بدون مؤاخذة-هل بدأت الحروب الدينية؟

ب

صراع الحضارات:بعد انهيار الاتحاد السوفييتي ومجموعة الدول الاشتراكية الدائرة في فلكه، انتهت الحرب الباردة التي كانت قائمة بين المعسكرين الرأسمالي والاشتراكي، وبما أن الامبريالية لم ولن تتخلى عن أطماعها في السيطرة على الشعوب والبلدان الأخرى، فقد خرجوا علينا بما يسمى صراع الحضارات الذي ابتدعه صموئيل هنينجتون رئيس مركز الدراسات الاستراتيجية في واشنطن، وارتأى فيه أن الخطر القادم على”الديموقراطيات الغربية” سيكون من الاسلام والمسلمين، بعدما كانوا يعتبرون الاسلام”الدرع الواقي من خطر الشيوعية” وبدأوا يشحذون أسلحتهم ضد العرب والمسلمين، وجاء الرئيس الأمريكي السابق جورج دبليو بوش ليعلن أنه يتلقى أوامره يوميا من الرب مباشرة، فقام بتدمير واحتلال العراق وأفغانستان، وقسم السودان، وساعد اسرائيل في حربها على لبنان عام 2006، وختم ولايته بمساعدة اسرائيل في حربها التدميرية على قطاع  غزة، بما في ذلك تزويدها بقنابل الفسفور الأبيض الحارقة والمحرم استعمالها دوليا، غير أن الادارات الأمريكية لم تتوان عن دعم اسرائيل في مختلف المجالات لتكريس احتلالها للأراضي العربية وفي مقدمتها أراضي الدولة الفلسطينية، حتى أنه أصبح أمرا مألوفا أن كل رئيس أمريكي يفاخر بأنه قدم لاسرائيل مساعدات عسكرية واقتصادية وسياسية لم يقدمها أحد قبله، مما شجع اسرائيل على مواصلة سياساتها الاستيطانية التوسعية وقهرها للشعب الفلسطيني بشكل خاص والشعوب العربية بشكل عام.

اسرائيل دولة دينية بالرغم من علمانية الصهيونية: معروف أن الصهيونية رفعت شعارات قائمة على فكر ديني، ولتجميع اليهود في فلسطين تمهيدا لاقامة دولة اسرائيل فقد رفعوا شعار “العودة الى أرض الميعاد” وهو شعار ديني محض، وتعاونت مع الامبريالية العالمية لتكون ذراعهم وعصاهم المتقدمة في المنطقة، وهذا ما أثبتته الوقائع منذ قيام دولة اسرائيل في 15 أيار 1948 وحتى أيامنا هذه، واسرائيل الرسمية لا تعترف بالديانتين السماويتين الأخرتين- الاسلام والمسيحية- الا من باب العلاقات العامة، وضمن فن ادارة الصراع، وليس أدل على ذلك من هدم اسرائيل لأكثر من خمسمائة قرية وتجمع سكاني فلسطيني داخل اسرائيل، هدمتها بمساجدها وكنائسها ومقابرها، ومحتها عن الوجود، وهي لا تزال تواصل عملها هذا مثل مقبرة طاسو في يافا ومقبرة مأمن الله في القدس وغيرها.

الأقصى في خطر حقيقي: لن نتكلم هنا عن تهويد القدس العربية المحتلة في حرب حزيران 1967، مع أن سياسة التهويد لم تتوقف ساعة واحدة، لكننا سنتحدث عن الخطر الحقيقي الذي يتهدد المسجد الأقصى، فلم تعد الأمور محصورة في الحفريات التي نخرت ولا تزال تنخر أساساته، ولا عن تهويد محيطه، بل عن الخطر الذي يستهدفه مباشرة، مع أن حكومات اسرائيل تعي تماما أهمية ومكانة المسجد الأقصى في العقيدة الاسلامية، ولديهم مراكز أبحاث تعرف ذلك جيدا، تماما مثلما يعلم العرب والسلمون أن الأقصى جزء من العقيدة، كونه قبلة المسلمين الأولى، ومعراج الرسول محمد عليه الصلاة والسلام، وثالث الحرمين الشريفين، وأحد المساجد الثلاثة التي تشد اليها الرحال، لذلك فان رئيسة وزراء اسرائيل الراحلة جولدة مائير كان أكثر وعيا ممن خلفوها، عندما قالت بعد احراق المسجد الأقصى في 21 آب-أغسطس-1969 أنها لم تنم ليلتها تلك لظنها بأن الجيوش العربية والاسلامية ستهاجم اسرائيل ثأرا للمسجد- ويبدو أنه قد غاب عن بالها أن من يحركون الجيوش العربية والاسلامية هم كنوز استراتيجية لأمريكا واسرائيل-.وقد تعرض الأقصى لاعتداءات كثيرة بعد ذلك، وفي كل مرة كانت اسرائيل تعلن أن الفاعل مختل عقليا، لكنها هذا العام خرجت من دائرة تهمة”الخلل العقلي” الى دائرة تنفيذ سياسة”عقلاء اسرائيل” المتمثلة في حكومة نتنياهو.

فاسرائيل الدينية تعتبر الأقصى جبل الهيكل، وأن الهيكل كان مقاما مكان المسجد الأقصى، مع أن هناك خلافات بين الجماعات اليهودية حول مكان الهيكل، فبعضهم يعتبره في نابلس، وبعضهم في عسقلان ، وبعضهم يذهب بعيدا الى اليمن. لكن فكرة  هدم المسجد الأقصى لاقامة الهيكل مكانه، أو تقسيمه بين المسلمين واليهود كما جرى في المسجد الابراهيمي في الخليل، لم تغب يوما لا عن ذهن “العقلاء” ولا” المختلين عقليا، ولا”المهوسين دينيا” وقد اتخذت هذا العام منحى آخر خطيرا جدا، عندما اعتبرت بلدية”اورشليم”الاسرائيلية باحات وساحات المسجد الأقصى حدائق عامة، مع انها تعلم أنها جزء لا يتجزأ من المسجد، وهذا يعني أنها لم يعد التعامل معها رسميا كمكان مقدس، وكدار عبادة لديانة أخرى، وهذا يعني أنها مفتوحة للجميع يمارسون فيها ما يشاؤون من عبادات وحتى رذائل كما يحصل في الحدائق العامة الأخرى، وها هي الشرطة الاسرائيلية تسمح للجماعات الدينية بدخول الأقصى والصلاة فيه تحت حماية شرطية مكثفة، ويتم طرد وضرب واعتقال من يرفع صوته من المصلين المسلمين احتجاجا على ذلك، بل يتم اخلاؤهم من المسجد ليبقى مسرحا للمتطرفين اليهود، وقد كانت الهجمة الشرطية الاسرائيلية وقوات المستعربين المكثفة والمبالغ فيها بعد صلاة الجمعة يوم 5 أكتوبر الحالي، على المصلين المسلمين في المسجد رسالة واضحة بأن دخول المتطرفين اليهود تحظى برعاية رسمية، وأن السياسة الاسرائيلية القائمة على تحقيق أهدافها بالقوة، واذا لم تنفع القوة فانها تتحقق بقوة أكبر،ويصاحب ذلك محاصرة المسجد الدائمة من قبل أذرع الأمن الاسرائيلية المختلفة، مع التذكير بمنع المسلمين والمسيحيين من بقية الأراضي الفلسطينية المحتلة حتى من دخول القدس للصلاة بعد اغلاقها في 28 آذار-مارس- 1993.

ويصاحب ذلك منع المسلمين من دفن موتاهم في أجزاء من مقبرة باب الرحمة على اعتبار أن أجزاء من المقبرة حدائق عامة أيضا.

والاجراءات الجديدة تعني أن مرحلة تقسيم المسجد الأقصى قد بدأت عل أرض الواقع، وهي تمهيد قصير المدى لهدم المسجد بشكل نهائي…وواضح أن ردود الفعل العربية والاسلامية الرسمية الباهتة والخجولة تشجع اسرائيل في تنفيذ مخططاتها تجاه المسجد، غير أن اسرائيل ومن ورائها أمريكا، وكنوزهما الاستراتيجية في العالمين العربي والاسلامي لا يعلمون ما هي ردود فعل الشعوب العربية والاسلامية في حالة المسّ بالمسجد الأقصى، وأن المسّ بهذا المسجد العظيم سيدخل المنطقة والعالم في حروب دينية سيعلم مشعلوها متى يبدأونها، لكن لا هم ولاغيرهم يعلمون متى ستنتهي، لكن بالتأكيد فإن أحدا لن ينجو من نارها….فهل يتجند عقلاء العالم –ان بقي في العالم عقلاء- لوقف اسرائيل عن تنفيذ سياساتها المجنونة؟ وهل تتجند الجامعة العربية والمؤتمر الاسلامي قبل فوات الأوان لطلب دعوة عاجلة لمجلس الأمن الدولي لاتخاذ قرار ملزم بعدم المس بالمسجد الأقصى؟

7 أكتوبر 2012

التعليقات

جميل السلحوت

جميل حسين ابراهيم السلحوت
مولود في جبل المكبر – القدس بتاريخ 5 حزيران1949 ويقيم فيه.
حاصل على ليسانس أدب عربي من جامعة بيروت العربية.
عمل مدرسا للغة العربية في المدرسة الرشيدية الثانوية في القدس من 1-9-1977 وحتى 28-2-1990

أحدث المقالات

التصنيفات