المعلم يتعلم

ا

المعلم الجادّ والناجح هو من يطوّر أدواته التعليمية وتحصيله العلمي بشكل مستمر، وبامكان المعلم أن يزيد تحصيله الثقافي من خلال مطالعاته الخارجية في مختلف المجالات، وأن يواكب المستجد في العلوم خصوصا فيما يتعلق بتخصّصه، وأن يكتسب أساليب تعليمية جديدة من خبرته وخبرات زملائه، ونحن نطالب المعلمين بذلك نعرف أيضا معاناتهم، والظلم اللاحق بهم، وأستذكر هنا مقولة للأديب المصري الراحل عبد الرحمن الخميسي عندما سألته إحدى الصحفيات في مقابلة معه: لماذا كتاباتك  كلّها عن الكادحين والعمّال والفلاحين؟ ألم تشاهد في حياتك منظرا جميلا؟ ألم تحبّ امرأة؟ فأجابها بألم: كيف تطلبين من انسان جائع أن يصف لك روعة السماء؟

ومع ذلك فإنّ المعلمين مطالبون بتنمية قدراتهم وتغذيتها باستمرار، وهذا ما طبقته ولا أزال على نفسي، وأثناء ممارستي للتعليم ما بين 1977-1990 زاملت عشرات المعلمين وعرفتهم عن قرب، ولم يكن أيّ منهم يطالع كتابا خارج المنهاج، لكنّني عرفت غيرهم عددا قليلا من المعلمين يطالعون ويحرصون على تثقيف أنفسهم، واذا كانت امكانيات المعلمين لا تسمح لهم بزيادة تحصيلهم العلمي، وظروف بعضهم لا تسمح له بتثقيف نفسه، فإن الأبواب مفتوحة أمامه للاستفادة من تجربته التعليمية، وحتى التعلّم من طلابه، وأنا شخصيا تعلمت من طلابي أشياء كثيرة سأذكر منها بعض الأمثلة:

–         عند بداية ممارستي لمهنة التعليم كمدرس للغة العربية  في المدرسة الرشيدية الثانوية في القدس، في أوّل أيلول 1977 لم تكن كتب المنهاج متوفرّة للطلاب في الأيام الأولى من العام الدّراسي، فقرّرت أن أعطي الصف العاشر حصّة في النحو من الكتاب المقرّر، وكانت عن الجملة الاسمية”المبتدأ والخبر” فوقفت أمام الطلاب وشرعت أشرح الدّرس بعناية فائقة، وكأنّي ألقي قصيدة أحفظها غيبا، والطلاب يصغون باهتمام زائد، وفي الدّقائق الخمس الأخيرة من الحصة فتحت المجال لأسئلة الطلاب بعد أن قلت لهم بأن بامكان من لم يفهم شيئا أن يسأل عنه، فلم يسأل أحد منهم! ولمّا طرحت سؤالا لم يجب عليه أحد أيضا! وتكرّر الأمر نفسه في ست شعب صفّيّة أخرى!

وفي اليوم الثاني تكرّر الشيء نفسه! فسألت الطلاب غاضبا عن أسباب عدم فهمهم، فوقف واحد منهم واسمه كمال وقال: يبدو يا أستاذ أنّك متمكن جدّا من المادة، لكنك تعلم بعدم وجود كتب معنا، وأنت لا تستعمل السّبّورة- اللوح- ولا تعطينا فرصة لكتابة ملاحظات، فحبّذا لو أنّك تكتب لنا على اللوح، فذهلت ممّا قاله، ولمت نفسي، وشرعت أكتب القاعدة النحوية على اللوح مع الأمثلة والتطبيق عليها مع الشرح، وطلبت منهم أن يكتبوا في دفاترهم أيضا، وعندها فهم الطلاب الدّرس وتفاعلوا معه، وسألوا عليه، ولولا ذلك الطالب ما كنت أعرف حينئذ أهميّة السّبّورة في التعليم، وتبين لي لاحقا أن ذلك الطالب الذي علّمني وأفادني لم يكن مجتهدا، ورسب في الصّف العاشر ثلاث سنوات وفصل من المدرسة لتكرار رسوبه.

–         وذات يوم من بداية عام دراسيّ كنت أقرأ أسماء الطلاب في الصف الذي عُيّنت مربيّا له، وكان أحدهم لا يستمع ويتدحث مع زملائه ويضحك بصوت مرتفع، فسألته عن اسمه للفت انتباهه، وأجابني: اسمي رياض، لكنه واصل الضحك، فلفتّ انتباهه مرّة أخرى، ومع ذلك لم يتوقف عن شقاوته، فطلبت منه أن يأتي ويقف بجانبي قبالة الطلاب، ففعل ما طلبت، وعندها قلت له: اضحك كيفما تشاء الآن حتى تفرغ حاجتك الى الضحك، فعبس الطالب وتأتأ دون أن يقوى على نطق شيء، وهدّدته بالعقاب إن لم يضحك، فازداد عبوسا وعلت تكشيرة وجهه، واحمرّت وجنتاه، وكاد يبكي، فصرفته الى مقعده، وبعدها التزم الهدوء الزائد طيلة العام الدّراسي، فتعلّمت من هذه الحادثة بأنّ باستطاعة المعلم الحاذق أن يردع الطالب المشاغب بدون عقاب جسدي.

–         وفي الأسبوع الأوّل من بداية عام دراسيّ، أعطيت الطلاب وظيفة بيتية تتعلق بمادّة النحو العربي، وفي الحصّة التالية قرّرت عقاب من لم يقوموا بواجبهم البيتي عقابا رمزيا بضربهم على باطن كفّيهم ضربا خفيفا بمسطرة خشبية، ووبختهم كلاميا واصفا إيّاهم بـ”التيوس”، وبعد انتهاء الحصّة لحق بي أحد التلاميذ واسمه شوكت واستأذنني بأدب جمّ قائلا: هذا هو اليوم الأوّل لي في المدرسة، وبالتالي لا علم لي بالوظيفة البيتية، وأنا طالب مجتهد، وستثبت لك الأيّام ما أقوله، فلمته على عدم إخباره لي بأنّ يومه هذا هو اليوم الأوّل له في المدرسة، ولأنّه مدّ يده لي لأعاقبه دون أو يوضح لي ذلك، فأجابني:

–         لقد مددت لك يدي بدون اعتراض كي لا يُسجّل عليّ بأنّني عصيت معلّما في يوم من الأيّام! فاستحيت من جوابه، وشعرت بندم شديد أرّقني يوما بكامله، وفي اليوم التالي اعتذرت له أمام زملائه في الصّف وأشدت بأخلاقه الحميدة، وتبين لي لاحقا بأن هذا الطالب ذكيّ الى درجة النبوغ، وكان من الأوائل في الثانوية العامّة، وحصل على منحة لدراسة الطب في احدى جامعات ألماني، وهو الآن طبيب اخصائيّ بجراحة الأعصاب الدّقيقة في احدى المستشفيات الألمانية. وما كان بامكان هذا الطالب أن يتعلّم تعليما جامعيا لولا اجتهاده وحسن خلقه، فهو من أسرة فقيرة لا تسمح أوضاعها الاقتصادية بتعليمه والانفاق عليه.

وقد تعلمت من هذا الطالب ثقافة اعتذار المعلم لتلميذه إن أخطأ بحقه حتى ولو عن دون قصد، وهذا لا ينتقص من حق المعلم شيئا، بل بالعكس فإن الاعتذار عن الخطأ يعزّز مكانة المعلم أمام طلّابه، ويزيد ثقتهم به.

كما تعلمت من هذا الطالب ضرورة التأنّي وعدم الحكم على الأمور بسرعة.

والحديث يطول عمّا تعلمت من تلاميذي.

التعليقات

جميل السلحوت

جميل حسين ابراهيم السلحوت
مولود في جبل المكبر – القدس بتاريخ 5 حزيران1949 ويقيم فيه.
حاصل على ليسانس أدب عربي من جامعة بيروت العربية.
عمل مدرسا للغة العربية في المدرسة الرشيدية الثانوية في القدس من 1-9-1977 وحتى 28-2-1990

أحدث المقالات

التصنيفات