كلب البراري – هدى

ك

استأذنت هدى من جارتها أن تأخذ غصنا من وردة الجوري المزروعة في حديقة الجيران.

قطعت الغصن بعناية فائقة بعد أن طمأنت الوردة الأمّ بأن غصنها سيجد الرعاية الكافية، حملته بإصبعين كي لا تؤذيها أشواكه… وضعته في كأس من الماء ريثما تملأ عُلبة الحليب الفارغة بالتراب ، زرعته فيها وسقته بعد أن وضعتها على النافذة خارج الزجاج.

نظرت إليه من الداخل وقالت له :

لا تحزن أيها الغصن الغضّ ، غدا ستكبر وستنمو براعمك ، وتنعقد أزهارك وتتفتح ، ولن أسمح لأحد أن يؤذيك …. شكرها الغصن على حسن الضيافة والرعاية وقال لها :

إذا حاول أحد أن يؤذيني فإن أشواكي ستنغرس في لحمه ، هذا ما أريدك أن تخبريه لأشقائك الاطفال، فأنا لا أحب ايذاء الأطفال .

******

حزن الغصن على فراق والدته، فانكمش على نفسه بضعة أيام ، غير أنه ما لبث أن تأقلم مع الواقع الجديد ، وشعر بالألفة مع المكان بعد ما لقيه من ترحاب ورعاية من هدى ووالديها وأشقائها ، فدبّت الحياة فيه ، وانطلقت براعمه تتسابق بكل الاتجاهات ، فأصبح نبتة كاملة شبه أمّه .

******

عندما تفتحت أول زهرة ، نهضت هدى من نومها على هديل زوجين من الحمام البري، كانا يبنيان عشّهما في زاوية النافذة قرب نبتة الجوري ، كان الذكر يغني لأنثاه، ويرقص لها رقصات دائرية جميلة ، فتتقدم إليه… وتستظل بجناحيه .

فرحت هدى بذلك ، أحضرت بقايا قطع صغيرة من الخبز، ونثرتها على النافذة طعاما لزوجي الحمام اللذين طارا بعيدا في البداية ، ولكنهما ما لبثا أن عادا بعدما رحبت بهما وقالت لهما :

– لا تخافا فأنا أحب الطبيعة الجميلة .

وعندما سمعت والدة هدى حديثها ،خرجت لتستطلع الأمر ، ولما رأت زوجي الحمام رفعت صوتها سائلة وهي تتجه بسرعة إلى النافذة لطرد الحمام :

– ما هذا يا هدى ؟؟

غير ان هدى تعلقت بثوب أمّها ترجوها أن لا تطرد زوجي الحمام .

قالت الأم : ولكن انفلونزا الطيور متفشية في جنوب قطاع غزة ، وهي مرض قاتل للإنسان .

– لكن زوجي الحمام هذين بصحة جيدة وهما يبنيان عشهما .

وفي هذا الأثناء عاد الوالد “علي أبو غالية” من عمله فنادته هدى طالبة منه التدخل لحماية زوجي الحمام .

قالت الزوجة :

– زوجا الحمام هذان يبنيان عشّهما على النافذة ، وابنتك هدى تطعمهما ،وأنت تعلم أن انفلونزا الطيور وصلت المنطقة .

– الأعمار بيد الله يا ” رئيسة ” …. ولن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا ، قال الزوج .

– لكن الله سبحانه وتعالى يقول : ….” ولا تلقوا بأنفسكم إلى التهلكة” قالت الزوجة .

– حياتنا ليست أغلى من حياة الآخرين ، فالطيور منتشرة في كل مكان قال الزوج .

تراجعت الوالدة ” رئيسة ” إلى الخلف بينما تقدمت هدى، وطبعت قبلة على جبين والدها شاكرة له موقفه .

******

صباح اليوم التالي ، أخبرت هدى زميلاتها ومعلمتها أن زوجين من الحمام يبنيان عشّهما على نافذة غرفة نومها قرب وردة الجوري، وأنها سعيدة بذلك .

وجدتها المعلمة مناسبة سانحة لتقص على طالباتها قصة النبي نوح عليه السلام والطوفان ، وكيف أن حمامة أحضرت غصن زيتون للنبي نوح، دلالة على انتهاء الطوفان، وانحسار مياهه ، ومنذ ذلك التاريخ والبشر يعتبرون الحمام والزيتون رمزا للسلام .

قالت هدى : في حديقة جيراننا شجرة زيتون ، والحمام يعيش في نافذة بيتنا ، فهل سيأتي السلام ونعيش بأمان ؟؟

– أجابت المعلمة : حتما سيحل السلام في بلادنا ذات يوم .

– متى ؟ . سألت هدى .

– لا أدري . أجابت المعلمة .

هدى تتمنى لو أنها طائر حتى تستطيع أن تطير في الجو لتصل مدرستها دون المرور بالحواجز العسكرية.

******

علي أبو غالية يعود إلى البيت متعبا ، تستقبله ابنته هدى وأشقاؤها ، يحضنها… يطبع قبلة على جبينها ، تجلس ” صابرين ” في حضنه ، و ” هنادي ” تتسلق كتفيه ، والآخرون يتحلقون حوله …هو سعيد بهم، وهم سعداء به.

قالت هدى على استحياء : بابا ماذا ستكافئني إذا ما كنت الأولى على بنات صفي ؟؟

– قالت ” صابرين ” : بل أنا الأولى على بنات صفي .

وقالت ” هنادي ” : لا أنا الأولى على بنات صفي .

قال الأب : اطلبوا ما تشاؤون أيّها المشاغبون .

قالت هدى : تأخذنا إلى شاطئ البحر .

نعم إلى شاطئ البحر هتفت الشقيقات فرحات.

أخرجت هدى شهادتها من حقيبتها وقدمتها لوالدها … وهي تصيح فرحة : انظر أنا الأولى .

******

يوم الجمعة 9-6-2006م تنظر هدى إلى عشّ الحمام ، كان فرخان يفتحان فميهما بانتظار الطعام الذي ستحضره الوالدة ، وكانت عدة زهرات قد تفتحت على أغصان وردة الجوري .

علي أبو غالية يصطحب زوجته وأطفاله إلى شاطئ بحر رفح ، الوالدة ” رئيسة ” ترضع طفلها الصغير هيثم، وتنظر إلى الأفق البعيد ، الأطفال يتراشقون بالمياه على الشاطئ ، والوالد يشعل النيران ويشوي حبات من البطاطا ليطعم أطفاله ، ملأ صحنا بحبات الزيتون ، وسكب زيتا في الصحن الآخر .

هدى تصيح : انظروا هناك سفن في البحر ، وإذا بقذائف منها تسقط على الشاطئ ، تتطاير جثث علي أبو غالية وزوجته وأطفاله في كل الاتجاهات.. بينما أخذت هدى تدور على غير هدى.. تعفر الرمال على رأسها وهي تصيح بالفم الملآن : يابا … يا … با …

التعليقات

جميل السلحوت

جميل حسين ابراهيم السلحوت
مولود في جبل المكبر – القدس بتاريخ 5 حزيران1949 ويقيم فيه.
حاصل على ليسانس أدب عربي من جامعة بيروت العربية.
عمل مدرسا للغة العربية في المدرسة الرشيدية الثانوية في القدس من 1-9-1977 وحتى 28-2-1990

أحدث المقالات

التصنيفات