قراءة في رواية برد الصيف بقلم:جمعة السمان

ق

أنهيت قراءة رواية برد الصيف.. لكنني ما زلت أشعر أنني في ديوان إحدى القرى

أجلس على فراش.. وأتكئ على وسادة.. وفي وسط الديوان كانون نار كبير.. يصحو فيه الجمر حينا.. فيعلو اللهب حدّ سقف الديوان.. أو يتطاير منه الشّرر عزيرا.. كانه شلال نار.. لكنه يخبو بسرعة.. فليس للشرر عمر طويل.. وضباب الأراجيل دخان.. يخرج من الصدور همّا يحمل أوجاع القرية، وما جرّه عليها من مصائب وويلات ذلك الإحتلال اللئيم.

صوت الريح بالخارج تعصف.. وزخّات المطر تهطل بقوة.. وعزم غيمات مثقلات

والخير عميم.. وصوت الوادي نهر له هدير…. ودويّ الرعد يعلو على صوت الراوي .. فيعود ويكرر الراوي الحديث.

الآذان صاغية.. والراوي عجوز.. جهوريّ الصوت .. خبر الدنيا.. ودخل التجربة .. ووعي الحدث.. وذاق من ويلات الإحتلال.. منذ اليوم الذي كان فيه طفل أسود الشعر.. الى أن ابيضّ شعره وأصبح اليوم عجوزا.. وخبأ في عمق أخاديد جبهته.. وتجاعيد وجهه ما غفل عنه التاريخ من مصائب وويلات القضية الفلسطينية.

أصاب الكاتب حين سلك في هذه الرواية أسلوب الحدّوثة.. فأجواء القرية.. وعشائر البداوة كانتا تحتل الرواية.. لكثرة ما ورد فيها من قوانين وعادات وأمثلة وتقاليد.

وأبدع الكاتب في تحريك أشخاص الرواية.. وأجاد حين رسم القرية بأشخاصها بحيث أن كلّ شخص من شخوص هذه الرواية كان يمثل شريحة من شرائح المجتمع القروي.. لتطلّ في النهاية على القارئ .. القرية الفلسطينية النموذج.

أبو سالم: كان في شخصية أبي سالم الإبداع.. وكلمة الحق في بعض كبار وجهاء القرية.. الذي يمكن أن نطلق عليهم “الجهلة الأذكياء”.. الذين يعرفون كيف يركبون الموجة.. ويصلون الى الهدف.. علما بأن الجميع يعرفونهم.. ولا يستغنون أبدا عن خدماتهم.. فمثلا الجميع يعرفون أن أبا سالم رجل فتنة.. يسير في ركابه الشر والأذى في كل ما يفعل ويقول.. ولا هدف له سوى أن يتصدّر الديوان، يدّعي ويتبجّح ببطولات وكرم وشرف وتضحيات.. وهي في الحقيقة أبعد ما تكون عن تركيبته الوصولية المتسلقة الدنيئة.. حتى ولو كان على حساب دمار القرية .. أو إلحاق الأذى بأهله وأبناء قريته.

عذاب الضمير حين يتأرجح بين الأنانية والواجب:

وأبدع الكاتب أيضا حين دخل عمق نفس شريحة الوجيه الجاهل من أبناء القرية بحيث أن المال كان في حياته هدفا وأساسا.. والنية والقصد كان سيئا.. حين ارتضى لنفسه أن يكون عميلا من أجل أن يهين ويذلّ ويبتز أبناء قريته ويسود عليهم.. وكان قمة الإبداع حين وصل الكاتب بأبي سالم عند حدّ “الأنا”.. والحدود التي لا يسمح فيها حتى العميل لنفسه بالإنحدار لدرجة المسّ بالعرض والشرف، فتوقف وتراجع مذعورا حين طلب منه الكابتن نمرود أن ياتيه بإحدى بنات القرية، وإذا عجز فليحضر ابنته أو زوجة ابنه .. لتقوم بدور الفتاة العاهرة تسيبورا..

لقد امتد قلم الكاتب الى داخل عمق نفس أبي سالم حتى منتهاها.. ليصل أنه اشتهى أن يكون لوطيا مع “جينولا”.. وقد ضحكت عندما ارتد أبو سالم مذعورا وقد دخله الظن أن الكابتن نمرود قد يكون لوطيا.. فيستعمله كما يستعمل عليان جينولا.. فقال مضطربا في حديث مع النفس حين شعر أن نظرة الكابتن نمرود له.. كنظرته الى جينولا.. فقال وقد آذته الإهانة ” والعياذ بالله.. يزعم أنني أجّرته مؤخرتي”.

وفي ظني أن الكاتب ما أخطأ أبدا في تحليل شخصية أبي سالم.. فهو الشخص الذي بقدر اشتهائه للرذيلة.. يكون حرصا على أن لا يدمغ بها.

لا شكّ أن أبا سالم كان الوجه البشع للقرية .. وكما أنّ في كل مجتمع الجيّد والقبيح.. فلا شكّ أن في القرية رجال بطولة وتضحيات.. كانوا قدوة للنضال الفلسطيني.. وقد تمثل هذا في شخصيتيّ الأستاذ داوود .. والأستاذ خليل..

الذي أتمنى من كل مسئول أن يحث كلّ فلسطيني على قراءة جبروت المناضل الفلسطيني الوفيّ لشعبه ووطنه.. حتى يصمد صمود هؤلاء الرجال من بني قومه.. ويكون لهم فطنة الواعي لأساليب تحايل ومكر عدوه.

تهويد مدينة القدس: كانت لفتة من الكاتب أن ينبه الى أساليب المحتل لتهويد مدينة القدس.. فمثلا شارع بور سعيد سابقا في مدينة القدس أصبح اليوم اسمه شارع الزهراء.. ومدرسة عبد القادر الحسيني أصبجت أسمها مدرسة سلوان الإعدادية.. والأمثلة على ذلك كثيرة.

شخصية المختار أبو سعيد: هي شخصية المختار الشهم العاقل الذي يحب قريته.. وأبناء قريته.. ويخاف عليها من الفتنة.. فكان رجل اصلاح وقدوة .

عرس ماهر وأميرة: كان عرس ماهر وأميرة نموذجا رائعا لأعراس وأفراح القرية الفلسطينية.

شهامة أهل القرية: لقد تجلى الشرف والحرص على العرض عند أهل القرية .. حين أرسلوا بناتهم المخطوبات الى خاطبيهنّ في الأردن.. فكان هذا دليل وعي وحفاظا على التمسك بالعادات والتقاليد العربية الأصيلة .. الحريصة على الشرف والعرض والأسرة.

السياسة: كان للسياسة حضورمكثف .. حتى أنك لتجد بين الكلمة والكلمة سياسة..

لقد مر الكاتب على جميع المراحل التي مرت على البلاد منذ الإحتلال البريطاني.. الى إضراب سنة “36”.. الى حرب “1948”.. الى هزيمة”1967″.. الى جميع الأحداث التي مرت بها المنطقة.

كما أنه تحدث عن الفوضى ..وعدم الإستقرار التي مرت بها البلاد.. ودور الشائعات التي أفقدت الأمّة العربية الثقة بقادتها..التي لم يسلم منها حتى الزعيم عبد الناصر.

ولم ينس أيضا أن يذكرنا ببعض المآسي والمصائب الموجعة التي مرت على بعض إخواننا أصحاب القصور والبيارات والأراضي الذين هجروا ديارهم.. وفرّوا سالمين بأعراضهم.. ليعيشوا ضنك الحياة في مخيمات الهجرة.

أعجبني في هذه الرواية كلمة.. شعرت أنها تعطي المناضل صمود الجبال.. حين استعان بها الأستاذ خليل.. ولا أشك أبدا أنها كانت أحد أسباب صموده “بيت الظالمين خراب”.

في الختام: أستطيع أن أقول أن هذه الرواية مرجع يعتمد عليه.. وتوثيق للقرية الفلسطينية النموذج.. والحياة البدوية العشائرية من قوانين وعادات وتقاليد..إن في قراءة هذه الرواية معرفة وتوعية وعظة.. يتعرف بها القارئ على أساليب الإحتلال الخبيثة.. حتى لا يكون لقمة سائغة لألاعيب المحتل وخداعه.. فمعظم الذين وقعوا في حبائله.. كانوا ضحية الجهل.. وعدم الوعيّ والخبرة.

التعليقات

جميل السلحوت

جميل حسين ابراهيم السلحوت
مولود في جبل المكبر – القدس بتاريخ 5 حزيران1949 ويقيم فيه.
حاصل على ليسانس أدب عربي من جامعة بيروت العربية.
عمل مدرسا للغة العربية في المدرسة الرشيدية الثانوية في القدس من 1-9-1977 وحتى 28-2-1990

أحدث المقالات

التصنيفات