بدون مؤاخذة-الهجرة من فلسطين الوطن

ب

يشكلّ الحديث عن الهجرة من الوطن حساسية لنا نحن الفلسطينيين، بسبب الهجمة الصهيونية على وطننا الذي نملكه وتوارثناه أبا عن جدّ منذ بدء الخليقة، ومحاولة اقتلاعنا عنوة من هذا الوطن، لإحلال غرباء فيه بدلا منا بعد تضليلهم واقتلاعهم من أوطانهم. لنعيش وإيّاهم صراع وجود، لكن هذا لا يجعل هجرة بعض الفلسطينيين من وطنهم أمرا محرّما لا يجوز الحديث فيه. ولو كان الشعب افلسطيني يعيش حياة عادية في وطنه التاريخي مثله مثل غيره من شعوب الأرض لانتفت المحاذير والمحظورات في قضية الهجرة والحديث عنها.

ومع التأكيد أن الغالبية العظمى من الفلسطينيين الذين يعيشون خارج فلسطين قد تمّ تهجيرهم بقوّة السلاح، وهربا من مذابح قد يتعرّضون لها، بل تعرّضوا لها فعلا مثلما مذبحة دير ياسين والطنطورة والدوايمة وغيرها في نكبة العام 1948، ومذبحة قبية عام 1952، ومذبحة كفر قاسم في العام 1956. وغيرها من المذابح اللاحقة.

وهناك هجرات تمّت بفعل القوانين العسكرية الاسرائيلية من الأراضي الفلسطينية المحتلة في حرب حزيران 1967،  مثل منع رجوع من مكث في الخارج مدّة تزيد عن سبع سنوات، بغضّ النظر عن أسبابه سواء كانت لطلب العلم أو العمل في الخارج، بل إن القوانين الاحتلالية تسحب حق الإقامة من المقدسي الفلسطينيّ اذا سكن في المناطق المحيطة بمدينته خارج حدود بلدية القدس –حسب تقسيمات الاحتلال الادارية- لمدة تزيد عن سبع سنوات، وإن كان يعمل في القدس ويقضي أيامه فيها. وهناك هجرات “طوعيّة” يجري التكتم عليها، والهروب من البحث فيها أو في أسبابها، وهي خروج البعض في سنوات متلاحقة للعمل في دول الخليج أو في بعض الدول الأجنبية ككندا واستراليا والولايات المتحدة الأمريكية، ولا يلبث هؤلاء أن يصطحبوا زوجاتهم وأولادهم ويستقرون في الدول التي يعملون فيها، وهؤلاء يعدّون بعشرات الآلاف.

وظهرت في الآونة الأخيرة قضية هجرة الشباب من قطاع غزّة، خصوصا بعد المحرقة الأخيرة التي تعرض لها القطاع، وما نتج عنها من خسائر بشرية ومادية هائلة، وما صاحب ذلك من انغلاق أبواب العمل والمداخيل، اضافة الى قمع الحريات، وما تعرض له قطاع غزة من حصار تجويعي، بعد إقامة”إمارة حماس” في العام 2006 وفصلها قطاع غزة عن الضفة الغربية، وهنا نؤكد أن محاولات الهجرة الآنيّة ليست جديدة، فلقد سبقتها هجرات عندما قامت”امارة حماس” في العام 2006، وسبقت ذلك هجرات للعمل وللتعليم أيضا.

فهل حاولت الجهات الفلسطينية المختصة من تنظيمات وأحزاب، ولاحقا السلطة الوطنية البحث في أسباب ذلك لوضع الحلول له؟

وللهجرة من الوطن أسباب كثيرة تتعلق بالأمن الشخصي كلها، فاذا لم يتوفر للمرء في وطنه الأمن على حياته وحياة أسرته، وحرية التملك الآمن، وحرية الحركة الآمنة، وحرية التعبير والمعتقد الآمنة، والأمن التعليمي والاقتصادي والصحي والاجتماعي وغيرها من الحريات، فما الذي يمنعه من الهجرة؟ وفي الواقع فإن الاحتلال قد سلب الفلسطينيين أمنهم في مختلف المجالات، فقتل من قتل وصادر الأراضي وهدم البيوت، وانتهك حرمات البيوت ودور العلم والعبادة وغيرها. وهو يهدف بذلك الى اجبار من تبقى من الفلسطينيين للهروب من وطنهم، لأنه يريد أرضا بلا شعب. وفي المقابل هناك يهود هاجروا الى اسرائيل بعد تضليلهم من الحركة الصهيونية، ظنّا منهم أنهم قادمون الى ارض السمن والعسل، وتورطوا في الاقامة فيها، وجزء من القادرين منهم ماديا عاد الى بلاده بعد أن اكتشف الحقيقة المرّة، وجزء آخر يهرب بعد كل حرب تشتعل في المنطقة. لأنه شعر ويشعر بتهديد أمنه الشخصيّ هو الآخر.

ويعود السؤال عن محاولات الهجرة الفلسطينية مرّة أخرى، فرغم تمسّك الفلسطينيين بوطنهم التاريخي، واستعدادهم للتضحية في سبيله، وقد قدّموا مئات آلاف الشهداء، ومئات آلاف الأسرى، وجاعوا وعُذّبوا وتحمّلوا ذلك في سبيل وطن هو جنة السماوات والأرض بلا منازع.

لكن الوطن ليس مجرّد رقعة جغرافية لها حدود معروفة، بل هو المكان الذي يجد المرء سعادته فيه، والفلسطيني المتمسك بتراب وطنه رغم كل المصاعب، لا يبحث عن سعادة الرّفاهية فيه بمقدار ما يبحث عن حقه في البقاء بكرامة. وهذا ما لا يتوفر في قطاع غزّة رغم كلّ الاداعاءات الكاذبة والتي يدحضها الواقع المرير الذي يعيشه حوالي مليون وثمانية ماية ألف مواطن يعيشون في القطاع. وحركة حماس التي لا تزال تحكم القطاع بالرغم من اتفاق الوفاق وحكومة الوفاق التي اتفقت مع حركة فتح عليها. تعيش أزمات داخلية وتنظيمية وفي علاقاتها الداخلية والخارجية، وهي باتت عاجزة عن ادارة القطاع والإيفاء بالتزاماتها تجاهه، وما عليها سوى العودة الى أحضان السلطة الوطنية الفلسطينية، إن أرادت الخير لشعبها وخصوصا من يقطنون قطاع غزة. ولولا هذه الأزمات وصعوبة العيش في القطاع لما برزت الى السطح عصابات تجار الحروب الذين يقومون بتهريب الشباب من قطاع غزة، هربا من جحيم ليقعوا فريسة لأسماك البحر. وعلى السلطة الوطنية أن توفر الحياة الكريمة لرعاياها كي تساعدهم على البقاء في وطنهم.

15-9-2014

التعليقات

جميل السلحوت

جميل حسين ابراهيم السلحوت
مولود في جبل المكبر – القدس بتاريخ 5 حزيران1949 ويقيم فيه.
حاصل على ليسانس أدب عربي من جامعة بيروت العربية.
عمل مدرسا للغة العربية في المدرسة الرشيدية الثانوية في القدس من 1-9-1977 وحتى 28-2-1990

أحدث المقالات

التصنيفات