلت في الأمر لحمايتك….فأريد منك أن تحدّثني عن قصّة حياتك…وعن علاقتك بالمخرّبين ومنظّمات التّخريب…وأنت تعلم أنّنا نحن البدو(سرّنا في بير عميق) وأشار بيده الى فمه المغلق دلالة على كتمان السرّ…ولا أهدف من ذلك إلّا مساعدتك…فلنبدأ…

ما اسمك الرباعي؟

–      خليل منصور سعيد منصور.

–      ما تاريخ ميلادك؟

–      8  نيسان 1949.

–      ماذا تعمل؟

–      طالب في كليّة بير زيت.

–      من هم أصدقاؤك؟

–      أمّي وأبي.

وضع ” ابن العمّ ” على ورقة أمامه عددا من النّقاط بقلم رصاص…رفع الورقة أمام خليل وسأله: ماذا يوجد على هذه الورقة؟

نقاط صغيرة أجاب خليل.

بخفّة وسرعة وصل ابن العمّ النّقاط ببعضها البعض فتشكلّ رسم حمار ….رفع الورقة أمام خليل وسأل: ماذا ترى على الورقة؟

فأجاب خليل: صورة حمار.

فقال “ابن العمّ ” غاضبا: يبدو يا خليل أنّك أكثر حمرنة من الحمار….لا تحاول التّلاعب معي….أنا أسألك عن أصدقائك وليس عن والديك…هل تفهمني؟

–      لكن لا أصدقاء لي غير والديّ.

–      وفي البلدة وفي القرية أليس لك أصدقاء؟

–      نعم أقول لك صادقا بأن لا أصدقاء لي.

–      هل تعرف الأستاذ داود؟

–      نعم أعرفه…فهو واحد من أبناء قريتنا.

–      ما علاقتك به؟

–      لا علاقة لي به.

–      لماذا كنت في بيته قبل اعتقالك بيوم؟

–      لم أكن في بيته.

–      أنت تكذب ولا تريد أن تساعدني كي أساعدك….وستتحمل عواقب ذلك…وأخشى إن تركتك وذهبت، بأن أجدك مقبورا بجانب المخرّب الذي رأينا قبره في الحديقة…فماذا تقول؟ وفكّر قبل الإجابة.

–      لا شيء عندي أقوله لك…هل تريدني أن أكذب؟

–      أريدك أن تقول الصّدق.

–      ما قلته لك صدق.

غضب “ابن العمّ ” …فتح جارور الطّاولة أخرج حبّة من بذور البطّيخ، وكسرها بين نواجذه….فدخل الغرفة شخصان – لم يتبيّن خليل إن كانت عمليّة بذرة البطّيخ عفويّة أم مقصودة- وقفا خلف خليل يتنحنحان بغضب…خرج ” ابن العمّ ” من الغرفة…فقيّدا رجلي خليل وانهالا عليه ضربا استمر لساعات…ضرباه على مختلف أنحاء جسده…صرخ وتلوّى ألَمًا لكنّهما لم يتوقّفا…وإذا بـ ” ابن العمّ ” يظهر فجأة…صرخ عليهما وهو يتقدم مبعدا إيّاهما…أمسك بيد خليل…وساعده على الوقوف…اقتاده الى غرفة التحقيق وسأله:

–      هل غيّرت ما في رأسك يا خليل؟ هل ستقول الصّدق؟

فردّ خليل بكلام متقطع وهو يلهث: ما قلته صدق…لكنّكم تريدونني أن أكذب….

خرج “ابن العمّ ” من الغرفة وهو يشتم…وترك خليل يئن ألَمًا…دخل جنديّ…قيّد قدمي خليل واقتاده…الى زنزانة في الطابق الأوّل…يطلّ بابها الحديديّ على الحديقة…مساحة الزّنزانة أقلّ من 80 x 80  سنتمتر…وارتفاعها يزيد على الثلاثة أمتار…دفعه في الزّنزانة والقيود في رجليه…أغلق الباب الحديديّ المصفّح عليه…في سقف الزّنزانة التي تشبه القبر ضوء ساطع…الزنزانة تشبه القبر تماما…قرفص خليل في الزّنزانة يتألم ويسأل الله الفرج…لم يتبيّن ليله من نهاره…إلّا عندما فتح جنديّ نافذة الزّنزانة الصّغيرة، وقذفه بقطعة خبز وحبّة بندورة….وناوله كأس ماء في كأس بلاستيكيّة قذرة.

استمر وضعه هكذا أسبوعين….كان “ابن العمّ ” يأخذه كلّ صباح للتّحقيق على أمل أن يجيب على الأسئلة…لكنّ خليلا لم يغيّر موقفه…يتعرض بعدها للضّرب المبرح…ثمّ يعيدونه الى نفس الزّنزانة….في نهاية الأسبوعين أخرجه ” ابن العمّ ” من الزّنزانة وسأل:

هل يعجبك هذا الوضع يا خليل؟ إن لم تجب فستبقى على هذه الحالة حتى الموت.

لم يجب خليل سوى بقوله: لقد قلت لك الصّحيح، لكنّك لا تصدّقني وهذه مشكلتك.

فقال “ابن العمّ “: بقي لي سؤال واحد هو:

هل تحبّ الاحتلال يا خليل؟

–      لا أحبّ الاحتلال، ولا أعتقد أنه يوجد شخص واحد في العالم يحب احتلال وطنه.

–      أنت صادق في إجابتك هذه …ولكنّها تعني أنّك تقاومه.

–      أنا لا أقاوم الاحتلال لأن وضعي الصحيّ والاجتماعيّ لا يسمحان لي بذلك.

–      ولو كانا يسمحان أكنت تقاومه؟

–      نعم.

–      أنت ابن زانية يا خليل….خذ هذه الورقة واكتب لي قصّة حياتك….أخذ خليل الورقة وكتب:

” أنا خليل منصور المولود في القدس في 8 نيسان 1949 قامت حرب حزيران 1967 قبل عام وأنا على مقاعد امتحان الثانوية العامة “التوجيهي” وبعدها التحقت بكليّة بير زيت ولا أزال طالبا فيها.

التوقيع:خليل منصور.”

قرأها “ابن العمّ ” وهو غاضب…كتب على ورقة أخرى سطرين باللّغة العبريّة وطلب من خليل أن يوقّع عليها….فرفض خليل قائلا:

أنا لا أوقع على لغة لا أفهمها…فردّعليه “ابن العمّ “:

معك حق… سأترجمها لك….وكتب تحتها بالّلغة العربيّة:

“أنا الموقع أدناه خليل منصور سعيد منصور أقرّ واعترف، بأنّني لم أتعرّض الى أيّ معاملة سيّئة أو ضرب أو تعذيب أو إهانة، منذ اعتقالي في 2 حزيران 1968 وحتى الآن وعليه أوقع”.

قدّمها لخليل كي يوقع عليها …نظر اليه خليل نظرة غضب…أشاح وجهه الى الجهة الأخرى مستغربا وقاحة الرجل.

لماذا لا توقّع؟

–        كيف سأوقّع وأنا تعرّضت لتعذيب شديد؟

–        هل ضربتك أنا؟ هل عذّبتك؟

لم يردّ عليه خليل.

“3”

صباح اليوم التّالي لم يعرف الأستاذ خليل الى أين يقتادونه، فقد ألبسوا رأسه كيسا من “المشمّع” نتن الرائحة، يتدلى على صدره وعلى كتفيه بعد أن أوثقوا يده برجله، وألقوا به في مؤخرة “لاندروفر”عسكري، وأحد الجنود يضع قدميه على جسده المتكوّر، عانى من قلّة الأكسجين، فكان يسحب زفيرا عميقا يصل الى حدّ الشّخير، لكن الهواء النقيّ كان يضيع وسط الرّائحة الكريهة المنبعثة من الكيس الذي ألبسوه رأسه، وعندما يخرج النّفس زفيرا كانت شفتا خليل تصدران صوتا وكأنّه يزمجر…هي حركات لا ارادة له فيها، هواجس كثيرة تدور في رأسه…لم يُرجّح أيّا منها، فربّما تكون هذه هي الجولة الأخيرة لهم معه، وربّما سيبدأون معه محاولة أخرى لم يعلم كنهها، عادت به الذّكريات الى الوراء…تذكّر عذاباته عندما وقع في عرس أخيه كامل وانكسرت يده، والجبيرة البدائيّة التي لفّها “الطبيب” الشعبيّ على ذراعه المجروح، ولم يرأف به أحد وذراعه تتعفّن تحت الجبيرة حتى شلّتها “الغارغرينا”…حياة كلّها عذاب في عذاب…واسى نفسه بحنان والدته الزائد…جرحته دموعها التي كانت تنساب على وجنتيها وهو يئنّ من الألم، لكنّها أدخلت السّعادة الى قلبه، فعلى الأقل أكّدت له دموع الأمّ المكلومة أنّ هناك من يحبّه ويحرص عليه، لكنّه لا يريدها أن تتألم من أجله هذه المرّة، وأقنع نفسه بأنّها لن تبكي عليه هذه المرّة؛ لأنها لا تعلم شيئا عمّا يجري معه، لكنّه لا يلبث أن يعود الى وعيه بأنها تعلم بأنّه بين أيدي ظلّام لا يرحمون أحدا، انصرف عن ذكرياته مع الوالدة عندما عادت به الذاكرة الى الّليالي الحمراء التي قضاها مع الفتاة البريطانية ستيفاني، ورأى فيها فترة سعادة ربما لن تتكرّر…وشعر بامتنان زائد لمعلّمي مدرسته الذين أقنعوا والده كي يسمح له بالسّفر الى لندن، لكنّه صحا على نفسه وهو يكاد يختنق، وخال ظهره على وشك الانكسار من شدّة الألم.

رفع جنديّ الكيس من على رأس خليل، أبقى آخره على مستوى أرنبة أنفه…فاستمتع للمرّة الأولى في حياته بلذّة التّنفس،فالتّنفس عملية روتينية يمارسها الأحياء للبقاء على الحياة،  لكنّه هذه المرّة له مذاق مختلف، والمرء لا يعرف قيمة الأشياء إلّا عندما يفقدها، فمن غير المعقول أن يكون على الهواء الذي تتنفّسه رقيب، والأدهى والأمرّ أن يتحكم بالطريقة التي تتنفّس بها!

شعر بامتنان غير عاديّ للجنديّ الذي رفع الكيس من على رأسه، لكن سرعان ما تلاشى امتنانه بعد أن ركله الجنديّ بحذائه على أمّ رأسه.

توقّفت السّيّارة…فكّ الجنديّ القيد من رِجل خليل، ووضعه في يده، ليقتاده بجانبه بعد أن أنزل الكيس على رأس خليل ليحجب الرؤية عنه، أوصله الى ممرّ بين غرف، إنّه نفس المكان الذي تمّ التحقيق فيه معه في الفترة الأولى لاعتقاله، أدخل خليلا في احدى الغرف…وهنا وصل الى سمعه صوت نسائيّ يصرخ، ويئنّ ووقع ضربات السّياط ينبئ بتعذيب شديد.

دخل الغرفة المحقق “أبو سامح”… نظر الى خليل بازدراء وكراهية وسأل ساخرا:

كيفك يا بطل؟

لم يردّ خليل عليه، طأطأ رأسه وتنهّد….وهنا تسلّل صوت يسأل غاضبا:

هل تعترفين أيتها الزّانية لتستريحي وتريحينا؟

لم يسمع خليل جوابا للسّؤال…لكنّه كان يتألم للصّوت النّسائي الصّارخ ألَما.

ابتسم “أبو سامح” وسأل”خليل”:

هل تريد أن تتعرف على الفتاة المخرّبة  التي تصرخ؟ وتابع عندما ستشاهدها بالتّأكيد سيتغيّر موقفك! هيّا بنا! اتبعني….لا…لا…ابق مكانك…أنا سآتيك بها…خرج من الغرفة غاب قليلا وعاد… أمسك بيد خليل واقتاده وهو يردّد ساخرا:

سأشرب وإيّاك كأس شاي نخب هذه الفتاة!  واقتاده الى غرفة أخرى…دخلا الغرفة وهناك كانت زينب تقف عارية تماما، وبجانبها امرأة بلباس الشّرطة، زينب تضع يديها بين فخذيها لتواري سوأتها….تطأطئ رأسها حياء… رأت شقيقها”خليل” ورآها، لم يلتفتا لبعضهما البعض، تقدّم المحقّق “أبو سامح” من خليل، وجرّه بسرعة خارج الغرفة وهو يردّد ساخرا:

آسف لم أكن أعلم أن شقيقتك زينب في هذه الغرفة.

كظم خليل غيظه، وتظاهر بالّلامبالاة.

تنهد “أبو سامح” وهو ينفث دخان سيجارته في الهواء…وقال بلا اكتراث:

مسكينة هذه الفتاة زينب….هناك من يضحك عليها ويجرّها الى المظاهرات، وهذا ليس في صالحها…والآن سيجري اغتصابها…لن يستطيع أحد انقاذها إلّا أنت! أخبرنا عمّن كان معك وأنت توزّع المنشورات التّحريضيّة ، وعن الشّخص الذي زوّدكما بها…وخذ شقيقتك وانصرفا من هنا.

تجاهل خليل الطّلب…لكنّ اعتقال شقيقته زينب قد أدخل الوساوس في رأسه…وأثار لديه أسئلة كان في غنى عنها…رنّ “أبو سامح” الجرس فأتاه شرطيّ ليستمع لأوامره، فقال له: خذ هذا الحقير.

اقتاده الشرطيّ الى الزّنزانة نفسها التي قضى فيها عدّة أيام بداية اعتقاله.

جلس خليل مع نفسه، وتركّز تفكيره على زينب، فلماذا أتوا بها؟ وهل ارتكبت ما يوجب اعتقالها، أم أنّهم جاؤوا بها كورقة ضغط عليه؟  أسئلة لم يجد لها جوابا، لكنّها أقضّت مضجعه، وأدخلت الوساوس في رأسه.

كاد يضرب رأسه بالحائط وهو يتصوّرهم يضربون زينب ويعذّبونها، كاد يّجنّ عندما يتخيلهم يغتصبونها، وهي تتململ تحت أحدهم كحمامة ينتف ريشها نسر جائع…يحاول أن يطرد هذه الوساوس من رأسه، لكنّها لا تلبث أن تهاجمه دون استئذان…عند المساء اقتاده شرطيّ الى غرفة التّحقيق، قبل أن يدخلها تفاجأ بوالدته تهجم عليه… تريد أن تحضنه، وأن تقبّله، أمسك بها شرطيّان، وحالا بينها وبين خليل، كانت تصرخ بصوت عال…تشتمهم وتحاول الافلات منهم…التفت إليها خليل وقال بصوت هادئ:

لا تخافي يا أمّي فأنا بخير، وما هي إلّا بضعة أيّام وسأعود الى البيت، إنّها مجرد تهمة باطلة بسبب وشاية حقيرة…كانت زينب تقف خلف والدتها ويداها مقيّدتان خلف ظهرها.

أدخل الشرطي خليلا الى غرفة التحقيق، وأغلق الباب خلفهما.

التفت الى خليل وقال له: “الولد الهامل يجيب المسبّة لأهله” وها أنت تأتي بالمصائب لوالدتك وشقيقتك.

“4”

أطلقوا سراح فاطمة والدة الأستاذ خليل، وشقيقته زينب دون علمه، لم يتم احتجازهما سوى ساعات ثلاث.

الصوت النّسائيّ الذي سمعه خليل وصاحبته تتعذّب، لم يكن صوت زينب، وإنما هو صوت ينبعث من جهاز تسجيل.

بعد أن ابتعدتا عن المعتقل وقريبا من باب العامود سألت فاطمة ابنتها زينب عمّا جرى معها؟ وماذا يريدون منها؟

ردّت زينب: لم يسألوني شيئا، فقط بعد أن قاموا بتعريتي عنوة قالت لي إحدى الشرطيّات: الآن سترين شقيقك”خليل”!

لطمت فاطمة رأسها بيديها، وقالت منتفضة: يا حسرتي…ماذا قلتِ يا بنت؟ هل عرّوك؟

زينب: نعم كما ولدتيني يا أمّي.

تسارعت دقّات قلب فاطمة…جلست على الأرض، وازداد لهاثها، لم تعد قادرة على المشي ولا حتى على الكلام…دموعها تنساب على وجنتيها عبر الأخاديد التي حفرها الزّمن على وجهها…جلست زينب بجانبها تواسيها وتقول لها:

ماذا جرى لك يا أمّي؟ لا تفضحينا…الشوارع تغصّ بالمارّة، والكلّ ينظر إلينا.

فاطمة: يا سواد ليلك يا فاطمة….وكيف خلعتِ ملابسك يا بنت؟

–        لم أخلعها يا أمّي بارادتي…لقد هجم عليّ أربع شرطيّات، وجرّدنني من ملابسي بالقوّة، قاومتهن وصرخت وشتمتهن، لكنّهن تغلبن عليّ.

–        هل عبثوا بجسدك يا بنت؟

–        لا لم يعملوا بي أيّ شيء، ومن عرّاني نساء كما قلت لك، وليسوا رجالا. وقالت لي احدى الشرطيّات: الآن سترين شقيقك خليل، فقط اطلبي منه أن يعترف بالتّهمة المنسوبة إليه كي يرتاح ويريحك، وبعدها سترتدين ملابسك وتنصرفين مع والدتك التي تنتظرك في الخارج.

قاطعتها والدتها سائلة: أيّ تهمة يريدونه أن يعترف بها؟ حسبي الله على الظّالمين…

لا أدري لماذا يتسلّطون على خليل؟ وواصلت سائلة:

وهل رأيتيه؟

نعم رأيته ورآني.

وماذا قلت له؟

–        لم أقل له شيئا…عندما أدخلوه الغرفة التي كنت فيها عارية…لم أنظر اليه، ولم ينظر إليّ. ولم أكلّمه، ولم يكلّمني.

وهل رآك خليل عارية؟

–        نعم رآني.

وهل عبثوا بجسدك بعد أن عرّوك؟

-لا لم يلمسني رجل.

فردت الوالدة فاطمة: الله يقلع عيونهم….لا يخافون الله…إيّاك أن تقولي أمام النّاس أنّهم خلعوا ملابسك عنك، وتركوك عارية….هذه أمور لا تجوز، وقد يتقوّل بها المتقوّلون، ويسيئون فهمها.

فردّت زينب غاضبة: ماذا سيتقوّلون؟ أنا أشرف من الشّرف نفسه، ومن يحاول المسّ بسمعتي وبشرفي سأقطع لسانه. على العكس فسأتكلّم عمّا جري معي للصحافة؛ لأفضح أعمالهم الشّائنة.

فصاحت بها والدتها: يا فضيحتك يا فاطمة! أنا أحذّرك من مغبّة الحديث في الموضوع…فأبوك وإخوانك لن يتقبّلوه…ولن يسمحوا لك بالحديث فيه!

زينب: لا تخافي يمّه واتركي الأمر لي.

عندما وصلتا بيتهما في ساعات المساء كان البيت يغصّ بالنّاس الذين جاؤوا يستفسرون عن سبب اعتقال فاطمة زوجة أبي كامل وابنتهما زينب… المختاران أبو محمد وأبو السعيد والحاج عبد الودود، ورهط من الشباب…لم يتّسع البيت لهم، فجلس الشّباب في محيط البيت تحت الشّجر، في حين جلس أبو سالم قرب عتبة البيت من الدّاخل…فهو يرى من في داخل البيت ومن يجلسون خارجه، تنحنح وقال:

صلّوا على النبيّ يا اخوان.

بعضهم صلّى على النّبيّ في سرّه، لكنّ أحدا منهم لم ينبس ببنت شفة…فاستند وقال: الدّنيا آخر وقت! حتى الصّلاة على النّبي لم يعد أحد يستمع اليها أو يلفظها…اللهمّ لا حول ولا قوّة إلّا بالله…وأضاف:

لا أعتقد أن اعتقال فاطمة وابنتها زينب سيطول، ولو كانت عليهما تهمة معينة لما اعتقلوهما في وضح النّهار! يا ناس قلنا مرّات كثيرة “عند اختلاف الدّول الشّاطر يخبّي راسه ويقول: اللهمّ نفسي” لكن يبدو أن النّصيحة هذه الأيام ” مثل طبل عند ذان اطرش” وهذا الولد خليل الأكتع بعد سفره الى بلاد الانجليز عاد الينا انسانا مختلفا، ويبدو أنّ الانجليز أفسدوا أخلاقه، وأنتم نفختموه كثيرا، ولقّبتموه بالأستاذ، والولد “صدّق حاله” و”صار ينط ع الحايل وع المعشّر” والله يستر البلد منّه، فانتفض المختار أبو السّعيد وسأل:

ما الدّاعي لهذا الكلام يا أبا سالم؟ تكلّم خيرا أو أسكت، فسكوتك خير لك ولنا!

فردّ أبو سالم: وهل أنا كفرتُ يا مختار؟

المختار أبو السّعيد: خليل نسأل الله أن يفرّج كربه، ولا داعي لاغتيابه بالسّوء.

أبو سالم: لولا أن خليلا قام بأعمال مخالفة للقانون لما اعتقلوه…ويجب تحذير الشّباب من مغبة التّورط في أعمال لن تأتي لهم نفعا…بل بالعكس سيضرّون بأنفسهم وبنا.

المختار: وهل أنت محام للاحتلال؟

أبو سالم: هل تفهمون الأمور هكذا. يبدو أن ” المخرّي والمقرّي في هالبلد واحد “.

انتفض كامل أخو خليل الأكبر وقال: ما هذا الكلام الفارغ يا أبا سالم؟…تكلّم مثل البشر أو ” ورّينا عرض اكتافك “.

أبو سالم: هل تطردني يا ولد؟

كامل: افهمها كما تشاء.

تناول أبو سالم حذاءه وشرع ينتعله غاضبا يريد الانصراف…واذا بسيّارة عموميّة تقف قريبا من البيت، وتترجّل منها فاطمة وابنتها زينب…تسابق الشّباب لاستقبالهما والسّلام عليهما…فوجد أبو سالم نفسه يتدافع وسط الشّباب، فلمّا وصلتاه صافحته فاطمة، بينما تجاهلته زينب مما أفرح الشّباب وأغضبه…طلب أبو كامل منهما أن تدخلا صالون البيت، وأن تصافحا من فيه. وهذ أمر لم يكن مألوفا من قبل- فالنّساء لا يجالسن الرّجال، ولا يصافحن إلّا الأقارب-.

تعالت الأصوات مردّدة: الحمد لله على السّلامة، وان شاء الله سنفرح باستقبال الأستاذ خليل.

أبو سالم سأل: خير يا بنات؟ والله قلقنا كثيرا عليكما.

فردّ المختار أبو محمد: طبعا خير..هذا ليس وقته.

أبو سالم: ” ما غريب إلّا الشيطان “.

فانطلق صوت شاب من الخارج قائلا: لا شيطان وأنت موجود…فضحك الآخرون، بينما تجاهل أبو سالم الموضوع، وكأنّه لم يسمع شيئا.

وعاد أبو سالم يسأل: هل رأيتما الولد خليل؟

فردّت زينب بعصبيّة: نعم رأينا الأستاذ خليل، وهو بألف خير وسيتحرّر قريبا.

–        وهل تكلّمتما معه؟

–        حاولنا ومنعونا…لكنّه قال بأنّهم يحقّقون معه على تهمة تافهة بناء على وشاية كاذبة.

تقوقع أبو سالم مكانه والتف بعباءته…طأطأ رأسه…اصفرّ وجهه….وسكت؟

نظرت اليه زينب، ورأت فيه فأرا جريحا هاربا في فضاء مزبلة من بين أنياب قطّ، فابتسمت شامتة وساخرة منه.

“5”

صباح يوم جمعة قائظ، استدعى المحقّق أبو سامح”خليل” وقال له:

هل قرّرت أن تقول شيئا يا خليل؟

فردّ خليل:  ليس عندي شيء جديد كي أقوله… كلّ ما عندي قلته!

المحقّق: ما دمت على عنادك فقد قرّرنا توقيفك مدّة عام كامل، سيقدّم خلاله لائحة اتهام ضدّك، وبعدها يقرّر القضاء مصيرك.

لم يعقّب خليل، واكتفى بالصّمت، ففي الصّمت بلاغة في هكذا مواقف.

وضعوا قيدا في يده أوثقوا طرفه الآخر بيد معتقل ثان، واقتادوهما الى سيّارة مخصّصة لنقل السّجناء يطلقون عليها “بوسطة”.

البوسطة مثل علبة السّردين كما يطيب للمعتقلين أن يصفوها، فهي مغلقة باحكام، لا تهوية فيها، ولا مقاعد، في مؤخّرتها مساحة بعرض متر يجلس فيها حارسان من حرّاس السّجن، والحاجز بينهما وبين الأسرى فيه”طلّاقات” صغيرة يراقبون حركاتهم منها، يغلقونها ويفتحونها متى يشاؤون.

تدور البوسطة من سجن الى سجن، تُنزل في هذا عددا من السّجناء، وتأخذ عددا آخر منه الى سجن آخر. بعض السّجناء يمضون يومهم في البوسطة دون طعام أو شراب، ودون أن يسمحوا لهم بالنّزول لقضاء الحاجة، فتزداد معاناتهم، خصوصا عندما لم يعد أحدهم قادرا على السّيطرة على مثانته الممتلئة، فينطلق البول رغما عنه.

الأستاذ خليل التزم الصّمت، فهو لا يعرف أحدًا ممّن يرافقونه في البوسطة، حتى زميله في القيد ما كان يعرفه، سأله:

من أين أنت يا أخ؟

–        من رام الله.

–        الى أين يأخذوننا حسب اعتقادك؟

الى واحد من السّجون، فبعد انتهاء التّحقيق يوزّعون المعتقلين على السّجون.

–        هل سبق لك وأن اعتقلت؟

لا…..لماذا تسأل؟

–        أسأل لأستوضح عن الحياة في السّجون ممّن جرّبوها.

ستجرّب بنفسك…لكنّها بالتّأكيد مختلفة عن أماكن التّحقيق.

عند المساء أنزلوهم من البوسطة داخل أحد السّجون، وضعوهم في غرفة في قسم “العبور” كان عددهم ستّة أشخاص، أغلقوا عليهم بابها لبضع دقائق، بعدها دخل عليهم أربعة من حرّاس السجن، أحدهم يحمل في يده أنبوبا مخروطيّ الشّكل أسود الّلون، يزيد طوله على الثلاثين سنتمترا، وفي نهايته مقبض وناظور، طلبوا منهم أن يخلعوا ملابسهم للتّفتيش…فخلعوا حتى السّروال الدّاخلي…طلب حامل الأنبوب  من أقربهم إليه أن يخلع سرواله، وأن يدير مؤخرته له ثانيا جسمه على طريقة الرّكوع! فرفضوا ذلك مستنكرين هذه الفعلة الشّنيعة، فأخبروهم بأنّهم سيفتّشون أمعاءهم بادخال الأنبوب من فتحة الشّرج، فكرّروا رفضهم مهما كانت النّتائج، وشرعوا يرتدون ملابسهم، فهدّدهم الحرّاس بأنّهم سيستعملون القوّة ضدّهم، ووسط الصّراخ المتعالي جاء أحد الضّبّاط مسرعا، وقال لزملائه بعربيّة لا لكنة فيها:

ماذا تفعلون؟ اتركوهم… هؤلاء أمنيّون ولا علاقة لهم بالمخدّرات.

والتفت الى المعتقلين السّتة…اعتذر لهم موضّحا بأنّ هذا التّفتيش خاصّ بالمعتقلين الجنائيّين ممّن يتعاطون المخدّرات أو يتاجرون بها، فهم يلفّونها بالنايلون ويبتلعونها، ثم يستخرجونها من برازهم ليتعاطوها في السّجن!

تركوهم حوالي نصف ساعة، ثم أخرجوهم واقتادوهم في ممرّات، يفضي كلّ منها الى الآخر، ويفصل بين كل ممرّ والممرّ الذي يليه باب حديديّ مصفّح، وفي النّهاية وصلوا ثلاث زنزانات، أمامها ممرّ بعرض متر، وفي نهايته فتحة مرحاض على مستوى البلاط، وتعلوها نافدة صغيرة 40×40  سم، عليها ثلاث شِباك حديديّة، وتفضي الى حاكورة ملأى بالأشواك، أبواب الزّنازين ليست مصفّحة، بل هي قضبان حديديّة متقاطعة كما هي حماية الشّبابيك، طول الزّنزانة حوالي 160سم، وعرضها حوالي 120سم، وارتفاعها 150سم، البناء يبدو قديما فعرض مدماك الشّبّاك حوالي متر، ويبدو كالجحر النّافذ، أدخلوا كلّ اثنين في زنزانة…أغلقوا عليهم الأبواب، ثم أغلقوا الباب الحديديّ المصفّح الذي يفضي الى قسم الزّنازين هذا، بعد تهديد المعتقلين اذا ما خرج من عندهم أيّ صوت.

عرْضُ الزّنزانة لا يسمح لنزيليها الاثنين بأن يتمدّدا فيها، وكلّ منهما يضع رأسه بجانب رأس زميله، فاتفق نزيلا كلّ زنزانة أن يتمدّدا متخالفين، واحد رأسه في نهاية الزّنزانة، والثّاني عند بابها من الدّاخل، وأن يتّخذ كلّ واحد حذاءه وسادة. وارتفاع الزّنزانة لم يكن يسمح لأيّ منهم بالوقوف، فهو أقصر من قامة أقصرهم، ووقوف المرء فيها محدودبا فيه ألم ومعاناة، عدا عن الاحتمال المحتوم باصطدام رأسه في سقفها بشكل عفويّ، ومن الشّبّاك كانت أفعى تحاول الدّخول من الخارج، تخطّت الشّبَك الحديديّ الأوّل، فأمسكوا بأحذيتهم للتّعامل معها إذا ما وصلتهم. لكنّها لم تستطع اختراق الشّبَكِ الثّاني لضيق فتحاته، نظرت إليهم ونظروا اليها، ثم تكوّرت على نفسها مستمتعة بالظلّ المتوفر.

وفي هذه الأثناء وصلتهم قرقعة مفاتيح الباب الحديديّ المصفّح، دخل رجل أربعينيّ مفتول العضلات، ويضع رُتبا عسكريّة على كتفيه، وبرفقته حارسان آخران، فخاطبهم باستعلاء قائلا:

أنا مدير السّجن، وأنتم أمانة عندي حتى صباح الأحد، يعني أقلّ من ثمان وأربعين ساعة، ولا أريد أن أسمع أيّ صوت منكم، فأنا لا أحد يستطيع عمل مشاكل عندي، واذا لم تلتزموا بالأوامر فسأني…ك…واحدا تلو الآخر! كظموا غيظهم ولم يتكلّموا شيئا، وقبل أن ينصرف طلب منه أحدهم أن يسمح له بالخروج لقضاء حاجته، فالتفت إلى مرافقيه وقال لهما، أخرجوهم واحدا واحدا، ثمّ أغلقوا عليهم الأبواب، خرج خليل أولا، فكّ بنطاله، ثم شعر بحرج شديد، فكيف سيظهر عورته؟ وكيف سيقضي حاجته أمام الآخرين، تردّد لحظات، ثم قرفص على المرحاض مطأطئ الرأس، وهو يتصبّب عرقا من الحياء.

شكره الآخرون على جرأته، فبفعلته هذه كسر حاجز الحياء عندهم، فقضوا حاجاتهم التي أثقلت كاهلهم ساعات طويلة خالها كلّ منهم دهرا.

أغلق الحارسان الأبواب عليهم بعد أن حذّراهم بأنّ الخروج الى دورة المياه مرّة واحدة فقط في صباح كلّ يوم.

زميل الأستاذ خليل في الزّنزانة عمره يزيد عن ضعف عمر خليل…وضع خليل رأسه في آخر الزّنزانة متوسّدا حذاءه، فسأل شخص من الزّنزانة الوسطى: ماذا تتوقعون يا اخوان؟ ماذا سيكون مصيرنا بعد غد الأحد؟

فأجابه زميله: يوم الأحد ليس بعيدا ” والخبر اللّي اليوم بفلوس بكره ببلاش” فردّ السّائل عليه: ماذا تقصد؟

–        أقصد بأنّ ما سيحصل يوم الأحد سنراه.

فقال الأستاذ خليل: يا إخوان…دعوا علم الغيب لله – سبحانه وتعالى- ودعونا نستغلّ السّاعات القادمة للنّوم والرّاحة، لنستطيع تحمّل القادم الذي نجهله.

فسأل أحدهم: وكيف سننام في هذا القبر؟ وكيف سنرتاح ونحن لا نستطيع التّمدّد والوقوف بحرّية؟

فردّ خليل: لا خيار أمامنا سوى التأقلم فيما نحن فيه.

فسأل آخر: وهل هذه القبور تصلح للعيش الآدميّ حتى نتأقلم فيها؟

خليل: “ليس بعد الضّيق إلّا الفرج يا اخوان” ولا خيار لنا….وانقلب على جانبه الأيمن محاولا النّوم…وكذا فعل زميله…غفا فترة قصيرة، واستيقظ مذعورا عندما ارتطمت قَدَمُ زميله بوجهه…تعوّذ في سرّه بالله من الشّيطان الرّجيم، وترك زميله في غفوته.

ظُلم الانسان للإنسان حماقة لا تمحوها الأيّام، والظلم عواقبه وخيمة، وبطش الاحتلال يعني أنّه يعيش حالة رعب ذاتيّ، وأنّ بقاءه في هذه الدّيار أمر مُحال….والحرّية عشيقة تستحق أن يضحّي المرء بحياته من أجلها، هكذا كانت تدور الأفكار في رأس الأستاذ خليل، الذي غفا مرّة ثانية وهو على يقين بأن الاحتلال سيُرغم على الانسحاب خلال أشهر قليلة، وسيعود لتكميل دراسته الجامعيّة، ليعيش في هدوء كبقيّة خلق الله…مرّت بخاطره صورة أمّه وهي تندفع محاولة احتضانه وتقبيله، والحرّاس يحولون بينه وبينها…وحاول استبعاد شقيقته زينب من مخيلته، فرؤيته لها عارية ترهق أعصابه، وهو لا يملك امكانية حمايتها، فالمعتقلات كيوم القيامة…المرء فيها ينشغل بنفسه، ولا يسأل عن غيره… وفي نومه مرّ به الشيخ بملابسه وذقنه البيضاء…ابتسم له…وما لبث أن اختفى بسرعة.

الخمسة الآخرون لهم همومهم الخاصّة والعامّة أيضا، لكنّهم يلتزمون الصّمت، فهم لا يعرفون بعضهم البعض من قبل، والحذر مطلوب، و”الحيطان لها أذان”.

لم يُقدِم أيّ منهم على ابتلاع الطّعام القليل الذي يُقدّم لهم كلّ وجبة، مع أنّه لا يتعدّى قطعة خبز وحبّة بندورة صغيرة أو بيضة أو مثلّث جبنة صفراء، فقد حسبوا ألف حساب لقضاء الحاجة في هذه القبور التي يُحشرون فيها.

صباح الأحد فتحوا الأبواب عليهم، قيّدوا كلّ اثنين منهم بيديهما مع بعضهم البعض، كان لافتا أنّ كلّ واحد منهم بقيت له يد طليقة، باستثناء خليل فهو فاقد ليده اليسرى. اقتادوهم الى غرفة في قسم العبور…لم يخبروهم شيئا…وعند ساعات الظّهيرة اقتادوهم الى سيّارة البوسطة، فوجدوا فيها أكثر من عشرين سجينا، بعضهم جنائيّون عرب ويهود، أحد اليهود شابّ طويل القامة مفتول العضلات…حليق الرّأس والذّقن والشّارب والحاجب، ينظر الى الآخرين بازدراء، اقترب من خليل وسأل:

انتي بيد واخد..ع ايش مخبوسه.

لم يجبه خليل لكنّه أوجس منه خيفة…مدّ سبّابة يده اليمنى وضغط بها على أنف خليل وهو يردّد:

“إم أني شوئيل أتا موخراخ لعنوت” اذا سألتُ أنا فأنت مجبر على الاجابة.

التفّ حوله السّجناء العرب الآخرون، ومنهم ستّة أشخاص من باقة الغربيّة يجيدون العبريّة بطلاقة وقالوا له: هو فتح ونحن كلّنا فتح، فماذا تريد؟

ابتعد قليلا وقال بالعبرية: “فتخ أرجون تروريست…أرجون هورجيم… فأني لو يخول لبجوع بهم”  فتح منظّمة ارهابيّة…منظّمة قتلة، وأنا لا أستطيع المسّ بهم.

فقالوا له : “بجلال زه تترحيك مهابحور هزيه يوتير توف لخاه” لهذا ابتعد عن هذا الشّابّ خير لك.

–        ” إم أني لو مترحيك ما يهيه “؟ اذا لم أبتعد ماذا سيحصل؟

فردّ عليه أحدهم: ” إين لانو زمان لهتفكح عمخا تترحيك أو ترئيه ما يهيه لخا” لا وقت لدينا للنّقاش معك..ابتعد وإلّا سترى ما سيحصل لك.

–        ” أتم يودعيم مي أني “؟ هل تعلمون من ؟أنا؟

–        ” تهييه مي تهيه لو اخبت لانو” كن من تكون فهذا لا يهمّنا.

–        ” أني بروسبير ميلخ همافيا بيسرائيل” أنا بروسبير ملك المافيا في اسرائيل.

–        طز عليك وعلى كلّ المافيا.

أحسّ بخطورة الموقف، فغالبيّة من هم في البوسطة من العرب، حتّى الشّخص الذي كان مربوطا به بنفس القيد كان عربيّا، وكان يستعد للهجوم عليه فيما لو مسّ بخليل…وهو يعلم أنّ المعتقلين العرب لا يسمحون لمعتقل جنائيّ -حتى لو كان عربيّا- أن يعتدي على معتقل أمنيّ…ابتعد قليلا الى الجهة المقابلة في سيّارة البوسطة…أشعل سيجارة…وشرع ينفخ دخانها في الهواء بعد شهيق طويل.

خليل لم يفهم شيئا ممّا قالوه، لكنّه متأكّد أنّه كان مستهدفا من قبل هذا الأزعر، وأن العرب  الآخرين يدافعون عنه، تمنّى لو أنّ يده طليقة ليوجّه له لكمة على أرنبة أنفه…ولم يفتقد يده اليسرى كما يفتقدها الآن، فاحترق قلبه حزنا.

مرّوا بأكثر من سجن، بعض المنقولين ينزلون في السّجن، ويصعد مكانهم آخرون من السّجن وهكذا.

بعد العصر بقليل أنزلوهم في أحد السّجون، سلّموا كلّ واحد منهم بطّانيّتين، معجون وفرشاة أسنان، كأسا من البلاستيك المقوّى مضى على استعماله سنوات طويلة، وقطعة صابون كريهة الرّائحة والشّكل…أدخلوهم الى قسم الموقوفين…وهو عبارة عن ثماني غرف، ستّ منها للمعتقلين الأمنيّين، واثنتان للمعتقلين الجنائيّين الأحداث، أمامها ساحة بمساحتها، ويحجب فضاء السّاحة شبك حديديّ، يقسّم فضاءها الى مربّعات صغيرة لا تسمح لعصفور بدخولها، وتعلوه أسلاك لولبية فيها ” دبابير” حديديّة حادّة أطرافها.

“6”

استقبلهم سابقوهم من المعتقلين استقبالا لائقا، وكبار السّنّ منهم احتضنوهم وقبّلوهم…صاح أبو فهمي كبيرهم على أحد الشّباب قائلا :

يا مصطفى اذبح للضّيوف!

أصابتهم حيرة من هذه الذّبيحة، تردّدت في فضاء القسم، حلّقت عاليا في السّماء، وارتدّت إليهم خيبة كبرى عندما أحضر مصطفى لكلّ واحد منهم كأس شاي لم يتبيّنوا لونه، فالكؤوس البلاستيكية لونها بنّي …وكيس الشّاي المربوط طرفه بخيط، والذي يشترونه من “الكانتين، يحضّرون منه ثلاث كاسات، والكأس الثّالث يعصرونه بأيديهم، ليستخرجوا منه ما تبقى من عصارة، كما قدّموا لهم عددا من قطع الخبز القليلة التي يحتفظون بها، فهم ومن خلال تجربتهم يعلمون أنّ القادمين من التّحقيق يعانون من جوع يصعب عليهم تفاديه، ولا يخرجون منه إلّا بعد أسابيع.

بدا أن خليل هو ومصطفى أصغر المعتقلين عمرا، بل إنّ مصطفى يصغر “خليل” بثلاثة شهور.

أشار أبو فهمي إلى رجل عجوز يجلس في وسط السّاحة شابكا أصابع يديه تحت ركبتيه وقال لهم:

ذاك العجوز اسمه “الحاج فلعوص”وهذا هو اسم الشّهرة له، ولا يعرفون له اسما غيره، وهو رجل أشيب، سجين جنائيّ، له ذقن غير حليق، في أواخر الستّينات من عمره، توارثه الاسرائيليّون في سجونهم من الانجليز، أمضى أكثر من ثلثي عمره في السّجن، يعيش في حيفا، لا أهل له، أو بالأحرى لا أحد يتعرّف عليه، يقضي فترة محكوميّته، ويتحرّر لأسابيع قليلة ليرتكب فيها جناية تعيده الى السّجن لبضع سنوات…وهو صاحب خيال واسع…يتخيّل قصصا وبطولات ينسبها لنفسه، استمعوا إليه وإيّاكم أن تضحكوا أو تسألوه شيئا، لأنّه يؤذي من يسخر منه، فهو دائما يحتفظ بشفرة حلاقة، لا يعرف أحد أين يخبّئها، ويقوم بتشطيب وجه من يضحك من حكاياته في غفلة منه.

تقدّم حارس القسم من “الحاجّ فلعوص” وسأله:

ما بك يا حاجّ؟

ابتعد عنّي أجابه الحاجّ فلعوص…لم يعد معي سجائر…ضحك السّجان وقال:

الآن سنحضر لك سجائر، وتبيّن أنّ إدارة السّجن مجبرة على تقديم أربعة علب سجائر من النّوع الرّديء جدّا اليه، وذلك اتقاء للمشاكل الّتي يفتعلها إن لم يستجيبوا لطلبه، حيث يقوم بتشطيب يديه وأماكن أخرى من جسده إن لم يقدّموا له السّجائر الّتي يطلبها، في حين يقدّمون يوميا أربعة سجائر فقط لكلّ سجين.

استلم “الحاج فلعوص” أربع علب سجائر وقام لاستقبال القادمين الجدد، صافحهم وجلس وسطهم وقال لهم:

أكيد لقد اعترفتم بدون ضرب…بل ربما اعترفتم وأنتم في الطّريق من بيوتكم قبل أن تصلوا المعتقل! جيل والعياذ بالله، لذلك ضاعت فلسطين! في زماننا عندما كنّا “كوماندوز” زمن الانجليز، كانوا عندما يعتقلوننا يعلّقون الواحد منّا بيديه بعد أن يشبعوه ضربا وتعذيبا، ويشعلون نارا تحته، ويعلّقون فوق رأسه قالب ثلج كبير، النار تحرق رجليه ومؤخّرته، والبرد الشّديد يجمّد جزأه العلويّ! وما كنّا نعترف لهم بشيء.

قال له أبو فهمي: صلِّ على النبيّ يا حاجّ، ودعك من هؤلاء الشّباب، فهم متعبون ويريدون الرّاحة.

–        وهل أنا أمنعهم من الرّاحة؟ فقط أريد أن أنصحهم ليتعلّموا الرّجولة الحقّة.

في كلّ غرفة من غرف القسم ثمانية أسرّة معدنيّة، كلّ سرير من طابقين، والغرف ملأى، بل إنّ في كلّ غرفة شخصان ينامان على الأرض، ولكلّ غرفة نافذة عليها حماية حديديّة قويّة، ولا زجاج عليها، وعلى يسار الباب الحديديّ المصفّح مرحاض حديديّ، له باب خشبيّ، ارتفاعه 120 سم، ويرتفع عن الأرض بمعدل 10 سم. وضعوا كلّ اثنين من السّتّة الجدد في غرفة. وكان نصيب خليل في الغرفة رقم”1″.

أغلق الحرّاس باب الغرف في السّادسة مساء، وبعدها قاموا بتعداد الموجودين في كلّ غرفة… يحضر ضابط وبرفقته اثنان،  يحصون عدد الموجودين من النافذة، وعلى من في داخل الغرفة أن يقفوا بجانب الأسرّة عند التّعداد، بعدها يتوزّعون على أسرّتهم، ومن لا سرير له يستلقي بين سريرين، والإضاءة تبقى حتّى العاشرة ليلا، يتسامرون ويتحدّثون…جريس ابن مدينة القدس الذي يقرأ في كتاب “تاريخ العرب” لجورجي زيدان يرفع صوته قائلا:

اسمعوا يا اخوان…جورجي زيدان في كتابه هذا يسيء للعرب! وقرأ:” وأبناء البادية يعيشون على الجمال والأغنام، يشربون حليبها، ويلبسون من وبرها وصوفها، ويتطيّبون ببولها ” وأضاف:

هذه إساءة كبيرة…وتساءل: هل هناك من يتطيّب ببول الجمال والأغنام؟

فردّ خليل الذي كان يسمع ويلتزم الصّمت، فهو لا يعرف أحدا: هذه ليست إساءة بل حقيقة، فالبدو يتطيّبون ببول الغنم! ومن زاوية الغرفة الدّاخليّة استند محمّد البدويّ وقال لخليل متوعّدا بلهجته البدويّة:

اخرس يا قليل الأدب… لعنة الله عليك وعلى والديك..والله لأقطعنّ لسانك.

فوقف خليل وقال له:

لعنة الله عليك وعلى من ربّوك هذه التربيّة، وبصق باتجاهه.

فقام محمّد البدوي يريد أن يهجم على خليل…فوقف بينهما بقيّة نزلاء الغرفة، وحالوا بينهما…وقال أبو فهمي موجّها حديثه لخليل:

عيب عليك يا عمّي..فلا يجوز لك أنت أيضا أن تفتري على أبناء البادية، فهم بشر مثلنا!

فردّ خليل غاضبا ومتسائلا: ومن قال لكم أنّني أفتري على البدو؟ فأنا نفسي بدويّ، وقد سمعت من جدّتي أنّها كانت هي وبنات جيلها يتطيّبن ببول الأغنام، وحتّى العروس كانوا يمشّطون شعرها ليلة دخلتها ببول الغنم!

فبُهت الآخرون ممّا سمعوا، وحلّق طائر الدّهشة فوق رؤوسهم، وارتسمت الخيبة على وجه محمّد البدويّ، فقد كان هو وزملاؤه من البدو يعيشون شبه عزلة من بقيّة المعتقلين، وهم من أبناء القدس وعرب الدّاخل، بحيث خصّصوا لهم غرفة منفردة، ومحمّد في هذه الغرفة لأنّ غرفة البدو مكتظّة بالنّزلاء، وهو يمضي ليله لا يتكلّم مع أحد ولا يُكلّمه أحد! واعتبر ما قاله خليل بداية إساءة متعمّدة للبدو، لكنّه بعدما عرف أنّه بدويّ، ويعرف حياة البداوة، قام وقبّل رأسه معتذرا، وهو يردّد: سامحني يا قرابة!

صباح اليوم التّالي جلس محمّد البدويّ بجانب خليل، وسأله عن أسماء بعض المخاتير والوجاهات من أبناء بلدته، وأضاف بأنّه يعرفهم منذ الخمسينات، حيث كان يهرّب وإيّاهم القهوة والبهارات وحتّى الحشيش من الضّفة الغربيّة الى اسرائيل، فذهل خليل ممّا يسمع، وحلّقت روحه فوق بلدته…طافت فوق بيوتها…وتوقّفت مذهولة فوق بيوت وجاهات يعتبرها مرموقة وشريفة، ذكر البدويّ أسماءها في التّهريب، وسأل ببراءة الفتى الغرّ الذي لا يعلم شيئا في هذه الأمور:

وهل هؤلاء عملاء لاسرائيل حتى يهرّبوا إليها؟ وهل اسرائيل بحاجة الى القهوة حتى تهرّب إليها؟

فتل البدويّ شاربيه وأجاب: وحّد الله يا رجل، كيف تسأل هكذا أسئلة؟

فهم ليسوا عملاء، ولو أمسكت اسرائيل بواحد منهم لسجنته، لقد كانوا يعبرون الحدود خفية في اللّيل، ويجدون لهم ملاذا عند أبناء القبائل قضاء بئر السّبع، ويختفون بينهم، واسرائيل بعد قيامها في العام 1948 كانت بحاجة إلى كلّ شيء، أمّا المخدّرات ومنها الحشيش فقد كان مستقبلوها في النّقب يبيعونها لتجّار المخدّرات لتوزيعها في المناطق اليهوديّة. ويا ليت كلّ اليهود في اسرائيل يدمنون المخدّرات، فعندها سننتصر عليهم.

فُتحت الغرف بعد تعداد ساكنيها في السّادسة صباحا، دخل السّجناء الى قاعة مقابلة فيها طاولات معدنيّة، كلّ واحدة منها بحجم طاولة التّنس، وملصق بها مقعدان متقابلان على طولها، يصطف المعتقلون أمام شبّاك في طرف الغرفة وفي يد كلّ واحد منهم “مجاش”-صينيّة معدنيّة فيها تجويفات متساوية في عمقها الذي يقل عن 2سم- فيضع لهم من يقف خلف الشبّاك، بيضة مسلوقة، نصف ملعقة مربّى فواكه، ويملأ تجويفا بـ “الدّيسة” وهي رز مطحون مسلوق بالحليب ومضاف اليه قليل من السّكر، كما يضع لكلّ منهم ما بين3-4 حبّات زيتون، وبامكان كلّ واحد أن يأخذ ما يحتاجه من قطع الخبز الموجودة في صناديق كرتونيّة مفتوحة وموضوعة على طاولة بجانب الشّباك من الخارج، كما بامكانه أن يملأ كأسه من دلو بلاستيكي شايا أو من الكاكاو المخلوط بقليل من الحليب.

بعد أن تناولوا طعام الافطار دعا محمّد البدويّ أقرانه من البدو ليتعرّفوا على خليل قريبهم البدويّ الذي وصل بالأمس…فصافحوه مبتسمين.

شرع ستّة الموقوفين الجدد يتعرّفون على بعضهم البعض، وعلى من يتواجدون في القسم أيضا…للموقوفين حرّية العمل في منجرة ومطبعة تابعتين للسّجن، أو رفضه، فالعمل اجباريّ للمحكومين، واختياريّ للموقوفين، ومن يعمل يتقاضى ما قيمته ليرة ونصف، تعادل عشرة قروش أردنيّة، والموقوفون تبقى غرفهم مفتوحة من السّادسة صباحا حتى الخامسة والنّصف مساء…يتجوّلون في السّاحة الّتي أمامها، ويراقبهم سجّان يتواجد بينهم باستمرار بدون سلاح، بل إنّ سلاحه صافرة اذا ما حدثت مشكلة داخل القسم ينفخ بها، فيهرع له عشرات من زملائه مدّجّجون بالعصيّ وبالغازات المسيلة للدّموع، ويساعده في المراقبة الحرّاس الذين يتوزّعون في الأبراج المرتفعة ويشاهدون أقسام السّجن وغرفه وساحاته جميعها.

تمشّى خليل مع محمّد وعيّاد البدويّين في السّاحة، بعد حوالي ساعة دخل البدويّان الغرفة، فاقترب معتقل أبيض البشرة، عيناه خضراوتان، شعره أشقر، ربع القامة، في الأربعينات من عمره،  اقترب من خليل وصافحه مبتسما وقال:

محسوبك أبو خليل من حيفا، عندما سمعت اسمك فرحت لك، فقد ذكّرتني بابني البكر خليل، فهو من جيلك تقريبا وطوله مثل طولك…وأنا أعمل في التّربية والتّعليم في الحكم العسكريّ في بيت إيل قرب رام الله، أيّ نحن مسؤولون عن التّعليم في الضّفّة الغربيّة.

أهلا بك قال له خليل…وأنا خليل منصور من القدس…طالب في كلّيّة بير زيت.

أهلا بك يا بنيّ وأتمنى لك افراجا عاجلا كي تكمل تعليمك.

–        شكرا لك.

لكن قل لي لماذا أنت هنا؟ سأله أبو خليل.

–        في الواقع لا أعرف لماذا أنا هنا؟ فأنا لم أفعل شيئا. أجاب خليل ثم سأل وأنت؟

فردّ أبو خليل: تهمة فاضية! ثمّ واصل حديثه سائلا عن القدس وعن أحوالها بعد الاحتلال، وعن أحوال المسجد الأقصى…وقال بأنه بكى عندما دخل القدس القديمة بعد احتلالها بثلاثة أسابيع، بكى حزنا عليها لوقوعها تحت الاحتلال، وفرحا بدخولها وهي المدينة  التي حلم بدخولها، وبكى بحرقة عندما دخل بناية المسجد الأقصى، ورأى بابه الرئيس الذي حطّمته دبّابة اسرائيليّة، طاردت من احتموا به من المدنيّين أوّل أيّام حرب حزيران اللعينة.

وسأل عمّا يجري في ساحة البراق وحارتي الشّرف والمغاربة الّلتين هدمهما المحتلون قبل أن تضع الحرب أوزارها.

كان يتكلم منفعلا ويشير بيديه، وخليل يستمع بغير انتباه متسائلا عمّن يكون هذا الرّجل؟ وبعدها قال خليل:

لقد جرفوا ساحة حائط البراق وحارتي الشّرف والمغاربة، وهم يسابقون الزمن في بناء حيّ استيطاني يهوديّ مكان الحارتين، في حين يُعدّون ساحة حائط البراق لتكون مكان عبادة لهم…يصلّون أمام الحائط، ويبكون ويحرّكون أجزاءهم العليا إلى الأمام وإلى الخلف كأنّهم يناطحون الحائط.

وبعدها استأذنه خليل بالانصراف بحجّة التّعب، وأنّه يريد أن يستريح، وعندما  تمدّد خليل على فراشه اقترب منه غسّان وهو من حيفا أيضا وسأله: عن ماذا سألك أبو خليل؟

فردّ خليل: لقد سألني عن الأقصى وعن القدس.

فقال له غسّان: كن حذرا منه، وحاول الابتعاد عنه.

فسأل خليل: لماذا؟

–        ستعرف لاحقا… وإيّاك أن تتحدّث مع أحد عن تهمتك…واحذر أن تفشي أسرارك لأحد.

احتار خليل ممّا سمع ويسمع…فهل كلّ شخص من بني قومه هنا متّهم  حتى تثبت براءته؟ وهل هو نفسه متّهم أمام هؤلاء الّذين لا يعرفهم ولا يعرفونه؟ يا إلهي كم هي قاسية حياة المعتقل! فالمرء لا يعود واثقا حتّى بنفسه.

انطوى خليل على نفسه، تمدّد على فراشه، وتظاهر بالنّوم، فهو بحاجة الى خلوة مع نفسه، يستخرج صندوق التّساؤلات من ذاكرته، يبحث لها عن أجوبة، لكن يبدو أنّه لم يهتد إليها، يرسم لنفسه حرّية لا حدود لها…يبتسم لطيف ستيفاني البريطانيّة الّتي عرف عالم النّساء من خلالها، يسترجع عذاباته وعذابات شعبه، فتتكدّر نفسيته، وتكاد الدّموع تتساقط من عينيه، صحا من أحلامه عندما قال له أبو فهمي :

قم يا ولدي لقد أحضروا الغداء…لم يتحرّك من مكانه، ولم تعد له شهيّة للطّعام، لكنّه قام من فراشه متثاقلا عندما لمس أبو فهمي جبينه وهو يسأل: هل أنت مريض يا بنيّ؟

–        لا لست مريضا يا عمّ…لكنّني مرهق وبحاجة للرّاحة.

–        تناول طعامك وعد الى فراشك إن كنت تعبا…لكنّني لا أنصحك بالجلوس وحيدا…فالمرء في هكذا أمكنة تتلبّسه هواجس غير محبّبة إذا ما بقي وحيدا.

نهض وذهب على مضض مع أبي فهمي لتناول طعام الغداء، وهو عبارة عن “شوربة” لا طعم لها، بطاطا مهروسة، وملعقة كبيرة من الأرز غير النّقيّ.

أكل قليلا بدون شهيّة، وبقي مع بضعة أشخاص آخرين في غرفة الطّعام، جاء بضعة شباب يتقدّمهم شخص خمسينيّ ملتحٍ، طلب منهم أن ينصرفوا من غرفة الطّعام، لأنّهم يريدون أن يُصلّوا الظّهر جماعة فيها، فخرجوا دون نقاش، وتمشّوا في الساحة ما بين غرفة الطّعام وغرف المبيت، حرارة الطّقس مرتفعة، وإذا بـ “المصلّين” يتقدّمهم الخمسينيّ الملتحي يأتون إليهم، وقال لهم: انصرفوا من هنا لأنّنا سنقيم الصّلاة وسنؤدّيها هنا! احتجّ مصطفى وقال:

ماذا تريد يا أبا موسى؟ طلبت منّا أن نخرج من غرفة الطّعام فخرجنا، وتلحقنا الآن في السّاحة، فماذا تقصد؟ ولماذا لم تصلّوا في غرفة الطّعام؟

بصق أبو موسى باتّجاه مصطفى وهو يصيح قائلا:

اخرس، يا ابن الكلب!

استشاط مصطفى غضبا وهجم على أبي موسى…أمسك بذقنه وقال:

لولا أنّك أكبر من والدي عمرا لعرفت كيف سأتعامل معك يا قليل الحياء، وفي هذه الأثناء هجم ” المصلّون” على مصطفى، هرع الآخرون من داخل الغرف، ولولا أنّ أبا فهمي أمسك بمصطفى وهو يردّد:

عيب يا اخوان…هذا أمر معيب، لحصل ما لا تحمد عقباه، بينما هرع حرّاس السّجن يحملون العصيّ والمتاريس اليدويّة وقنابل الغاز، بعد أن انطلقت صافرة الحارس المتواجد في القسم من الّلحظة الأولى للحدث.   طلب أبو فهمي من المعتقلين أن يدخلوا الى غرفهم، فاستجابوا باستثناء “المصلّين” ووقف أمام بوّابة القسم الرّئيسة، وسأل الحرّاس المهاجمين:

ماذا تريدون؟ إنّها مشكلة بسيطة بين اثنين طوّقناها بسرعة، ولا داعي للتدخل.

بينما قال أبو موسى: إنّهم يريدون منعنا من الصّلاة.

التفت إليه أبو فهمي وقال بلهجة عاتبة: اتّق الله يا رجل…ومن يمنعك من الصّلاة ؟ فالصّلاة لله وليست لك.

سأل قائد الحرّاس بعد أن استمع لشهادة الحارس المتواجد في القسم : من سيضمن لي بأن لا تتحول القضيّة الى مشكلة تثير الفوضى؟ ونحن نريد الهدوء.

فقال أبو فهمي: لا يوجد مشكلة أصلا، واترك الأمر لي وأنا سأعالج سوء الفهم الذي حصل.

فردّ عليه الضّابط : وأنا سأحمّلك شخصيّا مسؤولية أيّ تطوّر سلبيّ لسوء الفهم الذي تتحدّث عنه. أو أن تسلّموني الشخص الّذي افتعل المشكلة مع المصلّين.

وأنا مستعدّ لذلك، قال أبو فهمي وسأعالج الأمر فورا.

انسحب الضّابط وجنوده…وذهب أبو فهمي الى الغرفة التي يتواجد فيها “المصلّون”…طلب من غير المصلّين أن يتركوه وحده في الغرفة مع المصلّين، فخاطبهم جميعهم وهو ينظر الى أبي موسى قائلا:

يا اخوان، إنّ الصّلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، وكلّنا إخوة في الدّين وفي غيره، ومعاناتنا واحدة، ووطنا واحد، وعدوّنا واحد، ولا يجوز لأيّ منّا أن يتجاوز حدوده، أو أن يعتدي على غيره، وإذا ما ضاقت أخلاق أيّ منّا لصعوبة الوضع فعلى الآخرين أن يتحمّلوه، بل عليهم أن يخرجوه من ضائقته.

فردّ أبو موسى: هل أفهم من كلامك أنّك تؤيّد الاعتداء على من يصلّون لله؟

–        استغفر الله العظيم، ومن قال لك ذلك؟

–        هذا ما يفهم من كلامك.

–        هل فهم أحد منكم يا اخوان كلامي كما فهمه “سماحة الإمام”؟

لم يسمع جوابا من أحد، وأضاف: ومع ذلك فإنّني أؤكد لكم ولغيركم، أن لا أحد ضدّ الصّلاة، ومن يحاول أن يعمل ما يعيق الصّلاة، فكلّنا يد واحدة ضدّه. لكن في الظّروف كلّها فإنّ المشاجرة بين الاخوة خطّ أحمر لن نسمح بالوصول اليه أو تجاوزه.

فردّ أبو موسى: إذا كان كلامك صحيحا فلماذا لا تصلّي أنت؟

–        وهل أنت ربّي حتى تحاسبني، عندما يهديني الله سأصلّي…وهل أنت نفسك كنت تصلّي قبل دخولك السّجن؟ وماذا تعرف من أمور الدّين- وأنت شبه أمّيّ- حتى تحاسب الآخرين؟

نظر الآخرون في وجوه بعضهم البعض، وقال أحدهم واسمه طافش: كلام أبي فهمي صحيح، والمشاكل ليست في صالح أحد.

مسّد أبو موسى ذقنه وقال: لا حول ولا قوّة إلّا بالله…كرامة لك يا أبا فهمي سأعفو عن هذا الولد مصطفى، وأسأل الله الهداية للجميع.

بارك الله بكم قال أبو فهمي، وسأحضر مصطفى بعد قليل ليقبّل رأسك يا “سيدنا الشّيخ.” فهو من جيل أبنائك.

خرج أبو فهمي وذهب الى الغرفة التي يجلس فيها مصطفى وقال:

يا اخوان…علينا أن نتحمّل بعضنا، والمشاكل ممنوعة كليّا، والمصلّون إخوتنا وأبناء شعبنا، ونحن والحمد لله كلّنا مسلمون، باستثناء جريس فهو أخونا المسيحيّ، وهناك من يعود الى الله في أوقات الضيق، فيلجأون الى الصّلاة طلبا لمرضاة الله، وطمعا في رحمته، ونسأل الله أن يستجيب دعوات الجميع، وأن يتحرّر الجميع، والآن قم يا مصطفى معي حتى ننهي سوء الفهم بينك وبين أبي موسى، فهو من جيل والدك، والواجب يحتّم أن تذهب اليه أنت.

لم يعترض مصطفى وذهب مع أبي فهمي…صافحه وقبّل رأسه وهو يردّد: سامحني يا عمّ.

ومن السّاحة كان الحارس يراقب…يسمع ويرى…فاندهش من سرعة انهاء سوء الفهم الذي حصل.

بينما خليل مستلق على فراشه، ويسبح في بحر عذاباته، فحياة السّجن صادمة، وليست كما يتصوّرها من لم يجرّبوها، فالسّجن مدرسة لقهر الانسانيّة، وقتلها في البشر، وليس مدرسة للتعلّم….تناول كتاب “الجريمة النّائمة ” للرّوائية البريطانية أغاثا كريستي وشرع يقرأها…وهذه هي المرّة الأولى التي يسمع باسم هذه الكاتبة التي يتوفّر في قسم الموقوفين أكثر من خمس عشرة رواية لها…كلّها روايات بوليسية تستهوي المراهقين…لكنّها لم تلق تجاوبا عند خليل الذي قرأها في أقلّ من أسبوع.

“7”

“ضيق المكان يورث قلّة الأدب” هكذا قال العرب، فأن يُحشر حوالي عشرين شخصا في غرفة واحدة لا تزيد مساحتها عن 8×6م، وفيها مرحاض ومغسلة، أمر في غاية الصّعوبة، فعندما ينامون بعضهم يطير النّوم من عينيه، فلكلّ مشاكله وهمومه، وبعضهم يسعل فله أمراضه وآلامه، وبعضهم يعلو شخيرة، وبعضهم يريد قضاء حاجته، فما أن يغفو البعض حتى يستيقظ لأكثر من سبب، لكنّ القاسم المشترك بين الجميع هو البعّوض كبير الحجم، الذي ما تنطفئ الأضواء في الغرفة حتى يبدأ بالتّحليق باحثا عن فريسة يمتص دماءها، والفرائس هنا هم ساكنو هذه الغرف، الذين لم تكن لديهم وسيلة لابعاد البعّوض الذي يستهدف وجوههم، ويستفز حاسّة السّمع بطنينه وهم يبحث عن ثاني اكسيد الكربون الذي يتنفّسونه، لذا فهم مجبرون على تغطية وجوههم بالكوفيّات، أو بالباطّانيّات التي يتدثّرون بها، ولا يتركون إلّا فتحات أنوفهم للتّنفس، والّتي قد لا تنجو هي الأخرى من غارات البعّوض الذي يهاجمهم، وفي ساعات الصّباح يهجع البعّوض الذي انتفخ من الدّماء التي امتصّها على جدران الغرفة، فيقوم البعض بقتله بنعال الأحذية ليلتصق بالحائط فاردا بقعة من الدّماء.

وهذا يعيد المعتقلين الى فترة الاعتقال، حيث الزّنازين تعجّ بأعداد هائلة من القمل، ويدور سجال بين المعتقلين عن أيّهما أشدّ ضررا القمل أم البعّوض؟ ويأخذ البعض بسرد معاناته مع القمل، فعبد الّلطيف مثلا، بعد أن انتهى التحقيق معه في قسم الشّرطة، ووضعوه في غرفة مع معتقلين آخرين انتظارا لنقله الى أحد السّجون، خلع قميصه ليستخرج ما علق به من قمل، فكان يفعل كما غيره، يلتقط القملة، ويضعها على بلاطة أمامه…”يقصعها” بظفر ابهامه، ويلتقط أخرى وهكذا، حتى امتلأت البلاطة ببقع القمل والدّماء التي امتصّها، فتخيّلها لوحة تشكيليّة عبثية، تمنى لو كان يملك ” كاميرا ” لالتقاط صورة لها وليحتفظ بها كشاهد على معاناته.

أمّا الأستاذ خليل، فقد كانت تجربته الأولى مع قمل المعتقل، عندما انتهى من تنظيف قميصه من القمل، اضطجع على ظهره، وطرح طرف ” البطّانيّة ” على بطنه، فأحسّ بدبيب القمل، ولمّا نظر بطنه وجد ثلاث قملات في تجويف سرّته، وكثيرا ما كان يحسّ دبيبا في منطقة ما من رأسه، فيطلب من أحد جيرانه أن يرى مكان الدّبيب بعد أن يتعب من حكّ المكان، فيعثر الجار على قملة أو أكثر، يستخرجونها، ويصحنونها على بلاط الغرفة.

وضحك من في الغرفة عندما قال لقد كنّا مثل القرود التي تجلس اثنين اثنين، وكلّ منهما يبحث عن القمل في جسم قرينه، لكنّ الفرق بين القرود التي تعيش في الغابات وحدائق الحيوانات، وبيننا في معتقلات المحتلّ أنّ القرود تضع القمل الذي تصطاده في فمها، بينما نحن نمسك بالقمل ونصحنه على بلاط الغرفة…مقارنة مؤلمة لكنّها واقعيّة.

ثمّ أضاف مازحا: ليتهم كانوا يأتوننا ببول الابل والأغنام لنغسل به رؤوسنا كما كانت تفعل جدّاتنا لمكافحة القمل، ما داموا لا يأتوننا بمبيد لهذه الحشرات الضّارة…فضحك قهقهة هو ومن في الغرفة لهذه الأمنية غير السّارة.

تنهّد أبو فهمي وقال: في المعتقلات لا يهتمّون بالقضاء على القمل، لأنّهم يعتبرونه وسيلة تعذيب وضغط على المعتقل، أمّا في السّجون فإنهم يكافحونه لأنّ الصّليب الأحمر يزور المعتقلين والسّجون، ويخافون من فضائح في وسائل الاعلام العالميّة، وهم لا يعلمون بأنّ تعذيب المعتقلين سيكون سببا في قِصَرِ عمْر احتلالهم. فهذه البلاد لا يعمّر فيها ظالم.

أمّا محمّد البدويّ فقد سرد تجربته ذات ليلة مع”القَرادِ” الذي يلتصق بآذان الأغنام وعند دِرارها، وفي الأماكن التي لا ينبت الصّوف فيها فتمصّ دماءها، وتنتفخ بشكل واضح، فقد اضطرّ الى المبيت مع قطيع غنم في احدى الليالي التي تساقطت فيها الثّلوج، ولم ينم من شدّة الّلسعات التي تعرّض لها، ولم يتبيّن حقيقة ما يجري لعدم وجود إضاءة إلّا في صباح اليوم التّالي، عندما وجد العشرات من هذه الحشرات، وقد عضّت به تمصّ دماءه، وتبقى عاضّة بمنشاري فمها الصّغيرين على نقطة من جلده صانعة بقعا حمراء متورمة بشكل دائريّ. وهذه الحشرات عضّاتها مؤلمة أكثر من القمل ومن البعّوض.

فقال جريس: يبدو أنّ القّراد يشبه البقّ الذي هاجمني في أحد الفنادق الشعبيّة في بيروت، عندما نمت فيه ليلة واحدة حتى استأجرت بيتا عندما التحقت بالجامعة اليسوعيّة.

لكنّ محمّد البدويّ أكّد أنّ القّراد أكبر حجما وأكثر ضررا من البقّ.

“8”

زيارة الأهل تتمّ في أيام الجمعة، السّبت والأحد…صباح ذات يوم سبت، المعتقلون ينتظرون زيارة ذويهم لهم، فالزّيارة مرّة واحدة كلّ أسبوعين، يسمح فيها لثلاثة من الزّائرين البالغين، وما لا يزيد عن طفلين بزيارة الأسير، وكثيرا ما تأتي الزّوجة وحدها مصطحبة أطفالها لزيارة زوجها والد أطفالها، ويسمحون للزّائرين بادخال سلّة فواكه، وأربع علب سجائر من النّوع الرّديء الّذي لا يصل ثمن العلبة منها خمسة قروش أردنيّة، ويشترط أن تكون بدون فلتر، لكنّهم يسمحون للمعتقل أثناء الزيارة بأن يدخّن من السّجائر التي يحملها الزّائرون مهما كان نوعها، ويسمحون له بادخال أربع سجائر منها الى القسم الذي يتواجد فيه…وهو بدوره يوزّعها على المدخّنين الّذين لم تكن لهم زيارة.

خليل يجلس وحيدا تتناوشه هواجس كثيرة، ويسترجع فيها أيّاما خلت، لم يتأقلم بعد على الحياة بين أربعة جدران، لكنّه يتحمّل الوضع دون أن يبدي تذمّره منه، فهو يدرك أن لا خيار آخر له. عاد الفوج الأوّل من المعتقلين بعد أن انتهت نصف السّاعة المقرّرة للزّيارة، كلّ منهم يحمل في يده سلّة الفواكه التي أحضرها ذووه، بعضهم يعود وبسمة عريضة على وجهه، والبعض يعود مكتئبا حزينا، لخبر سيّء نقله له الزّائرون.

كانت المفاجأة أن نادوا على اسم خليل للزّيارة مع الفوج الثّاني، فهو لم يكن يتوقّع ذلك، لأنّه لم يكن يعلم أنّ ذويه قد علموا من المحامي أنّ التّحقيق معه قد انتهى، وأنّه موجود الآن في هذا السّجن، تلبّسه فرح طفوليّ، ودبّ النّشاط في جسمه….في غرفة الزّيارة وجد والدته وشقيقته زينب وأخاه كامل، وجدهم يجلسون على طاولة مثل طاولات الطّعام الموجودة في القسم، احتضنوه واحتضنهم، وجلس قبالتهم كما تفرض قوانين السّجن، جلس بثقة عالية…ووالدته تصنّعت القوّة أمامه كما أوصاها كامل، فيما كانت زينب تضحك سعيدة بلقائه، فنظرت إليها أمّها نظرة ناهية…وهي تقول:

لا يجوز هذا الضّحك أمام الغرباء!

على نفس الطّاولة جلس غسّان وقبالته زائروه. وخلف خليل وغسّان يقف سجّان يراقب ويسمع. وهناك أربع طاولات أخرى يجلس على كلّ واحدة منها معتقلان وقبالتهما زائروهما، وسجّان يراقب كلّ طاولة ويسترق السّمع لما يدور من كلام.

التفت خليل الى والدته وشقيقته وسأل: لماذا كنتما في مركز التّحقيق؟ ومتى تحرّرتما منه؟

فأجابت زينب باسمة: اعتقلونا لحوالي ثلاث ساعات…لم يسألونا شيئا، ولم تكن ضدّنا أيّ تهمة، يبدو أنّهم استعملونا كورقة ضغط عليك، ولهذا تعمّدوا أن ترانا…وتحرّرنا في نفس اليوم.

ابتسم خليل وقال: الحمد لله…لقد خفت عليكما كثيرا…أمّا بالنّسبة لي فلا شيء يدعو الى القلق، فأنا هنا بناء على وشاية كاذبة…وسأتحرّر قريبا…وقال وغصّة في حلقه: أنا مرتاح هنا!

همهمت والدته وسألت: هل عذّبوك؟

–        أنت ترينني فلم يتغيّر عليّ شيء.

–        لكنّني أرى أنّ وزنك قد انخفض.

–        صحيح..فلم تكن عندي شهيّة للطّعام.

فقال كامل: عليك أن تأكل من الطّعام الذي يقدّمونه، فلا خيار آخر لك، وهذه فترة عصيبة ستمرّ كحلم مزعج…لقد أخبرتنا المحامية أنّهم أوقفوك لمدّة عام، إن لم يقدّموا لك تهمة خلالها سيفرجون عنك، أو ربّما سيفرجون عنك قبلها، لأنّ المحامية قالت بعد أن حصلت على الملفّ ودرسته، بأنّ المحكمة ستفرج عنك اذا ما لفّقوا لك تهمة، لأنّه لا دليل لديهم لإثباتها.

فقال خليل: سننتظر، ولست بأحسن من الآخرين…وما هي أخباركم؟ كيف حال الوالد؟

كامل: الأقارب جميعهم بخير ويهدونك السّلام، وأبناء البلدة جميعهم يسألون عنك، ويهدونك السّلام أيضا.

خليل: ماذا حصل معك في الدّراسة يا زينب؟

–        الحمد لله …لقد اجتزت امتحان الثانويّة العامّة-التوجيهي- وحصلت على معدّل 85% وسألتحق بدار المعلّمات في رام الله….لكنّ الوالد يرفض.

ابتسم كامل وقال لها: لا تخافي سأقنعه بذلك.

وأضاف سائلا: هل تعرف المعتقلين الذين تتواجد معهم.

–        لا…لم أكن أعرف أيّا منهم، وهم من منطقة القدس وعرب الدّاخل..من النّاصرة وأمّ الفحم وبدو النّقب وبدو الشّمال، وقرى أخرى…تعرّفت على عدد منهم وسأتعرّف على البقيّة.

وهنا سألت والدته: هل يطعمونكم يا خليل؟

ابتسم خليل وقال: طبعا يطعموننا..وإلّا كيف سنعيش بدون طعام؟

– وهل طعامهم جيّد؟

– جيّد أو سيء فلا خيار لنا سوى تناوله.

– لقد أحضرنا لك كميّة كبيرة من مختلف أنواع الفاكهة الموجودة في السّوق، وبعد تفتيشها ملأوا سلّة بلاستيكيّة منها…كتبوا اسمك عليها لادخالها لك، وتركوا الباقي لنعيده معنا، كما أحضرنا لك بنطالين وقميصين وملابس داخليّة كما أخبرتنا المحامية.

– وهل أحضرتم سجائر؟

– لا لم نحضر لعلمنا أنّك لا تدخّن.

– حبّذا لو أنّكم أحضرتم سجائر لأعطيها للمدخّنين.

– هذه لم تخطر على بالنا…لكنّنا سنحضر في الزّيارات القادمة.

– السّجائر المسموح ادخالها من النّوع الرّديء فقط…فانتبهوا لذلك.

– لقد أبعدوا الأستاذ داود الى عمّان، فقد اعتقلوه ليلة اعتقالك…هل علمت ذلك؟

–        نعم علمت…وكيف حال زوجته وأولاده؟ وهل لديكم أخبار عنه؟

فقال كامل: لا نعلم عنه شيئا… وزوجته وأولاده بخير، وأعتقد أنّهم يخطّطون للالتحاق به.

رفع السّجّان صوته قائلا: بقي للزّيارة ثلاث دقائق فقط.

فقالت فاطمة والدة خليل: حسبي الله على الظّلّام واولاد الحرام.

سمعها السّجّان وسأل غاضبا: من تقصدين يا امرأة ؟

فلم تجبه.

انتهت الزّيارة صاح السّجّانون وهم يصفّقون بأيديهم…احتضن الزّائرون أبناءهم…قبّلوهم مودّعين… وتساقطت دموع الأمّهات والأطفال.

عاد المعتقلون الى القسم الذي يتواجدون فيه… بعضهم فرح برؤية الأحباب…وبعضهم حزين لخبر سيّء نقله الزّوّار له.

يضعون الفاكهة التي وصلتهم من ذويهم في الزّيارة  فوق الخزائن المعدنيّة الصّغيرة التي يضعون فيها ملابسهم…فهي ملك للجميع منذ دخولها المعتقل…يوزّعونها على بعضهم البعض بالتّقسيط حسبما يتفقون فيما بينهم…وهم حريصون أن تبقى عندهم الفواكه بشكل مستمر…ويخصّون المرضى منهم بنصيب أكبر من الفاكهة.

الزّيارة مهمّة جدا للأسرى، فالأسير يطلّ على العالم الخارجي من خلال زائريه…ومن خلالها يكتشف أن هناك أناسا يفقتقدهم ويفتقدونه، وما كان ينتبه لهم قبل اعتقاله…ورؤية زائريه تحقنه بشحنة صمود يتجدّد…صحيح أنّ الأسير يتصنّع الفرح والرّاحة أمام زائريه كي لا يقلق ذووه عليه، إلّا أنّ هذه الّلعبة لا تنطلي عليهم، فهم أيضا يحرصون بأن لا ينقلوا للأسير إلّا الأخبار الطيّبة…ومع ذلك فهناك أخبار لا يمكن كتمها الى ما لا نهاية كموت قريب مثلا.

“9”

أغاني أمّ كلثوم التي يبثّها راديو اسرائيل يوميا بعد أخبار الخامسة والنّصف تؤجّج مشاعر الأسرى…يطربون لها…لكنّها تعيدهم الى لحظات سعادة يفتقدونها الآن…بعد اغلاق الغرف تدور الأحاديث التي يحرص البعض أن تكون فرصة للتّسلية…وأحيانا يأتون بعلبة مربّى يستعملها أحدهم طبلة…يغنّون ويمرحون…والحديث عن الجنس له دور كبير في أحاديث ما بعد الغروب…والمتزوّجون من الأسرى يكظمون شهواتهم عندما تزورهم زوجاتهم…كلّ منهم ينظر زوجته بشهوة جارفة…لكنّه يكبتها، تماما مثلما تفعل هي الأخرى…يمضي يومه يفكّر بلحظات وصال مضت…فيتضوّر ضيقا…يحاول الخروج منه بالاندماج في أحاديث بالتأكيد ما كان ليتحدث بها خارج المعتقل.

عبد اللّطيف يطرح السّؤال: أيّهما أفضل حالا الأسير المتزوّج أم الأعزب؟ وتتداخل الاجابات بين المتزوّجين والعازبين…كلّ طرف منهما يعتبر أنّ حاله هو الأفضل! فيحسم عبد اللّطيف الموضوع بقوله: حال العازبين أفضل لسبب بسيط لا ينتبه له أيّ منكم!

يصمت الآخرون ليعرفوا السّبب…فيقول: المتزوجون عندما سيتحرّرون فانهم سيقعون في مشاكل مع زوجاتهم، لأن جزءا منهم سيتحرّر فاقدا ذكورته، والنّساء ينتظرن أزواجا فحولا! وبالتّالي سيقعون في فضائح اجتماعية، وربما ستخلعهم زوجاتهم ويتزوجن من غيرهم، أمّا العازبون فلن يخسروا شيئا، فمن فقد منهم ذكورته فسيعزف عن الزّواج من تلقاء نفسه، ولن يعرف أحد سبب عزوفه!

فيعلو فضاء الغرفة ضحك صاخب. لكنّ طارق يسأل:

وماذا بالنّسبة للعازبين الّذين خبروا النّساء بدون زواج؟ فيعلو الضّحك الصاخب مرّة أخرى…ويجيبه أبو فهمي ضاحكا:

يبدو أنّ لك تجارب مع النّساء يا ملعون…بينما ينكمش خليل على نفسه وهو يسرح في ذكريات علاقته بالبريطانية ستيفاني…ويستمني بهدوء وغصّة…ومحمّد البدوي يلتزم الصّمت مستنكرا بينه وبين نفسه هكذا أحاديث.

فجأة يكسر حمدان الرّملاوي صمته بسؤال عبد الّلطيف:  فيقلب الحديث الى ممارسة الجنس مع الحيوانات! وينقسم الأسرى الى مصدّق بأنّ هناك من مارسوا الجنس مع حيوانات، أم أنّه مجرّد خيال؟ فيقول جريس:

لقد قرأت بحثا حول الموضوع، جاء فيه أن ممارسة الانسان للجنس مع حيوانات معروفة منذ القدم عند الشّعوب جميعها، بما فيها الشّعوب التي لا تعيش كبتا جنسيّا، والجاحظ تكلّم عن ذلك كثيرا في كتابه “الحيوان”.

أمّا الحاج حسن فقد سأل: ترى ما حكم الدّين في ممارسة الجنس مع الحيوانات؟

فأجاب مصطفى ساخرا: غدا نسأل “الشّيخ” أبا موسى!

فضحك خليل وقال: أخشى أن يجيبنا كما فعل ” شيخ ” جاهل مثله عندما سأله أحد الظرفاء يريد أن يمتحنة:

يا مولانا..أفسوة بهدوء تنقض الوضوء؟

فردّ الشّيخ: وهل لها رائحة؟

–        نعم كريهة فائحة.

–        وهل لها ملمس؟

–        نعم كالتّين المفغّص.

–        غفر الله لك يا بنيّ ورعاك يبدو أنّك خريت وما دريت…اذهب واغتسل واستبدل ثيابك.

ضحك الجميع خصوصا وأنّ هذه هي المرّة الأولى التي يشارك فيها خليل في أحاديث الّليل. وقال أبو فهمي:

يبدو أن زيارة أهلك لك قد فتحت قريحتك يا خليل.

صباح اليوم التّالى رأى من تواجدوا في السّاحة نصفا طوليا لامرأة تلبس لباسا أزرق… تدخل غرفة مدير السّجن في الطّابق الثالث، على بعد أكثر من مئة متر منهم، وهم لا يستطيعون رؤية أكثر من ذلك، فلا يطلّ عليهم إلا نصف الباب، أمّا النّصف الثّاني فهو مخفيّ خلف زاوية بناية في منتصف الطّريق بينهم وبين إدارة السّجن…نظر إليها كلّ من تواجدوا في السّاحة…وأطلق كلّ منهم العنان لخياله الواسع، فادّعى أحدهم أنّها صبيّة غرّاء فرعاء ممشوقة القوام…نحيلة الخصر، صدرها ناهد…ترفع رأسها كفرس جامحة، وتبدو في منتصف العشرينات من عمرها. وقال أحدهم أنّ عينيها خضراوتان تأسران من تقعا نظراتهما عليه، ووصف كيف كانت تحدّق به، وكأنّه فارس أحلامها. وقال آخر بأن شعرها ذهبيّ الّلون يتماوج كسنابل القمح في موسم الحصاد ساعة هبوب نسيم الصّباح.

وبعدها نادت الادارة من خلال السّمّاعة المثبّتة في القسم خليلا وأبا فهمي ليستعدا لمقابلة محاميتهما، وبعد المقابلة التي استمرّت أكثر من ساعة عادا الى القسم لا يقويان على الحديث من شدّة الضّحك! والآخرون يصطفّون حولهما مشدوهين لا يعرفون سببا لضحكهم الهستيريّ…فلمّا هدأ أبو فهمي قال: أتعرفون على ماذا كنّا نضحك؟ وأضاف:

لقد رأينا ملكة الجمال التي أمعنتم في وصفها…إنّها امرأة فوق السبعين من عمرها…عجفاء نحيلة …شعرها أشيب، تجاعيد الزمن رسمت أخاديد على وجنتيها…كتفاها يميلان الى الاحديداب…لا أنوثة فيها!

فنظروا في وجوه بعضهم البعض غير مصدّقين…فقال أبو فهمي:

على رأي اخواننا المصريّين ” الجوعان يحلم بسوق العيش “.

لكنّ طارق أكّد أنّ من رأوها امرأة أخرى.

“10”

وجد خليل في القسم حوالي خمسين كتابا، وهي مغامرات الكاتبة البريطانيّة أغاثا كريستي البوليسيّة، بعض روايات الأديب احسان عبد القدّوس، والأديب محمد عبدالحليم عبدالله، مذكّرات وينستون تشرتشل، وكتاب ” حول العالم في 200 يوم ” لأنيس منصور.

ابتدأ القراءة في المجلّد الثّاني من مذكّرات وينستون تشرتشل، فقد كان الجزء الأوّل محجوزا لأكثر من شخص، شكّلّ الكتاب له مصدر معلومات عن الحرب الكونيّة الثّانية الّتي لا يعلم عنها شيئا، ففي عمره هذا كانت معلوماته التّاريخيّة محدودة جدّا…يقرأ برغبة شديدة للمعرفة…يتوقّف عند بعض الأحداث…يستفسر عنها ممّن هم أكبر سنّا ومعرفة ووعيا منه…ويناقشهم فيها حتّى يقتنع بها، أو يقتنع برواية بديلة سمعها من زملائه الأكثر وعيا واطّلاعا منه…اهتمّ بشخصيّة الزّعيم السوفييتي جوزيف ستالين، من خلال ما كتبه تشرتشل عنه.

مرّ به ” الحاج فلعوص ” انتبه الى ما يقرأه خليل…جلس بجانبه وقال:

هل تعلم يا ولد بأنّني كنت مساعدا للفوهرر في الحرب العالميّة الثّانية ؟

من هو الفوهرر؟ أجاب خليل متسائلا.

جيل جاهل – والعياذ بالله- قال ” الحاج فلعوص ” وأضاف: الفوهرر هو زعيم المانيا الذي أشعل نيران الحرب العالميّة الثّانية على العالم جميعه…ألم تسمع باسمه؟ ألا تفهم ما تقرأه في مذكّرات تشرتشل؟

–        سمعت باسم هتلر….وأعرف أنّه زعيم ألماني حارب العالم…لكن هذه هي المرّة الأولى التي أسمع فيها بـكلمة ” فوهرر”.

–        لا بأس في ذلك… فأنت لا تزال في أوّل العمر…وعليك أن تتعلّم…وأضاف وهو يشعل سيجارة:

كنت مساعدا للفوهرر! وكنّا نقود الحرب العالميّة الثّانية من داخل غوّاصة تجوب البحار، حتى لا يكتشف مكانها الحلفاء الذين يحاربوننا بقيادة تشرتشل…وبينما كانت غوّاصتنا قرب مضيق الدّردنيل شرق البحر المتوسّط…ابتلعها حوت ضخم! فسعدنا بذلك، لأنّنا أصبحنا في مكان آمن جدّا…وبقينا نصدر تعليماتنا للجيش الألماني على جبهات الحرب المختلفة، كانت طائرات الأعداء تمرّ في الفضاء من فوقنا…يبحثون عنّا لقصفنا…لكنّهم كانوا لا يرون إلا الحوت…أمّا غوّاصاتهم فكانت تمرّ حولنا كالأسماك…وأكثر ما خشيناه هو أن يبتلع الحوت إحدى غوّاصاتهم، ونصبح وأعداءنا في بطن حوت واحد! حتّى أنّ الفوهرر سألني:

ماذا سنفعل إذا ما الحوت ابتلع غوّاصة بريطانية؟

فأجبته: لا تخف يا أدولف سأقضي عليهم بالسّلاح الأبيض.

فارتسمت علامة الرّضا على وجهه، وقال لي: أحمد الله لأنّك مستشار لي. فلولاك لما استطعت تدبير أمري…وأنا لا أثق إلا بك.

حاول خليل أن يترك الحاج فلعوص وخيالاته الجنونيّة…لكنّه كان يمسك به وهو يقول بعصبيّة زائدة:

من قلّة الأدب يا ولد أن تغادر جلسة وفيها رجل يتكلم في قضيّة معيّنة قبل أن ينهي حديثة….ولولا حرصي على تعليمك التّاريخ الصّحيح لما تحدّثت معك بهذا الموضوع…وأنا لا أحبّ أن أتحدّث عن تاريخي العسكريّ، لكنّني عندما رأيتك تقرأ مذكّرات تشرتشل، خفت عليك من المعلومات الكاذبة، فالانجليز يكذبون، وأوّلهم تشرتشل.

فقال خليل وهو يتصنّع الجدّيّة: بارك الله بك…وشكرا لك. وسأل: وكيف خرجتم من بطن الحوت؟

اعتدل الحاج فلعوص في جلسته….وقال:

بعد حوالي شهر سئم الفوهرر من التواجد في بطن الحوت…فسألني الرأي في كيفية الخروج؟

فأجبته: هذه عمليّة في غاية البساطة…هل تريد أن تخرج الآن؟

فقال الفوهرر: أرجوك يا حاجّ أخرجنا الآن.

فذهبت الى كبد الحوت ودغدغته بأصابع يديّ هاتين…حتى شعر بالغثيان فتقيّأ الغوّاصّة بمن فيها! فشكرني الفوهرر كثيرا على براعتي وخبرتي في التّعامل مع الحيتان… وهل تصدّق أنّ الطّبّاخ الأسود الذي يعدّ طعامنا في الغوّاصّة، قد خرج من بطن الحوت- أبيض البشرة مثل الأوروبيّين …حتى يخيّل لمن يراه بأنّه ألمانيّ لولا أنفه الكبير وشفتاه الغليظتان!

خليل يستمع مرغما…يكتم ضحكاته من أكاذيب محدّثه…ولم يستطع الانسحاب من الجلسة التي فرضت عليه رغم أنفه…لكنّه سأل ساخرا بلهجة لا تنقصها الجدّية:

وماذا بالنّسبة لشعره الأجعد؟ هل أصبح أملسا؟

فردّ الحاج فلعوص غاضبا: اسمع يا ولد… عندما يتكلّم الكبار، ينخرس الصّغار… ولا يجوز لهم السّؤال…سكت هنيهة وهو يشعل سيجارة من عقب أخرى وأضاف: في الواقع لم أنتبه لطبيعة شعره، أو ربّما نسيت ذلك مع مرور السّنين.

جاءت وجبة الغداء…تنفّس خليل الصّعداء وقال: أنا جائع..سنذهب لتناول طعامنا. في غرفة الطّعام… جلس بعيدا عن الحاجّ فلعوص…وعلى طرف الطّاولة يجلس عزيز المقدسيّ الّذي جاوز السبعين من عمره، وقبالته يجلس الشّابّ ماجد المشهديّ.

فقال عزيز: قبل نكبة العم 1948 كنت أعمل في شركة السّجائر..وكانت التعبئة يدويّة، وليست آليّة كما هي الآن…وكنت أتفق مع المسؤول عن العمل…فيعطيني مقاولة بتعبئة مئة ألف علبة سجائر يوميا…فأقوم بتعبئتها قبل أن ينتصف النّهار…وبعدها أذهب الى شاطئ البحر…أسبح وألهو على رمال الشّاطئ، وأصطاد السّمك…حتّى ساعات الغروب…ثمّ التفت الى ماجد المشهديّ وسأله:

ماذا كنت تعمل يا ابني؟

–        في مصنع تعليب عصافير!

–        وهل هناك مصانع لتعليب العصافير؟

–        نعم…وهي منتشرة في الدّول المتقدّمة…وأنا أعمل في واحد منها قرب حيفا…فالأثرياء يحبّون أكل العصافير.

–        وماذا كان عملك؟

–        كنت يوميا أصطاد ألف عصفور…وأقوم بنتف ريشها وتنظيفها وتعليبها.

فقال عزيز: لا تكذب يا ولد…فكلامك غير معقول!

فردّ عليه ماجد: إنّ بلادا يقوم شخص فيها بتعبئة مئة ألف علبة سجائر يدويّا في ساعات قليلة، لا غرابة أن يقوم شابّ فيها باصطياد ألف عصفور وتنظيفها وتعليبها.

ضحك من سمعوهما…وقال محمّد البدويّ:

على ذمّة الرّاوي كان أخَوان…أحدهما صادق والثّاني كذّاب، والكذّاب لا يتورّع من الكذب، ويعتقد أنّ أكاذيبه تنطلي على الآخرين، وكان أخوه الصّادق يستاء كثيرا من أكاذيب أخيه. فقال له ذات يوم:

لقد فضحتنا بين النّاس بأكاذيبك، حتّى أصبحوا يضربون المثل بك وبأكاذيبك، فدعك من الكذب…واكسب احترامهم. ومن الآن اذا ما كذبت في مجلس أتواجد فيه سأوبّخك أمام النّاس، وسأطردك من المجلس.

فقال الكذّاب: كلامك صحيح…لكنّني لا أنتبه لنفسي وأنا أكذب.

فردّ الصّادق: إذا ما كذبت في مجلس أنا فيه ، سأتنحنح وأنا أنظر اليك، وإذا لم تتوقّف سأبدأ بموضوع آخر كي لا تستمرّ في كذبك! واتفقا على ذلك.

وذات يوم تواجدا في جلسة في ديوان شيخ القبيلة….فسأل أحد الحضور جريوان الكذّاب: أين كنت يا جريوان بالأمس؟

–        ذهبت للصّيد.

–        برفقة من؟

–        أنا لا أرافق في رحلات الصّيد أحدا، رفيقي فرسي وسيفي وعصاي فقط.

–        وهل اصطدتَ شيئا؟

–        نعم…في المنطقة الجبليّة القريبة من البحر الميّت صادفني أسد! واستعدّ للهجوم عليّ…فنزلت عن ظهر الفرس، وأطلقتها لتنجو بنفسها، ولم أكن بحاجة للسّيف، تصدّيت للأسد بعصاي حتى قتلته، فتنحنح أخوه الصّادق وهو يحدّق في وجهه.

لكنّه واصل حديثه قائلا: ثم استللت “شِبْرِيّتي” وسلخته…وشققته الى نصفين، فتعالت “نحنحة” أخيه….فالتفت اليه أخوه الكاذب غاضبا وقال لأخيه غاضبا: وبعدها أفترسني الأسد! هل أنت مبسوط الآن؟

فسأله عزيز المقدسيّ: ماذا تقصد بحكايتك هذه؟

فردّ محمّد البدويّ: لا أقصد شيئا….قالها وانصرف من غرفة الطّعام.

“11”

اجتمع في زاوية الغرفة أبو فهمي وأبو نعيم، وأبو محمود، وأبو عزمي-وهم أعضاء معروفون في أحزاب سياسيّة منذ النّكبة الأولى- وتداولوا في معاناتهم ومعاناة زملائهم في قسم الموقوفين في انتظار المحاكمة، وتداولوا في أكثر من قضيّة لا يمكن السّكوت عليها…فأبو أحمد يعاني من مرض في القلب، وماجد يعاني من الشّقيقة، ومسعود يعاني من حصوات في كليتيه…ولا يقدّم لهم إلّا دواء مخدّر أو منوّم…وهذا أمر لا يجوز السّكوت عليه.

ولا يسمح لهم بادخال الصّحف والكتب، كما أن إدارة السّجن لا تفتح الرّاديو إلّا على صوت اسرائيل بالّلغة العبرية التي لا يفهمونها، وأقلّ من ساعتين بالّلغة العربية، يستمعون فيها أغنية لأمّ كلثوم، ونشرة أخبار الخامسة والنّصف مساء…ومن حقّهم أن يكون عندهم مذياع يستمعون منه الى نشرات الأخبار التي يريدونها…أمّا وجود الأحداث الجنائيين في نفس القسم فهو مزعج جدّا…فهم معتقلون على سرقات، أو تعاطي المخدّرات والاتّجار بها، وهم يتعاطون المخدّرات، ويُعرّضون القسم لهجمات التّفتيش التي تستهدف الأمنيّين قبل الجنائيّين…كما أنّ الّلواط منتشر بينهم، والسّجينان الجنائيّان “الرّاشدان” الّلذان يتواجد كلّ واحد منهما في غرفة من غرفتي الأحداث، يختار كلّ واحد منهما ضحيّته منهم ليمارس شذوذه الجنسيّ معه، وهم يمارسون الشّذوذ الجنسيّ فيما بينهم، وهذه قضايا لا يجوز السّكوت عنها، وقد طالبوا ادارة السّجن أكثر من مرّة لحلّها….لكنّها أعطت وعودا لم تنفّذ أيّا منها…وبعد التّداول فيما بينهم قرّروا خوض اضراب عن الطّعام حتّى تتحقّق مطالبهم…على أن يبدأ الاضراب بعد أسبوع في 2 تشرين الثّاني-اكتوبر- وهو ذكرى وعد بلفور، ويجب أن يبقى قرار الاضراب سرّا بينهم لا يعلم به أحد إلّا قبل البدء به بيوم واحد، كي لا تعمل ادارة السّجن على احباطه….وبعد نقاش مطوّل اتفقوا على أن يطلبوا من خليل ومصطفى إخبار المعتقلين الموقوفين أمنيّا كلّ واحد على انفراد، وأن يوصيا من يخبرانه بالمحافظة على سرّية الموضوع…فخليل ومصطفى شابّان موثوقان بالنّسبة إليهم.

بعض المعتقلين تقبّل الاضراب بدون نقاش، فليس لديهم ما يخافونه أو يخسرونه،

لكنّ أبا موسى احتار في الموضوع وسأل أبا فهمي عندما أخبره:

كم يوما سيستمرّ الاضراب؟

–        الاضراب مفتوح حتى تتحقّق مطالبنا.

–        وإذا لم يستجيبوا؟

–        سنواصل الاضراب.

–        واذا مات أحد المعتقلين؟

–        سيتحملّ المحتلّون دمه.

–        لا أقصد هذا؟

–        ماذا تقصد؟

–         أقصد ما حكم الدّين؟ أعتقد أنه سيموت منتحرا…وهذا حرام.

–        يستحيل ذلك يا رجل …اذا ما مات البعض-لا سمح الله- فإنه سيسقط الى قمّة المجد شهيدا.

–        وكيف سيكون شهيدا وهو ذاهب الى حتفه طائعا مختارا؟

–        ومن يقاتل في جبهة الحرب يقاتل طائعا مختارا.

–        المقارنة صعبة….ولا حول ولا قوّة إلّا بالله…وماذا بالنّسبة للمرضى؟ هل سيشاركون هم الآخرون بالاضراب؟

–        المرضى معفيّون من المشاركة كي لا تتضرّر صحّتهم…وكي لا تتعرّض حياتهم للخطر.

–        الحياة بيد الله-سبحانه وتعالى- والبشر لا يملكون ضُرّا ولا نفعا لأحد.

–        هذا صحيح…والرّبّ واحد والعمر واحد….هل اتفقنا على المشاركة في الاضراب المفتوح عن الطّعام؟

–        وإذا ما بانت أعراض مرضيّة على أحد المضربين …ماذا سنعمل؟

–         سنعفيه من مواصلة الاضراب.

–        إذا اتّفقنا….توكّلوا على الله.

–        رائع يا أبا موسى توكّلنا على الله…وأرجو أن تخبر جماعتك.

–        أيّ جماعة؟ انا لا جماعة لي.

–        أقصد من تؤمّهم في الصّلاة.

–        حاضر ونسأل الله السّلامة للجميع.

عند تعداد المساء والغرف مغلقة، طلب المعتقلون كلّ على حدة تسجيل أسمائهم كمضربين عن الطّعام اعتبارا من صباح غد، فادارة السّجن هنا لا تسمح لأيّ معتقل أن يتكلّم عن معتقل آخر.

قال مصطفى: سجّلوا من في الغرفة جميعهم.

الضّابط: تكلّم عن نفسك.

مصطفى: أنا أتكلّم عن الجميع…سجّل مَنْ في الغرفة جميعهم.

الضّابط: هل تدرك خطورة ما تقول؟

مصطفى: ” أعلى ما في خيلك شدّ واركب”!

الضّابط: سترى خيلي وفرسانها غدا صباحا.

في الغرفة الثّانية فعل خليل كما فعل مصطفى….لم يكن بينهما أيّ اتّفاق…ولا يمكن تفسير كيفيّة هذا التّوافق…تلقّى خليل التّهديدات نفسها من الضّابط نفسه…لكنّه لم يتراجع.

صباح اليوم التّالي…أحضر الحرّاس وجبة الافطار…عدّوا المعتقلين في غرفهم….فتحوا الأبواب…لم يخرج أحد…قال الضّابط:

أنصحكم بالخروج من الغرف…وتناول افطاركم…والادارة تبحث طلباتكم وستحقّق لكم ما تستطيع تحقيقه…لكن ليس تحت تهديد الاضراب….فماذا تقولون؟

لم يسمع جوابا من أحد…ولم يخرج أحد من الغرف….بلهجة غاضبة والضّابط يلوّح بعصا في يده كأنّه يصارع الفضاء قال لجنوده: أحضروا الطّعام من غرفة الطّعام، وضعوه في منتصف السّاحة على مرأى من الجميع…واتركوا باب الغرف مفتوحة…والجائع منهم سيخرج لتناول طعامه…ومن لا يخرج لا ردّه الله.

وقبل أن ينصرف اصطحب مصطفى وخليل معه تحت حراسة اثنين من الحرّاس.

شدّدوا الحراسة على الأبراج…وأدخلوا الى السّاحة حرّاسا بعدد الغرف..وكلّ واحد منهم يراقب غرفة…ويسترق السّمع لما يدور فيها قدر استطاعته….المعتقلون لا يكترثون…ويواصلون حديثهم ومزاحهم مع بعضهم البعض.

في الغرفة المجاورة للادارة جرى تقييد يدَيّ مصطفى خلف ظهره، وجرى تقييد رِجلي خليل…عصبوا عينيّ كل واحد منهما، وألبسوه كيس خيش….وانهالوا عليهما ركلا وضربا بقبضات الأيدي وبالعصيّ…ضربوهما دون سؤال أو جواب.

علا صراخهما ألَما…سقطا على الأرض لعدم احتمالهما سطوة الضّربات…بعد حوالي ساعة…اقتادوا كلّ واحد منهما الى غرفة…فكّوا قيديهما، وعصبتي عيونهما…وبدأ التّحقيق معهما:

من خطّط لهذا الاضراب؟ وماذا يريد؟ ولماذا لم يظهر هو على السّاحة؟ ولماذا اختارك أنت دون غيرك لتحريض الآخرين؟ بالتأكيد لست أنت من خطّط…فأنت أصغر من القدرة على التّخطيط والتّأثير على الآخرين…أخبرنا عن المحرّضين وستعود الآن الى غرفتك كبقيّة زملائك.

مصطفى أجاب بأن جميع المعتقلين تشاوروا فيما بينهم، وقرّروا الاضراب حتى تستجيب الادارة لمطالبهم، بقي مصرّا على هذه الاجابة، رغم ما تعرّض له من تهديد ووعيد، بينما قال خليل:

أنا من خطّطت وأنا من دعوت الآخرين للاضراب!

فسأله المحقّق: هل تدرك خطورة ما تقول؟

–        نعم أدرك ذلك تماما.

–        لكنّك أصغر من عمل كهذا…وأكتع مثلك وفي مثل عمرك لن يستطيع التأثير على أناس أكبر عمرا من والده.

–        لكنّني أشعر بالظّلم الّلاحق بي أكثر من غيري.

–        نحن هنا ليس من أجل تحقيق العدالة أو رفع الظلم…المحاكم هي من تقرّر ذلك.

–        والى أن تحقّق المحاكم ذلك من حقّنا أن نعيش بكرامة كبقيّة البشر.

–        أنصحك بأن لا تحمّل نفسك أوزار غيرك…قل لنا من هم المحرّضون على الاضراب، وانصرف الى غرفتك بهدوء.

–        قلت لك بأنّني من حرّضت على الاضراب.

–        هل ستتناول افطارك اذا ما أعدناك الى القسم؟

–        طبعا لا…فكيف سأكسر الاضراب وأنا من دعوت اليه؟

–        هل أنت مصرّ على أقوالك؟

–        نعم.

–          خرج المحقّق الى غرفة المدير للتّشاور…وعاد بعد ساعة ليخبر “خليل” بأنه سيُعزل في زنزانة انفراديّة لمدّة شهر، بينما سيوضع مصطفى لمدّة أسبوعين.

في الزّنزانة شعر خليل بالرّضا عن النّفس، فأن تعيش وحيدا في زنزانة أمر لا يطاق…لكنّه يُحتمل في سبيل عدم توريط الآخرين بمشاكل مع عدوّ لا يرحم….تذكّر خليل كيف كان ينام على البيادر في موسم الحصاد….يعدّ نجوم السّماء….يتابع حركاتها…ويستمع لأبيه وهو يشرح له حركة النّجوم ليحدّد الوقت بالتّمام …وكأنّ النّجوم ساعة على معصمه…وعادت به الذّاكرة الى أيّام الصّيف عندما كان ينام على “برندة” مكشوفة في البيت، لأنّه لا يطيق أن يبقى بين أربعة جدران…فمصاحبة النّجوم رحلة لا يعرف متعتها كثيرون ممّن لم يخوضوا التجربة…ونجمة الصّباح عروس السّماء تأتي من مخدعها متأخّرة، وكأنّها تحمل الصّباح خلفها…تسابق الشّمس في بثّ أشعتها على الأرض…فتتوارى النّجوم الأخرى أمامها لتفسح لها الطريق كي تغامز من يرقبون صباحهم…فيضحك خليل لها وتضحك له…وها هو الآن في زنزانة معتمة…نتنة الرّائحة فيها مرحاض تفوح منه روائح كريهة…تخرج منه فئران نميمها يؤذي السّمع…ويشتدّ وهي تغازل قرانبها…ممّا يوحي بأن ّ الفئران تتزاوج طيلة أيّام السّنة…هي سعيدة بنزواتها…ولا تعلم مدى ما تلحقه من أذى بالزّائر الجديد الذي اقتحم موطنها…في الزّنزانة…سرير معدنيّ مثبّت في الأرض…ويرتفع عنها حوالي نصف متر…وهذا الارتفاع ليس صعبا على الفئران لتتسلقه…ولا سلاح لنازل الزّنزانة سوى حذائه ليضرب به الفأر الذي يقترب منه…هي معركة غير متكافئة بين قبيلة الفئران هذه، وبين من يقوده حظّه العاثر الى مجاورتها.

مصطفى في زنزانته…ألقى جسده على السّرير…لم تداعب خياله النّجوم كما فعلت مع خليل…فهي لا تعرفه…فلم يسبق له أن سهر الّليالي بصحبتها كما كان خليل يفعل…عادت به الذّاكرة الى شقيقه الرّضيع خالد…ابن الثمانية عشر شهرا…الّذي كان يداعبه…خصوصا وأنّه آخر من احتضنه من أبناء الأسرة عندما اختطفوه من حضنها في تلك الّليلة المشؤومة…ابتسم لخالد وكأنه يحتضنه  ويداعبه….وتساقطت دموعه على وجنتيه عندما تذكّر دموع والدته.

مضى اليوم الأولّ من الاضراب عن الطّعام بمشاركة الجميع بمن فيهم المرضى، أبو أحمد الذي يعاني من مرض في القلب، وماجد الذي يعاني من الشّقيقة، ومسعود الذي يعاني من حصوات في كليتيه، لم يقبلوا استثناءهم من المشاركة في الاضراب، رغم الحاح الآخرين عليهم…بل إنّ أبا أحمد قال: الرّبّ واحد والعمر واحد…وأنا لست أفضل من أيّ منكم.

ردّ عليه أبو فهمي قائلا: القضيّة ليست قضيّة مفاضلة أو عدمها، وإنّما للضّرورة أحكام.

أيّ ضرورة يا رجل؟ فالأوضاع لم تعد محتملة، ردّ أبو أحمد.

فقال أبو موسى: يقول تعالى:” ولا تلقوا بأيديكم إلى التّهلكة وأحسنوا إن الله يحبّ المحسنين” صدق الله العظيم.

فقال أبو أحمد: بعون الله سأشارك في الاضراب مهما كانت النتائج.

عند اغلاق الغرف في السّادسة مساء…عادوا الى النّقاش حول الاضراب…وما الذي سيحقّقه؟ بينما كان سعود يتقلّب ألَمًا…فنوبات المغص الكلوي يصعب على المرء تحمّلها…نصحوه بالاكثار من شرب الماء…لكنّ ذلك لم يساعده في شيء…أصيب بحالات من التقيّؤ والاسهال…وواصل تناول الماء بكثرة، كان يتلوّى معانقا طريق الآلام، ويتذكّر لحظات السّعادة التي عاشها، لعلّها تخرجه من نوبات الألم ، يكتم أنّاته الفزعة كي لا يؤذي زملاءه…وعند حوالي منتصف الّليل خفّت الآلام في خاصرته…لكنّه عانى من انغلاق المسالك البوليّة…تناول المزيد من الماء وهو مضطجع على ظهره…ذهب الى المرحاض…عصر نفسه وهو يحاول اخراج البول…ضغط على نفسه…شعر بشيء ينطلق منه، والبول يندفع بشكل طبيعيّ..شعر بحرقة في المسالك البوليّة…لكنّ لذّة الخلاص من البول لا توصف…تأكّد بأنّ الحصوة التي كانت تحشر البول قد خرجت…لكنّه لم يشاهدها لعدم وجود اضاءة…صباح اليوم التّالي شاهد أبو فهمي الحصوة في زاوية المرحاض…التقطها وخرج بها وهو يقول: هذه الحصوة التي قذفها سعود…نظروها جميعهم…كانت بحجم نواة الزّيتون…مخشرمة ومسنّنّة، فقال سعود ضاحكا: هذه واحدة من فوائد الاضراب! ولو سمعت نصائحكم بعدم المشاركة في الاضراب لما شربت كلّ هذه المياه…ولبقيت الحصوة تمارس طقوسها في كليتي.

ماجد يسأل سؤالا لم يخطر على بال أيّ منهم: ألم تروا أنّنا تعجّلنا في اتّخاذ قرار الاضراب عن الطّعام؟ أليس من المفترض التّشاور مع اخوتنا الباقين في السّجون الأخرى؟ ولو شمل الاضراب بقيّة السّجون لكانت الفائدة أعمّ، ولحظي الاضراب بتغطية اعلامية واسعة، مما سيشكّل ورقة ضغط على ادارة السّجون كي تستجيب لمطالبنا العادلة.

وقال أبو موسى: علينا أن نبحث عن سبب للتّراجع مع حفظ ماء الوجه.

أبو فهمي: تريّثوا قليلا واليوم ستبدأ سياسة عض ّ الأصابع.

في اليوم الثّاني جاء ضابط كبير….يتبختر كما الطاؤوس ملوّحا بعصا في يده…مشى في الساحة….قال بلهجة آمرة:

اختاروا من يمثّلكم كي نتفاوض لانهاء هذه المهزلة.

لم يسمع جوابا….ركل طناجر الطّعام المركونة وسط السّاحة أمام جميع الأسرى…انقلبت وسقط الطّعام منها على الأرض وهو يردّد: من  يجوع منهم  ويريد أن يأكل فليتناول طعامه عن الأرض كما الكلاب!

تعالى صوت الاحتجاج من داخل الغرف…ومنهم من ردّد بصوت عال بالعربيّة والعبريّة: أنت الكلب وليس غيرك!

لم يكن معنيّا بتصعيد الموقف…فانسحب من السّاحة وهو ينفخ كفحيح الأفعى السّامة.

اجتمع من قرّروا الاضراب من الأسرى، وتباحثوا في الأمر…اتفقوا أن يخرج أبو فهمي وأبو موسى ليفاوضوا ادارة السّجن في اليوم الثّالث للاضراب، على أن تكون المبادرة من الادارة وليس منهم…واتفقوا أن لا يتمّ التّفاوض قبل إعادة مصطفى وخليل الى القسم.

عند ساعات العصر اقترب أبو خليل من المغسلة داخل الغرفة لاهثا…وضع اصبعيه السّبّابة والوسطى في جوفه ليساعد معدته على التقيّؤ. جرح سقف حلقه باظفر سبّابته…بصق دما وقال لاهثا:

انظروا الى الدّماء تخرج من معدتي…فهي تؤلمني جدّا…يبدو أنّها تقرّحت..وأشعر أنّها ترقص في بطني كأنّها تريد الخروج لتتحرّر من جسدي…غفرانك يا ربّ…اسمحوا لي يا اخوان…لن أستطيع الاستمرار في الاضراب…فأنا مريض كما ترون.

نظروا الى وجوه بعضهم البعض متسائلين ومستغربين….فهذا مشهد تمثيليّ لم يكن في الحسبان….اقترب من أبي فهمي وقال: هل ستأذنون لي بانهاء الاضراب وتناول طعامي؟

فقال أبو فهمي: وما شأني بك حتّى أعطيك إذنا؟ أنت مسؤول عن نفسك.

عصافير الجوع تزقزق في أمعاء الأسرى…ذاكرتهم ترجع بهم الى طعام يشتهونه…فقال محمّد البدويّ:

في مثل هذه الأيّام من  السّنة الماضية، كنت أرعى الغنم قرب “كسيفة” …أوردتها بئر ماء فشربت وهجعت في محيط البئر…أحد الخراف برطع وقفز من مكان الى آخر…كنت جائعا…فقلت هذا الخروف يودّع الحياة…واستلّيت شبريّتي وذبحته…ووضعت جلده في خُرْجِ حمار الغنم كي تقوم أمّ العيال بتمليحه ودبغه، ليكون واحدا من الجلود التي سأعمل منها فروة، تقيني برودة الطّقس في فصل الشّتاء…جمعت حطبا…وشويته…فاحت رائحة الّلحم …فحطّ بالقرب منّي غرابان….شعرت أنّهما جائعان عندما هجما مع كلب الغنم على العظام التي كنت أرميها على الأرض، أطعمت الكلب  نصيبه من الّلحم الذي تكسوه الدّهون…أكله بشهيّة على رائحة الشّواء، مع أنني كنت ألقيه له قبل أن ينضج…أشفقت على الغرابين فرميت لكلّ واحد منهما قطعة من الدّهون…فتلقياها وطارا بهما بعيدا عن الكلب الّذي طاردهما …لم يكن الخروف كبير الحجم…فلحمه يزن حوالي اثني عشر كغم….أكلت نصفه، وشويت الباقي لأحمله معي لأمّ العيال ولطفليّ الصغيرين، وفي الطّريق الى البيت كنت أمدّ يدي في الخرج…أسحب قطعة وآكلها..ووصلت البيت وقد أتيت على الخروف كاملا…فقالت أمّ العيال:

أشمّ رائحة شواء تصاحبك…فلم أجبها….أمسكت خروفا آخر وذبحته…وكنت أشوي الّلحوم على صاج الخبز… الطفلان يجلسان واحد على يميني والثّاني على يساري… أُطعمهما وأمّ العيال تحلب الغنم.

أمّا سعود فقد تغنى بالمفتول مطبوخا مع الدّجاج البلدي…هو لا يعرف كيف يُطبخ…فوالدته تطبخ دون أن يساعدها أحد.

لكنّ جريس قال: في خاطري طبخة “خبّيزة” في الرّبيع الماضي زرت صديقا في قرية مخماس-الى الشمال الشّرقيّ من القدس- وجدته وأسرته يأكلون”خبّيزة” فشاركتهم طعامهم…لم أذُق في حياتي طعاما ألذّ وأشهى من تلك الوجبة…اشتريتها بعد ذلك من فلّاحة تبيعها في السّوق…لكنّها لم تكن ذات مذاق لذيذ كتلك التي أكلتها في مخماس، مع أنّ زوجتي طبختها مع بعض قطع لحم من خروف، فابتسم محمّد البدويّ وقال:

الّلحمة هي التي أفسدت طعم الخبّيزة….فالخبّيزة لا تطبخ مع الّلحوم.

فردّ جريس: وهل تأكلون الخبّيزة كثيرا يا محمّد؟

محمّد: طبعا نأكلها في الرّبيع بشكل شبه يوميّ.

جريس: هنيئا لكم.

محمّد: ذكّرتي يا جريس بذلك البدويّ الذي زار أحد سكّان المدينة…فقدّم له المضيف وجبة من الخبّيزة التي يشتهيها…فابتسم البدويّ وهو ينظر الى المائدة وقال مخاطبا صحن الخبّيزة:

قبّحكِ الله …ها أنتِ تلاحقينني أينما ذهبت، والتفت الى مضيفه وسأله:

هل عندكم زيتون مرصوص؟

–        نعم لدينا…ولم نضع زيتونا على المائدة كي لا تضيع لذّة الخبّيزة.

ولمّا قدّم المضيف صحنا من الزّيتون، أكل منه البدويّ، ولم يأكل من الخبّيزة. فظنّه المضيف أنّه لا يحبّها.

تنحنح أبو غسّان وقال: تتكلّمون عن أشهى المأكولات، ونحن منذ يومين مضربون عن الطّعام! وكأنّكم تحرّضون أنفسكم على كسر الاضراب…تكلّموا في أمور أخرى لا علاقة لها بالطّعام.

جريس: ومن أين سنأتي بكلام آخر والخبّيزة تتماوج أمامنا مروجا، تنتظر من يبقلها لتحطّ في الطّنجرة؟ وكلب محمّد يطارد الغربان التي شمّت رائحة الّلحوم من بعيد؟

أبو فهمي يريد أن يصرفهم عن الحديث حول الأطعمة الشّهيّة يسأل:

من منكم يعرف حكاية شعبية؟

جريس: جميعنا.

أبو غسّان فهم ما يرمي اليه أبو فهمي فقال: احكِ لنا واحدة من الحكايات التي تعرفها.

جريس: كان يا ما كان رجل فقير يدعو الله ليل نهار أن يحقق له ثلاث أمنيات، يستطيع من خلالها أن يحقّق ما يريد، فاستجاب الله دعاءه، وجاءت زوجته وابنه الوحيد، وطلبا منه أن يمنح كلّ واحد منهما أمنية من أمنياته الثلاث، وأن يكتفي بأمنية واحدة لنفسه ، فوافق… وبينما هم جلوس واذا بالزوجة تغضب من ابنها وتقول له : أسأل الله أن يمسخك قردا، فردّ عليها بقوله : بل يمسخك أنت!

واذا بهما الزوجة والإبن قردان لأن الله سمع دعاءهما، وهكذا بقيت الأمنية الوحيدة التي هي ملك الزوج – الأب- فقال : يا ربِّ أعدنا كما كنّا، فعاد الإبن والزوجة الى حالتهما الأولى .

ضحك من في الغرفة، وقال أبو فهمي: اذن ارضوا بواقعكم…واتركوكم من الأحلام والأماني بعيدة المنال…وسأل: من منكم سيروي لنا حكاية أخرى؟

فقال أبو نعيم: صلّوا على النبيّ وواصل حديثه:

كان في قديم الزمان وسالف العصر والأوان مدينة يحكمها سلطان جائر، وكان يثقل كاهل رعيّته بما يجبيه منهم من ضرائب، وكانت هذه الضّرائب تجبى من  الفقراء دون الأغنياء. وبقي على هذه الحالة حتى أصبح الشّعب في مجاعة، ولم يعد مع الفقراء ما يسدّون به رمقهم، فمن أين سيدفعون الضّرائب ؟ ولما علم السّلطان علم اليقين أنه لم يعد مع الفقراء أيّ “مليم” طلب إحضار ثلاثة من كبار التّجار الأغنياء في عاصمته. وجلس في باحة قصره ووضع أمامه “جَدْيًا” وأمر بإدخال التّاجر الأوّل، ولما مثل بين يديه طرح السّلام عليه وقال له: أمر مولاي السّلطان .

فقال له السّلطان: ما هذا؟ وأشار الى الجدي.

فأجاب التاجر: هذا جدي يا مولاي…. فأمر السّلطان حرّاسه بضربه، وهو يردّد: كيف جمعت كلّ هذه الأموال وأنت لا تعرف الجدي من العجل؟ وحكم عليه أن يدفع مئة ألف دينار كغرامة لأنّه لم يعرف الإجابة!

وكان التّاجران الآخران ينتظران، ويسمعان من النّافذة ما جرى مع زميلهم الأوّل، فأمر السّلطان بادخال التّاجر الثّاني، وسأله نفس السّؤال فأجاب : هذا عجل يا سيّدي! فغضب السّلطان، وأمر جنده بضربه وتغريمه مئة ألف دينار، وهو يصيح ويقول: الله أكبر لا تفرّقون بين الجدي والعجل .

ولما رأى التّاجر الثالث ما حلّ بصاحبيه أخرج نقوده وعدّ منها مئة ألف دينار ووضعها في كيس. ولمّا أدخلوه على السّلطان، وسئل نفس السّؤال أجاب: هذا يا مولاي سخط من الله… وإليك هذا الكيس وفيه مئة الف دينار.

ضحكوا جميعهم…وقال أبو فهمي: هذه حكاية ذات مغزى…فلا خلاص لذلك الشّعب إلّا بالخلاص من السّلطان، ونحن في ورطتنا هذه لا خلاص لنا إلّا بالخلاص من الاحتلال.

أمضوا ليلتهم وهم يسردون الحكايات….فنسوا لسعة الجوع الذي يكابدونه.

وفي صباح اليوم الثّالث للاضراب…خرج أكثريّتهم يتمشّون في الساحة….يمرّون بالطّعام المركون وسطها ولا يلتفتون اليه…أو هكذا يتظاهرون…ومع أنّ الجوع كافر إلّا أنّ عدالة مطالبهم تتطلّب التحمّل والصّبر…ومفتاح الفرج لا بدّ وأن يدور في الأبواب…جاء ضابط الى القسم وسأل: هل اتّفقتم على رأي جديد؟ اقترب منه أبو فهمي وأبو موسى وأجابه  أبو فهمي متسائلا: هل استجبتم لطلباتنا؟

–        تعالوا الى الادارة وهناك سنبحث الأمر.

–        هيا بنا.

في مكتب المدير سألهم: هل تشربون قهوة أم شايا؟ وهذه ليست من عادته أن يقدّم شيئا للمعتقلين…لكنّه يريد أن يكسر اضرابهم بحجة “الضّيافة” غير أنّهما كانا متنبّهين لذلك، فردّ عليه أبو فهمي:

نحن مضربان عن الطّعام كما تعلم.

–        والى متى سيستمر اضرابكم؟

–        الى أن تستجيبوا لطلباتنا.

–        أنا لست معنيّا بصبّ الزّيت على النّار…سأنفّذ لكم ما استطيعه، لكن هناك أمورا لا أملك القرار فيها، فهي من اختصاص الجهات العليا.

–        وما هو الذي تستطيع تنفيذه؟

–        فور انهائكم للاضراب سأنقل الأحداث الجنائيّين من القسم الذي تتواجدون فيه الى قسم آخر….وبالنّسبة للمرضى سأسمح لذوي كلّ مريض أن يدخلوا له طبيبا متخصّصا في مرضه…وسأسمح بادخال الدّواء الذي يكتبه له طبيبه الخاصّ…أمّا بالنّسبة لادخال المذياع والصّحف العربيّة فهذا أمر يحتاج الى تصريح من الجهات العليا…وبالنسبة للكتب سأسمح بادخال كتب بعد تمريرها على الرّقابة…فما رأيكم؟

–        ومن سيضمن لنا تنفيذ ما تقول؟

–        أنا أقول لكم الصّدق وسأنفّذ ما قلته لكم…ودلالة على حسن النّوايا سيتم نقل الأحداث فورا وقبل أن تعودوا الى القسم…فماذا تقولون؟

–        سنعمل على اقناع زملائنا بانهاء الاضراب اذا أعدتم مصطفى وخليلا الى القسم.

–        مصطفى سأعيده الآن الى القسم أمّا خليل فهو شاب متمرّد، ويجب أن يبقى في العزل.

–        لن يتخلّى نزلاء القسم عن خليل، ولن يقتنع أحد بانهاء الاضراب قبل عودة خليل الى القسم…ولا تنس أنّ خليل في قسم العزل بسبب الاضراب.؟

فكّر قليلا…ارتشف القهوة بتلذّذ وهو يشعل سيجارة…نظر اليهم وقال:

حسنا سأعيد مصطفى وخليل الآن الى القسم…فهل ستنهون الاضراب؟

–        اعطنا فرصة حتى نحاول اقناع زملائنا.

–        لكم ذلك.

عادا الى القسم سعيدين…فقد حقّقا شيئا يريانه مهمّا…عند بوّابة القسم كان مصطفى وخليل في استقبالهما….ووجدا أن ترحيل الأحداث الجنائيّين من القسم قد تمّ….اجتمعا مع زملائهم في غرفة الطّعام…شرحا باسهاب ما جرى بينهما وبين مدير السّجن…وقال أبو فهمي:

ليس أمامنا خيارات أخرى سوى انهاء الاضراب…أليس كذلك يا أبا موسى؟

–        نعم يا أبا فهمي…وحفاظا منّا على حياة اخواننا فانّنا نرى أنّ انهاء الاضراب فيه مصلحة للجميع.

–         شكره أبو فهمي وخاطب الحارس في القسم:

–        لقد قرّرنا انهاء الاضراب…أحضروا الطّعام…ثمّ التفت الى المعتقلين وقال: ابدأوا طعامكم باحتساء المَرَق كي لا تتقرّح أجهزتكم الهضميّة…ولا تكثروا من الأملاح…وامضغوا الطّعام جيّدا…وتوكّلوا على الله.

“12”

تمرّ الأيّام والّليالي تباعا، أعداد من المعتقلين تغادر القسم بعد أن يصدر ضدّهم أحكام من المحاكم العسكريّة، أحكام تتفاوت بين شهور وبين السّجن سنوات طويلة، وبعضها يصل الى مؤبّدات وغيرها، وقليل من الموقوفين يُكتفى بفترة توقيفه، ويُطلق سراحه. لكنّ القادمين الى القسم أكثر عددا ممّن يغادرونه.

خليل يطالع الكتب الموجودة في القسم وكأنّه يجد ضالّته فيها…يجالس الآخرين….يمازحهم….يمارس رياضة المشي في السّاحة، مثله مثل الآخرين، لكنّه يحلم دائما بمراقبة النّجوم كما كان يفعل قبل اعتقاله…يقف عند شبّاك الغرفة ليلا…لكنّ القضبان الحديديّة والجدران القريبة لا تتيح له فرصة لرؤية السّماء…فيرتدّ خائبا الى سريره دون أن يحقّق أمنيته.

أبو فهمي يقول: كلّ يوم يمرّ في هذا السّجن هو نقصان من عمر نزلائه، وبالتّالي علينا أن نشغل أنفسنا بأمور مفيدة، لذا اقترح تخصيص ساعات لمحو الأمّيّة، لمن لم تتح لهم فرصة التّعلّم، وساعات لتعلّم الّلغة العبريّة، وساعات لّلغة الانجليزيّة.

قدّمت إدارة السّجن لوحا خشبيّا للكتابة، تمّ تعليقه في غرفة الطّعام، كما قدّمت الطباشير، وعددا من الدّفاتر وأقلام الحبر الجاف، بعد أن تدخّل الصّليب الأحمر في ذلك…وأبدى استعداده بتزويد السّجون بمتطلّبات التّعليم التي يبغيها الأسرى، وادارة السّجون لا تريد الصّدام مع الأسرى، بل إنّ انشغالهم ساعات في تعلّم وتعليم الّلغات سيحقّق الهدوء، فالأسرى في غالبيّتهم شباب لديهم طاقات كامنة كبيرة، فإن لم يجدوا ما يفرّغون به هذه الطّاقات، فانّها ستنقلب الى ” شغب ” قد تصعب السّيطرة عليه.

خلاف حادّ بين المعتقلين حول تعلّم الّلغة العبريّة…مصطفى يسأل:

هل تريدوننا أن نتعلّم اللّغة العبريّة؟.

أبو فهمي: وما المانع في ذلك؟

–        إنّها لغة دولة الاحتلال.

–        ولأنّها لغة دولة الاحتلال يجب أن نتعلّمها…و”من تعلّم لغة قوم أمن شرّهم ”

–        لكنّ الاحتلال سيرحل خلال شهور! وهذه لغة لا يتكلّمها إلّا اليهود في اسرائيل…ويتخلّون عنها اذا ما سافروا الى أيّ دولة أخرى.

–        في الأحوال كلّها معرفة أيّ لغة أمر جيّد…فمن يرغب في تعلّم الانجليزيّة أوالعبريّة، أو كلتاهما معا فله ذلك، ومن لا يريد فهو حرّ بقراره….وبالتّأكيد فانّ محو الأمّية بالعربيّة أمر مفيد.

محمّد البدويّ يسأل: هل أستطيع أن أتعلّم القراءة والكتابة بالّلغة العربيّة، وأن أتعلّم الانجليزيّة والعبريّة أيضا؟

فردّ أبو فهمي: نعم تستطيع ذلك…واذا كانت لديك الارادة ستستطيع تعلّم الّلغات الثلاث قراءة وكتابة ومحادثة.

يبتسم محمّد ويتخيّل نفسه وهو يحمل كتابا بين يديه ويطالعه…تخيّل الكتاب كنزا يحمل بين صفحاته مفاتيح السّعادة والرّزق، وازداد بهاء عندما رأى نفسه يتكلّم ويقرأ ويكتب لغتين اضافيّتين…أمّا خليل فقد تردّد في تقبّل اللّغة العبريّة…لكنّه حسم الموضوع بضرورة تعلّمها…خصوصا بعد أن أعلن أبو فهمي بأنّه سيكون أوّل من يتعلّم العبريّة….وأنه سيقوم بتدريس اللّغة العربيّة للأمّيّين… وعندما سأل: من منكم يجيد الانجليزيّة؟

جريس وخليل ردّا معا: أنا.

التفت أبو فهمي الى خليل وسأل:هل تجيد الانجليزيّة حقّا؟

–        نعم أجيدها كتابة وقراءة ومحادثة.

–        وهل تجيد لغات أجنبيّة أخرى؟

–        كلّا..الانجليزيّة فقط.

–        وأين تعلّمتها؟

–        في المدرسة، ومن خلال عملي في التنقيب عن الآثار في سلوان خلال عُطَلِ المدرسة الصيفيّة، وفي لندن أيضا.

–        وكيف ولماذا سافرت الى لندن؟

–        بالطّائرة كما يسافر الآخرون…وكنت في زيارة أسرتي الثّانية.

–        هههههه…وهل لك أسرتان؟

–        نعم أسرتي في البلاد وهي الّتي أنجبتني وربّتني…وأسرتي الثّانية البريطانيّة الّتي تبنّتني.

–        وكيف تبنّتك؟

–        هذه قصّة طويلة سأرويها لك لاحقا.

–        حسنا…اذن أنت وجريس ستقومان بتدريس الّلغة الانجليزيّة.

وقال غسّان: وأنا سأدرّس العبريّة.

أبو فهمي اعتمد تعليم محو الأمّيّة من خلال الاعتماد على نظام الجملة، يكتب جملة على الّلوح، ثمّ يحلّل حروفها أمام الدّارسين…فرحة الأمّيّين بالتّعلم كبيرة ولافتة، وهم يرون فيها نفضا لغبار مرحلة ظالمة لم يكن لهم فيها خيار أو رأي، فانكبّوا على دروس محو الأمّيّة بكلّ مشاعرهم وتفكيرهم، ووجدوها فرصتهم السّانحة التي من خلالها سيدخلون عالم الكتب والمعرفة، ومحمّد البدويّ  رأى فكّ طلاسم الّلغات بمعرفة أبجدياتها جبلا وعرا يصعب تسلّقه، لكنّه رأى نفسه فارسا يجيد السّباق، ولا خيارات أمامه سوى الفوز، وبارادته القويّة ومواظبته كان استيعابه لافتا أكثر من غيره…بعد حوالي شهرين كان يمسك كتابا بالعربيّة…يحاول القراءة بتأتأة وهو يتتبّع الحروف…الى أن أصبح يقرأ بطريقة لافتة…وبعد ثلاثة شهور كان يسابق الآخرين على صحيفة “يديعوت احرنوت” العبريّة…يقرأ عناوين الأخبار والتّقارير الصّحفية، ويستمع الى نشرات الأخبار العبريّة…ويحادث “خليل” بالانجليزيّة، حتى أصبح مثالا يُقتدى لغيره. وعندها رأى طريق العلم أرضا سهليّة وسهلة للسّباق.

أمّا “الامام”أبو موسى فقد التحق بصفّ محو الأمّيّة بعد ثلاثة شهور من بدئه…فتحسّنت قدراته على القراءة والكتابة، وباشر القراءة في المصحف الشّريف في محاولة منه لحفظ القرآن غيبا…وساعده غسّان في معرفة أصول التّجويد والتّرتيل…والتفّ حوله عدد من الأسرى يتقرّبون الى الله بحفظ كتاب الله.

“13”

“الفاضي يعمل قاضي” لكنّ الوضع خلف القضبان مختلف جدّا، ويبدو أنّ عقارب ساعة الحياة تتوقّف عند الأسرى، ولا يعود أمامهم سوى الوقوف على الأطلال، ونبش الذّاكرة عن حوادث سابقة لزمن الاعتقال، فالواحد منهم يروي حادثة حصلت معه في سنوات سابقة عشرات المرّات…وكأنّه يدور في حلقة مفرغة لا جديد فيها،….وعندما يسمعون حادثة تكرّرت روايتها، فإنّ الأمر لا يخلو من فكاهة كقول أحدهم هذه هي المرّة رقم 15 التي أسمعها وهكذا….فيقول الرّاوي:

من أين سآتيكم بجديد؟ فكلّكم تروون الحادثة عشرات المرّات…أم أنّكم تريدوننا أن نجلس صامتين؟ و”السّكوت من الشّيطان”.

وللخروج من هذا الرّوتين القاتل اقترح أبو فهمي أن تجري نقاشات سياسيّة حول بعض الأخبار السّياسيّة الّلافتة، والتي يسمعونها في نشرات الأخبار بالّلغة العبريّة طيلة اليوم، ويسمعونها من صوت اسرائيل مرّة واحدة بالعربيّة في السّاعة الخامسة والنّصف مساء، كما اقترح بأن يقوم من يجيدون العبريّة بترجمة بعض المقالات من صحيفة”يديعوت احرنوت” الاسرائيليّة.

ومصطفى يقترح نقاشا حول بعض الظّواهر الاجتماعية التي تتحكّم بتصرّفات المواطنين…لكنّ خليل أضاف دعونا نتساءل :متى سينتهي الاحتلال؟

فردّ عليه أبو موسى :سننتهي من الاحتلال عندما نعود الى الله!

وقال أبو فهمي: صراعنا مع المحتلّ طويل….وسبب هزائمنا هي تجزأة العالم العربيّ، وتشتيت الجهود والطّاقات العربيّة…لكنّ الشّعوب العربيّة لن تقبل بالهزيمة، وستقوم ثورات في العالم العربيّ ستطيح بالأنظمة الرّجعيّة.

راشد الفحماوي قال: لكنّ هزيمتنا قبل عام كانت بسبب الأنظمة التي تدّعي التّقدّميّة.

أبو فهمي: نحن خسرنا معركة ولم نخسر حربا…فاسرائيل لم تستطع اسقاط النّظامين التقدّميّين في مصر وسوريا.

راشد: وهل بقاء شخص في الحكم وضياع وطن نصر؟

أبو فهمي: جمال عبد النّاصر لن يهدأ له بال قبل تحرير الأراضي المحتلّة. والاتحاد السوفييتي لن يقبل بهزيمة حلفائه.

راشد: ما لم تسد الدّيموقراطية العالم العربيّ فلن تقوم لنا قائمة.

راشد: الديموقراطيّة صناعة غربيّة لا تناسب شعوبنا.

أبو فهمي: مجتمعاتنا متديّنة ورجال الدّين عندنا يقولون أن لا ديموقراطية في الاسلام.

اشتدّ الخلاف وتدخّل غسّان بأن طرح موضوع الصّليب الأحمر…وزياراته للسّجون ومقابلته للأسرى.

أبو فهمي: عندما يأتي مندوبو الصّليب الأحمر، على الّذي يطلبونه للمقابلة أن يخبرهم عمّا جرى معه بصدق وأمانه….أخبروهم عن التّعذيب الذي تعرضتم له…وأخبروهم عن اكتظاظ الغرف وسوء التّهوية…وعن الطّعام الرّديء الذي يُقدّم لكم…وعلى المرضى منكم أن يخبروهم عن معاناتهم، وآلامهم وعدم تقديم الأدوية المناسبة لهم.

مصطفى: الصّليب الأحمر عملاء لاسرائيل، ويتكتّمون على جرائمها.

أبو فهمي: هذا كلام غير صحيح، فمنظّمة الصّليب الأحمر منظّمة دوليّة انسانيّة.

مصطفى: وماذا فعلت لنا ولقضيّتنا؟

أبو فهمي: إنّهم يقدّمون تقارير لرئاستهم في جنيف، ومن هناك يعالجون القضايا الانسانية بهدوء مع الدّول المعنيّة…ويصدرون بيانات تفضح ممارسات الدّول التي تنتهك حقوق الانسان…وهذا يشكّل فضيحة لهذه الدّول أمام الرّأي العامّ العالميّ..ممّا يجبرها على الحدّ من انتهاكاتها.

خليل: وهل يسأل مندوبو الصّليب الأحمر الأسرى عن التّهم الموجّهة إليهم؟

أبو فهمي: لا….فهذا ليس شأنهم، ولا يعنيهم.

بعد أيّام طلبت ادارة السّجن تنظيف قسم الموقوفين…..ووزّعت على الأسرى  قطع صابون، ومعجونا وفراشي  لتنظيف الأسنان، واستبدلت البطّانيّات المهترئة….وقدّمت في وجبة الغداء ربع دجاجة لكلّ أسير، وصحنا من الأرزّ النقيّ…يختلف عن الأرزّ السّابق الذي يشبه بذور المكانس. هذا أمر جيّد قال أبو نعيم، ” فمن قلّة الزفر بطّلنا نقشع “.

محمّد البدويّ: الدّجاج ليس زفرا.

فقال غسّان: يوم أمس بثّ راديو اسرائيل خبرا جاء فيه، أنّ قذائف كاتيوشا سقطت على مزرعة لتربية الدّواجن في الخالصة-كريات شمونه- ودمّرتها، . وأضاف مازحا: أخشى أنّ هذا هو الدّجاج الذي نفق في تلك المزرعة!

فردّ غسّان: اذا كان الأمر كذلك، فليت المقاومة تقصف كلّ يوم مزرعة دواجن أو بقر أو غنم…حتى نأكل ما ينفق فيها.

أبو فهمي: يبدو أنّ هناك تغييرات على الطّعام الذي يقدّمونه للأسرى، ففي الزّيارة السّابقة للصّليب الأحمر، سألني مندوب الصّليب: هل يقدّمون لكم لحوما أو أسماكا أو دجاجا في وجبة الغداء؟ ولمّا أجبته بالنّفي قال: هذا لا يجوز…فحسب اتّفاقنا معهم هم ملزمون بتقديم واحدة منها في كلّ وجبة غداء…وتذكّرت أنّهم يضعون في طنجرة المرق علبة لحمة صغيرة…قد لا يراها المرء عندما تذوب وسط ” قِدْرٍ” كبير من الماء والقليل من الخضار…وواضح أنّ الصّليب الأحمر قد تابع الموضوع معهم.

في اليوم الثّاني مباشرة حضر مندوبان عن الصّليب الأحمر…زارا القسم…دخلا الغرف…نظرا ما فيها…تفقّدا غرفة الطّعام…وانصرفا الى غرفة قريبة من الادارة…كان جريس هو المترجم لمن لا يعرف الانجليزيّة من الأسرى…أوّل شخص استدعوه كان “خليل”…سأله مندوب الصّليب الأحمر:

كيف كان التّحقيق معك؟ ردّ عليه مباشرة بالانجليزيّة…فطلبا من جريس مغادرة الغرفة ليبقيا منفردين مع خليل….فواصل خليل شارحا ما تعرّض له من تعذيب جسديّ ونفسيّ…لم يترك واردة أو سادرة إلّا ذكرها، حتى معاناته مع القمل في مركز التّحقيق تكلّم عنها. كما تحدّث عمّا تعرّض له من ضرب في اليوم الأوّل للاضراب الّذي كان في هذا السّجن، وعن صراعه مع الفئران في زنزانة العزل الانفراديّ…حديثه ضرب على دفّ الانسانيّة الذّبيحة في هذا العصر…كلماته لوحة بؤس للمعذّبين في الأرض…وسياط تجلد الظّالمين؛ لترتسم علامات حزن على وجهي سامعيه.

سأله مندوب الصّليب الأحمر: هنا في هذا السّجن هل يقدّمون لكم لحوما أو أسماكا أو دجاجا؟

مضى على وجودي هنا خمسة شهور، لم أذق فيها طعم الّلحم أو الدّجاج….ظهيرة كلّ سبت يقدّمون لكلّ واحد منّا قطعة سمك لا يزيد وزنها عن 100 غرام….وفي وجبة غداء يوم أمس فقط قدّموا لكلّ واحد منّا ربع فرخة دجاج صغيرة.

–        وماذا بالنّسبة لّلحوم الحمراء؟

–        لا نراها ولا نتذوقّها.

بدا مندوب الصّليب الأحمر مشدوها…وكأنّه يشعر بالأسى ممّا يسمع…نظر الى زميله كي ينتبه الى ما قاله خليل…بينما هو يسجّل كلّ كلمة يتفوّه بها خليل، وهذا الكلام ليس جديدا عليه، فقد سمعه من مئات الأسرى الذين قابلهم في هذا السّجن، وفي سجون أخرى.

شكرا خليل واستدعيا جريس للترجمة للآخرين.

عند وجبة الظّهيرة جاء مع وجبة الغداء شريحة من لحم البقر لكلّ أسير، مطبوخة بالماء…لا يزيد وزنها على 100 غرام…فاعتبرها الأسرى تضليلا لمندوبي الصّليب الأحمر…وتمنّوا لو أن الصّليب الأحمر يتواجد يوميّا في كلّ سجن…لكنّهم في ” سهرة ” المساء، وبعد اغلاق الغرف، أكّدوا على الدّور المهمّ للمنظّمات الانسانية، وفي مقدّمتها الصّليب الأحمر.

“14”

نهض خليل متثاقلا لعمليّة التّعداد الصّباحيّة…وقف بجانب سريره مرغما…وجهه يمتقع بالّلون الأزرق…حرارة جسمه مرتفعة…لم يخرج لتناول وجبة الافطار…فلا شهيّة لديه للطّعام….سألوه: ما بك؟

لا شيء… أجاب.

اقترب منه أبو فهمي…وضع يده على جبينة…شعر أنّه مصاب بالحمّى…سأله مرّة أخرى: هل عندك ألم ما ؟ فأجاب على استحياء:

ظهر دُمّلٌ على فخذي عند ملتقى عظم الفخذ مع الحوض.

لا بأس قال له أبو فهمي…في الثامنة ستخرج الى غرفة الممرّض ضمن الأشخاص الخمسة الذين يسمحون لهم يوميّا بزيارة “عيادة “التمريض.؟

في الغرفة الثّانية كان دُمّل قد ظهر على أرنبة أنف راشد، فظهر كما مهرّجي السّيرك عندما يُلبسون أنوفهم “مصبعانيات ” لاضحاك الأطفال…ارتفعت حرارة جسمه قليلا…لكنّه خرج من الغرفة لتناول طعام افطاره…وقال مازحا: أرى أنفي يتمايل على وجهي كطائرة مروحيّة.

محمّد البدوي مصاب بالحمّى لم يغادر سريره في زاوية الغرفة الدّاخلية…في الغرفة الثانية بقي ماجد وأحمد في فراشهما محمومان ولا يتحرّكان…لم يفصحا عمّا بهما…

العلاج هو حبوب مسكّنة للآلام فقط…

بعد الافطار غسّان يتمشّى في السّاحة رافعا ذراعيه كما الطاؤوس مكسور الجناحين، فهناك دمامل تحت ابطيه….وأبو موسى يمشي مباعدا رجليه عن بعضهما البعض، كما يمشي من يعاني من كسر في حوضه…لم يؤمّ المصلّين…فهو لا يستطيع الرّكوع والسّجود…وآخرون لهم حركات جسديّة غير طبيعيّة.

صباح اليوم الثّاني وقف خليل لاهثا قرب سريره…جرّ جسده الى الحمّام جرّا..عندما قرفص لقضاء حاجته…انفجر الدّمّل ناثرا قيحا ودماء على الأرض…خرج متعبا لاهثا..أمسك بطرف السّرير يريد الوصول الى فراشه في الطّبقة الثانية…لم يستطع…ازدادت آلامه فسقط مغشيّا عليه…هرع اليه الآخرون… شرع غسّان في تدليك صدره خشية أن يكون قد أصيب بجلطة قلبيّة….أبو فهمي أبعد الآخرين عنه كي يتمكن من التّنفّس…رشّوا عليه ماءا حتى أفاق…ساعدوه على الوصول الى فراشه…تمدّد على جانبه متألّما…وقف أبو فهمي بجانبه مواسيا…حضر “الممرّض” بعد صراخ من الأسرى..نظر الى خليل وقال: لا أستطيع أن أساعده بأيّ شيء…فهذا مضطرب نفسيّا ولا عوارض مرضيّة عنده غير ذلك! انتفض خليل وقال:

فخذي متورّم، وفيه دمّل انفجر في الحمّام…ونزل منه قيح ودماء بامكانكم أن تروها…فلم أستطع تنظيفها…نظر أبو فهمي داخل الحمّام وصعق ممّا رأى…طلب من الممرّض أن يرى القيح والدّم، لكنّه رفض بتقزّز، وانصرف وهو يردّد: هل تريدونني أن أرى خراكم؟

جلس بعض الأسرى في تجمعات صغيرة داخل غرفهم، وتباحثوا فيما جرى مع خليل…فاعتبرها البعض نتاجا لضغوط نفسيّة لم يعد يحتملها…واعتبرها آخرون تمثيليّة لكسب عطف الآخرين.

بعد تقصّي ما يجري مع الأسرى الذين يلتزمون فراشهم…تبيّن أنّهم يعانون من وباء جلدي يتمثل بالدّمامل…وقال محمّد البدوي:

“الدّمامل لا تظهر إلّا في أضيق الأماكن” ولذا فان البعض لا يفصح عمّا به…وتبيّن صدق ما قاله…فقد ثبت أن هناك من ظهرت دمامل عند خصيتيه…وآخرون ما بين فخذيه قريبا من فتحة الشّرج…وآخرون تحت الإبط…أما أبو موسى فكان الدّمل على عضوه الذّكريّ…ومن لم تظهر عليه الدّمامل في اليوم الأوّل فقد ظهرت في اليوم الثّاني.

لا علاج شافيا داخل السّجن…فقط حبوب مهدّئة للألم…والأسرى تشاوروا بالشّروع في اضراب مفتوح لاجبار ادارة السّجن على احضار طبيب مختص، وتقديم علاج ناجع…لكنّ محمّد البدويّ قال:

لديّ اقتراح أعتقد أنّه سيكون فيه الشّفاء اذا اقتنعتم به.

فقالوا له متسائلين: ما هو اقتراحك؟

–        اقتراحي هو أنّني أعرف بالتجربة أنّ الدّمّل ينتهي إذا ما تمّ عَصْرُهُ جيّدا، وخرجت نواته…واذا لم تخرج النّواة فإنّها ستبقى تتكاثر، وتلد القيح وما ينتج عنه! فهل توافقون على تجربة ذلك؟

ردّ خليل فورا: نعم أنا أوافق…وبامكانك أن تباشر ذلك معي فورا…وانقلب على وجهه بعد أن حلّ بنطاله وأنزله قليلا ليظهر الدّمل…وقف أبو فهمي بجانبه…راعه فخذ خليل المتورّم…تقدّم محمّد البدويّ حاملا طرف قميص مهترئ له وقال لخليل: هذه عمليّة مؤلمة…هل تتحمّلها؟

–        ما عليك…توكّل على الله.

أمسك محمّد البدويّ بطرف القميص…أحاط به أطراف فوّهة الدّمل…بسمل وهو يردّد: “يا شافي ما عليك شي خافي”..ضغط بابهامي يديه…خرج قيح ودماء سوداء…ثمّ قفزت نواة الدّمل بحجم حبّة الحمّص وارتطمت بوجه أبي فهمي، بينما أطلق محمد صرخة مدوّية…فقال محمّد:

“داواك مسعود وشرّك ما يعود”

سبح خليل بالعرق المتصبّب من جسده…وشعر براحة وحرّية في تحريك رِجْلِه…وبعد ساعة كان يتمشّى والتّحسن ظاهر لديه… وبدأت عمليّات عصر الدّمامل!

انتهى الجزء الخامس

20-11-2013

ظلام النهار- الجزء الأوّل

جنّة الجحيم الجزء الثّاني

هوان النّعيم- الجزء الثّالث

برد الصّيف- الجزء الرّابع

اصدارات الكاتب جميل السلحوت:

–         شيء من الصراع الطبقي في الحكاية الفلسطينية .منشورات صلاح الدين – القدس 1978.

–          صور من الأدب الشعبي الفلسطيني – مشترك مع د. محمد شحادة .منشورات الرواد- القدس 1982.

–          مضامين اجتماعية في الحكاية الفلسطينية .منشورات دار الكاتب – القدس-1983.

–          القضاء العشائري. منشورات دار الاسوار – عكا 1988.

–         المخاض – مجموعة قصصية للأطفال .منشورات اتحاد الكتاب الفلسطينيين- القدس.1989.

–          حمار الشيخ.منشورات اتحاد الشباب الفلسطيني -رام الله2000.

–          أنا وحماري .منشورات دار التنوير للنشر والترجمة والتوزيع – القدس2003.

–          معاناة الأطفال المقدسيين تحت الاحتلال مشترك مع ايمان مصاروة، منشورات مركز القدس للحقوق الاجتماعية والاقتصادية – القدس آب 2002.

–          عش الدبابير رواية للفتيات والفتيان ،منشورات دار الهدى – كفر قرع،تموز 2007

–          الغول،  قصة للأطفال منشورات مركز ثقافة الطفل الفلسطيني- رام الله2007.

–  كلب البراري-مجموعة قصصية للاطفال، منشورات غدير -القدس في اواخر كانون اول 2009.

–  ظلام النهار-رواية، دار الجندي للنشر والتوزيع- القدس –ايلول 2010.

–  جنة الجحيم-رواية – دار الجندي للطباعة والنشر- القدس-حزيران 2011.

– هوان النعيم. رواية- دار الجندي للنشر والتوزيع-القدس-كانون ثاني-يناير-2012.

– كنت هناك-من أدب الرحلات-منشورات وزارة الثقافة الفلسطينية-رام الله-فلسطين-تشرين أول-اكتوبر-2012.

–  برد الصيف- رواية- دار الجندي للنشر والتوزيع –القدس- آذار-مارس- 2013.

أعد وحرّر الكتب التسجيلية لندوة اليوم السابع في المسرح الوطني الفلسطيني – الحكواتي سابقا – في القدس وهي :

–          يبوس. منشورات المسرح الوطني الفلسطيني – القدس 1997.

–          ايلياء. منشورات المسرح الوطني الفلسطيني – القدس تموز 1998.

–          قراءات لنماذج من أدب الأطفال. منشورات المسرح الوطني الفلسطيني – القدس كانون اول 2004.

–          في أدب الأطفال . منشورات المسرح الوطني الفلسطيني – القدس تموز 2006.

–      الحصاد الماتع لندوة اليوم السابع. دار الجندي للنشر والتوزيع-القدس كانون ثاني-يناير- 2012.

–  أدب السجون.  دار الجندي للنشر والتوزيع-القدس-شباط-فبراير-2012.

–   نصف الحاضر وكلّ المستقبل.دار الجندي للنشر والتوزيع-القدس-آذار-مارس-2012.

–   أبو الفنون. دار الجندي للنشر والتوزيع-القدس نيسان 2012.

–   حارسة نارنا المقدسة- دار الجندي للنشر والتوزيع-القدس- أيار 2012.

–  بيارق الكلام لمدينة السلام- دار الجندي للنشر والتوزيع- القدس –حزيران 2012.

– من نوافذ الابداع- دار الجندي للنشر والتوزيع-القدس- نيسان 2013.

–  نور الغسق- دار الجندي للنشر والتوزيع- نيسان 2013.

– مدينة الوديان- دار الجندي للنشر والتوزيع- القدس.

التعليقات

جميل السلحوت

جميل حسين ابراهيم السلحوت
مولود في جبل المكبر – القدس بتاريخ 5 حزيران1949 ويقيم فيه.
حاصل على ليسانس أدب عربي من جامعة بيروت العربية.
عمل مدرسا للغة العربية في المدرسة الرشيدية الثانوية في القدس من 1-9-1977 وحتى 28-2-1990

أحدث المقالات

التصنيفات