“أميرة الوجد” في اليوم السابع

&

القدس: 16-10-2014 ناقشت ندوة اليوم السابع الثقافية الأسبوعية الدورية في المسرح الوطني الفلسطيني في القدس ديوان”أميرة الوجد” للشاعر فراس حج محمد الصادر عام 2014 عن  منشورات الزيزفونة لتنمية ثقافة الطفل في رام الله، ويقع الديوان الذي صممه شريف سمحان في 200 صفحة من الحجم المتوسط.

بدأ النقاش ابراهيم جوهر فقال:

يقف القارئ على غزل عذريّ السمات ويلمس لهفة طاغية بالوصل الذي يلقى صدّا وتمنّعا من معشوقة ظل الشاعر يلاحقها بطيب ألحانه وسموّ معانيه من أولى القصائد حتى آخرها. لقد استفزني هذا العاشق الذي لم ييأس! وكدت أقول: امنح قلبك غيرها لكي لا يظنّوا أنك قاتل نفسك في هواها!!

يعيدنا الشاعر (فراس حج محمد) بنفسه الطويل وإصراره على التودد لمعشوقته إلى لغة الشعراء العذريين وخصائص شعرهم الذي يبرز فيه البراءة، والانتظار، والمتعة بالتعذيب، والعيش على أمل الانتظار والوصل في غد قريب.

ويظهر أحيانا قليلة لدى الشاعر شيء من ذاتية (عمر بن أبي ربيعة) العاشق المعتد بنفسه الذي صوّر نفسه معشوقا لا عاشقا ( صفحة 145). ولا ينسى شاعرنا (فراس) الإشارة إلى كرامة الشاعر التي تضيع عادة في العشق ، وهو المكان الوحيد المسموح فيه هذا الضياع. فنراه يعود إلى رشده الذي سلبته المعشوقة المتمنّعة فيتحدى الضعف (صفحة 165).

يكتب الشاعر مكررا المعنى والحالة ذاتها؛ يشكو، ويرجو، ويحنّ ويأمل ولا نرى من المعشوقة سوى الصدّ والهجر والبعد. من هنا جاءت قصائده وخماسياته جميعها تنطق بحالة واحدة وهي تدور حول محور بعينة في مساحة محدودة.

والشاعر متأثر إلى حد كبير بالشعر الغزلي وغزل العذريين بالتحديد إلى درجة التطابق أحيانا؛ يقول في الصفحة149:

وأحبها وتحبّني / ويحب جملتها بريدي

وهو مأخوذ من قول الشاعر( المنخل اليشكري):

وأحبها وتحبّني / ويحب ناقتها بعيري

وإذا كانت قصائد الديوان جميعها تحمل سمات الغزل العذري فإن قصيدة (موعدنا قريب) على الصفحة 80 حتى 82 تمثّل هذه السمات كاملة.

تأتي قصائد (أميرة الوجد) للشاعر فراس حج محمد في زمن غابت فيه روح القول الغزلي للانشغال بالهم السياسي والوطني العام، وهو يتعمّد العودة إلى هذا الغزل الإنساني النبيل الذي يبحث عن شقّه الآخر في مسيرة حب وتوحّد ثنائي العطاء.

وقال جميل السلحوت:

جاء في الصفحة 3 من الديوان” ما الشعر إلا فكرة عليا تهدى إلى تلك الأميرة” وهذه هي فلسفة الشاعر في فهمه للشعر وأسباب كتابته له. ومن يقرأ الديوان سيجد ضمير الغائبة يعود إلى فتاة من لحم ودم، يتغزل بها الشاعر.

وفي الصفحة 7 يواصل الشاعر متسائلا:” هل كانت تلك القصائد قرابين لجرح ما زال أخضر، هل ستتقبلها مني أم سأكون مثل هابيل في ثوب قابيل المحكوم عليه بالشقاء الأبديّ؟”

وهذا يشي بأن الشاعر يعيش قصة حبّ من جانب واحد، وأنه سيكون قتيل الحبّ مثل هابيل الذي قتله شقيقه قابيل، كما جاء في الرواية الدينية، وبالتالي كتب على نفسه الشقاء الأبديّ. وفي تقديري أن الشاعر لم يوفق بهذا التشبيه، لأن قابيل وهابيل أخوان، والشاعر وعشيقته ليسا كذلك ولن يكونا.

لكن تعلُّق الشاعر بحبيبته شبيه بقيس بن الملوح وحبيبته ليلى، مع الفارق طبعا، فليلى كانت تحب قيسها الذي جُنّ في هواها، لكن والدها حال دون زواجهما لأن قيسا تغزّل بها، وهذا ينافي العادات القبلية. وزوّجها من غيره. فازداد جنون قيس ودار في الصحاري الى أن التقى زوج ليلى في بيته دون أن يعرفه، ولما علم من هو مضيفه سأله:

بربّك هل ضممت إليك ليلى… قبيل الصبح أو قبلت فاها

وهل رفّت عليك قرون ليلى… رفيف الأقحوانة في نداها

وديوان الشاعر فراس حج محمد قصائد غزل من الغلاف الى الغلاف، وهذه ميّزة لصالح الشاعر، الذي يكتب لنا قصائد الغزل في زمن طغى فيه الواقع السياسي المرير الذي يعيشه الشعب الفلسطيني على كتابات الشعراء والأدباء. وهذا الديون يجيب على التساؤل: أين قصائد أو روايات أو قصص الغزل في الأدب الفلسطيني المعاصر.

وقد يكون التشابه بين فراس حج محمد وقيس بن الملوح في أن كليهما كتبا غزلا عذريا طغى عليه الوجد، بلا اسفاف وبعيدا عن الغزل المكشوف، أو التعرض لمفاتن الجسد.

بل ان فراس حج محمد يتوسل العشق منها، وقد يشتم نفسه ارضاء لها:

إن تقل عني سفيه…مع تحيات هدايا

لم أكذبها بقول…”فأنا نبع الدنايا”.ص36

وهو لا يرضى بديلا لها فيقول:

ليس في القلب نساء…غير تلك الجوهرية

من تجلت في طريقي…شبه أنوار بهيّة ص60

بل انه يخاف الموت في هواها فيقول:

إن أتاك النعي يوما…أبلغيهم بالبقية

“مات يرجوني بحب…مات من شوق إليّه”ص62

والشواهد في هذا الديوان على حالة العشق التي يعيشها الشاعر كثيرة، وهذا يدعو الى قراءة الديوان قراءة مستفيضة وناقدة.

وقال عبدالله دعيس:

فراس حج محمد شاعر عذري بامتياز. فقد عبّر، خلال معظم قصائده، وفي كل صفحة من صفحات ديوانه عن حرارة العاطفة وآلام الفراق والبعد عن المحبوبة، وابتعد بشكل جليّ عن وصف المفاتن الجسدية لمحبوبته، حتى أنّه حاول أن يخفي اسمها؛ فكنّاها أميرة الوجد، إلا أن أحرف اسمها ما فتئت تظهر في قصائده، حتى صرّح عنه مرغما في نهاية ديوانه قائلا:

فصبّح يا شروق على شروق وقل: إن الكلام غدا حميما

وقد عمد الشاعر في قصائده إلى إظهار المشاعر الجياشة تجاه محبوبته، التي لم تغادر خياله ولم تغب عن أحرفه وكلماته وأبياته. عاطفة صادقة وآلام وكبد، يقابلها صد وهجران وعدم اهتمام منها. لكنه لا ييأس ولا يغادره الأمل بوصالها، فلا يقابل هجرانها بالهجران، وإنما يزيده صدها عشقا ولظى. أحب الشاعر فتاته إلى درجة العبادة، فقد جعل حبها ديدن حياته، وجعل هواها الهدف الذي يحيى لأجله. لكننا نلمح في قصائده أنه يتوق إلى ألم الفراق أكثر من شغفه بوصال الحبيب. وقد أعلن هن هذا جليا بقوله:

أنا لن أعيش بغير أنّات الهوى هي رقصتي في وردي المتناثرِ

وكغيره من الشعراء العذريين، عبّر فراس حج محمد عن مرارة الفراق ولوعة السهر والأرق، وعن مشاعر الألم، ليس على فراق معشوقته وحيلولة صروف الدهر بينه وبينها كما فعل أقرانه من شعراء الغزل العذري، وإنما لعزوفها عن حبه وعدم مبادلتها لمشاعره. فشاعرنا بارع في اجترار الألم، لكنه غير قادر على جذب المحب إلى دفء عشقه. ولا يثنيه بعدها وعدم اهتمامها بلوعته عن عشقه فيقول:

فلست أتوب عنها طول عيشي سأحياها وإن هلّت خطوب

عبر الشاعر عن عواطفه عن طريق عدد من الصور الشعرية، لكن صوره في مجملها لم تغادر ما درج عليه الشعراء في وصف المحبوبة بالريم وخدها بالورد وقدها بالرمح ووصف الحب بالخمر والعشق بالسكر. وهذا ما دأب عليه شعراء كثيرون، فلا جديد فيه هذه الصور ولا إبداع. وحينما حاول أن يأتي بصور جديدة كان بعضها ممجوجا مثل قوله:

تعاليتم عن الأشباه حتى لعزّ المثل يا فرد المثالِ

تبدى عزكم في ذا المحيّا وفي قدّ ككثبان الرمال

إذا درجت تهزّ الأرض لينا! وترتجف النجوم مع الهلال

فكيف يكون القدّ الجميل ككثبان الرمال؟ وكيف يهز اللين الأرض فترتجف منه النجوم. هذا وصف لعملاق يدب على الأرض وليس لفتاة رقيقة.

ويقول الشاعر معبرا عن نكد الحياة في ظل ألم الفراق:

فحياتي كسيجارة لف

من أردأ أنواع الدخان

وفي رأيي أنه لم يكن موفقا في هذا التشبيه.

ومما يحسب للشاعر أنه استطاع أن يضيف أبجديات التواصل الحديثة إلى لغة الشعر والغزل. فإذا كان العاشق قديما يكتفي بنظرة عابرة من محبوبته تعيش معه عاما كاملا، فالوصال الذي ضنّت عليه به محبوبته يمكن أن يتم عن طريق نقرة واحدة على شاشة جهاز خلوي أو زر حاسب آلي.

أظل أرقب صفحاتي أقلّبها علّي أرى طيفها في بعض “إعجاب”

فمهما اختلف الزمان فجذوة العشق ولوعته واحدة.

لغة الشاعر جميلة وعاطفته متقدة، وهو بإصراره على تقديم قرابينه لجرح ما زال أخضر، منتظرا وصال حبيبة معرضة عنه دون يأس، يُحيي سيرة شعراء الغزل العذري القدامى أمثال قيس وكُثَيْر وجميل، وقد قارب جنونه جنونهم.

وكتب الينا صاحب الدّيوان الشاعر فراس حج محمد:

امرأة الوجد امرأة الكليات والأبدية

لم تكن أميرة الوجد امرأة عادية، ربما كانت امرأة ككل النساء، بالنسبة لكل من يراها أو يتعامل معها، ولكنها بالنسبة لي لم تكن مجرد امرأة أحببتها وهمت فيها، وكتبت فيها شعرا، ربما كان شعرا مراهقا أحيانا، غير طازج، مكررا، فيه ما فيه من قول في الصورة والفكرة واللحن والإيقاع والتجربة، ولكنه بالنسبة لي شكل منعطفا ضروريا ومهما في الشعر وصناعته والنظرة إليه وللمرأة بشكل خاص!

لم تكن تلك المرأة الموسومة في الديوان بتلك السمات العامة غير المحددة شكلا ومبنى، ولكنها المعرفة أثرا وسحرا، لم تكن امرأة عابرة ككل العابرات الأخريات، أتت لتقيم بيني وفيّ، ولم تبرحني مذ أحسست بها امرأة، أنثى، فكرة، معنى، جنونا، لم تبرح تحفر في ألمها وحنينها وعبق ارتحالها فيّ المسافر دون حد ودون مدّ، حتى لقد جبلتُ فيها، ولعلها جبلتْ فيّ وجبلت عليّ!

لم تكن أميرة الوجد فكرة لقصيدة وديوان شعر، ولم تكن تجربة عاطفية فاشلة أو ناجحة، كانت أبعد من فكرة وأسمى من صورة محصورة في جملة شاعرية، كانت كأنها الإكسير أو ماء الحياة الذي أتى ليذيب النفس ويصهرها على درجة حرارة أعلى من حرارة الشمس الفكرية والوجدانية، وتعمني كصوفيّ تعانق والكليّات واستبطن الأحلام والتصورات، مترفعا عن كلّ أرضيّ يعفّر وجه الروح.

لم تكن أميرة الوجد إلا امرأة واحدة في تجليها كل حين في كل حين، في كل بارقة من وحي، وستظل هي هيَ مهما استبعدتها رياح القدر، واستفردت بي وبها مسافات تطاولت دون أن تكون في المحل الذي يجب أن تكون هي فيه!

أميرة الوجد هي المرأة التي صنعتني شابا وجعلتني شابا، ولم تسمح للشيخوخة أن تنبت في جسد الشعر والفكر والروح، امرأة مهما كتبت عنها سيكون ظلالا باهتة لنور عمّ وأعطى للنفس معناها وللحياة أملا لن يمحى له أثر، ولا يكتب له إلا أن يظل مترائيا يبثّ إشعاعاته عمرا طويلا كان أم قصيرا، بل لعله سيتجاوز الحاضر إلى ما بعد بعد الحاضر، ليكون أبديّ الضياء، شامل الغناء، مستغنيا عن غيره، محتاجا له كل شيء.

امرأة الوجد هي المرأة الروح وسيدة الروح، وهي امرأة الأبدية، وسيدة الوقت، ستبقى ما بقي النور الإلهي امرأة لا يحيط بها وصف، وتفيض عن اللغة وعن الشعر، فليس بمقدور ديوان كهذا أن يؤطرها بين دفتيه، لأنها عصية على الترويض والاستكانة بين جدران الجمل، وتراكيب الكلمات، وبنية الحروف. امرأة ستظل أميرة للوجد وتحيا في سمو وشموخ وترضع من حليب السمو إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها!

التعليقات

جميل السلحوت

جميل حسين ابراهيم السلحوت
مولود في جبل المكبر – القدس بتاريخ 5 حزيران1949 ويقيم فيه.
حاصل على ليسانس أدب عربي من جامعة بيروت العربية.
عمل مدرسا للغة العربية في المدرسة الرشيدية الثانوية في القدس من 1-9-1977 وحتى 28-2-1990

أحدث المقالات

التصنيفات