نازك ضمرة: قراءة في رواية(هوان النعيم) لجميل السلحوت

ن

جميل السلحوت أخذ على عاتقه أن يدون تغريبة بني فلسطين العرب، وأنا واحد من الناس الذين يحسّون بالرضا في دواخلنا عن هذا الجهد، سبق وقرأت لكاتبنا الجزء الثاني من سلسلة رواياته والمعنونة (جنة الجحيم) التي تدور حول التغريبة الفلسطينية، وقبل أيام فوجئت بكتب تصلني بالبريد الجوّي المكلف، من طرف كاتبنا النشيط والمواظب والملتزم المقدسيّ جميل السلحوت، وفور الانتهاء من قراءة مجموعة عادل سالم القصصية المعنونة (لعيون الكرت الأخضر)، عشت أثناء قراءة رواية (هوان النّعيم) مستمتعاً أعيش مع شخوص الرّواية وهم يواصلون سرد سيرة الشّتات الفلسطينيّ، وبتوضيح الكثير من الأسباب والمسببات للنّكبات المتلاحقة التي ألمت بالفلسطينيين بشكل خاص، والعالم العربي بشكل عام، (أم مازن تتحدث عن بيتها الجميل الذي شردت منه، وعن حديقة الورود التي كانت حول المنزل، وتعدّد أسماء أنواع من الورود لايعرفنها المصغيات لحديثها) صفحة 23 وأنوّه هنا في بداية هذه القراءة أن جميل السلحوت وضع في حسابه أن تصبح روايته مسلسلاً تلفزيونيا أو فيلماً سينمائيا، لأنّه وضع اسم كل شخص عليه الدور في الكلام والرّد والحوار، أيّ أنّه كان المايسترو الذي يحرّك الشّخوص ليقولوا ما في نفوسهم.

لم يترك جميل السلحوت عيباً سمع عنه أو عايشه عن الأنظمة العربية إلا وأدخله في حبكة النص دون إقحام ولا مزايدة، وبسرد يتناسب مع مجريات النّصّ أو بحوارات بين شخوص الرواية مبتعداً عن الخطابيّة والوعظ المباشر، وحاول تجنب تدخل السارد العليم وفرض الكلام الذي يريده على الشّخوص، (داود: دولنا العربية لا تعرف كيف تحارب، ولا تعرف كيف تصادق، وطائرات الميج 21 والسوخوي روسية الصنع أسقطت طائرات الفانتوم والسكي هوك الأمريكية….) صفحة 45 ولاحظنا أن الشخصيات حين تأتي أدوارهم يتحدثون ويتحاورون بحرية وحسب مستوى تفكير وثقافة كلّ منهم، وبعفوّية وبساطة محاولاً عدم تسييس الرّواية، بل كانت تلك الفضائح هي بهار الرّواية وعناصر التشويق فيها، فتشعر بأنّك أمام حكواتيّ صادق مشاهد شاهد على الأحداث، يرويها بلا تكلف ودون لفّ أو دوران أو إطالة مملّة، بل ببيان يزيد من تماسك النص الروائي، ويجعل من تلك المكاشفات أساساً تنبني عليه الحكاية دون مواربة، بل بوضوح بعيدأ عن الرمزية والكناية والتلميح ما أمكن، وبأقلّ ما يمكن من النفاق الاجتماعيّ أو المصلحيّ أو السّياسيّ. (انصرفت الدورية العسكرية الإسرائيلية فانحدرت الدموع على وجنتي خليل الذي قال: هؤلاء يوزعون الشوكولاته والمعلبات والسجائر في الطرقات، وجيوشنا لا تجد ما تأكله) صفحة 49، أي هاربة من ساحات القتال ومشتتة في الفيافي والقفار.

ومع أن الرواية هي سرد تاريخي لأحداث وحكايات، ويعرفها كلّ من عايش تلك المرحلة الزمنية الواقعة بين العام 1948 حتى أواخر العام 1967، لكنّها تبقى سردأ أدبيا تسجيلياً يكشف الكثير مما يغفله التاريخ، وينفع الناس والباحثين عن الحقائق والأسرار، ويعكس تفكير نخبة أدبية من الفلسطينيين الذين عايشوا سنوات التقهقر والهزائم، على أرض فلسطين وعلى مدى الساحة العربية من أقصاها إلى أدناها، وأسلوب جميل سلحوت يبقى كما عرفناه في رواياته السابقة، لكن كفاءته في احتواء الأحداث الكثيرة في الرواية مع المحافظة على التسلسل الزمني تميزه في كتاباته، إذ لا يلجأ لتقطيع الزمن والتقاطعات في الأحداث، بل يسردها بانتظام حكائي جاذب، غير متقيد بالكثير من الآراء في الرواية الحديثة، والتي تحسب أهمية جذب اهتمام القارئ، وإبعاده عن ملل الرتابة، واثقاً من نفسه ومن كتابته بأن في سرده وأسلوبه الجذب الكافي الذي لا يسمح للملل بالتسرب إلى نفس القارئ، لا بل إنّ أسلوبه يجعل من (هوان النعيم) رواية تاريخية للمستقبل وللأجيال اللاحقة، ولأولئك الذين لا وقت لديهم لقراءة تفاصيل التاريخ والسنوات المملّة والممرضة بأحداثها التي تكثر فيها الأحزان والإحباطات، أو أولئك الذين يكرهون مادّة التاريخ ومتابعة تسلسل الأحداث الماضية، وكون (هوان النعيم) رواية اجتماعية ثقافية أدبية في الأساس، فستقلل الكثير من النفور من قراءة ما مرّ على الشعب الصارم الذي أيقظته صدمة الاحتلال الصهيوني والشتات، ليعمل ليل نهار، ويوسع مدارك كلّ من يعيشون حوله، وكأن الشعب الفلسطيني هو خروف العيد الذي فدى به إبراهيم ولده وشعبه، حين ذبح الخروف بدل ابنه، أو هو إنه المسيح الذي فدى شعبه بصلبه، فتنبه العرب بعد نكبة فلسطين، ليعيشوا في مأمن من المؤامرات، أو أصبح لديهم المهارة والحرص حتى لا يحدث معهم كما حدث مع الفلسطينيين، (فؤاد: وعدم الاعتراف بالهزيمة حالة مرضية يصعب شفاؤها، وبالتالي سنبقى مهزومين إلى ماشاء الله) صفحة 75، وهكذا نجت الدول العربية القريبة من إسرائيل من الصدمات التي ألمّت بالفلسطينيين، وانتشر الوعي بين الشعوب وتماسكوا وسلمت من الخطر الصهيوني، فلم يسمحوا بحدوث كوارث احتلالية لأيّ قطر عربي آخر إلا الجولان السوري منبع الماء والخيرات والاستيعاب السكاني غير المحدود، ثم إن شتات الشعب الفلسطيني المثقف أفاد معظم الدول العربية، بل والكثير من دول العالم الآخر فكان مركب النقص في الشخصية الفلسطينية، حين حرموا من بقائهم ونموهم وتقدمهم على أرض وطنهم فلسطين، خلق دافعاً ومحرضاً لهم على إثبات وجودهم أينما حلوا، لبلورة منفعة البلد والشعب الذي يقيم فيه الفلسطيني أو يجاوره أو يعمل عنده.

والنقطة التي لفتت انتباهي في هذه الرواية أنها كتبت بلغة عربية أدبية سليمة، تكاد تكون خالية من اللغة العامية، ونقدر هذا الجهد لكاتب الرّواية، لأننا نريد أن نكتب أدباً يقرؤه غيرنا لا لأنفسنا فقط، أو لأدباء أو قراء من الأقاليم العربية الأخرى، ثم إن الكتابة باللغة الفصحى يسهل الأمر على الأجنبي فهم النص حين يتم ترجمته إلى لغة أجنبية، إننا أنفسنا نعرف همومنا وعيوبنا وقدراتنا وما يلزمنا كشعب أغمطت حقوقه، وما زال يفتقد الوحدة الوطنية والاتفاق على قيادة موحدة، تخوض به أيام الزمن ولياليه سعياً ووصولا إلى السلام والحق والعدل، وللحفاظ على الأرض والعودة للعيش عليها بكرامة وحرية، كغيرنا من شعوب الأرض التي تحافظ على شخصيتها المتميزة، وبرغم مرور العقود على اعتراف العالم بحقوق الشعب الفلسطيني، إلا أن العالم عامة، والعرب خاصة صامتون لا يحركون ساكناً، بل إن الرواية تبين أن النفاق السياسي هو الغالب على تصرفات الدول الكبرى ومن يلف في أفلاكها.

وتساؤلي لكاتبنا أنه حرص على إعطاء شخصية خليل الأكتع أهمية كبيرة بشكل لافت للانتباه على امتداد الرواية، ثم كرّس له وقتاً طويلاً لا يفيد نص الرواية، حين كتب كثيراً عن عجزه في التدريب العسكري أو فوزه في التحدي في تفكيك السلاح أو إصابة الهدف، ويكفي أن يركزعلى عبثية التدرب على السلاح، الذي لم يكن سوى ملهاة أو وسيلة أخرى لفهم المزيد عن شخصية الإنسان الفلسطيني وكيفية التعامل معها لإخضاعها، ثم أين ذهب ذلك التدريب العسكري؟ ولم نجد فرقاً فلسطينية ممّن دربتهم الأردن يقفون على أرضهم يطبقون ما تدربوا عليه، علماً بأن الكثير من الفلسطينيين كانوا يبيعون الذهب والغالي والرخيص، وبعضهم باع جزءا من أرضه كي يشتري بندقية قبل العام 1948، ولو لم تدخل الجيوش العربية لفلسطين ، لثبت الفلسطينيون على أرضهم، وحاربوا بكل ما أوتوا من قوة، ومهما حصل بعد ذلك فلن يكون بمستوى النكبة التي حلت بهم عام 1948 ثم عندما أصبحت بقيّة فلسطين جزءاً من الأردن، ثم فقدت الدولة الأردنية نصف جسمها عام 1967 وبكل بساطة وبدون خسائر تذكر، ولا بمحاولات صادمة للحفاظ على أي جزء من فلسطين والقدس جوهرتها وقلبها المعبر عن شخصيتها. (ألا تراهم يهدّدون المنطقة بكاملها؟ يشنون حروباً … يحتلون أراضي جديدة… ويصيحون بأنّ أمنهم مهدّد.) صفحة 147 وفي رأيي إنّ شخصية خليل كان من المفروض أن تكون مكشوفة من بداية الرّواية، مبرراً سبب تواجدها في معظم المواقف، لكن لم تغير من السياق العام للحكاية ودون دور مؤثر على الأحداث والتسلسل التاريخي للمنطقة، كما كان دوره في الرواية السابقة، حيث أعطاها الكاتب أهمية كبيرة بشكل مكثف ليخدم الهدف في داخل النص، لبيان أن من أسباب النكبة هو التخلف الحضاري والثقافي بين الناس، وهذه الرواية هي تكملة لأحداث تاريخية متسلسلة، ولتذكير القارئ فإنّ خليل الأكتع الذي زار بريطانيا في السنة الأولى من مرحلة سنوات مراهقته، ورأى الكثير في بلاد الأنجليز وعرف الكثير، لم يظهر في الرواية التي نحن بصددها أيّ أثر فاعل له في بداياتها، في دور يتواصل ويتناسب مع دوره في الرواية السابقة، وأعتقد أنه يمكن الاستغناء عن الكثير من تلك التي تصف ذكاء خليل الأكتع وتميزه عن أقرانه كاملي الأطراف أثناء التدريب العسكري، لأنّ الرواية مكرّسة لسرد الأحداث التي كانت عاملاً مساعدا في حصول الهزائم العربية، وكشف السذاجة السياسية لمعظم محترفي السياسة من الفلسطينيين، ولبعض الحكام العرب، وحرص بعضهم على إرضاء الأجانب على حساب الحقوق العربية.

وأظهرت الرواية أنّ تدريب خليل وغيره على السلاح لم يكن ذا فائدة في مواجهة أيّ عمل عسكرى جرى بعد ذك لتبريره.

والشخصية الأخرى الأكثر جدلية والتي شذّت عن المألوف فهي شخصية (أبو سالم) الذي تورط في التعاون مع ضابط الشين بيت المخابرات الأسرائيلية ضد أهله وأبناء بلده كجاسوس، دون أن يتحسب لهذه الورطة، أوقعه ضابط المخابرات الإسرائيلي في فضيحة جنسية مع امرأة من بائعات الهوى، وتم تصوير فيلم لهما متضاجعين في عري تام، ثم لطمعه في الدفعات المالية التي كان الضابط يرشوه بها، فاستسلم للمهمة المطلوبة منه مضطراً، وبسبب اكتشاف أبو سالم لغلطته، صار الضابط الإسرائيلي يخاطبه بـ (الكلب)، اغتاظ في البداية وحاول أن يجادل في التسمية، فأصرّ الضابط على أنّه (كلب وفيّ)، فقبل أبوسالم هذا اللقب، وليثبت اعترافه بهذه التسمية، قال (عووو) أي نبح حين قال له أنت كلبٌ وفيّ – صفحة 173، وهنا يتبادر إلى الذهن السؤال عن سبب تسمية الرّواية (هوان النعيم)، وربما تذكر الكاتب قول الشاعر:

من يهن يسهل الهوان عليه**** ما لجرح بميت إيلام

وأبو سالم تبلدت مشاعره، لأن التهمة التصقت به، فلا يهتم بعدها ماذا يقول الناس فيه وعنه؟.

وفي الحقيقة فإنّ هذه الرواية تحتاج إلى كتابات نقدية متعددة التوجهات، لتناولها من حيث البناء الزمني والتسلسل التاريخي، ومن حيث أبطالها، ومن حيث المسكوت عنه والمعلن، ومن حيث إصرار الكاتب على مواصلة كشف الجهل في الوعي.

التعليقات

جميل السلحوت

جميل حسين ابراهيم السلحوت
مولود في جبل المكبر – القدس بتاريخ 5 حزيران1949 ويقيم فيه.
حاصل على ليسانس أدب عربي من جامعة بيروت العربية.
عمل مدرسا للغة العربية في المدرسة الرشيدية الثانوية في القدس من 1-9-1977 وحتى 28-2-1990

أحدث المقالات

التصنيفات